- 1 -
أَثرُ الفعل تجاوز الفِعل ذاته، على نحوٍ فاجأ المخيّلة، ولم يتوقعهُ الظنّ. بلدةٌ فقيرةٌ مُنومةٌ أيقظتِ المُدن من سُباتها. جناح فراشةٍ تونسيّة وَلَّد إعصاراً عربيّاً. وها هي العاصفة، الآن، تسكن في كلّ بيتٍ في هذه البقعة العربيّة من العالم.
أمَّا كيف حدث ما حدث؟ أو لكي نُحوِّر إيجابيّاً المثلَ العربيّ الشعبيّ: كيف صارت الحبَّةُ التونسية قبّةً عربيّةً؟ فأمرٌ يجب أن يعالجه، تفهماً واعتباراً، إضاءةً واستنارةً، ذوو الخِبرة والاختصاص.
في كلّ حالٍ، يُشير هذا الذي حدث الى الطاقة العملية التي يختزنها الإنسان والتي تتفجّر على نحوٍ يُحيّر ويُدهش، خصوصاً أنّه لم تقم به طبقةٌ بعينها، أو نخبة محدّدة. ولم يصدر عن نظريّة، في تحريك الجماعات. ولم ينزل من فوق، أو مِن مُسبَّقاتٍ فوقيّة. صعد من أَسفل. من التجارب الحيّة. من آلام البشر وعذاباتهم. إنّه انبثاقٌ من الحياة ذاتها.
إذا أضفنا حضورَ المرأة الى جانبِ الرّجل في كل ما حدث والطّابع اللاّعنفيَّ، بعامةٍ، ونُشدانَ الحرّية والكرامة والعدالةِ وحكمَ القانون، قبل الهتاف المألوف ضدّ الاستعمار، أو البطالة، أو الفقر، فإنني شخصيّاً، لا أتردّد في وصف ما حدث بأنّه ظاهرةٌ عربيةٌ فريدةٌ حقّاً.
- 2 -
حتى الآن، زُلزلتِ السُّلطات العربية. سقط بعضها. وبعضها الآخر يتأرجح، فلتذهب كلّها الى مصيرها الصغير البائس. لم تفعل شيئاً يمكن الاعتزازُ به، حضاريّاً، أو البناءُ عليه. لم تفعل، بعامّةٍ، إلا بوصفها شركات استثمارٍ في بلدانٍ تُهيمنُ عليها كأنها مجرّد أسواق. تجارب داميةٌ متنوعةٌ طول خمسة عشر قرناً كانت، منطقيّاً، كافيةً لكي تزول ثقافةُ الخلافةِ والاستخلاف. لكنها، على العكس، ظلّت بقيمها وعناصرها وأدواتها مستمرة وفعّالةً. وهذا ما تؤكّده مرحلتنا التّاريخية الراهنة، مُجسَّمةً في السُّلطات العربية الوطنية، منذ نشوئها، بعد الاستقلال، في أواسط القرن الماضي المنصرم. فبدلاً من أن تعمل هذه السلطات على تحريك شُعوبها، أفراداً وجماعات، نحو مزيدٍ من التحرّر يتمثّل في مؤسَّساتٍ مدنيةٍ جديدة تربويّاً وثقافيّاً، اجتماعيّاً واقتصاديّاً، استغلّت، على العكس، أمراض الماضي بأنواعها جميعاً الدينية والقبليّة والإثنيّة، وسخّرتها من أجل أن تُحكِم السيطرة عليها. هكذا نقلت شعوبها من العيش في عبوديّة الخارج، الى العيش في عبودية الداخل. ووصل طغيانُ هذه السلطات الى أوجهِ اللاَّإنسانيّ في محوِ فكرة الوطن نفسها، وإحلال فكرة النظام محلّها. صار النظام هو الوطن: أنتَ مع النظام، إذاً، أنت مواطن. أنت معارضٌ، إذاً أنت في موضع التباسٍ واتّهام.
هكذا سارت بلداننا العربيّة، منذ الاستقلال، في دروبٍ كثيرةٍ، متنوّعة. تظاهرنا. رفعنا بيارقَ. أطلقنا شعارات. قمنا بانقلاباتٍ. دخلنا السجون. عشنا في المنافي. كابدنا الفقرَ والتشرّدَ والبطالة. تعبنا. مُتنا. هطلت علينا ثرواتٌ ضخمة. أنفقنا ثرواتٍ ضخمة. ومع هذا كله، لم نتقدم.
