من لغة النمل إلي لغة الطير

ترجمة وتعليق: د. عادل محمود بدر

اللوحة من كتاب - الرسم الفارسيمازال النثر العربي كنزا خبيئا لم يعرفه المعاصرون الآن في جميع تجلياته.. ومازال النثر المعبر عن التجربة الروحية العميقة للتصوف يفاجئنا بالجديد، الدكتور عادل محمود بدر، الأستاذ المساعد بكلية آداب طنطا، والحاصل علي درجة الدكتوراة في فلسفة الملا صدرا الشيرازي الذي خصصنا له أول البساتين الرمضانية يقدم إلينا مفاجأة، إذ يترجم عن الفارسية مباشرة رسالتين نادرتين لشهاب الدين السهروردي، أحد أعظم المتصوفة، وصاحب فلسفة الإشراق، نشرنا له من قبل في أخبار الأدب رسالة الغربة الغربية، وفي هذا البستان يقدم لنا الدكتور عادل محمود بدر رسالتين تقدمان إلي قراء العربية لأول مرة، الأولي بعنوان 'رسالة لغة موران أو لغة النمل'..

والثانية 'صفير سيمرغ' وننشرهما للقراء.. ونلفت النظر إلي فن القص الرمزي الفريد الذي ينفرد به الأدب الصوفي العربي، وإلي طبيعة النثر الخاص ومستوياته المتعددة، إننا فقط نشير إلي أحد أوجه الكنز الثري في أساليب السرد العربية لعلنا نلفت النظر.

يبدو لنا من خلال النظر في حياة السهروردي شهيد الإشراق، شخصيته القلقة المفعمة بالتوتر وعدم الاستقرار. ووضح تماما أن نوازع القلق والتوتر في نفسه قد توافقت مع روح عصره الذي عاش فيه. ذلك العصر الذي تصارعت فيه تيارات فكرية وعقائدية وسياسية متناقضة 'الصراع بين الفكر الشيعي والفكر السني الممثل في دولتي الفاطميين والأيوبيين' وأن صاحبنا علي الرغم من هذا استطاع أن يتمثل كل ثقافات عصره إلي جانب إحالته تجارب الحكماء والأنبياء السابقين إلي تجربته الذاتية، وتفاعله معها رغم تباين مصادرها الحضارية وأن يعيش بحق نبض هذا التفاعل الروحي وجوديا وفكريا، ذلك الذي جري علي مسرح حياته الباطنة بقدر ما تمتد إلي وجوده الخاص وتجربته الروحية الذاتية.

والفكر الصوفي عند السهروردي شهيد الإشراق فكر حي أصيل، ولا يمكن رده إلي أشتات نظرية سابقة عليه إلا بمنطق التعسف وحده، حتى أن الميتافيزيقا النورانية التي فصلها في كتابه 'حكمة الإشراق' تختلف اختلافا واضحا عن تلك الميتافيزيقا التقليدية التي تحلق في السماء دون انطلاق من الواقع الحي للإنسان، لأن الميتافيزيقا عند السهروردي تستند إلي تجربة صوفية ذاتية وواقع شخصي أسيان وتستلهم الطابع الإنساني العميق، حتى أنه يطبع النظرية الميتافيزيقية في كل جوانبها بهذا الطابع، حتى يمكن أن تنعت بأنها 'ميتافيزيقا الإنسان' فهي حيوية شعورية تربط نفسها بواقع الإنسان العيني، وتنطلق من هذا الفهم نحو إقامة علاقة وجودية يغلفها السر The Secret وخلال هذه العلاقة مع الله أو نور الأنوار ترسم الفلسفة السهروردية عوالم وكائنات نورانية، وتحدد مناطق وسطي بين عالمي الحس والنور، وتهيئ الموجود الصوفي السالك للانتقال والتدرج فيما بينها حتى يصل إلي مشاهدة نور الأنوار.

وهكذا فإن هذا الفكر يخلع الشعور علي إبداعاته، ومعطيات الشعور الإنساني هي الأساس في كل هذه الإبداعات، إذ تبدو الميتافيزيقا في صورة حية وثابة، وفي بطون وثباتها وطابعها الحركي الدينامي ترسم مدارج وجودية للعلو الصوفي درج علي تسميتها بالمقامات والأحوال، وهذه المدارج خاصة كما سوف يبدو من تحليل الرسائل الصوفية لا تتفق تماما مع المدارج الصوفية المشاعة، إذ أنها ترتبط داخليا بالميتافيزيقا ذاتها.

والمدارج الصوفية عند السهروردي كما عرضها خاصة في رسائله لا تنتمي لمنطقة الفكر المجرد أو لمجرد تكملة المذهب الفلسفي كما هو الحال عند فيلسوف مثل ابن سينا، إنما هي رؤى تنبع من تجربة حية لا تخلو في أعماقها من ذلك الشوق اللا نهائي للحقيقة. وعلي الرغم مما قد تتخذه فلسفة السهروردي عموما من صورة تخطيطية عقلية قد توحي بالسكون، إلا أنها في جوهرها صورة مفعمة بالحيوية، لأنه في باطنها تعمل روح إنسانية وثابة لا تلك الروح الخاملة التي نشاهدها مع أرسطو مثلا، تلك الروح التي تناست الحياة، وجمدت الألوهية في صورة مجردة هي المحرك الأول.

ولذا فإن العبرة في تناولنا للمذاهب والأفكار ليس في مظهرها الخارجي أو التخطيطي التصوري، بل العبرة في روح هذه المذاهب ذاتها، أي بعدها الروحي الذاتي الذي يعمل خلف أي صورة نظامية تخطيطية، فإن كانت الروح فيها جامدة كتمثال من المرمر دون حياة، أحلناها بدورنا إلي متحف الأفكار، لأنها لا يمكن أن تؤثر فينا من باطن.

وإن كانت الروح فيها وثابة متوترة كالحياة ذاتها التي انبعثت عنها، فإنها تؤثر فينا من باطن فتتولد عنها حيوات جديدة كما كانت هي في الأصل، أعني منفعلة ومحايثة للتجارب الروحية في عمقها. وهذه الروح الوثابة هي ما نعزوها لحضارة جديرة بالبقاء، وهذا البعد الروحي ينتمي بحق في حالة السهروردي إلي منطقة الحياة الوثابة، وإلي الشعور الداخلي الذاتي، والموقف الوجودي المتسم بالتوتر لا إلي منطقة الفكر الصوري المجرد.

وهذه الوثبة موجودة في أعماق الفكر الإشراقي الصوفي عند السهروردي خاصة في جانبيها الرمزي وهي الرسائل الصوفية التي هي موضوع تحليلنا، وعليها نعتمد أساسا في فهم أبعاد الفكر الصوفي عند شهيد الإشراق.

ولذا فإننا سوف نجد الشهاب السهروردي في هذه الرسائل يحاول استشفاف المصير من خلال رؤى ذاتية لا تخلو من الطابع الأسيان الذي عاشته هذه الذات المبدعة لتلك الرؤى.

ونجد الشخصية ها هنا وقد قضت نفسها في صور وخيالات أسطورية رمزية، كما تعبر عن نفسها أيضا ووجودها وفق منهج استبطاني محاولة أن تجد الحقيقة في أعماقها، أن تجد النور في ذاتها لتعبد الطريق بينها وبين الألوهية حتى ولو كان علي حساب حياتها. فحياة الفيلسوف الخارجية لا تقارن بتلك الحياة الأبدية التي ينشدها، ويستخدم السهروردي آيات القرآن الكريم لكي يعبر عن مواقفه الوجودية الخاصة، فهو يوغل في أعماق الآيات المقدسة ليربطها بتجربته الذاتية، وهو من أكثر المفكرين عموما ارتباطا بالقرآن الكريم محاولا فهمه طبقا لمقتضيات حياته الصوفية، ووفقا لمنهجه في الاستبطان الذاتي Introspection ، وهو بهذا المنهج يردنا بعمق إلي أصل الوجود وأساس كل شيء الله نور الأنوار.

ووفقا لذلك كان عليه أن يعلو فوق كل الصور والأشكال الخارجية والموضوعية للدين والتوحيد من أجل تعمق المعني الباطن لها، أعني تجاوزها إلي الحقيقة البسيطة أو الحقيقة الإلهية في بساطتها، تلك التي تختفي خلف ضروب الشرائع الظاهرية المختلفة، وهو يعبر بكل الصور عن هذا الشعور بالحقيقة الباطنة حتى أنه يستخدم بعض الألفاظ من لغات مختلفة، ومصطلحات من مذاهب قد تبدو متعارضة مع أفكاره ورؤاه، إلي جانب استعماله لبعض التشبهات الغريبة، إلا أنها جميعا لم تكن سوي قوالب فارغة المحتوي في الأعم الأغلب، لأنه هو الذي أمدها بالمعني، فأصبحت ملكا ذاتيا له، تعبر عن أفكاره هو، ومن هنا تبتعد بدورها عن المعني الذي كانت عليه في الأصل.

والفكر الصوفي عند صاحبنا خاصة في الرسائل الصوفية فكر ذو طابع شخصي وجودي. ولما كان كذلك، فإن التعبير عن مقتضيات هذا الفكر الخاصة، أي الكشفية أو الذوقية لن تكون إلا خلال الرؤى والرموز والأساطير، أي من خلال التعبير اللامباشر الذي يتخذ صورة الحوار، لا صور الحديث التعليمي أو التقريري المباشر، وتلك الرموز والرؤى ذات الطابع الشخصي هي لغة روحية تربوية تعين السالكين إلي الله تعالي علي العروج خلال المدارج وحتى درجة الوصول ومعاينة الحقيقة. واللغة المستخدمة في هذه الرسائل، لغة تلميحية لا تصريحية، ذلك أن العرض المباشر للتجارب الروحية الذاتية الصوفية يفقدها براءتها ويفض بكارتها، لأن هذه التجارب تنتمي إلي الكيفية العاطفية أو الانفعالية الوجدانية، والكيف العاطفي يعبر عنه بالوصف خلال الرؤى والأشعار والمقال المركز. ولذا فإننا هنا مع الرسائل الصوفية. لا نعثر علي الحقيقة مباشرة واضحة وضوح الموضوع الظاهر، بل نحن هنا نحتاج إلي 'مجاهدة باطنية' ومحايثة لأعماق هذه الرموز من أجل الوقوف علي بواطنها واستجلاء روحها ومعانيها. وهذا الاستجلاء ذاته يقف علي عتبات الحقيقة، أي يدلنا علي جوهر طريق الحقيقة. ذلك هو ما تعبر عنه هذه الرموز الصوفية أو الرسائل.

