عندما اقترحتم عليّ بكلّ محبة ان انشر في صفحتكم الثقافية وصفا ليوم من ايام حياتي، ثبُت فيَّ إيمان لطالما راودني: لا وجود للصدفة. فقد وصلتني رسالتكم متزامنةً مع نزول ترجمة "يوم من السنة" للكاتبة الالمانية كريستا وولف الى المكتبات، بعدما عملتُ وزوجتي على اعدادها. يضمّ هذا الكتاب الذي صدر في المانيا عام 2003 نحواً من 41 نصّاً كتبتها وولف بين العامين 1960 و2000. تعوّدت هذه الكاتبة ان تصف سنويا يوما من ايام حياتها، وبالتحديد نهار السابع والعشرين من شهر ايلول. راودتها هذه الفكرة عام 1960 عندما اكتشفت ان مكسيم غوركي وجّه عام 1935 دعوة الى كلّ كتّاب العالم اينما كانوا ليصفوا هذا اليوم الذي يعلن بداية فصل الخريف. بكل حماسة، لبّت وولف الدعوة وزاولت هذا الطقس منذ ذلك الحين، ومن دون انقطاع. في مقدمة الكتاب، تحاول وولف ان تحلل الاهداف التي حثّتها على ذلك فتقول: "السبب الأول هو خوفي من النسيان الذي، كما تبيّن لي، يمحو يومياتنا الغالية. لقد اردتُ ان اكتب لمواجهة هذه الخسارة الحتمية للوجود، اقلّه يوما واحداً كل سنة، فيكون ما اكتبه دليلا موثوقا به للذاكرة".
واذا كان طلبكم يوقظ فيَّ صدى مميزا، فذلك لان قسما كبيرا من القصائد التي كتبتها في حياتي متعلق بحادثة معينة وروزنامة زمنية. فلقد جمعت مثلا 12 قصيدة، واحدة لكل شهر، في كتاب عنوانه Chronos. وفي واحد من كتبي الجديدة، وعنوانه "شذرات من القرن العشرين"، هناك قصائد صغيرة تستند في غالبيتها الى حادثة تاريخية او شخصية او خيالية من القرن العشرين، وهذا كلّه خير دليل على عجزي عن رفض طلبكم.
إلاّ أني أحتفظ بعلاقة ثنائية مع فكرة مرور الزمن لأنه يتسبب لي بالإدمان على متابعة الأخبار التي تقتحم عالمنا كلّ صباح مطيحة احلام الليل. تصلنا هذه الاخبار من الاذاعة والصحف وشبكة الانترنت فتعظم مأساة كلّ سكان الارض. لكني على الرغم من هذا، لا أزال احافظ على هذه العادة التي تغذّي كتاباتي الشعرية منذ زمن بعيد.
حتى لو كانت هذه العادة تدفعني بين الحين والآخر الى تأليف قصيدة، فقد استغني عن تدخل الصخب الخارجي في حياتي وافهم عندئذ وجهة نظر صديقي الشاعر الالماني فارنر دورسون الذي يعتمد قواعد صحية معينة في حياته اليومية وفي الكتابة يلخصها بالآتي:" قبل الظهر، لا صحف لا اتصالات ولا تصريحات للمستشار".
لكن كما يقال، في سنّي هذه، من الصعب ان نكتسب عادات جديدة. فصباح كل يوم، اهرع الى كشك الصحف وافتح بلهفة علبة الرسائل الالكترونية وغير الالكترونية حيث اجد الجرائد والمنشورات، ولحسن الحظّ، رسائل اصدقائي الاعزاء.
رغبةً منّي في المحافظة على نوع من التوازن، احاول جاهدا ان احفظ اسرار الليل. لقد اعددتُ "لاهياً عن الكارثة" وفق التناوب الصارم بين الاوراق ذات الرقم المفرد التي كتبتُ عليها ابياتا شعرية استعملتُ فيها ضمير المتكلم، والاوراق ذات الرقم المزدوج التي كتبتُ عليها نثرا شعريا استعملتُ فيه ضمير الغائب. وبما ان انتاجي الشعري نادر ويتسم بوتيرة بطيئة، فإني أشكر اللاوعي الذي يمدّني بعدد لا بأس به من القصائد.
غالبا ما يكون من الصعب على الكلمات ان تنقل احلامنا، لكني سأحاول ان اروي لكم حلما غريبا راودني، آملا ان يترك على وجوهكم ابتسامة. في ايّار 2005، امضيت ثلاثة اسابيع في ايران مع عدد من الشعراء الفرنسيين (كلود استيبان، جان باتيست بارا وآن تالفاز) والشعراء الايرانيين، حيث شاركنا معا في "قافلة الشعراء" التي نقلتنا من طهران الى شيراز مرورا بأصفهان. وفي نهاية اقامتنا، كان زملاؤنا الايرانيون قد قدّموا لنا الكثير من الهدايا والكتب، فصرتُ مهووسا بفكرة ان يُطلب منّي في المطار دفع رسم اضافي على فائض الوزن في حقائبي. وفي آخر ليلة قبل مغادرتنا، راودني كابوس رأيت فيه نفسي واقفا بالقرب من حقائبي امام موظف في المطار يطلب منّي ان ادفع رسما اضافيا على فائض الوزن. في تلك اللحظة، رأيت بين المسافرين رجلا معروفا في فرنسا، حصد شهرته بفضل برامجه على الاذاعة والتلفزيون ومقالاته في الصحف. غير اني كنتُ اجد تعليقاته مزعجة، فهذا الرجل انتقل على مرّ السنين من احزاب اليسار الى احزاب اليمين، كما انه ازداد سمنة بقدر الدور الذي راح يضطلع به في مجال الاعلام. عندئذ، ثرت غضبا واشرت اليه بإصبعي صارخا: "لماذا لا تطلبون منه ان يدفع رسما اضافيا؟ فهو من دون حقائبه فيه ثقل اضافي يبلغ عشرات الكيلوغرامات!".
اذ اقترب من نهاية النص، الاحظ اني لم ألبّ بعد طلبكم في ان اصف يوما من ايام حياتي. منذ خمسة اسابيع، توفيت امّي عن عمر مئة وثلاث سنوات. وراء النافذة، رحت اصغي الى الثلج يذوب في باحة مبنانا الفرنسي، واذا بالاذاعة تفيد بأن ثلثي المقاطعات الفرنسية اعلنت حال الطوارىء نتيجة الطقس الرديء. من المؤكد اننا سنسمع قريبا خبر وفاة عدد من المشردين بسبب البرد القارس في فرنسا، هذا البلد حيث يسرَّح الموظفون كي يحصد اصحاب الاسهم حصة اكبر من الارباح.
اسمحوا لي ان اختم بقصيدة كتبتها منذ ثماني سنوات بالتحديد واهديتها لصديقي الشاعر الايراني محمد علي سيبنلو الذي كان يستعد للعودة الى بلاده بعد فترة امضاها في باريس:
ماذا يخبىء كانون الحنون
بين العواصف والسماء العاطلة عن العمل؟
الليل بات الآن يمنح الوقت
ويحرّر ركب فتيات المدينة.
ها نحن نشرب الشاي
في المطبخ الصغير
حول المعدن الساخن
ونفكر في يوم الاثنين
عندما ستحملك الطائرة الى ارضك
كمثل دخان حالم
كمثل ذاكرة رقيقة:
ملحمة المستقبل الهشّة.