ليلي خليفة
(مصر)

يقول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي‮:‬

فالماء للروح قوت العلم
‮ ‬والجسم للنار كالزناد
فإن مضي الماء لم تجده
‮ ‬بدار دنياك للمعاد
وان خبت ناره عشاء
‮ ‬فسو من مات في المهاد
أوضحت سرا ان كنت حرا
‮ ‬كنت‮ ‬به واري الزناد

البحث في أي موضوع عند ابن عربي يتطلب من الباحث أن يغوص الي أعماق بحار الشيخ الأكبر،‮ ‬وأن يترك نفسه بين يديه‮ ‬يدوره ويقلبه في أطوار وأركان وأمواج بحاره،‮ ‬ثم يعود ليعرض الجواهر التي جمعها علي قدر استطاعته وللتحدث عما رأي وشاهد من العجائب‮.‬

لكن الأمر لا ينتهي هنا،‮ ‬فعلي الباحث الغطاس أن يصوغ‮ ‬هذه المجوهرات صياغة تليق بها وتبرز علومها،‮ ‬فالأحجار‮ "‬والكريم منها‮" ‬منابع العلوم كما يقول شيخنا‮. ‬فيتحول الغواص الي صائغ،‮ ‬صاحب حرفة أي صاحب تأويل‮. ‬يصوغ‮ ‬المجوهرات بعضها ببعض،‮ ‬وفقا لمعان خبرها في أرحام التصانيف،‮ ‬فخاتم أو عقد أو سوار أو تاج‮.. ‬وهذه المعاني الجديدة في الصور الجديدة إنما تعكس المعاني الأصلية الكامنة في مؤلفات الشيخ‮.‬

بذلك‮ ‬يكون التأويل مرآة تعكس ما في الأصول‮. ‬وكما علمنا ابن عربي ومشايخ الصوفية ان كمال صقل المرآة هو انعدامه،‮ ‬فيكون كمال التأويل‮ ‬اذا تركه،‮ ‬وتبعا لمنهاج الشيخ،‮ ‬وعلي منحي‮ "‬مقام لا مقام‮" ‬يكون‮ "‬مقام‮" ‬تأويل لا تأويل أو التأويل وترك التأويل‮.‬
لكن هذا لا يعني بطلان التأويل،‮ ‬فالشيخ يؤكد كما نعلم،‮ ‬علي أن من حاز مقاما وتعداه لمقام آخر لا يتركه،‮ ‬إنما يتضمنه ويحتويه متحققا به‮.‬
فنحن في الحقيقة اليوم في صدد تأويل التأويل عند ابن عربي‮.‬

قبل أن نخوض في موضوع الجسم وتأويلاته،‮ ‬عند الشيخ الأكبر،‮ ‬سنتعرض لمقام التأويل عنده وأسراره،‮ ‬لنحدد إطارا مرجعيا‮ ‬أكبريا،‮ ‬حتي نستطيع أن نفهم ابن عربي بابن عربي‮.‬
إن الشيخ الأكبر،‮ ‬إن أجمل أو فصل،‮ ‬إن نظم أو نثر،‮ ‬إن أعرب أو أعجم،‮ ‬إن أفصح أو أبهم،‮ ‬إن أشار أو رمز أو لغز أو أومأ،‮ ‬إنما قصده الإفهام والبيان الشافي علي حد قوله‮. "‬فكل ما يقوله في تصانيفه،‮ ‬وحسب ما يصرح به في فتوحاته المكية هو،‮ ‬من‮ "‬حضرة القرآن الكريم‮" ‬حيث يقول سبحانه وتعالي‮: "‬إنا أنزلناه قرآنا عربيا‮".‬

إن الشيخ الأكبر يلجأ للرمز واللغز في بعض الأحوال وذلك كما نعتقد أنه من باب الحرص علي ستر كنوز المعارف وصيانتها وحمايتها،‮ ‬كي لا تسقط بأيدي الأعداء‮ "‬دجاجلة وفراعنة الأولياء كما‮ ‬يسميهم أو في‮ ‬أيدي‮ ‬الجملة فهو من باب وضع الحكمة في‮ ‬موضعها فتبقي بين ذويها وخاصتها‮.‬
ولكن من جهة أخري فالشيخ يلجأ للاشارة من باب‮ "‬رب‮" ‬اشارة أفصح من عبارة ويقسم العلوم إلي ثلاثة أقسام‮:‬

أولا‮:
علم العقل النظري‮: "‬وهو كل علم،‮ ‬اذا بسطته العبارة،‮ ‬حسن وفهم معناه وقارب وعذب عند السامع‮.‬

