إبن حزم الأندلسي

تقلبت الأحوال بابن حزم تقلباً جائراً في الفتنة، كان عمره حين انتقل أبوه من دورهم الجديدة بالجانب الشرقي (في ربض الزاهرة) إلى دورهم الجديدة في الجهة الغربية (أي بلاط مغيث) حوالي خمسة عشر عاماً وتسعة أشهر، وفي ذي القعدة من سنة 402 توفي والده (وقبلها بنحو عام توفي أخوه أبو بكر في الطاعون،
وتوالت عليهم النكبات والاعتقال والمصادرة، ثم احتل جند البرابر منازل أهله، فاضطر للخروج عن قرطبة (أول المحرم سنة 404/1013) فذهب إلى المرية يطلب الاستقرار فيها، ولم تطل فيها إقامته، فقد نكبه صاحبها خيران العامري إذ اتهمه مع صاحبه محمد بن إسحاق بأنهما يسعيان في استعادة الدولة الأموية، فاعتقلهما أشهراً، ثم غربهما فذهبا إلى حصن القصر ونزلا على صاحبه عبد الله بن هذيل التجيبي فرحب بهما، ولما سمعا بقيام المرتضى عبد الرحمن بن محمد (407/1016) لإحياء الدولة الأموية ركبا البحر من حصن القصر إلى لقائه في بلنسية، وسكنا معه فيها.
ويبدو أن ابن حزم سار إلى قرطبة بعد إخفاق المرتضى ومقتله عند غرناطة، وكان الخليفة بقرطبة يومئذ القاسم بن حمود، فدخلها (459/1019) وبقي فيها حتى لاحت الفرصة بمبايعة عبد الرحمن بن هشام الناصري الذي لقب بالمستظهر (414/1027) فقرب إليه ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة وابن شهيد، لكن هذه الخلافة لم تدم أكثر من سبعة وأربعين يوماً، وبويع المستكفي فاعتقل ابن حزم وغيره من رجال المستظهر وسجنهم، ثم نراه سنة (417/1026) في شاطبة، ولعله استوطنها قبل ذلك بقليل.
وفي ذلك العام جاء إليه صديق من المرية (1) ونزل ضيفاً عنده بشاطبة، فلم يمض إلا وقت قصير حتى نشبت الفتنة بين أبي الجيش مجاهد العامر وخيران العامري (وكان ذلك سنة 417) فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب "وتحُومِيَتْ السبل واحترس البحر بالأساطيل" فاشتد الكرب بصديقه لأنه حيل بينه وبين العودة إلى هوىً له بالمرية (2). ويقول ياقوت نقلاً عن صاعد الأندلسي إن ابن حزم وزر للمعتد بالله هشام بن محمد (3)، ونحن نعلم أن أهل قرطبة أرسلوا بيعتهم إلى هشام وهو في البونت (البنت) في ربيع الآخر سنة (418) ثم انتقل إلى قرطبة سنة (425)، فإذا كان ابن حزم قد وزر له أولاً فقد انتقل إلى البنت وإذا كان قد وزر له بعد ذلك فقد انتقل إلى قرطبة، ولكن الرسالة كتبت في شاطبة، ولا بد أن يكون ذلك قد تم في وقت ما بين سنتي (417- 418)، ومما يزيد الأمر تحديداً قول ابن حزم، في حكم بن المنذر بن سعيد البلوطي: "وحبهم المذكور في الحياة حين كتابتي إليك بهذه الرسالة، قد كف بصره وأسن جداً" وقد ذكر ابن بشكوال نقلاً عن ابن مدير أن وفاة حكم كانت في نحو سنة عشرين وأربعمائة (4)، وهذا يعني أن وفاته تمت في (418 أو 419) أو أوائل سنة عشرين وأربعمائة (5).
ولا أعلم أن ابن حزم أشار إلى هذه الرسالة في سائر كتبه ولكن النقول القليلة التي وردتنا منها (وخاصة في روضة المحبين لابن قيم الجوزية، على تباعد في الزمن) تؤكد اسم الرسالة ونسبتها إلى ابن حزم فإذا كان التاريخ الذي قدرناه لتأليف الرسالة صواباً أو قريباً من الصواب، كان ابن حزم عندما كتبها في حدود الرابعة والثلاثين من عمره، وكان قد حصل ضروباً من الثقافات فيها الفقه والحديث- على أساس ما يظهر جلياً في هذه الرسالة- والمنطق والفلسفة والنجوم، ونظر في التوراة، وشهر بقوة عارضته في الجدل، وبالتفنن في ضروب مختلفة من الشعر، ولكن الطابع العقلاني يزاحم في شعره قوة العاطفة ويتغلب على المجال التصويري.

