يوسف بزي
(لبنان)

يوسف بزيبوفاة محمد البساطي، بلا صخب تقريباً، بعد غياب خيري شلبي وابراهيم أصلان في غضون عام تقريباً، تكون الرواية المصرية فقدت الدهاء الساخر لجيل الستينيات الملعون. وهؤلاء الثلاثة تحديداً كان لهم امتياز توسيع فضاء الرواية إلى تلك التخوم التي يصطدم فيها الوعي الريفي بالقلق المديني، وحيث اللغة تتحول إلى حقل اشتغال الذاكرة الشفوية والحساسية الشعرية للكتابة. وهذا «الاصطدام» على كل حال سيكون هو السمة الأولى للثقافة العربية طوال العقود المديدة، منذ أواخر الخمسينيات وحتى اليوم، وهو الصدع الذي سيعبر مجمل الروايات العربية.

بالطبع لا يمكن السهو عن تذكّر عبد الحكيم قاسم ومحمد مستجاب وابراهيم عبد المجيد ومحمود الورداني وصبري موسى وعبده جبير وصنع الله ابراهيم. فهؤلاء مع البساطي وشلبي وأصلان، أخرجوا الرواية من حارة نجيب محفوظ الى تلك المطارح النائية، والى الهوامش المُدقعة والرثة، وإلى العوالم غير المصنفة في الترسيم الاجتماعي. وكان خروجهم هذا متّسقاً مع الحيوية الفائقة لمصر الناصرية، بما خالجها من اضطراب وصراع ثقافي ايديولوجي واعتراض سياسي (لم يخلُ من قمع ونفي وسجن). لكننا نحسب أن قوة النتاج الروائي لهذا الجيل تبدّت أكثر في عهد التحولات الدراماتيكية ما بين السبعينيات والثمانينيات. فهذه التحولات بالذات هي مرتكز كتاباتهم، وهي البئر التي انتشلوا منها كنوزهم الروائية.

الحزن والفكاهة، المرارة والبهجة، الشاعرية والمجانية.. بل أبعد من ذلك، البوح كله والصمت التام. وعلى هذا التناقض الهش والخطر، كانت تنعقد روايات أمثال البساطي وأصلان وقاسم، برهافة وأريحية تدفعنا باستمرار إلى القول متعجبين: «هؤلاء المصريون كم يعرفون كيف تُروى الحكايات».
جاءت الرواية معهم من الشقاء والفقر وبساطة الفطرة ونباهة المنبوذين والدعابة الشعبية والسذاجة الريفية وحنكة المتكسبين، وحتى من النفحات الروحية والصوفية للمشردين، ومن الانحطاط الاخلاقي للسوقيين واللصوص والمتبطّلين...

كان اختيارهم لهذه العوالم تمزيقاً متعمداً لقماشة الرواية السابقة عليهم، بنموذجها المحفوظي، الواضحة والمرسومة بخطوط أنيقة. فمصرهم التي رأوها واحتفلوا بها إنما هي تلك العوالم الصاخبة والفوضوية والمهزومة اجتماعياً، ومكتوبة بخلطة سحرية تجمع الفنتازية المتقشفة والواقعية الباذخة.
نظن ان شهرة محمد البساطي كانت مع رواية «صخب البحيرة». لكنا نجد أن «دق الطبول» هي الأكثر تعبيراً عن قدرته على التقاط اللامعقول «الواقعي». وهي الاقتراح الفذ في البناء الروائي الحديث، وفق مرجعية أدبية تراثية كألف ليلة وليلة. فهذه الرواية هي أولاً ذروة انجازه في شعرية الحوارات. وهي الرواية التي خرج منها الريف في تحول مدهش نحو مدن «التجرية الخليجية»، كما أنها الرواية التي يخفّ فيها الثقل الدرامي الى نواة مكثفة وصلبة، فيما لغته الهامسة والمقتضبة تصير لقطات تصويرية مفعمة بالمدهش والكابوسي في آن معاً.