ثانيا‮:
علم الأسرار‮: ‬اذا أخذته العبارة سمج واعتاص علي الإفهام دركته،‮ ‬وخشن،‮ ‬وربما مجته العقول الضعيفة المتعصبة،‮ ‬ويوصله العالم إلي الأفهام بضرب الأمثلة‮ ‬والمخاطبات الشعرية‮.‬

ثالثا‮:
علم الأحوال‮: ‬وهو متوسط بين علم الأسرار،‮ ‬وعلم العقول،‮ ‬وهو أقرب إلي الأسرار من العلم النظري العقلي،‮ ‬وأكثر ما يؤمن به أهل التجارب،‮ ‬ولكن يقرب من صنف علم العقل الضروري،‮ ‬بل‮: ‬هو هو،‮ ‬وسنفهم هذا لاحقا‮.‬

ونحن لو أمعنا النظر في كتاب‮ "‬ترجمان الأشواق وذخائر الأعلاق‮"‬،‮ ‬للشيخ الأكبر،‮ ‬نستطيع القول بأن هذا المصنف ثمين للباحث في علوم ابن عربي وخاصة التأويل،‮ ‬لأن ابن عربي نفسه يعطي به مفاتيح تفسير وتأويل نصوصه‮.‬
ومما تجدر ملاحظته أن هناك ثلاث مراحل في التأويل تتسلسل وبشكل منهجي في كتابه هذا‮:‬

في المرحلة الأولي‮: ‬يلجأ ابن عربي للتعريف والتفسير بالألفاظ،‮ ‬فمثلا يقول عاطلة‮: ‬خالية من الزينة،‮ ‬تخالها‮: ‬تحسبها،‮ ‬الفتك‮: ‬القتل،‮ ‬ويعرف الظل‮: ‬هو الراحة،‮ ‬والعرش‮: ‬السرير وهكذا‮.. ‬يحلل الألفاظ ويفسرها معطيا المعني الأول للصورة‮.‬

وفي المرحلة الثانية‮ "‬مرحلة المقصد‮": ‬يعبر ويؤول المعاني هذه،‮ ‬قاصدا صورا ومعاني آخري،‮ ‬ويدعم تأويله بشرح أسباب اختياره للألفاظ،‮ ‬فيقول مثلا‮: ‬لم كان السعي دون المشي،‮ ‬ولم الربع دون الطلل أو الرسم أو الدار،‮ ‬فيبين المعاني المشتقة في اللفظة،‮ ‬كقوي كامنة،‮ ‬تسمح باعطاء أصداء مختلفة للمعني الواحد،‮ ‬يعتبرها دلائل للتفسير والتأويل‮.‬
فعلي سبيل المثال‮ ‬،‮ ‬قال‮: ‬الربع،‮ ‬ليكون له اشتقاق من الربيع،‮ ‬وفي الربيع يكمن معني قوة الشباب،‮ ‬فيصبح الربع رمز الشباب والقوة والأمثلة كثيرة،‮ ‬وكذا الأيك يصبح دلالة علي السواك وهذا دلالة علي الطهارة فيصبح الأيك رمز الطهارة‮.‬

***

يتبع الشيخ الأكبر هنا كل أساليب البلاغة العربية،‮ ‬من استعارة وكناية وتمثيل ورمز‮...... ‬الخ لتتسلسل الصور والمعاني في أطوار،‮ ‬علي حد وصفه،‮ ‬كالبذرة في باطن الأرض،‮ ‬حتي تنبت وتثمر معاني الأسرار‮. ‬فالسر اذا كالبذرة هذه،‮ ‬لابد أن تكمن في أرض الجسد حتي تثمر علومها للعقل،‮ ‬وهي للغاية وثمرة التأويل التي تمثل المرحلة الثالثة‮.‬
والمرحلة الثالثة‮: ‬فهي عود علي بدء‮. ‬وتمثل مرحلة انعدام المرآة وترك التأويل‮. ‬فالباحث بعد أن يتسلسل مع الشيخ في التفسير والتأويل،‮ ‬يعود لقراءه البيت متحققا حاويا المعاني الخفية المشروحة،‮ ‬وتكون له نظرة جديدة للبيت‮. ‬يقول ابن عربي ثم يرجع عوده علي بدئه لقيام نشء آخر،‮ ‬فليس في علم اللبيب سوي تركيب وتحليل بلغ‮ ‬التركيب‮". ‬وهكذا فالتأويل عنده لا ينفي المعني الظاهر لكنه ظاهر تحقق بالباطن‮.‬
لنتتبع الآن موضوع الجسم في منهج ابن عربي،‮ ‬وفقا لهذا الإطار المرجعي الثلاثي،‮ ‬فنجد الاعتبارات‮ "‬مراحل أو رتب‮" ‬الثلاث الآتية‮:‬

