(مدوّنات / يوميات لثلاثة كتّاب سوريين على هامش الثورة والحرب)

منذر مصريحيث الهدف هذه المرة هو بذاته هدفنا وليس من هو الهدّاف. لهذا فالسؤال أعلاه لا يحتاج لجواب، شرط ألاّ يفهم يأية طريقة على نحو سياسي، ليس لأنه ليس كذلك أبداً، بل لأن الجواب بنعم أو لا سيكون رخيصاً، فالدم في السياسة يكاد يكون ليس له ثمن، وبهذا تتأكد محاولتنا المشتركة للتهرَّب من الجذري بتقيَّة معلنة كأيَّةِ كتابةٍ باطنيَّة حقة، تدعي الحرية في القول والحق في الفكرة مهما تكن، بما يبعد روح النص عن لحم اليومي وعظم الذاكرة. وكأننا دون تصميم مسبق عقدنا العزم على إخراج الألم السوري بتفاصيله وتعقيداته وإشكالاته من الحيَّز الجغرافي الضيق إلى الفضاء الكوني التاريخي، وأحياناً العكس، تحويل المأساة السوريَّة العامة إلى مأساةٍ شخصيَّةٍ لقارئ مبال أو يتظاهر بالمبالاة، بعيداً ما أمكننا عن هويَّة المولد أو المعتقد الديني أو حتى الانحياز السياسي المباشر.
كتبت هذه النصوص في العتمة حيث يصعب للواحد منا أن يرى يده، ولا إلى أين تمتد يده، ولا ماذا تلمس يده، بلغةٍ خفيضة خافتة، غير أنها تقاطع فجأة بصرخة تعبر عن نشوة انتصار ما.

***

محاولة توثيق لحياة غير مؤكَّدة

منذر مصري
(اللاذقيَّة)

1ـ أسير ما أخذت

ـ قلت لصديق: سأسافر. ضحك وقال لي: إذن ستهرب.
ـ نعم كنت أحيا.. كنت أحيا في الموت، ولدت ونشأت وكسوريين كثيرين، أحببت وتزوجت وأنجبت أطفالاً، في الموت. لكني يوماً لم أرغب أن أحيا خارجاً. كنت دائماً على قناعة أن الحياة هنا مأثرة. فما بالك اليوم.
ـ كنا نحيا في الموت، الآن ونحن نخرج من رحمه يلف على رقابنا حبله السري.
ـ كل ما عشت لأجله، كل ما بنيته، كل حياتي، هنا. لا أظنُّني أصلح للموت في مكان آخر.
ـ اكتشفت علاقة بين خوفي من الموت وكرهي للسفر.. كلاهما بسبب البخل! هذه هي حقيقة. شيء كريه بالنسبة لي أن أغادر إلى أي مكان وأترك كتبي ورسومي ومجموعة أسطواناتي.
ـ صحيح.. عادتي الأخذ، ولكني أسير كل ما آخذه.
ـ قالت لي صديقة حطت مع أهلها في القاهرة: منذر، أفتقد كل شيء، أفتقد ثيابي الداخلية.
ـ أفكر بالسفر، (لم يبق إلا أنت وخالد خليفة) قالت لي رنا. لكن أكثر ما أخافه هو أن أموت وأُدفَن في مكان غريب.
ـ قلت له: كنت آمل أنك ما زلت في حمص. أجابني: منذر.. في حمص لم يبق شيء.
ـ لا معنى أن تحيا في مكان، لا معنى أن تموت فيه.
ـ عندما سافر مصطفى، قلت له: غيابك تدريب على الموت.
ـ كرنين هاتف يصلك من البيت المجاور.. ولا يجيب عليه أحد.
ـ أونغاريتي: (كن متأهباً لأي رحيل).
ـ لا أفعل شيئاً، أحيا كشاهد.. واجبي إذن ألاّ أكون شاهد زور.
ـ سألتني لماذا لا تسافر؟ أجبت: بسببك، كيف أسافر وأنتِ باقية. قالت: ولكنك بالكاد تعرفني. قلت: أرجوكِ، لا تأخذي جوابي على محمل شخصي. ليس بالضرورة أنتِ بالتحديد.
ـ قال لي ياسين الحاج صالح: منذر، إبقَ، لا تفعل شيئاً، ولكن لا تسافر.