اللقطات المتكررة مثلاًُ لسيدة القصر، البدينة، المنطرحة على الدوام في فراشها وهي تحاور وتأمر وتراقب خادمتها، وذاك المشهد الذي لا يُنسى للخادم المصري، الراوي، وهو ينثر يومياً امامه تلك الملابس الداخلية التي يشتريها لزوجته البعيدة عنه (تسليته الوحيدة في غربته هي تسوق الملابس الداخلية المثيرة وحفظها في حقيبة بانتظار عودته الى الوطن وإهدائها الى زوجته). كذلك مشهد المقهى مع الرجل الأفريقي الذي يقوم باستعراض فحولته، التي تبدو لجميع الوافدين الى تلك الامارة الخليجية شبه مستحيلة، طالما أن «لعنة» أصابتهم منذ ان وطأوا المكان وأحالتهم إلى عاطلين عن أي فعل جنسي.
براعة البساطي في «دق الطبول» هي تلك الهندسة المستمدة من تقنية الحكاية في ألف ليلة وليلة، لكن ذلك لا ينكشف إلا ببطء وبتضافر متمهّل لخطوط هذه الهندسة، فلا تكتمل ولا تتوضح إلا في خاتمة الرواية.

بهدوء يرصد البساطي المسار الحتمي لمأساة تجربة الاغتراب والهجرة الى تلك الإمارة الصحراوية، حيث الثراء من جهة، وفقر الخدم والوافدين الذين يقومون بشؤون الإمارة وكل أوجه العمل اليومية وفق شروط مجحفة من جهة ثانية. ويكتب البساطي «بهدوء» أي بلا مبالغات أو افتعال درامي ومتوتر، كما فعل الكثير ممن كتبوا عن التجربة الخليجية. فهو شديد الانتباه للمآزق الوجودية التي يعيشها هنا كل البشر، الخدم والأسياد سيدة القصر والمدبرة، السائق أو الأطفال. والأهم أن مقاربته في الكتابة تظل باستمرار منحازة الى الاختصار الشعري والتلميحي، والى سكب الدعابة الطازجة والعفوية في وسط التوتر الحزين، وفي داخل الكآبة اليومية الروتينية التي تسيطر على زمن الرواية. وبهذا المعنى تظل روايته مفتوحة على التعاطف الإنساني.

مع رحيل محمد البساطي سننتبه أكثر الى الفاصل التاريخي بين حقبة جيله، وحقبة نجيب محفوظ ويوسف ادريس. كما سننتبه الى السخاء الذي وهبه جيل الستينيات هذا لكل الاجيال اللاحقة في مصر والعالم العربي. فهم على الأرجح جعلوا الرواية «ديوان العرب» لأول مرة منذ ألف ليلة وليلة.

محمد البساطي... أوركسترا للندم تعزف تحت ضحكته الخبيثة
المستقبل - الاحد 22 تموز 2012 - العدد 4407 - نوافذ - صفحة 14

****

هاني درويش

الكتابة عن الموت كالسلام في الجنازة، هكذا لخص مؤمن المحمدي طقوس التفاصيل التي لا بد منها، في لحظة استثنائية يفترض بها أن تخرج ما هو استثنائي، فإذا بها تخرج ما لا طائل منه أو فيه، لكن الكتابة أيضا عن موت روائي بحجم محمد البساطي، عن موقع هذا الروائي في ذهننا تبدو اشتباكا لابد منه مع كلاشيهاتنا المحببة عن الأدب والتمايز فيه، وعن تصنيفاتنا الحديدية للكتابة الجميلة والعادية، وعن حضور جيله بما اعتبرناه لؤلؤاً أو أصدافاً خاوية.