ما الهدف من هذه الرسائل فهو هدف تربوي روحي يساعد الموجود أو السالك علي التغيير الداخلي لذاته، فهي تؤثر من باطن، وتدعو الموجود للوقفة مع ذاته ليعثر علي جوهرها طبقا لمنهج الاستبطان الذي وضعته هذه الرسائل.

وعند عثور العبد أو الموجود علي ذاته، عندئذ يعرف طريق النجاة، والذي يتبعه سلوك طريق المجاهدة، والمعاناة من أجل الظفر باللامتناهي في أعماق هذا العالم النهائي الواقع في ربقة القيود والتموضع.

وهذا الهدف الذي يدعونا لوقفة مع النفس لمعرفتها طبقا لمقولة سقراط المشهورة 'اعرف نفسك' يدفع النفس للتغيير الداخلي، وبسلوك طريق هذا التغيير حتى نهايته ليصير الموجود مؤمنا أو متألها وفق عبارات السهروردي لأن الإنسان لا يكون مؤمنا، بل هو يصير كذلك، بفعل المجاهدة الروحية والمعاناة الوجدانية، وهنا يحدث التغيير الداخلي في كيان الموجود ذلك التغيير الذي يدفعه دفعا نحو حقيقته الذاتية.

فالموجود يكشف في أعماقه معني اللامتناهي، وهو ما يدفعه إلي سلوك الطريق الوعر نحو اللامتناهي تبعا لاكتشافه لذاته، وهو السلوك الذي يصل به إلي الامتلاء بموضوع حقيقته، فتصبح الحقيقة الخارجية، ذاتية، وعندئذ يصير الموجود متألها حقيقيا، فيري الله نورا يملأ أعماق ذاته.

ولأجل أن تكتمل نشوة الموجود الروحية، ومن فرط شدة الأنوار التي تذوب في أحشاء كيانه الباطن، ومن كثرة ورود هذه الأنوار. من أجل هذا وذاك، ولأنه أصبح لا يري في الوجود كله سوي الله تعالي فيهتف وقد أخذته حميٌا النشوة بالمحبوب 'أنا الحق' 'لا أنا إلا أنا'، وهنا فقط يظفر الفرد الأوحد أو القطب أو الحكيم المتأله، فارس الإيمان ، أقول يظفر بوجوده اللامتناهي فيبقي في الحق وبالحق وللحق بعد فنائه عن كل شيء سوي الله. وهذا البقاء هو ما تعيره إياه الذات الإلهية ولا معني للبقاء بعد الفناء إلا بأن يصير العبد ربانيا يقول للشيء كن فيكون، منحة من الله عز وجل للعبد الوله الفاني عن كل شيء إلا إياه سبحانه. هذا الإيمان الحق هو الذي يدفع العبد إلي التغني والتصريح بالحقيقة من فرط ولعه ونشوته الروحية بها، وهو ذاته ما يدفعه في نظر العامة إلي الكفر. وهكذا يأبى الموجود الأوحد المستثني أو القطب إلا أن يذهب علي جناح الكفر في نظر العامة إلي أحضان الألوهية، إلي أنوار الحقيقة فيرتوي ريا بمشاهدتها، بعبارة أخري تذهب الذات المتألهة، عامرة بنشوتها في شهود الحق.

وتلك هي دعوة الرسائل الصوفية للسهروردي شهيد الإشراق، دعوة لتربية النفس روحيا، لتنقل من الظلمات إلي النور في طريق يصاعد إلي عالم الملكوت شيئا فشيئا، وعلي جناح المجاهد، الروحية والألم حتى الظفر بالحقيقة اللامتناهية.

إن هذه الرسائل وكما سيبدو جليا بعد ذلك تنحو منحي وجوديا يدعونا إلي نذر الحياة بكاملها من أجل الظفر باللامتناهي، وهو ما يعني نيل الحرية الكاملة أو التحرر الكامل المتحقق في مفهوم البقاء. فلكي تنال النفس حريتها حقيقة عليها أن تتألم وتضحي، وأن تهجر الدنيا وتنبذها، فبالتضحية يصير الموجود فارسا للإيمان، وباستسلام الموجود لله تعالي أو تسليمه له يرتفع الموجود إلي عليين، إلي مقام الحقيقة النورانية المطلقة. وكل هذه المعاني هو ما تنبؤنا به رموز الرسائل الصوفية وأساطيرها.

الرسالة الأولي

رسالة لغة موران

بسم الله الرحمن الرحيم
'ربي زدني علما'

حمدا لمبدع كل شيء، وفي الحقيقة، فإن جميع المخلوقات تتأهب للاعتراف بأن وجود الكل أو وجود كل الأشياء ليس مطلوبا إلا لكي تشهد 'الجوهر' (2) وبارك اللهم علي محمد المختار سيد أولاد البشر وآله وسلم.

ذلك أن واحدا من الأصدقاء المؤيدين، والذي يمم وجهه شطر الوجود الضعيف قد التمس مني وسألني أن أكتب قليلا من العبارات التي تشير إلي قواعد ونهج السلوك، ووعدني بحفظها عن غير أهلها من الأشخاص إن شاء الله وكانت هذه العبارات أو الجمل حكايات تسمي 'بلغة النمل' وبالله التوفيق'.

الفصل الأول

من أعماق الظلام برزت قافلة من النمل ذات عدد قليل مطوقة الخاصرة من كمائنها، واستقرت أولا ثم هامت في الصحراء لكي تحصل علي قوتها. وبالصدفة كانت هناك بعض البراعم النابتة التي احتلت المنطقة لمشاهدتهم. وفي الصباح حيث قطرات الندي تتساقط علي وجوه البراعم، سألت نملة منهم الأخرى: ما هذا؟ قال البعض: 'إن منبع هذه القطرات هو الأرض' وقال الآخرون: 'إنها من البحر وفي حالة احتدام الجدل نهضت وسطهم نملة حاذفة وقالت: 'انتظروا لحظة 'لتروا' إن الطريق المائل له جاذبية نحو جهة أصله، وميل للالتحام بمنبعه. وكل الأشياء إنما تنجذب نحو اختيارها 'أو لعل المقصود هو أنها تنجذب بمحض اختيارها، أو أن اختيارها يجذبها نحو أصلها' ألا ترون أن طين الأرض مقذوف تجاه مركز الأرض، لأن أصله حجري ثقيل، ولأن القاعدة هي كل الأشياء تعود إلي أصلها. إن الأرض حفرة ممتدة، والطين في نهاية الأمر يهبط، وأي شيء تراجع للظلام الخالص يكون ظلاما أيضا لأنه مصدره. وعلي الجانب الآخر فإن النور الأبدي حقيقة تبدو أكثر وضوحا بملاحظة الجوهر الشريف 'الروح' والله يحرم أي فرض منطقي في الاتحاد. وكل ما يلتمس النور إنما جاء من النور.

وفي احتدام المناقشة بين النمل ترعرع دفء الشمس وازداد وبدأ الندي 'ينفض ويتلاشى' من علي وجه البراعم. وبعد ذلك جاءت النمل لتدرك أنها لا تنتمي للأرض 'أي القطرات'، ورجحوا الهواء، كأنما هي تنتمي إليه. 'نور علي نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس' و'إن إلي ربك المنتهي' 'إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه'.

الفصل الثاني

كانت هناك بعض السلاحف تمتلك وكرا علي الشاطئ. وفي وقت ما كانوا يحدقون علي البحر عند استجمامهم. وفي تلك الأثناء كان هناك طائر منقوش يلعب علي سطح الماء كعادة الطيور، فكان يغطس أحيانا يظهر للعيان. تساءلت واحدة منهم: 'أهذا المقبل هوائي أم مائي؟' ثم قالت أخري: 'لو لم يكن مائيا فماذا عساه أن يفعل بالماء؟' ثم قالت ثالثة: 'لو أنه مائي لما استطاع الحياة بدون الماء' ولقد قرر القاضي المخلص مادة الحكمة وهي
: 'لحظة وانظر وفقا لأموره فإذا استطاع الحياة بدون الماء فإنه لا يكون مائيا ولا محتاجا للماء وبرهان ذلك السمك فإنه عندما يترك الماء، فحياته لا يمكن أن تستمر. فجأة هبت عاصفة هوجاء فأثارت الماء'.

وعندئذ انطلق الطائر الصغير إلي الآفاق، إبان ذلك قالوا للقاضي: 'إن رضاءنا يتطلب تفسيرا 'فاقتبس القاضي قول أبي طالب المكي قدس الله روحه عن نبينا عليه الصلاة والسلام من باب 'الوجد والخوف' حرفيا ما يلي: 'عندما أزال ترتيب العقل عنه رفع عنه الكون والمكان'، قال 'في حالة الوجد Extase زال المكان عن النبي 'وأنه يقول عن حسن صالح 'الحسن البصري' في باب المحبة 'Affection ناظرا لمقام الخلة : 'ظهر له العيان، فطوي له المكان'.