2ـ سوريا جنة الله على الأرض

ـ سوريا جنة الله على الأرض: بلغ عدد الأنفاق المكتشفة في مدينة حمص واللاذقية وبانياس والقصير وإدلب ودير الزور ما يقارب 150 نفقاً تتراوح أطوالها من 150 متراً إلى ما يزيد عن 150 كم! أكتشف في داخل أحدها دبابة معطلة.
ـ سوريا جنة الله على الأرض: قامت اليوم 3 طائرات ميغ 21 تابعة لسلاح الطيران السوري بقصف كل من مدينة دير الزور وحمص والمعرة والميادين وداريا والمعضمية. أفسر هذا غيابياً بأنه خصصت طائرة للدير، وربما طائرة لحمص والمعرة، وطائرة للميادين وداريا والمعضمية معاً!
ـ سوريا جنة الله على الأرض: نفذت القوات المسلحة سلسلة عمليات نوعية في حلب قضت خلالها على مايقارب ال/300/ مسلح في مناطق الشعار والصاخور والعويجة واليرمون.
ـ سوريا جنة الله على الأرض: وصلت القذائف الأحياء السكنية في قلب العاصمة دمشق ومحيطها. فبعد استهداف أحياء كالطلياني والعباسيين، بدأت قذائف الهاون تتساقط على منطقة المزة.
ـ سوريا جنة الله على الأرض: تم العثور على مقرات للتعذيب في حي جوبر والقصير بحمص، والرمل الجنوبي في اللاذقية، وبصرة القديمة، وأوتوستراد مطار دمشق الدولي.
ـ سوريا جنة الله على الأرض: تشتعل في سوريا ما يسمى حرب المطارات، حيث تتعرض جميعها ومنها مطار دمشق للقصف والمحاصرة ومحاولات الاحتلال. وقد صرح مصدر عسكري نظامي بسقوط /3/ آلاف معارض مسلح في معركة مطار تفتناز.
ـ سوريا جنة الله على الأرض: يقدر البعض مجموع عدد القتلى من جميع الأطراف في سوريا ب/150/ ألفاً، إضافة ل/75/ ألف مفقود. يعتقد أن /16/ ألفاً منهم ماتوا تحت التعذيب. والله أعلم.
ـ يقدر عدد النازحين في سوريا جنة الله على الأرض بخمسة ملايين سوري، ثلاثة مليون منهم نزوح داخلي ومليون ونصف خارجي. ونصف مليون غير الله لا يعلم أين هم.
ـ سوريا جنة الله على الأرض: أعلن مسلحون، بلسان العقيد أسامة، الرمز 102، تشكيل جهاز مخابرات الثورة السورية لمواجهة منظومة مخابرات النظام!
سوريا جنة الله على الأرض: يشاع أن العالم ينتظر أن يصل عدد القتلى في سوريا إلى /5/ مليون حتى يسمح بالتدخل الخارجي. ليس سهلاً على قلب العالم قصف الجنة بطائرات الناتو.

3ـ عن الطيور والبشر

ـ كم الإنسان ناقص، ردد هذا بصوت مسموع وهو يتأمل طيوراً بعيدة تعبر الأفق.. كم الإنسان ناقص، ليس لديه أجنحة.
ـ خلاف ذكور الطيور والضفادع، الرجل يصدح بوجود أنثاه.
ـ أنا لم ارسل لكم طيراً، بل جئتكم بنفسي على شكل طير.
ـ أنت طائر بأربعة أجنحة.. قالت لي.
ـ احضري لي ما تلتقطينه من عصافير، أنا من لديه الأقفاص.
ـ جئنا جميعنا من مخاط.
ـ كل ذي عاهة جبار. وأنا لدي ألف عاهة.
ـ جميعنا أنبياء، جميعنا عملاء مأجورون لرب ما.
ـ أهدتني وردة أهديتها بلبلاً.
ـ تناديني وكأنها تنادي طيراً.
ـ يرافق إصغاؤهم تغريد حشرات.
ـ كنت أحيا في فمي، كان فمي عصفوراً.
ـ أنا وعصفور تشاركنا أكل كرزة.
ـ لا يهمني أي نوعٍ من الطيور أحب أن أكون. سئمت الالتصاق بالأرض.
ـ كلما رأيتِ غراباً طائراً تذكريني.