المرحلة الأولي

‮- ‬اعتبار الجسم وعاء يحوي الروح فيكون بالاعتبار هذا مركبا‮. ‬يقول الشيخ‮ "‬إن اللطيفة الانسانية لا توجد دنيا وآخر الا مدبرة لمركب نقول‮: ‬فالإنسان مسافر ابدا قلبا وبدنا،‮ ‬من مقام الي آخر،‮ ‬ومن منزل إلي آخر،‮ ‬يجوب البوادي والفيافي ويقطع البحار،‮ ‬يذهب شرقا وغربا ويرحل صيفا وشتاء‮ "‬لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف‮" ‬فالشتاء كما يقول قاشاني‮: ‬غور البدن،‮ ‬ورحلة الشتاء لترتيب مصالح المعاش واصلاح أحوال البدن ورحلة الصيف للرقي في عالم القدس والتلقي‮. ‬فالقوم عند الشيخ مراتب ووظائف،‮ ‬ومراكبهم كذلك منها الخيل والإبل‮.. ‬المسافر هنا فتي يقود مركبه ويحافظ عليه ويحمي ظعينته‮.‬

- ‬باعتبار آخر يكون الجسم أرضا‮ "‬أيها الأخ الوالي إن أرض بدنك هي الأرض الحقيقية الواسعة وعلينا أن نميز بين هذه الأرض الحقيقية الواسعة والأرض الإلهية الواسعة‮. ‬ففي مكان آخر من الفتوحات،‮ ‬يتحدث الشيخ عن‮ "‬الأرض الإلهية الواسعة الواسعة،‮ ‬ففي مكان آخر من الفتوحات،‮ ‬يتحدث الشيخ عن‮ "‬الأرض الإلهية الواسعة ويقول‮: ‬هي أرض معنوية‮ ‬غير محسوسة لا تقبل التبديل،‮ ‬لها‮ ‬البقاء‮". ‬يبدو لنا أن هذه الأرض بالنسبة للأرض الحقيقية الواسعة كالضراح في السماء،‮ ‬مقابل الكعبة في الأرض‮. ‬فأرض البدن كما ينبه الشيخ فيها أرض الهوي وأرض العقل حيث سراج الشريعة،‮ ‬والمطلوب من الانسان هو الهجرة والعبادة فيها،‮ ‬فهي الأرض التي أمرنا الله أن نعبده فيها‮. ‬الانسان مدعو للسياحة فيها والحج لكعبتها،‮ ‬قد جعل الله فيها الكعبة وهي القلب‮. ‬وسواء سعي الانسان علي ظهرها أو نفذ في باطنها أو عرج في سمائها،‮ ‬فما‮ ‬خرج عنها قط كما يؤكد الشيخ‮.‬

- ‬وفي اعتبار ثالث هي دولة في المملكة الانسانية يجب تدبيرها والعمل علي منع خرابها وتسمي هذه الدولة بحضرة الجسم والبدن‮. ‬وهي مكونة من حاضرة وبادية ورعية،‮ ‬والعدل مطلوبها،‮ ‬ذلك أن الله سبحانه وتعالي سيسأل هذه الرعية عن حاكمها،‮ ‬حيث يستشهد الشيخ بالآيات‮: "‬إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا‮" "‬يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‮"‬
يعطي الشيخ الكيان الانساني هيئة فلكية،‮ ‬ويجعل الحواس الثماني تارة أفلاكا في سماء هذه الدولة،‮ ‬وتارة خوخات‮ "‬طاقات‮" ‬يجب المحافظة علي سلامتها،‮ ‬لأنها تطل علي عالم الحس،‮ ‬فهم عمال جبايات‮ ‬،‮ ‬مسئولون كل منهم،‮ ‬كما يقول الشيخ‮: ‬رئيس وخازن علي صنف من أصناف المال‮.‬
نلاحظ أن المطلوب في هذه المرحلة الأولي المحافظة علي الوعاء لما يحويه،‮ ‬المركب للراكب،‮ ‬وعلي الأرض الثمر،‮ ‬علي الدولة للرعية،‮ ‬علي القشر للباب،‮ ‬وعلي المكنز للكنز‮.‬