والعظماء من البشر إنما يعتبرون الأهواء Passions من بين حجب التعقل وأن الجسم كالمكان. والحسين بن منصور يقول فيما يتعلق بالمختار عليه الصلاة والسلام 'أنه أغمض العين عن الأين 'من الأنس ويقول أيضا: الصوفي وراء الكونين وفوق العالمين ويوافق الجميع علي أنه طالما كانت الحجب موجودة لم تزل، فإن المراقبة لا يمكن أن تحقق شيئا. والنفس التي تتم لها المشاهدة إنما هي مخلوقة ومحدثة.

عندئذ صاحت جميع السلاحف: 'كيف يمكن لماهية متمكنة في المكان أن ترفع من المكان، كيف يمكن أن تتحرر من اتجاهاتها الستة؟ أجاب القاضي: أنني رويت القصة تفصيلا من أجل هذا الغرض 'عندئذ صاحت السلاحف 'قد عزلناك، أنت معزول' ثم قذفته بالطين وعادت إلي وكرها.

الفصل الثالث

في قصر سليمان عليه الصلاة والسلام كانت جميع الطيور حاضرة ما عدا العندليب، لهذا فإن النبي سليمان قد عين طائرا كسفير من أجل أن يخبر العندليب 'أنه من الضروري أن يقابل كل منا الآخر'. وعندما أرسل العندليب رسالة لسليمان عليه السلام فإنه لم يغادر عشه، ولكنه تحول إلي رفاقه قائلا: 'إن أمر سليمان عليه السلام في هذه الحالة لم يكن كذبا، إنه وعد باللقاء. ولما كان عشنا لا يسعه فإن اللقاء لا يمكن بالداخل، لو كان هو خارجه، وليس هناك طريق آخر لذلك.

فصاح شيخ بينهم 'إذ الوعد' يوم يلقونه 'بالحقيقة والإعلان' كل لدينا محضرون 'وإن إلينا إيابهم' 'في مقعد صدق عند مليك مقتدر' يصبح حقيقة ويكون هذا هو الطريق: حيث أن عشنا لا يسع الملك سليمان وعلينا أن نترك العش ونذهب له، فأي مقابلة أخري 'سوف تكون مستحيلة'.

ولقد سئل الجنيد رحمة الله عليه 'ما التصوف' فأنشد هذا البيت من الشعر:

وغنٌّي لي من القلب وغنيت كما غني
وكنا حيثما كانوا وكانوا حيثما كنا

الفصل الرابع

كان الملك كيخسرو يمتلك كوثرا لإظهار العالم، حيث كان يحب أن يبحث هناك. ولقد رأي الكون وأصبح عارفا بالأشياء الخفية. ولقد صنع الكوثر، بواسطة عبد، علي هيئة مخروط. وبعد ذلك وضعه بحيث يمكن فتحه وغلقه بطريقة آلية.

وعندما أراد رؤية أحد الأشياء المختفية فتح الغطاء. وعندما فتح جميع المعلقات فإنها لم تظهر، وعندما قام بإغلاقها ظهرت من الآلة الدوارة. وعندما كانت الشمس في منتصف السماء وضع الكوثر في مواجهتها، وعندما سقط ضوء الشمس عليها فإن كل رسومات وخطوط العالم ظهرت هناك. و'إذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه'. 'لا تخفي منكم خافية' 'علمت نفس ما قدمت وأخرت'.

شعر:

ولما سمعت من سيدي وصف كوثر جم
لقد كنت أنا نفس كوب جم لإظهار العالم
شعر:
وتكلموا عن كوب إظهار العالم
وملابسنا الصوفية هي ذاتها الكوثر القديم المدفون

وهذا من الجنيد 'طوارق أنوار تلوح إذا بدت'

فأضواء الليل الساطعة تلوح وتلمح عندما تظهر

كان الملك كيخسرو يمتلك كوثرا لإظهار العالم، حيث كان يحب أن يبحث هناك. ولقد رأي الكون وأصبح عارفا بالأشياء الخفية. ولقد صنع الكوثر، بواسطة عبد، علي هيئة مخروط. وبعد ذلك وضعه بحيث يمكن فتحه وغلقه بطريقة آلية.

وعندما أراد رؤية أحد الأشياء المختفية فتح الغطاء. وعندما فتح جميع المعلقات فإنها لم تظهر، وعندما قام بإغلاقها ظهرت من الآلة الدوارة. وعندما كانت الشمس في منتصف السماء وضع الكوثر في مواجهتها، وعندما سقط ضوء الشمس عليها فإن كل رسومات وخطوط العالم ظهرت هناك. و'إذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه'. 'لا تخفي منكم خافية' 'علمت نفس ما قدمت وأخرت'.

شعر:

ولما سمعت من سيدي وصف كوثر جم
لقد كنت أنا نفس كوب جم لإظهار العالم
شعر:
وتكلموا عن كوب إظهار العالم
وملابسنا الصوفية هي ذاتها الكوثر القديم المدفون
وهذا من الجنيد 'طوارق أنوار تلوح إذا بدت'
فأضواء الليل الساطعة تلوح وتلمح عندما تظهر

الفصل الخامس

شخص ما يصبح صديقا لأحد ملوك جنوه قال له 'كيف أراك؟ أجاب هو إذا أردت أن تحظي بميزة رؤيانا، ضع بعض البخور في النار وألق بعيدا بقطع الحديد الموجودة في المنزل، والمعادن السبعة التي تنتج صوتا وضوضاء 'والرجز فاهجر' وأمحج كل شيء يسبب ضوضاء في ثبات ورفة 'واصفح عنهم وقل سلام'.

وبعد ذلك فانظر إلي الشباك بعد الجلوس في دائرة واحرق البخور، عندئذ ستراني.

أما الآخرون: لغيرهم مثل السوء:

سألوا الجنيد رحمه الله: 'ما التصوف؟' فأجاب 'هم أهل بيت لا يدخل فيه غيرهم.' والخواجة أبوسعيد الخراز رحمه الله قال:

وقامت صفاتي للمليك بأسرها
وغابت صفاتي حين غبت من الحبس
وغاب الذي من أجله كان غيبتي
فذاك فناي فافهموا يا بني الحس

وفي رده علي واحد قال هذا البيت:

أتيه فلا أدري من التيه من أنا
سوي ما يقول الناس في وفيٌ جنس

وقال أحد الصوفية العظماء 'اقطع العلائق وجرد من العوائق حتى تشهد رب الخلائق'، وقال:

'عندما تفعل ذلك في جميع أحوالك' 'أشرقت الأرض بنور ربها وقضي بينهم بالحق' و'قيل الحمد لله رب العالمين' 'نفس الآية' سلام علي تلك المعاهد إنها شريعة وردي ومهب شمالي'.

الفصل السادس

في زمن ما انقلبت بعض الخفافيش بعداء نحو الحرباء، وأصبح الحقد بينهما صارخا، إذ ينتهك النزاع بينهم الحد. وعندما غطت ظلمة الليل سطح القبة الزرقاء، ولما ذهبت الشمس للغروب، قررت الخفافيش في اجتماعها وضع محاولة ضد الحرباء وأخذها أسيرة مثل الجنود، وذلك من أجل عقابها طبقا لرغبة في قلوبهم ولينتقموا منها قتلا.

ولما حان وقت تدبيرهم خرجوا وسحبوا الحرباء الفقيرة إلي منزل محنتهم بمساعدة ومعاونة واحد آخر، واحتفظوا بها أسيرة لتلك الليلة. وفي الصباح قالوا ما هو أسلوب عقاب هذه الحرباء؟ فوافقوا كلهم علي قتلها ثم استشاروا واحدا آخر علي الطريقة 'طريقة العقاب' واتفقوا علي أنه لا عقاب أسوأ من النظر إلي الشمس.

وتمنت الحرباء من قلبها هذا الموت، وتمنت من الله أن يحدث:

والحسين بن منصور الحلاج يقول:

أقتلوني يا ثقاتي
فإن في قتلي حياتي
وفي حياتي موتي
وفي موتي حياتي

وعندما أشرقت الشمس ألقوها خارج منزلهم التعس Misfortune من أجل تعذيبها بأشعة

الشمس، وهذا العذاب الذي كان يفعمها نشاطا، وكان يمدها 'بعدم التفكير في ذلك الذي ذبح Slain في الله، كالميت. 'ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله'.

وفي الحقيقة أن الخفافيش لو أدركت كم من اللطف................. الخطأ قد ارتكبت لأنها 'أي الحرباء' قد أفقدتهم متعتهم، فإنهم سيموتون غضبا. وأبو سليمان الداراني يقول: 'لو علم الغافلون Headless ما فاتهم من لذة العارفين لماتوا كمدا'.

الفصل السابع

ذات مرة سقط هدهد وهو في طريقه بين الجن وحط في عشهم، ولقد عرف الهدهد بتطرفه ونظره الثاقب، أما الجن فقد كانت متبلدة الذهن، كما في القصة التي تروي ولايتهم والمعروفة جيدا عند العرب. ولقد قضي الهدهد الليل في عشهم وسألوه عن كل أخباره. وفي الصباح جهز الهدهد نفسه للرحيل وقرر الذهاب.

عندئذ قالت الجن: 'يا تعيس ما هذا المجد الذي قدمت؟ هل تسافر في النهار؟ أجاب الهدهد 'هذا شيء غريب؟ كل التحركات تتم في النهار' قالت الجن: 'ربما تكون قد جننت كيف يستطيع أحد رؤية شيء في النهار المظلم عندما تميل الشمس نحو الغروب'؟ أجاب هو: 'إنها تماما العكس. فعندكم كل أضواء هذا العالم تأتي خلال ضوء الشمس. وجميع الأغراض المضيئة إنما تستمد ضوءها منه. لقد سموها عين الشمس لأنها مصدر النور'.

لقد أجبروه 'ليشرح' كيف يمكن لأي شخص أن يري شيئا في النهار، فأجاب: 'عند تخيل الأشياء، فإننا نربطها بأنفسنا، وجميع الأشخاص يرون في النهار ويعلنون.