4ـ خبراء توثيق الحياة

صلاح سواس: فوق 18 سنة... الحرية عادة يومية وليست عادة سرية.
محمد هير: وحش السماء ينتظر عذراءه، وهو غاضب جداً. ماذا تظنونه سيفعل إن عرف أنها في سريري؟
رزان زيتونة: خبراء توثيق الموت لا يبكون.
هالا محمد: المطر في باريس.. والرّعد في سوريا.. والصاعقة في بيروت.
كريم العفنان: سيكون الله أول المستفيدين من سقوط هذا النظام.
نجوى هدبة: لمن تسطع الشمس إن لم يستيقظ أحد؟
زين الباشا: إلى الملاجئ والأقبية يا أهل دمشق، الليلة ليلة موت في جنوب العاصمة.
ثائر نعيمة: أرشُّ الأرض بالكحول، ترنَّحي مثلنا أيتها المتعبة.
منتهى محمد: لم تصبح الجنة جنة إلا بعد أن طردنا منها!
رنا سفكوني: وكنت أربط خطاي إلى خطاهم، فإن ذهبوا.. ذهبت معهم، وإن عدت.. عادوا.
رائد وحش: أخذوا أسماءنا عند الحاجز.. لذا لم نعد نعرف من نحن.
أحمد بغدادي: ميغ ـ اسم بلا ريش ـ ريشه يدفئ الأعداء.
إيمان جنسيز: مصطفى كرمان مات أميراً في حديقة قصره.
تمام الهنيدي: كلانا طلب من الآخر.. حاول ألاّ تنفجر في غيابي، عدني أن ننفجر معاً.
أحلام طاهر: في كل مقاهي حياتي كنت مع صديقة حزينة بسبب رجل.
عتاب لباد: بدون مبالغة وبدون استدراج عواطف، أكلت خبزاً عليه عفن أخضر.
عمار حاج أحمد: لمن أحب، خمس رموش في كل عين.. فقط للأرجحة.
مها فاضل: إذا سقطت حمص.. يجب أن تسقط السماء.
أكرم قطريب: هل من نبوءة بشأن دمشق؟

5ـ فشيفشيات

ـ أبو عمر: الشغلة يا أخي صارت وصارت.
ـ ما أن سبحنا بعيداً عن الشاطئ حتى قال علي تيزني الملقب بالبطة: خطؤه.. خطؤه الكبير.. رفع سعر المازوت.
ـ سؤالي: إلى متى كان يظننا سنبقى سعيدين بأن نرتع في ذلك الوحل؟
ـ البراميل يا أخي، ألا تستطيع اعتبارها اختراعاً عبقرياً جحيشياً؟
ـ التشبيح صفة سورية بامتياز، ربانا عليها حزب البعث لمدة نصف قرن، لهذا السبب قبِل الشبيحة باسمهم بكل ممنونية وتباهوا به. ولكن هناك معارضين شبيحين، وأعترف أني، مرات، ضبطت نفسي أشبَّح مثل كل سوري أصيل.
ـ قلت له، تقضي ساعات على الشاطئ، لماذا لا تسبح؟ أجابني: الدنيا رمضان يا أخي. قلت: حتى لو، ها هو الشيخ صلاح يسبح. أجابني: ولكن ألا يدخل الماء في الأذن؟
ـ عندما صاحت مصعوقة: أنت كبير جداً. وجدتني مضطراً أن أردد أمامها قولي الشهير: ولكنك يا عزيزتي، مثلي تماماً، من مواليد القرن الماضي.
ـ سؤال: هل يستطيع الطباخ أن ينجو بفعلته بالإختباء بالفرن؟
ـ من ناحية المؤتمرات والهيئات والمجالس والتيارات والمنابر واللقاءات والحركات والروابط والتآلفات والتحالفات، وهلق يمكن جايينا الحكومات المؤقتة والانتقالية وو و.. بصراحة لازم نعترف أن المعارضة ما قصرت.
ـ لا يرى في المتظاهرين من يمثّله.. ليس أهل العوينة والصليبة وبستان السمكة وبستان الصيداوي والسجن والرمل الجنوبي من يمثله. يقول. بالنسبة لي لا أجد سواهم من يتقدَّم ليفعل ذلك.
ـ يردد البعض أن التظاهرات في اللاذقية اقتصرت على الفقراء من الأحياء الشعبية. وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق، ولكن متى لم يكن الفقر وساماً؟
ـ منذ فترة ليست قليلة، أبطلت قراءة البيانات، ومتابعة التصريحات، حتى مشاهدة برامج الحوارات. مع احترامي للجميع، أرى أن ما يجري على الأرض يقول بالفم الملآن واللسان الفصيح كل شيء.
ـ قال لي: دعك من كل هذا.. انظر إلى حيث تشرق الشمس.
نظرت فإذ بالشمس على حافة الأفق تهم بالمغيب