المرحلة الثانية

تمثل‮ ‬مرحلة خراب البدن‮ "‬ونحره‮" ‬تأويل الآية‮: "‬فصل لربك وانحر‮" ‬من سورة الكوثر‮. ‬والحديث الشريف‮ "‬موتوا قبل أن تموتوا‮" ‬فالمطلوب تبعا لابن عربي هنا،‮ ‬هو كشف‮ ‬غطاء الأكوان،‮ ‬كسر القشر للحصول علي اللباب والمكنز للكنز‮. ‬يقول الشيخ مشيرا الي قصة الخضر مع موسي،‮ ‬عليه السلام،‮ ‬عندما خرق الخضر سفينة لمساكين يعملون في البحر‮ : "‬سفينتك مركبك،‮ ‬فاخرقه بالمجاهدة،‮ ‬السالك هنا يترك النشأة الترابية،‮ ‬ويتسامي فتتوالي عليه الكشوف الغيبية والروحانية،‮ ‬ويصبح الجسم عبارة عن مجاز للحقيقة،‮ ‬وتصبح الاعضاء قوالب حسية لمعان‮ ‬غيبية روحانية،‮ ‬نفسانية أو إلهية،‮ ‬فمثلا تصبح اليدان‮: ‬رمز القوة والقدرة الإلهية،‮ ‬والكف‮: ‬الكرم،‮ ‬وتصبح القبضتان‮: ‬البسط،‮ ‬والقبض والقدمان‮: ‬التواضع والعجب،‮ ‬والأنف‮: ‬العزة،‮ ‬والعينان‮: ‬محل الحياء،‮ ‬واللسان‮: ‬الحكمة،‮ ‬والفم‮: ‬الصدق،‮ ‬والبطن‮: ‬الورع،‮ ‬والحش‮: ‬محل الهوي،‮ ‬والفرج،‮ ‬العفة،‮ ‬والفطنة‮: ‬القلب‮...... ‬وهكذا‮.‬

***

تمثل هذه المرحلة قمة التأويل عند الشيخ الأكبر،‮ ‬لأن المطلوب هنا،‮ ‬هو معني ما ظهر،‮ ‬والشيخ يقول‮: "‬ما ظهر إلا ليعطي معني‮"‬،‮ "‬فالجسم الكثيف‮" ‬هنا،‮ ‬كما سبق وأشرنا،‮ "‬حجاب الغيب،‮ ‬وهو ليل هذه النشأة الحيوانية،‮ ‬لما كان سترا علي ما تحويه من اللطائف الروحانية،‮ ‬فلا يدرك جليسه ما عنده إلا بعد العبارة عن ذلك والاشارة اليه‮. ‬فالجسم من حيث ذاتيته عند ابن عربي،‮ ‬ليس بأمر سلبي،‮ ‬يؤكد الشيخ‮ "‬أن الجسم لا يطلب منك إلا سد جوعه،‮ ‬واما النفس فلا تطلب منك الا الطيب من الطعام والمنظر والمشرب والمركب والمسكن،‮ ‬انما تريد كل شيء أحسنه وأعلاه منزلة‮.. ‬والذي يؤدي الي ذلك،‮ ‬طلب التقدم والترأس‮. ‬ولا نبالي ان كان ذلك حلالا أو حراما‮. ‬فالجسم ليس كذلك،‮ ‬انما مراده الوقاية مما ذكرناه‮. ‬ولا ننسي أن نقول‮: ‬إن العرب قد استخدموا واعتمدوا لغة الجسد للتعبير عن المعاني اللطيفة بكثرة،‮ ‬لما تعطيه هذه من قوة حسية للصور المتخيلة بكثرة،‮ ‬لما تعطيه من قوة حسية للصور المتخيلة‮. ‬وكأن لغة الجسم تصبح كالروح للنص‮.‬

وأما المرحلة الثالثة‮

‬فتبدأ عندما تنعدم المرآة وينتهي التأويل،‮ ‬فاذا كانت المرحلة السابقة تمثل تحليل التركيب،‮ ‬فان هذه المرحلة تمثل تركيبا بلغ‮ ‬التحليل‮. ‬نقول‮: ‬ان ترك التأويل هنا،‮ ‬يكون من باب‮ "‬قد بلغ‮ ‬الكتاب أجله‮" ‬وبلغ‮ ‬اليتيم أشده،‮ ‬فحان‮ "‬هدم الجدار‮" ‬يقول الشيخ‮ "‬أهدم الجدار‮" ‬وهو في التأويل جدار العقل النظري‮. ‬يشير الشيخ هنا الي قصة الخضر وموسي،‮ ‬عليهما السلام،‮ ‬الآية‮ "‬واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك‮".‬