أما رؤيتي فتكون وأنا في عالم المشاهدة عندما تزال عن عيني كل الأقنعة. وعلي الرغم من شكوكي، فإنني أدرك لمعان الأسطح عن طريق إلهامي.

ولقد بدأت الجن في العويل عند سماع هذه القصة وأحدثوا جلبة وقال أحدهم للآخر: 'إن هذا الطائر يؤكد حدة ذهنه خلال النهار علي حين أن هناك فرضا مبدئيا بالعمى 'وفي الحال هاجموا عيون الهدهد بمناقيرهم ومخالبهم وسبوه وأطلقوا عليه اسم 'واحد يري خلال النهار' 'فلأن الجن لا تري نهارا، إذ تختلف طبيعتهم عن طبيعة الهدهد لذا هاجموه لأنهم لم يتخيلوا وفق طبيعتهم أن يري أحد نهارا، وهذا هو حال الصوفي أو الموجود الفرد مع العامة' لأن غباءهم كان غشاوة لهم. إنهم قالوا: إنك إذا لم تتب فهناك خوف من موتك، فكر الهدهد: 'إنني إذا لم أنسحب فإنهم سوف يقتلونني لأنهم غالبا ما جرحوا عيني، والموت والعمى سوف يأتيان متتابعان 'فتلقي الإلهام Inspiration 'خاطب الناس علي قدر عقولهم' وعلي الفور أغلق عينيه وقال: 'هنا ألآني معكم فإنني أعمي؟! ولما وجدوا أن الأمور كذلك توافقت معهم فقد أمسكوا عن الهجوم والخفقان ولقد توصل الهدهد إلي العرض 'الجاري بين الجن' 'إفشاء السر الإلهي كفر، وإفشاء سر القدر معصية، وإعلان السر كفر'.

وحتى وقت الرحيل تعود الهدهد العمى بصعوبات بالغة وهو يقول:

'في مرات عديدة قلت أني سأفشي السر
كلما كانت هناك في العالم أسرار
ولكن بعيدا عن الخوف من السيف وصفعان الرقبة
هناك آلاف الأربطة تعقد لساني
عندئذ كان حزينا Distressed في نفسه وقال 'إن في بيت حبيبي لعلما جما لو أجد له حمله 'لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا' والآية تقول 'ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض'
و'إن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم'.

الفصل الثامن

امتلك ملك حديقة لم تخل أبدا من الرياحين الحلوة والخضرة وأماكن المتعة في كل فصول السنة الأربعة. كانت الجداول العظيمة تجري هناك، وأنواع مختلفة من الطيور تبعث ألحانا مختلفة علي جانبي الأفرع. وكل لحظة تخطر للعقل، وكل جمال يمكن أن يتصوره خيال، كان موجودا في تلك الحديقة، وفوق كل ذلك كان هناك عدد من الطواويس متطرفة في جمالها ودماثتها ورقتها حيث ولدت ونشأت هناك وفي يوم نادي الملك طاووسا منها وأمره أن يخيط جلده حيث لا تظهر ألوان ريشه وتصبح مرئية، ولم يستطع ملاحظة هذا الجمال علي الرغم من أنه كثيرا ما حاول وطبقا لأوامره الملكية وضعت سلة عليه في الحديقة والتي لم يكن بها سوي فتحة واحدة وضعوا من خلالها حبة دخن بغرض أحكامه وتدبير رزقه. ومرت أوقات ونسي الطاووس Peacock نفسه، والمملكة والحديقة والطواويس الأخرى. ونظر إلي نفسه فلم يستطع رؤية أي شيء ما عدا الجلد القذر البالي، والسكني المظلمة غير المستقرة.

واقتنع الطاووس بذلك وأيقن بعقله أنه ليست هناك من أرض أكبر من قاعدة تلك السلة، ولذا فقد أيقن أنه إذا ما حاول أي فرد أن تكون له متعة ومنزل وقداسة خلف ذلك 'عالم السلة أو الكهف' فإنها ستكون بدعة مطلقة وتخبطا كاملا وجهلا خالصا 'أي أنه ليس وراء عالم السلة شيء'. ولكن علي الرغم من ذلك فكلما هبت ريح واستقبل رائحة الأزهار والأشجار والورود والبنفسج والياسمين والرياحين المختلفة، خلال تلك الفتحة، فإنه كان يجد متعة غريبة. عندئذ اضطرب داخله وجرب متعة الطيران، وشعر برغبة في داخله، ولكنه لم يعرف من أين جاءت هذه الرغبة، ورغم ذلك فلم ير نفسه سوي جلد، وأن العالم لا يتعدى السلة، وأن الطعام لا يتعدى حبة الدخن. لقد نسي كل شيء.

ولكنه في بعض الأحيان وعند سماعه أصوات الطواويس، وألحان الطيور الأخرى فإن رغبته وهواه أصبحا واضحين، ولكنه لم يصبح عليما خلال أصوات الطيور أو هبوب نسمات الصبا أو همسات الصباح.

وفي يوم ما استمع إلي ما يلي.

هبت علي صبا يكاد يقول
إني إليك من الحبيب رسول

ولفترة طويلة ظل متأملا رائحة النسمات الحلوة، ومن أين تأتي هذه الأصوات الشجية:

يا أيها البرق الذي تلمع
من أي أكناف الحمي تسطع

ولم يستطع أن يفهم أسباب السعادة التي تعتريه خلال تلك الأوقات:

ولو أن ليلي العامرية سلمت
علي ودوني تربة وصفائح
تسلمت تسليم البشاشة أوزقا
إليها صدي من جانب القبر صائح

ان جهله يرجع إلي نسيانه ذاته ووطنه 'نسوا الله فأنساهم أنفسهم' وفي كل وقت كان يأتيه ريح أو صوت من الحديقة، كان يشعر معه برغبة دون تعقل أو تبصر بسببها:

سري برق المعرة بعد وهن فبات برامه يصف الكلالا
شميا ركبا وأفراسا وإبلا
وزاد فكاد أن يشجو الرحالا

وظل علي هذه الحالة عدة أيام حتى أمر الملك في يوم بأن 'احضروا الطائر وأطلقوه حرا من السلة ومن الجلد، 'إنما هي زجرة واحدة' 'فإذا هم من الأجداث إلي ربهم ينسلون' و'إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير
وعندما أصبح الطاووس خارج الحجب التي رآها: نفسه في الحديقة، ألوانه، الحديقة، الأزهار، الأشكال، امتداد العالم، القدرة علي المشي والطيران، أصوات وألحان الطيور الأخرى' ، فإنه قد ظل مندهشا حول حالة خوفه وحسرته وشعر بالأسف 'يا حسرة علي ما فرطت في جنب الله' 'فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد' 'فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون' 'كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون'.

الفصل التاسع

تحدثت كل النجوم والكواكب إلي إدريس عليه السلام لقد سأل القمر 'لماذا يقل ضوؤك أحيانا، ويزداد أحيانا أخري؟ فأجابه: 'اعرف أنت! إن جسمي أسود ولكنه لامع، ولا أملك ضوءا ولكن عندما أكون معاكسا للشمس في تناسب مع عكس، فإن كمية من ضوئها تظهر في مرآة جسدي كمثل أشكال الأجسام التي تظهر في المرآة'. وعندما جئت للمواجهة الكبرى تقدمت من الدرك الأسفل للقمر الجديد إلي ذروة القمر الكامل، فسأله إدريس 'كم من الصداقة بينك وبينها؟ أجابه القمر: 'إلي حد ما بحيث أنني إذا نظرت إلي نفس وقت المواجهة رأيت الشمس يسبب صورة ضوء الشمس الجلية عليٌّ حتى أن كل حنو Smoothness سطحي ولمعان لوجهي اختلط بضوئها، ولذا فإنني كلما نظرت إلي نفسي رأيت الشمس في كل وقت ، ألا تري لو أن مرآة وضعت أمام الشمس، فإن صورة الشمس ستبدو عليها؟ ولو فرضنا أن مرآة قد امتلكت عيونا بأمر إلهي ونظرت إلي ذاتها في مواجهة الشمس فإنها لن تري، ولكنها سوف تقول: 'أنا الشمس' لأنها لن تري في ذاتها شيئا سوي الشمس. وإذا قالت: 'أنا الحق' أو 'سبحاني ما أعظم شأني' فعذرها يجب أن يقبل، حتى توهمت 'لما دنوت أنك أني'.

الفصل العاشر

ذا فرضنا وجود شخص يعيش في منزل، وكان المنزل في اتجاه ما، فإنه يكون أيضا في اتجاهه. وهذا يستلزم نفي الجهة في هذا السبيل 'فرغ لي بيتا أنا عند المنكسرة قلوبهم' 'فالله حر من الاتجاه والمكان. إن فرض المعارضين خاطئ اسما'.

'فعلي قدر أهل العزائم تأتي العزائم'. وكل شيء في البيت إنما يشابه أرض الله 'ليس كمثله شيء وهو السميع البصير' وأبدا لا يمكن أن يكون البيت وأرض الله شيئا واحدا.

الفصل الحادي عشر

ل ما هو مفيد وطيب يكون سيئا، وكل ما هو قناع في الطريق يصبح علامة علي كفر الرجال. إن تكن راضيا بالنفس خلال ما تطلبه وتفعله فذلك ضعف ووهن في ممر السفر 'الصوفي'. وإن تكن مسرورا بنفسك فهذا هو الباطل Vanity، مع أنه في حساب الحقيقة، فإن تحويل وجهك تجاه الله كلية هو التحرر.