***

باب علامات الحُبّ
وللحب علامات يقفوها الفَطِنُ 1، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمانُ النظر؛ والعينُ باب النفس الشارعُ، وهي المنقّبةُ عن سرائرها، والمعبّرة لضمائرها، والمعربةُ عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقّل بتنقّلِ المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميلُ حيث مال، كالحرباء مع الشمس، وفي ذلك أقول شعراً منه:

(من الطويل)
فَلَيسَ لعَيْني عند غيركَ موقفٌ
كأنك ما يحكون من حَجَر البَهْت ِ2
أُصرِّفها حيثُ انصرفتَ وكيفما
تقلبتَ كالمنعوتِ في النَّحوِ والنّعتِ

ومنها الإقبال بالحديث، فما يكاد 3 يقبل على سوى محبوبه ولو تعمد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمُقه فيه؛ والإنصاتُ لحديثه إذا حدَّثَ، واستغرابُ كلِّ ما يأتي به ولو أنه عينُ المحال وخرقُ العادات؛ وتصديقه وإن كَذَبَ؛ وموافقتَه وإن ظَلَم؛ والشهادةُ له وإن جار، واتّباعُهُ كيف سلك وأي وجهٍ من وجوهِ القولِ تناول؛ ومنها الإسراعُ بالسير نحو المكان الذي يكون فيه؛ والتعمُّد للقعود بقربه والدنو منه؛ واطّراح الأشغالِ الموجبة للزوال عنه، والاستهانةُ بكلِّ خطب جليل داعٍ إلى مفارقته؛ والتباطؤ في المشي 4 عند القيام عنه؛ وفي ذلك أقول شعراً: (من الخفيف)

وإذا قُمتُ عنك لم أمشِ إلا
مَشْيَ عانٍ يُقادُ نحو الفَناء
في مَجيئي إليكَ أحتثُّ كالبد
ر إذا كان قاطعاً للسماء
وقِيامي إن قمت كالأنجمِ العا
ليةِ الثابتاتِ في الإِبطاء

ومنها بَهْتٌ يقع وروعةٌ تبدو على المحبِّ عند رؤيةِ من يحبُّ فجأةً وطلوعه بغتةً؛ ومنها اضطراب يبدو على المحبِّ عند رؤية من يُشبه محبوبه أو عند سماع اسمه فجأةً. وفي ذلك أقولُ قطعةً منها: (من الطويل)

إذا ما رأتْ عينايَ لابسَ حُمرةٍ
تقطَّع قلبي حَسرةً وتَفَطّرا
غدا لدماءِ النّاسِ باللحظِ سافكاً
وضُرِّجَ منها ثوبُهُ فتعصفَرا

ومنها أن يجودَ المرءُ ببذل كل ما كان يقدر عليه مما كان يشحُّ 5 به قبل ذلك، كأنه هو الموهوب وله والمسعيُّ في حظه، كل ذلك ليُبديَ محاسنه ويُرغِّب في نفسه، فكم بخيل جاد، وقَطوب تطلق، وجبان تشجِّع، وغليظ الطبع تظرَّف، وجاهلٍ تأدَّب، وتفلٍ 6 تزينَ، وفقيرٍ تجمَّل وذي سن تفتى، وناسكٍ تَفتكَ، ومَصُونٍ تهَتَّك.
وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه، وتوقُد شُعلِهِ واستطارةِ لهبه. فأما إذا تمكّن وأخذ مأخذه فحينئذ ترى الحديثَ سِراراً، والإعراض عن كل من حَضر إلا عن المحبوب جهاراً، ولي أبيات جمعت فيها كثيراً من هذه العلامات، منها: ]من البسيط[