***

الفاكهةُ على العربات

أكرم قطريب
(نيويورك)

أكرم قطريبجمهورية الخوف بُنيت بأكملها بفزَّاعة الشعارات الطنانة، على مزيجٍ من ظلم هائل، محصور في متناول قلّة، يمتلكون كل مفاتيح العمارة المتقنة التأسيس، ولها صلاحيات مفتوحة لتطوير هكذا نوع من اقتصاد الإكراه، والذي غايته صناعة جيش من الكائنات، الجاهزة لتقديم الولاء بشكل مشرّف، كلما سنحت الفرصة. لا وقت للراحة والكسل فاللافتات التي كانت تغطي المدن بإمكانها أن تستر نصف عري الكرة الأرضية، والألوان التي كان يتقاسمها الرسامون كي يصبغوا جدران الأروقة اللانهائية لمستعمرة النوم والطبول والميكروفونات.
الوجوه المعفرة بالوحل وروائح التعفّن في السجون التي بنيت في العراء.
المنازل المفتوحة الأبواب على الهشيم والخسارات.
المكانة الرفيعة للحزن على وجوه أمهاتٍ ينتظرن أبناءهنّ، على العتبة، لدهرٍ لا اسم له، ويجمعن الصبر في حصالة نحاسية.
إمبراطورية الانتظار تجترح المعجزات.

تَحمّل السوريون ما لم يتحمله جمل بسنامين. كان العطب أحد أهم السمات التي تلذّذ أصحاب الأمر بجعلها نوعاً من العمارة الفاشيّة، واستعراضٌ للقوّة يدمج ويختصر كل مناحي الحياة السورية، على شكل عيد وطني مؤبد، يُمجّد شخصاً خاض حروباً غامضة في أرضٍ بعيدة لم يسمع بها أحد.

كل هذا اللحم السوري المعلّق على الحيطان هو خبز طريّ متروك لجائعٍ في الليل.

الأقدام الحافية ترتجف لأجلكِ في البلد الكبير أيتها الحرية.

هل لي مكان ألمسُ فيه طرفَ ثوبكِ الممتد حتى سجن المزّة السيء الصيت، بين طلعة الجبل قرب سوق الخضرة ومفرق الشيخ سعد، حيثُ طفلٌ بلمح البصر يعدُّ نجوم دمشق، ثم يتوارى في مدخل العمارة. الفاكهة على العربات، والخبز مرسومٌ على الأرض بطباشير بيضاء.

هل من نبوءة بشأن دمشق يا مَقرَّ الموتى
هذه الشعوب التي تتطاير، بينما يكتئب الرجال على السطوح قبل أن تذهب الشمس إلى الألف الرابع قبل الميلاد سهواً.
بقي صراخُ بشرٍ منحوتٍ على ألواح بازلتية، والناجي الوحيد يختبىء في الفرن بين أكياس الطحين. بعد يومين سيعثرون عليه رغيفاً محروقاً. يصرخ أحدهم في الشارع: لا تأكل من هذا الخبز.

حين يصير الكهنة مصدر الحكم، والجهلة يطغون على المثقفين، ويحكم البلاد طغاة من العهود القديمة، وهناك من يبيع الأمل مع القهوة والأرز وجبنة «لافاش كيري»، قل: سنذهب إلى الجحيم حتماً، ولن يزور النوم عين حبيبتي التي يعشقها صديقي.