الفصل الثاني عشر

وضع أحد الحمقى ضوءا أمام الشمس ثم قال: 'يا أمي، الشمس جعلت أضواءنا مرئية' فردت: 'إذا كانت مأخوذة من المنزل، خاصة بالقرب من الشمس، فلن يبقي شيء وسوف تتلاشي الأضواء وبريقها' ولكن عندما يري شخص شيئا كبيرا فانه سيعقد مقارنة صغيرة معه، ولسوف يدخل شخص المنزل من خيوط الشمس، ولن يري شيئا علي الرغم من أن المنزل منير 'كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام' 'ألا كل شيء ما خلا الله باطل' و 'هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم'.

تمت رسالة لغة سوران
بحمد الله تعالي

الرسالة الثانية

الة صفير سيمرغ
بسم الله الرحمن الرحيم وبه الحول والقوة

حمدا لواهب الحياة ومبدع الموجودات والصلاة والبركة علي سيد الأنبياء، وصاحب النبوة الظاهرة، وسيد الشريعة الكبرى، والهادي للطريق الأمثل، محمد المصطفي عليه الصلاة والسلام. أما بعد: هذه مجموعة من الجمل القليلة كتبتها عن حالات أخوان التجريد 'والعزلة' ووصف ذلك حددته في قسمين:

القسم الأول عن البدايات

والقسم الثاني عن النهايات

وهذه الرسالة سميتها 'صفير سيمرغ' ذلك الذي لا يملك لسانا أو لغة، وبقاؤنا إنما هو من أجل إعطاء مقدمة عن أحوال ومسائل هذا الطائر الجدير بالاحترام وكذلك إقامته: فهو طائر مشرق العقل يظهر لأي إنسان يذهب إلي جبل قاف في فصل الربيع، وهو يعتزل عشه وينتف ريشه بمنقاره عندما يسقط ظل جبل قاف عليه لمدة ألف سنة من الزمان 'إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون' وهذه الألف من السنين تصبح في عيون أهل الحقيقة مثل فجر يبرغ من الشرق حيث المملكة الإلهية في هذا الوقت يصبح السيمرغ موقظا للغافلين. إن إقامته في جبل قاف.

وملاحظته تصل للجميع، علي الرغم من قلة سامعيها. والجميع معه والجميع ليسوا معه، كما يقول الشاعر:

أنتم معنا ولم تكونوا لنا
وأنتم روحنا ولذا فأنتم محجوبون

وظله هو الرعاية الروحية للمعذبين الذين وقعوا في نير دوامه أمراض الضمور والاستسقاء، وهو يفيد مرضي الجذام وينزع ألوان الأسى المختلفة. ويطير السيمرغ بلا حركة، ويحلق بلا سفر، كما أنه يقترب متخطيا حواجز البعد. ولكني أعرفك، تلك هي جميع الألوان فيه علي الرغم من عدم تلونه، وعشه في الشرق والغرب أيضا لا يخلو منه أبدا. وتحتل كل هذه الحالات مكانها بداخله وهو في ذات الوقت حر منها جميعا، فكلها تملؤه وهو فارغ منها جميعا. وتنبثق كل العلوم من ملاحظة ذلك الطائر. وفوق هذا كله فإن كل الألآت الموسيقية مثل الأرجون 'الألآت الموسيقية العجيبة' وغيرها قد اشتقت من صوت ذلك الطائر كما يقول الشاعر:

لأنك لن تري سليمان أبدا
فكيف تعرف لغة الطيور

من النار طعامه، ولو أن واحدا ربط ريشة مع إغفاله لتلك الريشات الموجودة علي جناحه الأيمن، عندئذ تبتعد النار، فإذا شاهد 'شخص' ذلك، فإنه يطلب برهانا أمام النار. إن الصباح المنسم إنما يأتي من تنفسه، ولذا فإن المحبين يروون له أسرار قلوبهم وعقولهم، وجميع الأشياء المكتوبة هنا مخفية 'يقصد أن ما هو مكتوب هنا يختلف عما هو كامن في الباطن' عما هو كامن في الصدر، وجزءا منها يعتبر موجزا لحسابه وملاحظته.

أولا: القسم الأول: في البدايات

الفصل الأول: في فضيلة هذا العلم علي جميع العلوم

من جميع الجهات يمكننا القول أن المعلوم الشريف 'أي علم القلب الشريف' له الأفضلية علي العلوم الأخرى لأكثر من سبب.

أولا: لأن المعلوم 'بالنسبة للقلب' سيكون أرفع وأكثر بروزا، وعلي سبيل المثال فصياغة الذهب تكون أفضل من صنع حزمة سروج ببراعة، ذلك يفضل بالنسبة للذهب والأشياء الأخرى كالخشب والصوف.

ثانيا: لأن حجج هذا العلم أقوي من أية حجج للعلوم الأخرى.

ثالثا: لأن العمل في تلك المسألة سيكون أكثر خطورة وأعظم ميزة، وبالمقارنة مع العلوم الأخرى نجد أن جميع أدلة الأفضلية وعلامات الترجيح موجودة في هذا العلم.

و بملاحظة 'المعروف' و'المعلوم' يبدو أن هدف هذا العلم هو الحقيقة، وأنه من غير الممكن مقارنة الأشياء الأخرى الموجودة في جلال هذا العلم وعظمته. وبالنظر إلي تحقيق الدليل وتأييد البرهان، فإنه من الراسخ أن المشاهدة أقوي من الجدل.

وعلماء الكلام يعتقدون، أنه مما يتفق مع الشرع، أن الحق تعالي سوف يعطي الإنسان العلم الضروري عن صفاته ووجوده، ولأن ذلك 'علم' شرعي، فاكتساب معرفة من هذا النوع تكون يقينا أرفع من تلك المعرفة التي تتطلب حمل مشاكل الملاحظة وجهود التعقل، والهبوط إلي مواقع الشك وإقامة الشكوك. وأحد الصوفية سئل مرة، ما الدليل علي وجود الصانع؟ أجاب: بالنسبة لي لقد أغني الصباح عن المصباح، وواحد آخر من الصوفية قال أيضا: 'إن المظهر الخارجي للفرد الذي يبحث عن الحقيقة من خلال ألوان الجدل يكون مثل الباحث عن الشمس بواسطة المصباح 'ولأن علماء الأصول قد قبلوا ووافقوا علي أن الحق تعالي في العالم الآخر سوف يوهب الإنسان إدراك الكشف ليري الله بلا واسطة، بلا جدل، بلا برهان وتنبه، وبلا اعتبارات مع أهل الحقيقة. وطبقا لهذه المبادئ تنشأ ادراكات من هذا النوع في قلب الإنسان لكي يراه 'الله تعالي' في هذا العالم بدون أي توسط أو برهان. وذلك طبقا لما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأي قلبي ربي 'وعلي كرم الله وجهه يقول : 'لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا'.

وليس مناسبا هنا تفصيل الأسرار المحجوبة في مثل هذا المقام.

وبنظرنا إلي الأهمية فإنه ليس هناك من شك فبالنسبة للإنسان، ليس هناك أكثر أهمية من السعادة العظمي، وبالأحرى فلا يمكن بحث جميع المطالب في رسالة مختصرة. أما أعظم معاني النجاح فتكون في المعرفة. ولذلك فإنه من كل النواحي يثبت لنا أن المعرفة 'الصوفية' أرفع من كل المعارف.. والجنيد¬ رحمه الله قال: 'لو أنني أعرف أنه في هذا العالم تحت السماء يوجد علم أشرف من تلك المعرفة التي عاينها المحققون، لشغلت نفسي بشرائه، وكنت قد اجتهدت لإيجاد أفضل الطرق حتى أفوز به'.

الفصل الثاني:

في ظهور أهل البداية

إن البرق الأول، ذلك يأتي لأرواح المحققين 'أهل الحقيقة' من حضرة الربوبية، إنما يكون عبارة عن عوارض وطوالع 'لوائح وبوارق'، وتلك الأنوار التي تسقط علي روح الصوفي السالك، من عالم القدس 'العالم الأبدي'، إنما تكون مبهجة. إنها تتدفق مثل هذا: برق خاطف يلمع فجأة ويختفي فجأة 'وهو الذي يريكم البرق' ومن وجهة النظر الثانية فإن هذه البروق الخاطفة تشير إلي 'أوقات' أهل التجريد، والصوفية تسمي العوارض 'بالوقت' ولذا وجدنا أحد الصوفية يقول: 'الوقت أمضي من السيف' وقالوا أيضا: 'الوقت سيف قاطع'، وفي كتاب الله تعالي إشارات عديدة علي ذلك كما قال: 'يكاد سني برقة يذهب بالأبصار' وسئل أبو بكر الوسطي 'من أين يأتي انزعاج بعض الناس عند سماعهم للموسيقي؟ فأجاب:
'هناك برق يظهر ثم يختفي' واستشهد بهذا البيت:

خطرت في القلب منها خطرة
خطرة البرق ابتدأ ثم اضمحل

ويقول الله تعالي في كتابه الكريم: 'ولهم رزقهم منها بكرة وعشيا ولا تأتي هذه البروق في كل الأوقات أي لا تكون ثابتة إنما هي تخطر وتعترض في أوقات 'غير محددة'. وعندما تزداد رياضة الزهد Ascetic، فإن البوارق تأتي غالبا أكثر، حتى تصل إلي حد معين. وعندئذ:
فعندما يمعن الإنسان فيها نظره، فإنه يري بعض أحوال العالم الآخر. وفجأة تصبح هذه البوارق الخاطفة These dazzling lights متتابعة، 'وربما بعد تأثيرها' وكما هو معروف فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في شرح هذه الحالة: 'إن لربكم في أيام دهركم نفحات رحمته فتعرضوا لها' وفي وقت الفتوح، فإن المحب السالك يبحث عن مساعدة الفكر اللطيف والذكر الخالص، ضد هواجس الرغبات الشهوانية، من أجل استرجاع واستعادة هذه الحالة. وإنه لمن الممكن أحيانا أن تأتي هذه الحالة لواحد دون تدريب علي الزهد، ولكنه مع ذلك يظل جاهلا.