كانت بلداننا تسيرُ في إيقاعِ سُلطاتها المُقيِّدِ المُجمِّد. وكان إيقاعاً يُموّه ويُشوّه، يقمعُ ويُذِلّ ويستعبد. وكانت الحريّة مجرّد لفظة. بل إننا حوّلناها الى لغوٍ. وكنّا باسمها نلتهمُ بعضنا بعضاً.
رافق هذا كله انهيارٌ وجوديٌّ - كيانيّ، فرديٌّ وجمعيّ. وكانت له رؤوس متعدّدة: بؤسُ العقل والفكر، وبؤس الرّوح والجسد، وبؤس الحياة والمعنى. ودفعنا هذا البؤس الى أن نمتدحَ حتّى عبوديتنا. ولئن أصغينا الآن الى وسوسة الفقر والبطالة والهجرة وضآلة الإنتاج وندرة العمل وتزايد الهيمنة الغيبية وضمور الحركيّة الإبداعية في مختلف الميادين، ثم نظرنا الى بلداننا مقارنةً بغيرها من بلدان العالم، فإنّنا لا نكاد نرى أمامنا إلاّ الفراغ والسراب.
- 3 -
منذ زوال الانتداب، وبداية الاستقلال، ظلّ التغيير في البلدان العربية، سياسيّاً - وظلّ سطحياً وشكليّاً. غيّرنا حكومةً بحكومة. أحللنا رجالاً محلّ آخرين. وفي المحصلة بدونا كأنّنا لم نحقق شيئاً. بل بدونا أَننا أزددنا تخلّفاً في كثيرٍ من الميادين، وازددنا خضوعاً لما يُفترضُ أن نتحرَّر منه بدئيّاً.
السبب الأساس وراء هذا كلّه هو أَننا لم نحقق القطيعة مع سياقِنا التّاريخي السلطويّ - الاجتماعيّ ومع ثقافةِ هذا السّياق. وتِبعاً لذلك لم نهدّم أسُس الاستعباد الداخليّ، الأبويّة الموروثة، أو القبليّة أو النَّزعات الإقطاعيّة، أو المذهبيّة - الدينية. ولم نضع أيّ أساسٍ لبناء مجتمعٍ مدنيّ. واليوم، إن كنّا صادقين، حقّاً، مع أنفسنا ومع الواقع والحقيقة، نجد أنفسنا مضطرّين لكي نطرحَ مثل هذا السؤال المقلق: هل العربيّ الذي يتظاهر، اليوم، في الشوارع العربيّة، ذلك الذي يؤمن بتعدّد الزّوجات، ولا يفهم دينه إلاّ بوصفه تحليلاً وتحريماً وتكفيراً، ولا يرى الى الآخر المختلف إلا بعين الارتياب والإقصاء والاستبعاد والنَّبذ - هل هذا العربيّ يمكن أن يُوصف بأنّه ثوريٌّ، أو بأنّه يتظاهرُ من أجل الديموقراطية وثقافتها؟
التأسيس لرؤيةٍ مدنيّةٍ، لمجتمع مدنيٍّ يتساوى فيه البشر، حقوقاً وواجبات، فيما يتخطى انتماءاتهم الدينية والإثنيّة واللغوية، مجتمعٍ يسوده القانون وثقافته، الحريّات وثقافتها: تلك، إذاً، هي المسألة. ويتعذّر العملُ على هذا التأسيس إلاّ بدءاً من إعادة النظر بشكل شاملٍ وجذريّ، في الأُسس التي أقيمت، منذ خمسة عشر قرناً، لتنظيم العلاقات بين الإنسان والإنسان، وبين الذات والآخر. ففي هذه الأسس، تأويلاً ممارسةً، ما يتعارضُ مع حريات الكائن البشريّ وحقوقه، ومع انسانيّته نفسها، خصوصاً في وجهها المؤنّث.
- 4 -
أعمق ما في الرسالة التي كتبها رمادُ البوعزيزيّ هو، بالنسبة إليّ، أن في إمكان الإنسان، في هذه المنطقة، على الرغم من كل شيء، أن يجعل الحياة العربيّة أزهى كينونةً، وأعمقَ إنسانيّةً. بطريقة الغياب الذي اختارَهُ، كشف عن معنى حضور الإنسان. وبطريقةِ حضوره في وعينا، يزعزع الأليف المكرَّر. وَضَعَنا على الحافّة، وجهاً لوجهٍ، مع براكيننا الداخليّة. أيقظ فينا حوافزَ أخرى لتحقيق ما نطمح اليه. ولكي يستعيد كلٌ منا توهجه الداخليّ وفاعليته، بطريقته الخاصة. واليوم، بدأنا ننظر جميعاً الى ما حولنا، والى السابق واللاحق، وراءنا وأمامنا، بشكلٍ مختلفٍ وحساسيةٍ مختلفة.