كنتُ لا أجد جواباً لأن يقوم سائقو باصات النقل الداخلي في العاصمة بغسيل أرضية الباصات بالمازوت، حتى حينما كنت أغادر المدينة الجامعية، عائداً إلى مدينتي الصغيرة وسط سوريا، سأغرق في الرائحة نفسها تعبق بها أرضيات وسائط نقل «الهوب هوب»، قبل إختراع شركة الكرنك التي أفلستها الشركات الخاصة، بينما سأظل أتذكر جماليات استراحة الكرنك في «البرامكة» . السائق الرومانسي أبو علي عواد يوزع الرحلة بين فيروز ووديع الصافي وياس خضر وأم كلثوم، والكرسيين المخصصين لعضوي مجلس الشعب اللذين يقعان خلفه تماماً.
وجود عضوين للمجلس في الرحلة، ويجلسان خلفه، لن يجنّبه الوقوع في الخطأ والارتباك والكراهية. ووجود فتاة جميلة وراءه ستحوّله إلى هواء خفيف يهب من صوب البحر. كلامه البطيء وإصغاؤه الرقيق للركاب حينها كان غير مفهومٍ.
على الطريق قبل دمشق بقليل لافتة كتب عليها:
«ابتسم أنت في دير عطية».

إلى أبو خالد الرفاعي
تُعلق سترتكَ وراء الباب قبل أن تغذ الخطى إلى الغرفة، التي تعبق بالدخان. كان البيت لأحد أصدقائي الفلسطينيين، ويقع في شارع لوبيا بمخيم اليرموك. فتيات وشبان أتينا من القرى والجرود والمدن البعيدة كي ندخل في نقاشات تقارع الفجر، عرق وبيرة و»شنكليش» ورولان بارت وغرامشي وكارل ماركس والحتميَّة التاريخية والنعاس الذي سيضرب مفاصلنا أول الصباح، ونحن نخرج من ممالك بنيناها حجراً حجراً وليس في جيبنا ليرة سورية واحدة. نعود بخفيّ حُنين إلى غرف أصدقائنا الجامعية كي نأكل المرتديلا الوطنية، ثم ننام في أسرتهم، التي يتركونها لنا حين ذهابهم إلى الجامعة.

بمناسبة الإصلاح: سأشرح لكَ بهدوء تام وبلغة عربية واضحة، تستطيع رسم السمك يسبح في أنهار بعيدة، وأن يفهمها رعاة أهل الصحراء:- لسنا في العصر الحديدي كي تأخذ إزميلاً وتدق هذه الأرواح المقدسة بالمسامير، ثم نعود خمسة آلاف سنة إلى الوراء بعربة وحصان وضحكة بلهاء. لن نعثر على آلاتنا الموسيقية وجرار المؤونة والكلاب التي تنبح في الأزقة، وحتى النقود التي رميناها في المياه العذبة.
عرق الريان الذي يذهب هدراً في مجارير الصرف الصحي، من دون أن ينتبه جمهور كرة القدم لذلك. ولا الضحايا الذين يعرفون تماماً درجة قوة مرضكَ.

لا أحلمُ، ولستُ من محبي الدراما التلفزيونية، أن أرى الجسد السوري يخرج من تحت التعذيب. العبقرية تافهة حين تصل التراجيديا أعلى مراحل التوحش، والجلوس الطويل على الكرسي الألماني لا شفاء منه. أو أن تُذبح على طريقة الأضاحي كخروف العيد. لستُ فيلسوفاً كي أكشف كل غامض. الضحية والجلاد وشبهة الشعب يخرج من الدولاب الذي حُشر فيه، متحرراً من الأسر وهو يلفظ كلمة «الحرية» بدهشة من اكتشف قانون الجاذبية لأول مرة.
ثم سينام من شدة التعب على أرضيَّةٍ من الفخَّار ويتحوَّل بعد ذلك إلى حجر من المرمر الأبيض.

منذ فجر التاريخ العنف لم يكن طارئاً، الحبّ أيضاً.

ألم تقل الكتب القديمة أن إرضاء الزوجة النكدة أصعب من حصار المدن؟

عرياناً يخرج السوري من رحم أمه، وعرياناً يفارق الدنيا كما جاء، بعد أن ختم قراءة المنطلقات النظرية لحزب البعث.

من أين أتت كل هذه الكراهية، أم أنها جزء من نظام الطبيعة: الشر لا يذهب أدراج الرياح، يستقّر في صدور الجهّال.

هل ستبتسم لمن يهم بقتلكَ، وتدعوه إلى العشاء مع الأهل والأصحاب وتعطيه معطفكَ كي يتغطى تحت النجوم، وأساور زوجتكِ كي يفرح، وأكياس الطحين كي يصير بينكما خبزٌ وملح، وعلبة سجائركَ كي يُطفئها في ظهورِ أبنائك وهم يدخلون في المرايا واحداً واحداً.