ولو أن فردا انتظرها في أيام الأعياد عندما يذهب الناس لأماكن العبادة، وعندما ترتفع الأصوات بالتكبير الصاخب والضجة العالية تأخذ مكانها، وأصوات الصنجات وانتشار العازفون، فلو كان الإنسان ذا فطنة وله طبع سليم وقدرة علي تذكر الأحوال القديمة، فإنه سوف يجد هذا التأثير في الحال، وسيكون في غاية اللطف. وفوق ذلك فإنه في المعارك الحربية عندما يقف الناس وجها لوجه ويعلو صخب المحاربين، وصهيل الجياد وأصوات الطبول، وحين تصبح أحزمة الجنود أكثر ارتفاعا، وينجذب الناس في الحرب ويستلون السيوف من أغمادها، فلو أن شخصا ما، حينئذ، له قليل من طهارة القلب، ولو أنه لم يتدرب علي الزهد، فإنه سوف يدرك هذه الحالة بشرط أن عليه في ذلك الوقت تذكر الأحوال القدسية، وحملها لذاكرة الأرواح الراحلة، ومشاهدة القدس، وصفوف الملأ الأعلى.

وبالمثل لو أن شخصا امتطي صهوة جواد يجري بسرعة، واعتقد أنه ترك الجسم جانبا وأصبح وقورا جدا، وذهب إلي حضرة الوجود الإلهي في حالة الروح علي وجه الحصر ليكون ضمن صفوف القديسين فتأثير هذه الحالة يظهر له، مع أنه يتدرب علي الزهد
. فهناك أسرار لا يمكن فهمها إلا عدد قليل فقط، وعندما تأتي هذه البوارق للبشر فإنها تؤثر علي المخ لمدي معين، وربما يظهر في المخ والأكتاف والظهر.. الخ، غير أن الوريد يبدأ في النبض اللطيف، وهو يحاول أيضا السماع التام، وهذا هو المقام الأول.

الفصل الثالث:

في السكينة

وأخيرا فعندما تصل أنوار السر إلي أعظم درجة فإنها لا تمر سريعا وتبقي لوقت طويل، ولذا تسمي 'السكينة' وبهجتها تكون أكثر تماما من لذات البوارق الأخرى. وعندما يعود الإنسان من السكينة، ويرجع إلي حالته الإنسانية العادية فإنه يكون عند انفصاله مفعما بالندم، ناظرا لواحد من القديسين الذي قال:

يا نسيم القرب ما أطيبكا
ذاق طعم الأنس من حل بكا
أي عيش لأناس قربوا
قد سقوا بالقدس من مر بكا

والسكينة ذكرت في القرآن المجيد في كثير من الأحيان كما يقول عز وجل:

'فأنزل الله سكنته' وفي موضع آخر يقول: 'وهو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم' والذي يحقق السكينة فإنه يدرك ما لا تدركه عقول البشر، وينال معرفة الأشياء المجهولة، وفراسة عقله تصبح تامة.

والمصطفي عليه الصلاة والسلام علمنا فقال: 'اتق فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله'،
وعن عمر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال أيضا 'إن في أمتي محدثين ومتكلمين، وأن عمر منهم'، وقال عن عمر رضي الله عنه 'إن السكينة تنطق علي لسان عمر'.

وصاحب السكينة يسمع أصوات البهجة العليا من الجنة العالية، والمخاطبات الروحانية تصل إليه، وعندئذ يصبح مطمئنا، كما يذكر الوحي الإلهي 'ألا بذكر الله تطمئن القلوب'.

وصاحب السكينة يشاهد الطراوة، وصور اللطف الإلهي خلال لذة اتصاله بالعالم الروحي. ومقامات أهل المحبة تتوسط المقامات وفي الحالة التي بين اليقظة والنوم، فإن صاحب السكينة، يسمع أصوات رهيبة وضوضاء غريبة في وقت غشيان السكينة ويري أنوارا عظيمة، وربما يصبح ولا عون له 'عاجزا بائسا' عند غزارة البهجة. وهذه الحوادث إنما تحدث للباحثين عن الحقيقة، ولا تعبر عن حالة جماعة أغلقوا عيونهم في سريتهم التامة وخيالهم العقيم، إذا ما أحسوا بأنوار الحق، ولذا فإن الكثيرين ليصدمهم الندم، 'وخسر هنالك المبطلون'

ثانيا: القسم الثاني:
في النهايات

الفصل الأول: في الفناء
Annihilation

وتصبح السكينة كذلك إذا ما حافظ الإنسان عليها بعيدا عن نفسه، وهو ما لم يستطع فعله.

ويصل الإنسان إلي هذا المقام كلما أحب، وتخلي عن الجسد، وذهب لعالم السلطان والقدس، وقد وصل زهده إلي أعالي السموات، وكلما أحب أو رغب فإنه يستطيع فعل ذلك. ولذا فكلما نظر إلي نفسه فإنه يصبح سعيدا لأنه يميز النور الإلهي ساقطا عليه. ولكنه حتى الآن لا يبلغ مرتبة الكمال 'لأنه مادامت النفس مبتهجة باللذات من حيث هي كذلك فإنها لا تصل إلي مرتبة الكمال'. فإذا ارتقي اجتهاده، فإنه يعبر أيضا هذا المقام 'يقصد مقام السكينة' وهو يعلو فوق هذا المقام لأنه لا ينظر في نفسه، ومعرفته لوجوده تصبح فانية أيضا، فهو يفني تماما عن وجود وهو ما يسمي بالفناء الأكبر Fana - i - akbar 'غيبة عن الشعور بالذات واللذات' وعندما ينسي نفسه وينسي نسيانه لنفسه كذلك، فإن ذلك يسمي 'فناء عن الفناء' Fana- der - Fana'ولأن الناس' لا يزالون يلتذون بالمعرفة فذلك يعد خسرانا، وشركا مقنعا 'الخطاب منصرف للناس'.

ومن جهة أخري فإن الإنسان لن يصل للكمال إلا عندما يفني معرفته في 'العارف' لأنه مازال يبتهج ويلتذ 'بالمعرفة' وبالمثل فهو يفعل ذات الشيء بالنسبة 'للعارف' 'حتى لا يكون قد طلب معرفته لأنه طلب العارف ويعود إلي نفس الدور' ، لأنه عندما يكون بمفرده في العارف، يتخلى عن التفكير في المعرفة أو الاتجاه إليها. وعندما تختفي المعرفة الإنسانية.

ذلك فهذه الحالة تسمي بالطمس أو المحو Obiliration وتصبح مقاما 'كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام'.

وأحد الباحثين عن الحقيقة بشأن التوحيد يري أن توحيد 'لا إله إلا الله' يعبر عن توحيد العوام، وأن صيغة 'لا هو إلا هو' تعبر عن توحيد الخواص وهو بهذا قد اخطأ في تصنيفه، ذلك لأن هناك أربع درجات وخامستها هي التوحيد:

أما الدرجة الأولي: فهي 'لا إله إلا الله' وهو توحيد العوام الذي ينفي الألوهية عما سوي الله، فهم سائر الناس ممن لا يضيفوا الألوهية إلا لله. وفوق هذه الطائفة هناك طائفة أرفع عند مقارنتها بالسابقة وهي:

الدرجة الثانية: وهم من يقولون 'لا هو إلا هو' وهؤلاء أعلي ومقامهم أعلي لأنه في حين أن المجموعة الأولي تنفي الألوهية فقط عما سوي الله، فإن هؤلاء لا يقيدون أنفسهم بنفي الحقيقة عما هو غير حقيقي، إذ أنهم في مواجهة الوجود الإلهي الحق بنفوق جميع صور الوجود الأخرى. فهم ينفون عن الهو الإلهي كل أنواع 'الهو' أي أنه لا أحد غيره 'هو' يقدر علي أن يسميه 'هو' لأن كل 'هو' يصدر عنه ويشتق منه، ومن هنا فإن الهواية Heship مقصورة عليه وحده دون سواه وفوق هذه الطائفة هناك طائفة أخري وهي:

الدرجة الثالثة: وأصحابها يقولون انه عندما يدعو واحد الآخر 'بيا أنت Asthou' فإنه حينئذ يفصله عن نفسه ويؤكد الثنائية، والثنائية أبعد ما تكون عن عالم الوحدة، إنها درجة من يقولون 'لا أنت إلا أنت' وهؤلاء اسمي من سابقيهم، إذ أنهم لا يسمون الله بضمير الغائب وكأنه شيء غائب، وينكرون كل 'أنت' تريد أن تشهد علي نفسها بذلك، إنهم يفنون أنفسهم ويفتقدونها في حضرة الألوهية، ولذا فإنهم في درجة أعلي من كل هذه الدرجات جميعا وهي:

الدرجة الرابعة: يقولون 'لا أنا إلا أنا' وهم بهذا يتكلمون أصدق من سابقيهم جميعا، ولأن كل من يخاطب تقوم بينه وبين من يخاطبه مسافة، لذا يعد 'مشركا' لقوله بوجود الثنائية وجودا فعليا، ولهذا كانت صيغة الكمال في التوحيد هي 'لا أنا إلا أنا' وصيغة الأنا، والهو، والأنت كلها انعكاسات غير ضرورية زائدة علي ماهية وحدة الوجود الذاتي القيومي ، ولذا فهذه الصيغ تعد حجبا أمام التوحيد الحق. ولذا فإن هؤلاء الذين تقدموا في الطريق 'الصوفي'
يغرقون Submerged هذه الكلمات الثلاثة 'هو، أنت ، أنا' في بحر الفناء والمحو، وعندئذ تسقط كل الأوامر والنواهي والعلاقات وتختفي كل اشارة 'كل شيء هالك إلا وجهه' وهذا هو المقام الرفيع. وطالما أن المرء محصور في الناسوتية، في هذا العالم، فإنه لن يصل إلي عالم الأبدية، وذلك الذي لا يوجد فوقه مرحلة أخري، لأنه ليس له نهاية.