ووفقا لمنهاج الشيخ في التأويل نقول‮ : ‬إن اليتيم هنا بلغ‮ ‬أشده،‮ ‬واستحق أرثه وكنزه،‮ ‬والكتاب بلغ‮ ‬أجله،‮ ‬ودخل المريد في الثلث الاخير من ليله البهيم‮. ‬فينصح الشيخ‮ "‬المريد السالك‮ "‬الساري‮" ‬بتوقيف الفكر النظري العقلي التأويلي،‮ ‬حتي يتلقي ما إن يتنزل عليه من الكشوفات الإلهية للأسرار الأعجمية البهيمية التي لا تنال بالتأويل ولكن بالتعريف‮.‬

‮- ‬ماذا يعني الشيخ بالكشف الأعجمي البهيمي؟

يتحدث الشيخ الأكبر عن الاعراس الإلهية،‮ ‬والأسرار الأعجمية،‮ ‬واختصاصها بالحضرة الموسوية في الباب الثاني والثمانين والثلاثمائة من الفتوحات المكية‮. ‬ولقد كان لنا اهتمام برمزية العربية والأعجمية عند ابن عربي،‮ ‬وعالجنا الموضوع في رسالتنا عن الفتوة عند ابن عربي يقول ابن عربي‮: "‬ما ثمة عجمة إلا في الاصطلاح والألفاظ والصور الظاهرة،‮ ‬وأما في المعاني،‮ ‬فكلها عربية ولا عجم فيها‮. ‬فمن ادعي علم المعاني وقال بالشبه فلا علم له‮. ‬ففي ضمن هذا الاطار،‮ ‬يجب اعتبار اشارة الشيخ‮ "‬ما ثم مجاز أصلا الكل حقيقة‮".‬

فنحن كما ترون بصدد انعدام المرآة،‮ ‬وانتهاء التأويل،‮ ‬حيث يسود النور ويتضح السر المبهم،‮ ‬وتصبح الأسرار الأعجمية عربية‮. ‬يقول أبوالوفا شيخ الشاذلي‮ "‬كل ما يأتيك بأعجمية حسك فسره بعربية قلبك،‮ ‬تجد هدي‮". ‬وينصح شيخنا قائلا‮: "‬نور بيتك المظلم وأوضح سرك المبهم ما دام أركان بيتك‮ ‬غير واهية قبل أن تحصل بالهاوية فنشأة ليلية حيوانية بهيمية وكشف أعجمي لسر مبهم!؟

‮"‬إن اطلاق اسم البهيمية ليس ذما‮. ‬فهو مشتق من الإبهام لكونه أبهم علينا من حيث جهلنا ذلك،‮ ‬وأما عند أهل الكشف فهو‮ ‬غير ذلك‮". ‬يقول الشيخ مفصلا موضوع المبهم والبهمة في بابين من فتوحاته‮: ‬الباب السابع والخمسون وثلاثمائة والباب السابع والثمانون وثلاثمائة‮.‬
ويستطرد قائلا‮: "‬هذا البهائم لديها علوم فطرها الله عليها‮. ‬فيذكر الشيخ بقصة بقرة بني اسرائيل في القرآن الكريم وقصص أخري‮. ‬ونذكر بدورنا قصة ناقة الرسول صلي الله عليه وسلم عندما حضر المدينة،‮ ‬واختلفوا علي مكان اقامته،‮ ‬فجعل الامر للناقة كما هو معلوم‮.‬
‮- ‬نحن هنا بصدد لطائف وخفايا أسرار عند الشيخ الأكبر،‮ ‬يجب تناولها ومعاملتها بعناية ولطف‮. ‬فهذه المرحلة عنده تعتبر من المراتب الاخيرة في الطريق،‮ ‬ورجالها كما يسميهم،‮ ‬هم رجال النومة العسلية،‮ ‬ويشرح ذلك قائلا‮: "‬لما فيها من اللذة لهم،‮ ‬للاستراحة في آخر الطريق،‮ ‬معرفة ما أودع الله في هياكلهم من الحكمة المتعلقة بالحقائق الإلهية‮".‬