أهوى الحديثَ إذا ما كان يُذكْرُ لي
فيه ويَعبقُ لي عن عَنبر أرجِ
إن قالَ لم أستمعْ ممن يُجالِسُني
إلى سوَى لفظهِ المستظرف الغنجِ
ولو يكونَ أمير المؤمنين معي
ما كنتُ من أجله عنه بمُنعرج
فإن أَقُمْ عنه مضطرّاً فإنَي لا
أزالُ مُلتفاً والمشيُ مشيُ وَجَي 7
عيناي فيه جسمي عنهُ مرتحلٌ
مثل ارتقاب الغريق البَرّ في اللججِ
أغصُّ بالماء إن أَذكرْ تباعُدَهُ
كمن تثاءب وسَطَ النقعِ والرَهَج ِ8
وأن تقُل مُمكنٌ قصدُ السماء أقَلْ
نَعمْ وإني لأدري موضِعَ الدَرجِ

ومن علاماته وشواهده الظاهرة لُكلِّ بَصر: الانبساطُ الكثير الزائد (في المكان الضّيق) 9 والتضايقُ في المكان الواسع، والمجاذبةُ على الشيء يأخذَه أحدهما، وكثرةُ الغمزِ الخفيّ، والميلُ بالاتّكاءِ، والتعمدُ لمس اليدِ عند المحادثة، ولمسِ ما أمكنَ من الأعضاء الظاهرة، وشربُ فضلةِ ما أبقى المحبوبُ في الإناء، وتحّري المكانِ الذي يقابله فمه.
ومنها علامات متضادة، وهي على قدر الدواعي والعوارض الباعثة والأسباب المحركة والخواطر المهيجة، والأضداد أندادٌ، والأشياءُ إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضلُّ فيها الأوهام فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فعلَ النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغمّ إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكداً شديداً كثر تهاجرهما 10 بغير معنى، وتضادهما في القول تعمداً، وخروج بعضهما على بعض في كل يسيير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها، كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقدهُ كل واحد منهما في صاحبه.
والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومحارجة 11 التشاجر سرعة الرضى، فإنك بينما ترى المحبين قد بلغا الغايةَ من الاختلاف الذي لا تقدِّرُهُ يصلحُ عند الساكن النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل، ولا ينجبر عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصُّحبة، وأهدِرَتْ المعاتبة، وسقط الخلاف، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مراراً. وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ولا يدخلنَّكَ ريبة ألبتة ولا تتمارَ في أن بينهما سراً من الحب دفيناً، واقطع فيه قطعَ من لا يصرفه عنه صارف. ودونكها تجربة صحيحة وخبرة صادقة. هذا لا يكون إلا عن تكافٍ 12 في المودة وائتلافٍ صحيح، وقد رأيته كثيراً.
ومن أعلامه أنك تجد المحبّ يستدعي 13 سماعَ اسم مَنْ يحب، ويستلذ الكلام في أخباره ويجعلها هِجِّراهُ، ولا يرتاحُ لشيء ارتياحَهُ لها، ولا ينهنهه عن ذلك تخوّفُ أن يفطنَ السامعُ ويفهَم الحاضر، وحبُّكَ الشيء يعمي ويُصمّ 14. فلو أمكن المحبّ ألا يكون حديث في مكانٍ يكون فيه إلا ذكرُ من يحبه لما تعدَّاه.
ويعرض للصادق المودة أن يبتدئ في الطعام وهو له مُشتهٍ فما هو إلا وقت ما يهتاجُ لهُ ذكرُ مَنْ يحبّ صار الطعامُ غُصّةً في الحلق وشجىً في المري، وهكذا في الماء، وفي الحديث، فإنه يفاتحُكَهُ مبتهجاً، فتعرضُ له خَطرةٌ من خَطَرات الفكر فيمن يحبّ، فتستبين الحَوالةَ 15 في منطقه، والتقصيرَ في حديثه، وآيةُ ذلك الوُجومُ والإطراقُ وشدَّةُ الانغلاق، فبينما هو طلْقُ الوجهِ خفيفُ الحركاتِ صار مُنطبقاً متثاقلاً حائرَ النفس جامدَ الحركة يَبْرَمُ من الكلمةِ ويضجرُ من السؤال.
ومن علاماته حُبّ الوحدة، والأنس بالانفراد، ونحولُ الجسم دون حَرٍّ 16 يكونُ فيه ولا وجع مانعٍ من التقلّب والحركة والمشي؛ دليلٌ لا يكذبُ، ومُخبرٌ لا يخون عن علةٍ 17 في النفس كامنة.
والسهرُ من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه وحكوا أنهم رُعاةُ الكواكب وواصفو طول الليل؛ وفي ذلك أقول وأذكر كتمان السر وأنه يتوسّم بالعلامات: (من الوافر):