أما الموجود الورع فيتساءل: 'ما هو التصوف؟' ويجيب 'أوله الله وآخره لا نهاية له'.

الفصل الثاني:
في أن الأكثر علما، يكون أكثر كمالا

هناك آثر معروف جيدا يقول: 'ما اتخذ الله وليا جاهلا قط' وصاحب أعظم الشرائع صلي الله عليه وسلم بكل كماله كان مأمورا بأن يزيد من علمه، والله تعالي أمر بذلك 'وقل ربي زدني علما'
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في واحد من أحاديثه المباركة: 'ليس صباحا ذلك الذي يأتي عليك دون أن تزداد معرفة'

ولما كانت هذه هي حالة النبي صلي الله عليه وسلم فكيف تكون حالة الآخرين.

وبالنسبة للمعرفة التي تأتي للعارف عن طريق الكشف فلا يسري عليها التقسيم إلي باب طلاق وخراج ومعاملات، ذلك أن هذا التقسيم تخضع له العلوم الظاهرية وحدها، ذلك أن هذا العلم يأتي عن طريق اكتشاف أحوال الوجود الذاتي Self - Existence والإلهي، والحماية الإلهية، وترتيب نظام الوجود، وعالم الملكوت والأسرار الخفية في السماء والأرض، كما يقول الله تعالي: 'قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض' بيد أن كشف سر القدر وإفشائه يعد كفرا 'اللهم إلا عند من تذوقوا هذه المقالات' كما يحرمه قول النبي صلي الله عليه وسلم بالتحديد 'القدر سر الله فلا تفشوه' ، وأهل الحقيقة متفقون علي أن إفشاء سر القدر يعد كفرا، وهم متفقون علي ذلك أيضا فيما يخص علم الإنسان بالحقيقة، ذلك الذي لا يمكن التعبير عنه خشية أن يمارسه كل الناس، لأن جمال الجلال الإلهي والأحدية فوق ذلك جميعا، لأنه مقصد كل الواردين، ومطلب كل رسول ، وغاية الباحثين عن الحقيقة 'وقليل من عبادي الشكور'.

وفي الطبيعة الإنسانية علي الرغم من أن العدد الأكبر من جوارح الإنسان ليست سوي 'نقطة حسنة واحدة' في أفق الإبداع الإلهي 'فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين' لذا ففي بنية الشخص علي هذا الشكل، وبهذه الجوارح والخصائص العديدة، وبنية الطبيعة البشرية بتركيباتها المتعددة، ليست سوي تعبير عن قدرة واحدة تصنع الترقي، ولذا فإن حالة تعمير المكان يسري عليها نفس جوهر الحكمة. بعد ذلك فإن القول والتصريح أفضل من عدم التعبير كما يقول هذان المقطعان:

في ركن الحانة كثير من الناس يقرأون أسرار لوح الوجود
بعيدا عن سر أحوال وآلام الأفلاك
ولذا يعرفون، وعندئذ يبتهجون ويسعدون

والإنسان صاحب النظرة والبصيرة سوف يبحث دائما عن الأشياء والحقائق الغريبة، وإلي حد بعيد سوف يعبر تبعا لخاطره ونيته. والحسين بن منصور الحلاج رحمة الله عليه قال.. 'الحب بين ذاتية يصبح راسخا عندما لا يبقي بينهما سر مستور' ولذا فعندما يصبح الحب كاملا فإن الأسرار الخفية والعلوم المحجوبة وزوايا الأشياء الموجودة لا تبقي مخفية أو مجهولة عنه، من هنا كانت غاية كمال الإنسان هي تحقيق صورة الحق تعالي، لذا فإن علم الكمال يكون صفة فيه، والجهل يصبح نقصا فيه، وهذا يصل بنا 'إلي أن من يدرك أكثر عن حقائق وجوده، عندئذ يصبح أفضل' وباختصار فالجهل قبيح وبشع.

الفصل الثالث:

إثبات لذة الإنسان ومحبته تجاه الله تعالي

أما مذهب المتكلمين وأهل الأصول فينفي إمكانية الصداقة بين الله والإنسان ، لأن الصداقة عندهم هي رغبة الروح للوجود المتجانس، والحق تعالي فوق أي تجانس لتعاليه مع الخلق. وطبقا لما يقولونه فإن المحبة تكمن في طاعة الإنسان لله.

أما أهل المعرفة فيؤكدون المحبة واللذة في ذلك التجانس باعتباره ليس حالة تحدث بالنسبة لهم ولكن لأنه أحيانا ما يحدث أن إنسان أحب لونا ما أو موضوعا ما، علي الرغم من عدم تجانس حقيقته معه. فالمحبة تجاه الله تعالي ليست علاقة تتم عن طريق القدرات الحيوانية، وبالأخص فإنه توجد نقطة إلهية في الإنسان تعد مركزا لأسرار الحقيقة.

وهذه المحبة متعلقة بالبهجة Dhauq والمحبة موجودة ومتحققة في هذه الصورة: متع M شخص عندما يتصور حضوره مع آخر، وفي هذا التجانس لا يوجد ثمة شرط اكتساب الرغبة والشوق والعشق هو المحبة التي تتخطي الحدود، والمحبة تؤدي إلي Yearning . فكل مشتاق يكتسب بالضرورة شيئا واحدا معينا وليس شيئا آخر غيره، لأنه لو اكتسب كل الجمال المعشوق، فلن يبقي راء رؤيته، ولو أنه اكتسب ولم يعرف شيئا فإن لذته ورغبته ستكون ناقصة. لذا فإن كل شوق إنما هو اكتساب لشيء لم يكن مكتسبا. والشوق نقص إذن، لأنه يستلزم ما لم يكن مكتسبا.

ومقالة إثبات العشق تعني اكتساب الكمال بالنظر إلي شيء ومعرفة الاكتساب. وعندما يتحقق الكمال بالنظر إلي الأشياء المكتسبة، فإن المكتسب يكون غافلا عنها، إذ المكتسب ليس كمالا. وعندما تكتسب العين الكمال بالنظر للأشياء، فإنها تكتشف ذلك، من إشراق الكشف الإلهي للأشياء اللطيفة وتستلذ بذلك والسمع له لذة انتقاش، وذلك هو كمال متعة السماع للأصوات اللطيفة. وكذلك إحساس الشم للمشمومات اللطيفة، وبالمثل يحدث في كل الحالات، وبتوافر جميع القوي.

وإذا نظرنا إلي النفس العاقلة، فإن كمالها في معرفة الحقيقة وإدراك الحقائق.

ولذا فعندما تكتسب النفس ذلك، فكمالها يأتي عن طريق النظر للأشياء الأسمى التي تظهر عن طريق 'إشراق نور الحقيقة' ويحدث الكمال بالنظر إلي الله، الذي يجعل اللذة الكبرى باقية لأنها إدراك أعلي.

والروح الإنسانية تكون أرفع عند أهل الحقيقة، والحقيقة في ذاتها أعظم 'ما هو معروف'، ولذا فاللذة المتولدة عنها عن معرفة الحقيقة تكون أكثر كمالا، والإنسان الواهن الضعيف لا يكون لديه إحساس بمتعة الجماع علي الرغم من سماع أن الناس يستمتعون بها بملء إحساسهم. ورجل قديم قال حسنا 'من لم يذق لم يعرف'. يستمعون وهذه هي قصة إثبات اللذة والمحبة:
ففي أيام الإمام الجنيد رحمة الله عليه شهروا بالصوفية وغلام خليل وعدد من المتكلمين والفقهاء قد شنعوا علي إخوان التجريد Seclusion كما أفتوا بإلحادهم وكفرهم، ولفقوا فتاوى ووثائق. وفي إبان هذه النكبة استعاد الجنيد ذاته، وأمير القلوب أبو الحسن النوري. والكتاني والزقاق وعدد من كبار الجماعة عقد لهم محاكمات وقصد السياف قتلهم. وقصة أبي الحسن النوري '290 ه' معروفة جيدا، ولقد عجلوا بقتله 'لم تذكر المراجع التي ذكرناها في الهامش أنه قتل وإنما ركزت علي موته في بغداد سنة 290 ه أنظر الهامش. وسئل عنه فقال: أنني أردت أن أضحي من أجل إخواني بلحظة حياتي الوحيدة التي بقيت 'وهذه القصة منقولة عن الخليفة، ونقلت كعلة علي تحررهم تحرر أهل الحقيقة ولقد حاولوا من قبل ظلم ذي النون المصري ولكن الحق تعالي، وهبه تحرره.

فصل: في خاتمة الكتاب

إن الذات الإنسانية المنقسمة يصبح علمها منقسما غير رفيع بالتالي، لأن المعرفة في هذه الحالة ستكون منقسمة أيضا، وتقسيمها هو سبب تقسيم المعرفة.

والحلاج يقول 'الصوفي لا يقبل ولا يقٌبل، ولا يتجزئ ولا يتبعض' وقال أيضا عند صلبة
Qucification: 'حسب الواحد إفراد الواحد له'

وهؤلاء الذين يرغبون في التخلص من مشغل العنكبوت، وتحريك التسعة عشر حجابا في أنفسهم، وهم خمسة إحساسات خارجية وأخري داخلية، كما يوجد اثنتان سريعة المشي بحركات مرئية، وسبعة بطيئة المشي بحركات غير مرئية. وكلها بالنسبة لك صعبة القيادة لأن الإنسان كيفما 'عندما' بطير، فإن هذه الطيور 'الإحساسات' تطير علي رأسه وتحيره PerPlex him ، والطيور جميعا خاصة الداخلية منها، تصعب مقاومتها وبينهما جزيرة يسكنها أناس ذوو أرجل نحيلة، وعندما يريح الإنسان فإنهم فجأة يظهرون رجولهم ويضعونها في عنقه ويعوقون تقدمه، حتى أنه لا يجد ماء حياته. 'الإشارة إلي ربقة الحواس وكيف تعوق الإنسان عن رؤية الحقيقة'. إنني قد سمعت أنه لو أن شخصا صعد فلك نوح عليه السلام آخذا عصا موسي عليه السلام في يده، فإنه حينئذ سوف يتحرر منها . (إشارة
لهجر الوجود الحسي).