من أين آتي لكِ بمتنبي آخر أيتها الحداثة الزائفة.

السياسة في العالم العربي مايكروفون لا أكثر.

***

البرهانُ على وجود الجحيم

دارا عبدالله
(دمشق)

(إلى «محمد ديبو» يوم انتظرتني بقلقٍ في
ساحة «باب توما»، حتى تأكَّدت أنَّه
ليس كميناً، هكذا يلتقي السوريون أوَّل مرّة).

ذاكرة
دارا عبدالله دمشق سوداء ميَّتة كمريض سرطانٍ يموتُ ببطءٍ مدروس، وجوهٌ شاحبةٌ وعيونٌ قلقة. المدنُ أجساد، والهجرة مرضها الفتاك. اليوم، في التاكسي رجلٌ مسنٌّ اشتعلَ رأسه بالشيب، جفونه بالكاد تسمح بدخول الأشعة إلى عينيه، وبينما كان المذيع في محطَّة «شام أف إم» يتحدث عن «جثث مجهولةٍ لإرهابيين» بصوت عادي كأنَّه يتحدَّث عن إطاراتٍ محروقة، قال السائق كمن يعرف أنّه في نفقٍ معتمٍ بلا مخرج : « الذاكرة جحيمٌ، ليتَنا نستطيع النسيان«.
ذاكرةُ الطفلِ سابقةٌ لولادته، ستَّةُ أطفالٍ من داريا، حصلوا على أوراقٍ بيضاء وأقلامٍ ملوَّنة، الورقة البيضاء هي كرسيُّ اعترافِ الكون، رسموا جثثاً مقطعة وجنوداً مبتسمين، وكلمة «الله أكبر». أطفالٌ شهدوا حروباً... سيخوضون حروباً.

جرذ
خارج السجن الجرذان تهربُ من البشر، داخل السجن البشرُ يهربون من الجرذان. عصبيَّتك في مواجهة لا مبالاة الجرذ، تتجرَّد بسبب ممارستهِ لحياتهِ اليوميَّة. هدوءُ الجرذ أكبرُ تحدٍّ لقلقك.
«الانتفاضة والكتابة»
الغموضُ هو المسيطر. أيُّ شيءٍ يخرجُ من الحدث السوري يُنشرُ بلهفة. أهميَّة الحدث سياسيَّاً تنقِذُ رداءة النص فنيَّاً. نصوصٌ قليلة جداً تتحدَّث عمَّا يجري بواقعيَّة وموضوعيَّة، من دونَ أحكامٍ مُطلقةٍ وحتميَّة. يوصِفُ الصراع بأنَّه تضاديُّ أزليُّ بينَ خيرٍ مُطلق وشرّ مُطلق. التشويش على الصمت السوري بالصراخ والتمزيق مشوِّه. الواقع السوري مركّب ومتشابك وشائك، ولا يحتمل توصيفات جوهريَّة مثل «الشعب السوري العظيييييم» أو «لا خوف من الموت».
شهوةُ الانتقامِ مُغريةٌ في اللغة وتثيرُ عدوى كتابة مشابهة، هيجانُ النقمة يزيد حِدَّة اللغة وحضور العصبِ الأهليِّ فيها. لغةٌ تتحدث عن جوهر المعاناةِ بنبرةٍ خفيضة مُثقلةٍ بالذنب، تعوِّض ما سبق بكثافة عُمق الألم، لغةٌ كهذه تستطيعُ النسيان والغفران، استخلاص علامات «المجد» من ركام هذا الدمار، هو اقتحامٌ لقدسيَّة وحدة المنكوبين، هو مسرحةُ هذا الحزن العظيم أمام جمهورٍ همُّه الاستمتاع فقط.