الحقيقة أن جيلي من القراء والمهتمين بالأدب، غالباً ما كان يضع البساطي في موقع أقل في تصنيفات جودة جيله. فمن أتى من خلفيات أدبية تثمن السياسة وتجلياتها المختلطة بالفن الكتابي كان ميالا بحجم قراءات الشباب إلى صنع الله أبراهيم مثلا، أو إلى تاريخية و بناء الغيطاني، أو ندرة وقدرة أصلان على نحت الثمين والنادر والمقتصد فيه، في حين بدت نظرتنا إلى البساطي سجينة تبجيل عمله الأولي والأشهر «صخب البحيرة»، لا لشيء فيه أو عليه، بل لكسلنا البليغ في محاولة إعادة تصنيف كتابته النامية بإضطراد ككائن حي داخل منظومة أوسع من المشهد الأدبي، وساعدنا في ذلك هو نفسه، حين أصبح غير ميال إلى الظهور العام، أو التخابث علينا بإشاعة ما أشعناه عنه بوصفه حكاء ريفياً عادياً، غير ملتقطين أو عازمين على التعامل مع صبره ودأبه في الكتابة، إلا بوصفها تكرارا مملا أو غزلا على صوفة عمله الأول، من دون ان نلحظ إلا في لقطات نادرة ما اعترى هذا النول الكتابي من غرز وتنويعات لونية وخامات جديدة.

مع موت البساطي بسرطان الكبد في مستشفي سيئ كسوء بنية حياتنا الواقعية، ينضم ويتخلص جسده من بهاء الروائي ليتصل بكل أبناء جيله من ضحايا المياه الملوثة وتمدين الريف الستيني على يد الضباط الأحرار. الكبد، يا عزيزي القارئ، هو من سيسلم رأس عبد الناصر غالبا إلى مقصلة الآلهة، والريفي الساذج الذي كانه إبن بحيرات شمال الدلتا لم يكن مهتما بتقديس أبيه السياسي، لا بالتمرد عليه ولا بالدفاع عنه. أغلب أعماله تناولت أحراش شمال الدلتا الغنية بمظاهر التداخل الجيموفولوجي، بين بحر ونهر، عذب ومالح، اضمحلال الأخضر وسيطرة أصفر الصبر المتوسطي، تلك البيئة المختلطة على تخوم الإنتقال العنيف من الريف إلى الساحل، في صراعها المرير مع تقدم البحر المستمر ونحر اليابس، عذاب الزراعة البائسة تحت حمى الجفاف وتكلس الأرض، وما أنتجته مدنية السد العالي، التي أخرت الطمي وحبسته - من تلظي سواحل مصر الشمالية بداء تأقزم الحياة، كانت كتابة البساطي عن مهمشي تلك المناطق التي هي بالطبيعة مهمشة. وبفعل الإجراءات الزراعية الكلاشيهية لتوزيع الأراضي مع الإصلاح الزراعي الكاذب، كانت كتابته لا هي ريفية كما حاولنا التصنيف، ولا هي سرديات إجتماعية عن بؤس تقليدي لريف كلاسيكي. كانت عواء كاملاً وغرائبياً دفعني في اللقاء الأول معه إلى اكتشاف ما خلف تخابثه من حكمة نادرة.