تمت رسالة صفير سيمرغ

بحمد الله تعالي

الهوامش

* لغة مواران: لغة النمل

رسالة صوفية لشهاب الدين السهروردي فارسية الأصل ترجمها أوتوشبيس وختك إلي الإنجليزية في كتاب ثلاث رسائل صوفية مع رسالتي صفير سيمرغ ورسالة الطير، وترجمتها جميعا إلي العربية لأول مرة فيما يبدو، وترجمت المقدمات التي وضعها شبيس وختك للرسائل كلما كانت موجودة، وأثبت ذلك في نهاية الرسالة. وكتاب ثلاث رسائل صوفية موجود تحت رقم 4245 س بدار الكتب المصرية قسم التسجيل والتواصي

* قرآن كريم: سورة طه آية 113

*السيمرغ الصوفي: إشارة إلي روح القدس 'انظر د. عبدالرحمن بدوي في شخصيات قلقة' ورسالة صفير سيمرغ هي ضمن كتاب ثلاث رسائل صوفية للسهروردي والذي صنفه وترجمه إلي الإنجليزية شبيس وختك وهذه هي ترجمتي العربية. 'أنظر أيضا مادة سيمرغ الموسوعة الإسلامية 'دائرة المعارف الإسلامية مادة سيمرغ'.

المصدر: أخبار الأدب- 1 ديسمبر 2002- العدد 490

(شهاب الدين يحي بن حبش السهروردي)

شربنا على روض الربيع المهفهف
فجاد لنا الساقي بصهباء قرقف

فلما شربناها و دب دبيبها
إلى موضع الأسرار قلت لها قفي

مخافة أن يسطو عليّ شعاعها
فيظهر جلاّسي على سريّ الخفي.

رفرفة أجنحة جبريل

إنني تسللت من دار النساء وتفلّت من بعض أحزمة الأطفال ولفائفهم عند المساء وكنت احمل مشعلاً، فتوجهت إلى حراس قصر أمي. وعند بزوغ الفجر نازعتني الرغبة إلى الولوج في سرداب أبي، وهو ذو بابين، أحدهما يقود إلى المدينة والآخر إلى الريف المنعزل، فأغلقت باب المدينة ودخلت الباب المؤدي إلى الريف، فعاينت عشرة شيوخ صباح. تهيبت مرآهم فأخذ مني الخوف كل مأخذ وانتابني الرجف، وما لبثت أن شجعت نفسي وهممت بالسلام على الشيخ الذي كان في طرف الصف. فسبقني إليه مبتسما، فقلت : من أين جاء هؤلاء السادة؟ قال : إننا قوم متجردون أتينا من حيث" لا مكان". فلم افهم كلامه، وقلت : كيف تشغلون معظم أوقاتكم؟
قال : إننا نشتغل بالخياطة، قلت : ولماذا يعتصم رفاقك بالصمت؟
قال : إنني أنطق بلسانهم، لأنهم لا يحاورون أمثالك. ونظرت فإذا ركوة مطروحة في حوض، وهي ذات أحد عشر ثنياً، وفي داخلها ماء، يخالطه رمل كثيف، ويحيط بذلك الرمل جمع من الحيوان. فاستوضحت الشيخ في أمر تلك الركوة، فقال إن الثني الأول الذي يتميز بحجم أكبر من سائر الثنايا، وقف على الشيخ القائم فوق الآخرين يرتبه ويبدعه كما يشاء. وكذلك بالنسبة إلى الثني الثاني مع الشيخ الثاني، فالثني الثالث مع الشيخ الثالث، وهكذا حتى يصل الترتيب إليّ. فسألته ما هي العلاقة بينك وبين هؤلاء الشيوخ، فقال : إن الشيخ الذي يضع سجادته على صدره هو دليل الشيخ الثاني وأستاذه و مربيه. كذلك الثاني مع الثالث و الثالث مع الرابع. أما أنا فقد أدرجني الشيخ التاسع في جريدته وسلمني الخرقة وأولاني العلم. ومضى يقول : واعلم انه ليس لنا زوج، ولكن لكل منا ولد ورحى تدور. وقد أقمنا على كل رحى ولداً يتعهدها، فهو يرقبها بعين، ويركز نظره باستمرار نحو أبيه بالعين الأخرى. أما رحاي أنا فتتألف من أربع طبقات، ولي أولاد كثر يعجز أمهر الحاسبين عن إحصائهم، ففي كل لحظة يتكون لي عدد وافر من الأولاد فأرسل كلاً إلى رحاه. ويتعين على كل منهم وقت يتولى خلاله إدارة تلك الرحى. فإذا انقضى الوقت حضروا إليّ ولم يفارقوني بعدها أبدا، ويكون آخرون من أولادي الجدد قد توجه كل إلى رحاه، تلك هي القاعدة. فقلت للشيخ : من أين جاءك هذا الإخصاب والنسل المتجدد دوما؟

قال : إعلم أنني لا أتبدل بطبيعتي، وليس لي زوج، بل جارية حبشية لا أنظر إليها أبدا، تجلس بين الأرحاء وهي تحدق في رحاها الخاصة وحركة دورانها، وكلما اتجهت نحوي حدقة عين الصبية السوداء في أثناء الدوران، تكوّن في حشاها ولد مني دون أن تبدر عني حركة أو يصيبني تغيّر.

فقلت للشيخ : وهلاّ كشفت لي ما هو جناح جبريل. قال : إن لجبريل جناحين أحدهما الأيمن وهو نور خالص ومطلق، ولا علاقة لوجود هذا الجناح بغير اللّه، أما الجناح الأيسر فتنتشر عليه سمة سوداء هو وجوده الممكن الذي يتجه جانب منه إلى العدم. وقد جاء في الآية :"وجاعل الملائكة رسلاً أوليّ أجنحة مثنى و ثلاث ورباع ". ويبدو من الآية أن "مثنى" أقرب الأعداد إلى الواحد. واعلم أن الظل الذي يحدث عالم الزور والغرور يتحدر من جناح جبريل الأيسر المتشح ببعض الظلمة. وهذا ما تعبر عنه الآية :" وجعل الظلمات والنور "وقد تكوّن من "الظلمة" الوارد ذكرها في الآية عالم الزور، أما "النور" فهو شعاع الجناح الأيمن.

وسألت الشيخ بعدها : و ما هي صورة جناح جبريل؟ فأجاب : ألا تدري أيها البصير أن هذه كلها رموز إن أخذتها بمعناها الظاهر لوجدتها تخيلات باطلة ؟ فقلت أخيرا : وأين التي قال اللّه عنها : " أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها" ؟ قال : ذلك هو عالم الغرور .

ولما طلع الصبح البهي على بيت أبي أغلق الباب الخارجي، وانفتح الباب المؤدي إلى المدينة. فدلف التجار إلى أشغالهم، واحتجبت عني جماعة الشيوخ، وأقمت في شوق إلى مرآهم.

قلت : ألا تعلمني علم الخياطة ؟ فتبسم و قال : يا للأسف ، ليس لأشباهك ولنظرائك قبل بهذا، فإن ذلك العلم غير ميسر لنوعك، وذلك أن خياطتنا لا تتعلق بعملية وقصد وآلة. على أني أعلمك من علم الخياطة قدر ما يمكنك من تصليح خرقتك الخشنة المرقعة.

الغربة الغريبة :

وفي كل مساء كنا نشرف على الفضاء،من كوة في القصر، وتزورنا بين الحين والحين حمامات من اليمن تومض من الجانب الأيمن الشرقي فنحنّ إلى الوطن ونشتاق إليه. وفي ليلة قمراء دخل علينا الهدهد يحمل إلينا الخلاص، فقال لنا : جئتكما بنبأ. أعطانا رقعة من أبينا كتب عليها أن التخلص من غيابة الجب مرهون بالاعتصام بحبل الفلك القدسي، وبقتل الزوج، وبركوب السفينة والتوجه إلى حيث نؤمر. فنفضت عندها ذيلي وسرت مع أخي و الهدهد حتى إذا سامتت الشمس الرؤوس ووصلنا إلى طرف الظل ركبنا السفينة باتجاه صومعة أبينا القائمة على جبل طور سيناء إلا أن الموج حال بيني وبين ولدي فغرق. ولما أشرفنا على الصبح علمت أن القيروان التي تعمل الخبائث ستسام عذابا عظيما.

و كنا قد تركنا الغنم في الصحراء فأتلفتها الزلازل،ولما انقطعت المسافة رأيت الأجرام السماوية، واتصلت بها، وسمعت نغماتها، وتعلمت إنشادها حتى انقشع الغمام وتخرقت المشيمة. وإذ بي أعاين صخرة عظيمة على قلة جبل كالطود هو طور سيناء والصخرة صومعة أبى. عندها صعدت الجبل ورأيت أبي شيخا مسنا تكاد السموات والأرض تنشق من تجلي نوره، فبقيت باهتا متحيرا منه. فسلمت عليه ثم بكيت أمامه وشكوت له من حبس القيروان، إلا أن أبي ذكرني بأنه لا بد لي من العودة إلى الحبس الغربي، لكنه بشرني أنه باستطاعتي أن أصعد إلى جنته هيناً وأنني سأتخلص يوما من الأسر في بلاد الغرب، ثم راح يعين لي مسكن والده، وجده، ويخبرني أن أجداداً كثيرين يرقون حتى يبلغون الملك وهو النور الخالص.