هذه الهياكل الليلية،‮ ‬أنوارها كذلك ليلية فنكون هنا مع شيخنا في حضرة تجلي الليل وأنواره أو كما يسميه الشيخ تجلي الغلس،‮ ‬فيكون للغلس تجل وسدفة كشف وحجاب‮.‬
يؤكد الشيخ أن هذا الكشف لا يناله المريد بل الولي‮ "‬إلا بعناية أزلية يعطي استعدادا لقبوله برياضات ومجاهدات بدنية،‮ ‬وتخلق باسماء إلهية،‮ ‬وتحقق بأرواح طاهرة فلكية،‮ ‬وتطهر بطهارة شرعية،‮ ‬مشروعة لا معقولة،‮ ‬وعدم تعلق بأكوان وتفريغ‮ ‬محل‮".‬

في هذا المكان يتحقق الولي بمقام‮: "‬وما رميت اذ رميت ولكن الله رمي‮" ‬ويجوز‮ "‬أسرار الاختصاص‮" ‬يقول الشيخ‮: ‬كل جوارح الانسان واعضائه تذكر وتنطق وتسبح فتشرق وتتجلي للولي في هذا المقام،‮ ‬ويكشف له عن ذلك‮:‬

فأشرق الجسم بأنواره
‮ ‬وأظهر الأسرار اذ اشرق

ومن هذا المقام يؤكد الشيخ‮: "‬تكون كرامات الأولياء‮"‬،‮ ‬ومنه يرافق الحياء الكشف،‮ "‬فمن علم ان كل شيء ناطق،‮ ‬ناظر الي ربه،‮ ‬لزمه الحياء من كل شيء حتي من جواحه‮".‬
وفي نهاية هذا المطاف،‮ ‬في مجال الجسم وتأويلاته،‮ ‬عند الشيخ الأكبر،‮ ‬نجمل ونقول‮: "‬إن التأويل عند ابن عربي مقام له‮ "‬رجال‮" ‬قد تحققوا به‮. ‬وليكن آخر ما نسمعه من شيخنا في هذا الصدد،‮ ‬ما جاء في الباب السابع والخمسين وثلاثمائة من فتوحاته،‮ ‬بعنوان‮ "‬في معرفة منازل البهائم من الحضرة الإلهية وقهرهم تحت سرين موسويين‮"‬،‮ "‬وأما المؤمنون الصادقون أولو العزم من الأولياء فعبروا بالظاهر معهم لا من الظاهر إلي الباطن وبالحرف عينه إلي المعني ما عبروا،‮ ‬عنه فرأوا الأمور بالعينين،‮ ‬وشهدوا بنور إيمانهم النجدين،‮ ‬فلم يتمكن لهم إنكار ما شهدوه،‮ ‬ولا جحدوا ما تيقنوه،فأسمعهم الله نطق الموجودات،‮ ‬بل نطق الكلمات قبل وجودها‮" ‬وبهذا نفهم قول ابن عربي‮ "‬ما ثم مجاز أصلا،‮ ‬الكل حقيقة‮".‬

ومن هنا فإن الغاية من التأويل عند ابن عربي هو التحقق به،‮ ‬وذلك لا يكون إلا بوجود الجسم وحواسه‮...‬

لما انتهي للكعبة الحسناء
‮ ‬‮ ‬جسمي وحصل رتبة الأمناء
وسعي وطاف وثم عند مقامها
‮ ‬صلي وأثبته من العتقاء
فهذا مقام من تحقق بالحكمة والمحبة
قيل يا حكمة هذا محب
‮ ‬حاكم يرغب وصلا بجسمه
والحمد لله رب العالمين‮ .‬

اخبار الأدب
13 ديسمبر 2008

ليلي خليفة
(مصر)

يقول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي‮:‬

فالماء للروح قوت العلم
‮ ‬والجسم للنار كالزناد
فإن مضي الماء لم تجده
‮ ‬بدار دنياك للمعاد
وان خبت ناره عشاء
‮ ‬فسو من مات في المهاد
أوضحت سرا ان كنت حرا
‮ ‬كنت‮ ‬به واري الزناد

البحث في أي موضوع عند ابن عربي يتطلب من الباحث أن يغوص الي أعماق بحار الشيخ الأكبر،‮ ‬وأن يترك نفسه بين يديه‮ ‬يدوره ويقلبه في أطوار وأركان وأمواج بحاره،‮ ‬ثم يعود ليعرض الجواهر التي جمعها علي قدر استطاعته وللتحدث عما رأي وشاهد من العجائب‮.‬