كنت مسلحا بإتهام جاهز ومشهّر وأنا أحدثه عن رواية فردوس، الرواية التي نشرت لدى الصديق محمد هاشم وأدخلت كتابات البساطي إلى متناول جيلنا الذي لا يرحم، جيلنا الذي جلس على الشاطئ منتظرا أن يرشح من جيل الستينات ويجف من جف، فنلوك سيرتهم وقد أعجزتهم الهمة عن اللحاق بمستلزمات خيال الأدب المعولم، كنت ذاهبا إليه بإتهام أنه نحت شخصيته الأساسية في الرواية من شخصية زوجة الأب في رائعة «مديح زوجة الأب»، هالني نفيه لقراءتها، نفيه الكامل النقي المصدق، نفيه الذي اضطرني لتجاوز صدقية عقلي، جلس يحدثني عن جذور شخصيته، عمته الصموت البائسة، فأعاد إلى وعيي غير القابل لإداراك الصدفة كما يحكيها سؤال الأدب الأزلي: هل نكتب جميعاً رواية واحدة؟ هل من نقاء مطلق لأصول أي رواية حديثة في بعدها عن عشرة أفكار موجودة بكامل بهائها في أعمال كلاسيكية؟ وهو كان كلما أوغل في دفاعه عن فردوسه الخاص كنت أتأمل في حماسه الكلامي وضحكته الباذخة حين يفتح بؤبؤ عينيه مندهشا مما لا دهشة فيه، كنت أقاوم إحساسا مدوخا بإحتضانه ومصاحبته وهو الكاره لاقتحام خصوصيته المنزلية.

تحمست للقائه مرة ثانية بعد روايته المتأخرة «دق الطبول»، كنت قد أكلت الرواية أكلا في ليلة واحدة وهالني المزج المدهش فيها بين خيط وثائقي هش متمثل في مشاركة منتخب إمارة خليجية في كأس العالم، وبين ما نسجه من عوالم في تلك الإمارة التي خلت لخدامها بعد أن هجر المواطنون ديارهم لتشجيع منتخبهم المتواضع، حيث أصبح الصبح على جزيرة انفرد فيها العبيد بالهواء لمدة أسبوع من دون أسياد، وجلسنا كعادة لقاءاتنا النادرة نفكك الرواية إلى عناصرها الأولى، كان المشهد الرائع من إكزوتيك المهجر المصري في العراق لعامل يتلصص عليه الناس في خلوته وهو يرفع بذكره دلاء الماء فيما ينتصب العشرات خلف ثقب التلصص في غرفته. سمعنا طرفاً منه أو نسجاً على منواله في حكايات جيل الهجرة الثمانيني، لكن أكثر ما أدهشني في العمل هو قدرته على وصف العمالة الآسيوية في بساطة عشقها وعبوديتها، غير بعيدة عن مأزق أهل البلد الأصليين في لوثة حداثتهم العائمة على بحر النفط الرخيص، فتتحول أعمال السخرة والعبودية إلى مروية جديدة لألف ليلة وليلة على نمط مابعد الألفين.

جلس البساطي يحكي وأقاطعه بالحكي، كانت عيناه تدمعان من الضحك الرائق، كنت مندهشا من تلك الحساسية الجديدة في كتابته المتأخرة، حساسية التخييل الكامل، المنبت الصلة عن عوالم شمال الدلتا. كنت في إحتفائي بالرواية وتوصيتي بها للأقربين كمن يكفر عن خطايا تجاه هذا الكاتب الجميل، أو كأنني أعتذر عن مجمل التلخيصات المجتزأة التي سجنّا فيها جيل الستينات، فلا تاريخية الغيطاني نفعته في اكتساب الاحترام لاحقا، ولا ريادة وثائقية صنع الله أنجته من التكرار المبتذل، فصبر البساطي على التقليل من شأنه كاتباً عظيماً كان درساً أخلاقياً في معني الحرفة التي لا تتأثر بتصفيق الجمهور، ودأبه على الكتابة تجريباً وتمحيصاً في ثنايا منفلتة وغائبة عن وعينا، كانت مصداقاً لوعود الكتابة، التي لا تقف عند حدود انعكاسها في مرآة واسعة، كان البساطي ولازال لمحة لايمكن اضمارها في مشهد عام، بل هي جديرة بتأمل أفقي لمجمل أعماله، حيث لا سلام في جنازة يوفيه حقه، ولا كلمات نادمة بعد موته ستجلب ما هو أكثر من ضحكته المتواضعة وهو يقرأها الآن.

 المستقبل - الاحد 22 تموز 2012