تَعلَّمتِ السحائبُ من شؤوني
فعمّتْ بالحيا السكب الهتون
وهذا الليل فيك غدا رفيقي
بذلك أم علي سهري مُعيني
فإن لم ينقضِ الإظلام إلا
(إذا) ما أطبقت نوماً جفوني
فليس إلى النهار لنا سبيلٌ
وسُهْدٌ زائدٌ في كلِّ حين
كأن نجومه والغيمُ يخفي
سناها عن ملاحظةِ العيون
ضميري في ودادك يا مُنايا
فليس يبين إلا بالظُّنون

وفي مثل ذلك قطعة منها: (من الكامل):

أرعى النجوم كأنني كلفت أن
أرعى جميع ثبوتها والخنس
فكأنها والليل بنيران الجوى
قد أضرمت في فكرتي من حندس
وكأنني أمسيت حارس روضة
خضراء وشح نبتها بالنرجس
لو عاش بطليموس أيقن أنني
أقوى الورى في رصد جري الكنس

والشيء قد يذكر لما يجبه وقع لي في هذه الأبيات تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد، وهو البيت الذي أوله «فكأنها والليل» وهذا مستغرب في الشعر ولي ما هو أكمل منه، وهو تشبيه ثلاثة أشياء في بيت واحد وتشبيه أربعة أشياء في بيت واحد، وكلاهما في هذه القطعة أوردها وهي: (من الطويل)

مشوق معنى ما ينام مسهد
بخمر التجني ما يزال يعربد
ففي ساعة يبدي إليكَ عجائباً
يمر ويستحلي ويدني ويبعد
كأن النوى والعتب والهجر والرضى
قرانٌ وأفذاذ ونحس وأسعد 18
رثى لغرامي بعد طول تمنع
وأصبحت محسوداً وقد كنت أحسد
نعمنا على نور من الروض زاهر
سقته الغوادي فهو يثني ويحمد
كأن الحيا والمزن والروض عاطراً
دموع وأجفان وخد مورد

ولا ينكر علي منكر قولي «قران» فأهل المعرفة بالكواكب يسمون التقاء كوكبين في درجة واحدة قرانا.
ولي أيضاً ما هو أتم من هذا، وهو تشبيه خمسة أشياء في بيت واحد في هذه القطعة وهي: (من الطويل)

خلوت بها والراح ثالثة لنا
وجنح ظلام الليل مذ مد ما انبلج 19
فتاةٌ عدمت العيشَ إلا بقربها
فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرجْ
كأني وهي والكاسُ والخمرُ والدّجى
ثرى وحيا والدُّرّ والتِبر والسبج

فهذا أمر لا مزيد فيه ولا يقدر أحد على أكثر منه، إذ لا يحتمل العروض ولا بنية الأسماء أكثر من ذلك.
ويعرض للمحب القلق عند أحد أمرين: أحدهما عند رجائه لقاء من يحب فيعرض عند ذلك حائل.
خبر:
وإني لأعلم بعض من كان محبوبه يعده الزيارة، فما كنت أراه إلا جائياً وذاهباً ولا يقرّ به القرار ولا يثبت في مكان واحد، مقبلاً مدبراً قد استخفّه السرور بعد ركانة، واستشاطه بعد رزانة؛ ولي في معنى انتظار الزيارة: (من الطويل)

أقمتُ إلى أن جاءني الليلُ راجياً
لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأمل
فأيأسني الإظلامُ عنك ولم أكن
لأيأس يوماً إن بدا الليل يتصل
وعندي دليلٌ ليس يكذب خُبْرهُ
بأمثاله في مشكل الأمر يستدل
لأنك لو رُمْتَ الزيارة لم يكن
ظلامٌ ودام النور فينا ولم يزل 20