لكن الأمر لا ينتهي هنا،‮ ‬فعلي الباحث الغطاس أن يصوغ‮ ‬هذه المجوهرات صياغة تليق بها وتبرز علومها،‮ ‬فالأحجار‮ "‬والكريم منها‮" ‬منابع العلوم كما يقول شيخنا‮. ‬فيتحول الغواص الي صائغ،‮ ‬صاحب حرفة أي صاحب تأويل‮. ‬يصوغ‮ ‬المجوهرات بعضها ببعض،‮ ‬وفقا لمعان خبرها في أرحام التصانيف،‮ ‬فخاتم أو عقد أو سوار أو تاج‮.. ‬وهذه المعاني الجديدة في الصور الجديدة إنما تعكس المعاني الأصلية الكامنة في مؤلفات الشيخ‮.‬

بذلك‮ ‬يكون التأويل مرآة تعكس ما في الأصول‮. ‬وكما علمنا ابن عربي ومشايخ الصوفية ان كمال صقل المرآة هو انعدامه،‮ ‬فيكون كمال التأويل‮ ‬اذا تركه،‮ ‬وتبعا لمنهاج الشيخ،‮ ‬وعلي منحي‮ "‬مقام لا مقام‮" ‬يكون‮ "‬مقام‮" ‬تأويل لا تأويل أو التأويل وترك التأويل‮.‬
لكن هذا لا يعني بطلان التأويل،‮ ‬فالشيخ يؤكد كما نعلم،‮ ‬علي أن من حاز مقاما وتعداه لمقام آخر لا يتركه،‮ ‬إنما يتضمنه ويحتويه متحققا به‮.‬
فنحن في الحقيقة اليوم في صدد تأويل التأويل عند ابن عربي‮.‬

قبل أن نخوض في موضوع الجسم وتأويلاته،‮ ‬عند الشيخ الأكبر،‮ ‬سنتعرض لمقام التأويل عنده وأسراره،‮ ‬لنحدد إطارا مرجعيا‮ ‬أكبريا،‮ ‬حتي نستطيع أن نفهم ابن عربي بابن عربي‮.‬
إن الشيخ الأكبر،‮ ‬إن أجمل أو فصل،‮ ‬إن نظم أو نثر،‮ ‬إن أعرب أو أعجم،‮ ‬إن أفصح أو أبهم،‮ ‬إن أشار أو رمز أو لغز أو أومأ،‮ ‬إنما قصده الإفهام والبيان الشافي علي حد قوله‮. "‬فكل ما يقوله في تصانيفه،‮ ‬وحسب ما يصرح به في فتوحاته المكية هو،‮ ‬من‮ "‬حضرة القرآن الكريم‮" ‬حيث يقول سبحانه وتعالي‮: "‬إنا أنزلناه قرآنا عربيا‮".‬

إن الشيخ الأكبر يلجأ للرمز واللغز في بعض الأحوال وذلك كما نعتقد أنه من باب الحرص علي ستر كنوز المعارف وصيانتها وحمايتها،‮ ‬كي لا تسقط بأيدي الأعداء‮ "‬دجاجلة وفراعنة الأولياء كما‮ ‬يسميهم أو في‮ ‬أيدي‮ ‬الجملة فهو من باب وضع الحكمة في‮ ‬موضعها فتبقي بين ذويها وخاصتها‮.‬
ولكن من جهة أخري فالشيخ يلجأ للاشارة من باب‮ "‬رب‮" ‬اشارة أفصح من عبارة ويقسم العلوم إلي ثلاثة أقسام‮:‬

أولا‮:
‬علم العقل النظري‮: "‬وهو كل علم،‮ ‬اذا بسطته العبارة،‮ ‬حسن وفهم معناه وقارب وعذب عند السامع‮.‬

ثانيا‮:
‬علم الأسرار‮: ‬اذا أخذته العبارة سمج واعتاص علي الإفهام دركته،‮ ‬وخشن،‮ ‬وربما مجته العقول الضعيفة المتعصبة،‮ ‬ويوصله العالم إلي الأفهام بضرب الأمثلة‮ ‬والمخاطبات الشعرية‮.‬