بدلاً من أن نواصل انجرافنا خارجَ التّاريخ، ازددنا ثقةً في قدرة الشعوب على أن تكتبَ تاريخها وأن تقوده. وإذا استخدمنا مُصطلحات الحداثة، فإنّ رمادَ البوعزيزيّ يفتح أمامنا، عربياً، نوافذ افتراضيّةٍ متعددةٍ وعاليةٍ تاركاً لكلٍّ منا أن يمتطي أفراس مخيّلته ويترحَّل في واحات هذه الافتراضية ومفاجآتها. وهو في ذلك، ينتزع كُلاًّ منّا من عزلته، ويقذف به الى خضمّ الآخرين - أصدقاء وأعداء.
ثمّة أواصر جديدة بين المواطن والمواطن، بين العربيّ والعربيّ. ثمّة آفاقٌ جديدةٌ وطرقٌ جديدة للفكر والعمل معاً، في مدٍّ آسرٍ من المشاعر والأخيلة، والتآلف المُتضامن، يتموّج في المحيط العربيّ، ويحركنا جميعاً لكي نغيّر ما بأنفسنا، ونغيّرَ ما بعالمِنا.
وثمّة توكيدٌ آخر على أن المعنى العميق الذي يكتنزه هذا المدّ هو أن الحياة لا تستحق تعب أن تُعاش إلا إذا كانت حرّةً وعِشناها بحرية. الإنسانُ، تحديداً، حرية أو لا شيء.
- 5 -
انطلاقاً من ذلك، اسمحوا لي، أيتها الصديقات، أيها الأصدقاء، أن أشير الى أن هذا الذي حــدث لا يزال حـــتى الآن يتأرجح. تؤرجحهُ، بخاصّةٍ تلك اليدُ التي تكتبُ الأرض العربيّة، أعني يد الغيب. وســؤالي هنا هو الــتالي: هـــل في ما حدث، ما سيقضي حقّاً على عذاب هذه الأرض التي يكتــبها هذا الغيب؟ وهو سؤالٌ يفترضه الواقــع ويــفرضهُ. يُمليه كذلك الوجع الذي تئن منه أحشاءُ التاريخ العربيّ.
أقولُ ما أقولُ مغموراً، في آنٍ، بالظلام العربيّ ورجاء الخروج منه الى الضوء الساطع.
هكذا أجيءُ قلقاً، ملتاعاً، متسائلاً: هل ما يحدث استباقٌ تحرريٌ، أم هو عملٌ لاستئنافِ عبوديّاتنا؟
أحييكم واحداً واحداً، راجياً أن يزداد غضبكم تأججاً واتّساعاً، وأن ينشأَ من الأجوبة العملية ما يجعل تساؤلاتي هباءً في تموّجاتِ الواقع الذي بدأتم من تونس في ابتكاره، راجياً أيضاً ألاّ يكون صوتي بينكم، هذه اللحظة، أكثر من هدير موجةٍ عابرة.
وإذ أعلن اعتزازي بالمشاركة في الاحتفاء بالبُوعزيزيّ، واقِعاً ورمزاً، فإنني آمل أن يكذّبَ رماده نيران شكوكي كلّها. إنه رماد يؤكّد لنا أننا نواجه مرحلةً حضاريّة لم نعد فيها قادرين ان نرضى بأقلَّ من العمل على خلق إنسان عربي مدني جديد، في عالمٍ عربيّ مدنيّ جديد، في هذا الكون المدنيّ، المتجدّد أبداً *.
سيدي بوزيد، تونس، 21-4-2011
* نص الكلمة التي ألقاها الشاعر أدونيس في الاحتفاء بمعنى الحدث الذي مثّله احتراق محمد البوعزيزي في مسقط رأسه سيدي بوزيد. وهو احتفاءٌ أقيم بترتيبٍ خاصٍ من محسن بوعزيزي، أستاذ علم الاجتماع في معهد العلوم الاجتماعية بتونس، والأمين العام للجمعية العربية لعلم الاجتماع.
الحياة
28 أبريل 2011