والثاني عند حادث يحدثُ بينهما من عتاب لا تُدرى حقيقته إلا بالوصف. فعند ذلك يشتد القلق حتى يوقف على الجليّة 21، فإما أن يذهب تحامله إن رجا العفو، وإما أن يصير القلق حزناً وأسفاً إن تخوف الهجر.
ويعرض للمحب الاستكانة لجفاء المحبوب عليه، وسيأتي مفسراً في بابه إن شاء الله تعالى.
ومن أعراضه الجزع الشديد والحسرة 22 المفظعة تغلب عندما يرى من إعراض محبوبه عنه ونفاره منه، وآية ذلك الزفير وقلة الحركة والتأوه وتنفس الصعداء، وفي ذلك أقول شعراً منه:

جميل الصبر مسجون و:
دموع العين سارحة 23

ومن علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته.
والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم الدمع، وأنا منهم. وكان الأصل في ذلك إدماني أكل الكندر 24 لخفقان القلب، وكان عرض لي في الصبا فإني لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد قلبي يتفطر ويتقطع وأحس في قلبي غصة أمر من العلقم تحول بيني وبين توفية الكلام حق مخارجه وتكاد تشرقني بالنّفس 25 أحياناً ولا تجيبُ عيني البتة إلا في الندرة بالشيء اليسير من الدمع.
خبر:
ولقد أذكرني هذا الفصل يوماً ودّعتُ أنا وأبو بكر محمد بن إسحاق 26 صاحبي أبا عامر محمد بن (أبي) عامر 27 صديقنا ـ رحمه الله ـ في سفرته إلى المشرق 28 التي لم نره بعدها، فجعل أبو بكر يبكي عند وداعه ويُنشد متمثلاً بهذا البيت: (من الطويل)

ألا إن عيناً لم تَجُد يومَ واسطٍ
عليك بباقي دمعها لجمودُ 29

وهو في رثاء يزيد بن عمر بن هبيرة رحمه الله، ونحن وقوف على ساحل البحر بمالقة 30، وجعلت أنا أكثرُ التفجّع والأسف ولا تساعدني عيني، فقلت مجيباً لأبي بكر: (من الطويل)

وإن امرءاً لم يفن حسن اصطباره
عليك وقد فارقته لجليد

وفي المذهب الذي عليه الناس أقول من قصيدة قلتها قبل بلوغ الحلم أولها: (من الطويل)

دليل الأسى نار على القلب تلفح
ودمع على الخدين يهمي ويسفح
إذا كتم المشفوف سر ضلوعه
فإن دموع العين تبدي وتفضح
إذا ما جفون العين سالت شؤونها
ففي القلب داء للغرام مبرح

ويعرض في الحب سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب بين المحبين، وإني لأعلم من كان أحسن الظن ظناً، وأوسعهم نفساً، وأكثرهم صبراً، وأشدهم احتملاً، وأرحبهم صدراً، ثم لا يحتمل ممن يحب شيئاً، ولا يقع له معه أيسر مخالفة حتى يبدي من التعربد فنوناً، ومن سوء الظن وجوها، وفي ذك أقول شعراً: (من المنسرح)

أسيء ظني بكل محتقر
تأتي به، والحقير من حقره 31

كي لا يُرى أصل هجرة وقلى
فالنار في بدء أمرها شرره

وأصل عظم الأمور أهونها
ومن صغير النوى ترى شجره

وترى المحب إذا لم يثق بنقاء طويه محبوبه له، كثير التحفظ مما لم يكن يتحفظ منه قبل ذلك، مثقفاً لكلامه، ميزيناً لحركاته، ومرامي طرفه ولاسيما دهي بمتجن وبلي بمعربد.
ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبته وحفظه لكل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا يسقط عنه دقيقة ولا جليله، وتتبعه لحركاته، ولعمري لن ترى البليد يصير في هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً.
خبر:

ولقد كنت يوماً بالمريّة قاعداً في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي 32، وكان بصيراً بالفراسة محسناً لها، وكنّا في لمّة، فقال له مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا؟ وأشار إلى رجل منتبذ عنّا ناحية اسمه حاتم ويكنى أبا البقاء، فنظر إليه ساعة يسيرة ثم قال: هو رجلٌ عاشق، فقال له: صدقت، فمن أين قلت هذا؟ قال: لِبهْت مُفرطٍ ظاهرٍ على وجهه فقط دون سائر حركاته، فعلمت أنه عاشق وليس بمُريب 33.