أما الخطاب الفصيح أمامَ مشاهد الموت، أي افتعالُ «المؤثِّرات اللغويَّة»، فهو تفريغٌ لمشهد الفظاعة من الألم، لا تملأوا هذا الفراغ بجثث الكلام، ولا تشوِّهوا عذريَّة مشهد الموت، الفصاحة كذّابة دوماً.
كاتبُ يدعو للحريَّة ولكنَّه مازال سجين مزاج القارئ الجائع للأساطير والبطولات، كاتبٌ كهذا لا يستطيع أن يكتب إلا ما يريده القارئ.
الإنتفاضة هي حدثٌ تاريخيّ متَّصل، ولها أسباب ومسوِّغات، وليست لحظةً بطوليَّة خارقةً منفصلة عن التاريخ. كثيرٌ من التحليلات عاجزةٌ عن تفكيك الإشكال الإيراني «من قاموا بالثورة ضِدَّ حكم الشاه، الآن يحتجَّون ضدَّ حكم الملالي»، أليست الثورة هي تغيُّر علاقة الحاكم مع المحكوم؟!

ديكتاتور ـ جماهير
يرتاح الديكتاتور إلى «الجماهير»، ارتياحُ النرجسي إلى البليد. هل هنالك أجمل للقنَّاص من الجثَّة الهامدةِ التي ينهالُ عليها برصاصاته؟!

حُروب
«أبطال» الحروبِ لا يخوضونها بأجسادهم، الضحايا الحقيقيون ينساهم التاريخ كغبارٍ منثور. الفكرةُ تنتقمُ ممَّن يمثِّلها.

«بطولة»
لا شيء يسخِّفُ البطولة مثل تفاصيل الحياة اليوميَّة التافهة في السّجن.
وحدة
قتيلٌ واحدٌ يصبحُ نجماً، المئاتُ في المجازر الجماعيَّة تضمحلُّ أسماؤُهم، الوحدة تدللُّ ضحاياها.

SMS
رسالةُ الموبايل كانَت الضوء الوحيد الذي يسطع في ظلمة البيت، ستضمر عيوننا لقلِّة الاستعمال، ظلامٌ خالٍ من العتمة،حرمونا من مُتعِة العُتمة بسفالة هذه الرسالة التي تقول «معركة الحسم مستمرَّة، لا تهاون مع الإرهاب واليد التي تمتدُّ إلى مقدرات الشعب ستقطع. الجيش العربي السوري».
هل يوجد تهديدٌ أكثر عدميَّة من هذا؟

فيسبوك
خصوصيَّاتك تفترسُ عموميَّاتك، وعموميَّاتُك تفترسُ خصوصيَّاتك.

الجنس والحرب
الحربُ هي احتكاكٌ ميكانيكي بين الغاضبين، لترجمة رغبة المجموع في أن يُصبح مُفرداً. الجنس «بيولوجيَّاً» (أي الإنجاب) هو تواطؤُ الانقسام لصُنع وحدةٍ جديدة.

فيديو السكاكين
الميِّت ميتٌ. الفجيعة قدر الأحياء. لا تحزن على من فُقِد، بل إحزن على الباقين لأنَّهم ما زالوا «أحياءً» يشهَدون.

كابوس
الكابوس المتكرِّر اليومي، رجلُ أمنٍ يلاحقُك. في الحلم أنتَ تعرف أنَّك تحلم، رغم ذلك أنتَ خائف، أنتَ خائفٌ من أن يكون هذا الكابوس واقعاً لشخص آخر. ألم يكن اعتقالك كابوساً لشخصٍ مجهول؟! الكوابيس هي البرهان الوحيد على وجود الجحيم.

«دوار جنوبي»
مُنغمساً في التذكُّر، فاقداً التعلق بالتفاصيل، في باص»دوَّار جنوبي» على أوتوستراد المزّة في منحدر ساحة الأمويين الخفيف، تتخيَّل رجلاً يشبهك تماماً يسكُن رجلاً آخر يشبهك تماماً، في أيّ رجلٍ منهما أنتَ تسكُن الآن. من منهما يكتب هذا النص؟

تاريخ
صفحاتُ التاريخ الصارمة مشغولةٌ بالبطولات البرَّاقة ولا تتذكَّر الإلتباسات الصغيرة. لا يوجد أكثر مللاً من سلسلة «قصة الحضارة». دوماً العبارات الشهيرة بحاجةٍ إلى أحداثٍ كبيرةٍ حتى تُقال. لا يتذكّر المرءُ على فراش الموت سفالاته، بل يتذكّر ورقة شجر كان قد داسها. والجنود السوريون العائدون من المعارك لا يتحدَّثون عن الموت، بل يتحدَّثون عن الطين ومشهد الغروب.

*****