ثالثا‮: ‬علم الأحوال‮: ‬وهو متوسط بين علم الأسرار،‮ ‬وعلم العقول،‮ ‬وهو أقرب إلي الأسرار من العلم النظري العقلي،‮ ‬وأكثر ما يؤمن به أهل التجارب،‮ ‬ولكن يقرب من صنف علم العقل الضروري،‮ ‬بل‮: ‬هو هو،‮ ‬وسنفهم هذا لاحقا‮.‬
ونحن لو أمعنا النظر في كتاب‮ "‬ترجمان الأشواق وذخائر الأعلاق‮"‬،‮ ‬للشيخ الأكبر،‮ ‬نستطيع القول بأن هذا المصنف ثمين للباحث في علوم ابن عربي وخاصة التأويل،‮ ‬لأن ابن عربي نفسه يعطي به مفاتيح تفسير وتأويل نصوصه‮.‬
ومما تجدر ملاحظته أن هناك ثلاث مراحل في التأويل تتسلسل وبشكل منهجي في كتابه هذا‮:‬

في المرحلة الأولي‮: ‬يلجأ ابن عربي للتعريف والتفسير بالألفاظ،‮ ‬فمثلا يقول عاطلة‮: ‬خالية من الزينة،‮ ‬تخالها‮: ‬تحسبها،‮ ‬الفتك‮: ‬القتل،‮ ‬ويعرف الظل‮: ‬هو الراحة،‮ ‬والعرش‮: ‬السرير وهكذا‮.. ‬يحلل الألفاظ ويفسرها معطيا المعني الأول للصورة‮.‬

وفي المرحلة الثانية‮ "‬مرحلة المقصد‮": ‬يعبر ويؤول المعاني هذه،‮ ‬قاصدا صورا ومعاني آخري،‮ ‬ويدعم تأويله بشرح أسباب اختياره للألفاظ،‮ ‬فيقول مثلا‮: ‬لم كان السعي دون المشي،‮ ‬ولم الربع دون الطلل أو الرسم أو الدار،‮ ‬فيبين المعاني المشتقة في اللفظة،‮ ‬كقوي كامنة،‮ ‬تسمح باعطاء أصداء مختلفة للمعني الواحد،‮ ‬يعتبرها دلائل للتفسير والتأويل‮.‬
فعلي سبيل المثال‮ ‬،‮ ‬قال‮: ‬الربع،‮ ‬ليكون له اشتقاق من الربيع،‮ ‬وفي الربيع يكمن معني قوة الشباب،‮ ‬فيصبح الربع رمز الشباب والقوة والأمثلة كثيرة،‮ ‬وكذا الأيك يصبح دلالة علي السواك وهذا دلالة علي الطهارة فيصبح الأيك رمز الطهارة‮.‬

***

يتبع الشيخ الأكبر هنا كل أساليب البلاغة العربية،‮ ‬من استعارة وكناية وتمثيل ورمز‮...... ‬الخ لتتسلسل الصور والمعاني في أطوار،‮ ‬علي حد وصفه،‮ ‬كالبذرة في باطن الأرض،‮ ‬حتي تنبت وتثمر معاني الأسرار‮. ‬فالسر اذا كالبذرة هذه،‮ ‬لابد أن تكمن في أرض الجسد حتي تثمر علومها للعقل،‮ ‬وهي للغاية وثمرة التأويل التي تمثل المرحلة الثالثة‮.‬
والمرحلة الثالثة‮: ‬فهي عود علي بدء‮. ‬وتمثل مرحلة انعدام المرآة وترك التأويل‮. ‬فالباحث بعد أن يتسلسل مع الشيخ في التفسير والتأويل،‮ ‬يعود لقراءه البيت متحققا حاويا المعاني الخفية المشروحة،‮ ‬وتكون له نظرة جديدة للبيت‮. ‬يقول ابن عربي ثم يرجع عوده علي بدئه لقيام نشء آخر،‮ ‬فليس في علم اللبيب سوي تركيب وتحليل بلغ‮ ‬التركيب‮". ‬وهكذا فالتأويل عنده لا ينفي المعني الظاهر لكنه ظاهر تحقق بالباطن‮.‬
لنتتبع الآن موضوع الجسم في منهج ابن عربي،‮ ‬وفقا لهذا الإطار المرجعي الثلاثي،‮ ‬فنجد الاعتبارات‮ "‬مراحل أو رتب‮" ‬الثلاث الآتية‮:‬

المرحلة الأولي

‮- ‬اعتبار الجسم وعاء يحوي الروح فيكون بالاعتبار هذا مركبا‮. ‬يقول الشيخ‮ "‬إن اللطيفة الانسانية لا توجد دنيا وآخر الا مدبرة لمركب نقول‮: ‬فالإنسان مسافر ابدا قلبا وبدنا،‮ ‬من مقام الي آخر،‮ ‬ومن منزل إلي آخر،‮ ‬يجوب البوادي والفيافي ويقطع البحار،‮ ‬يذهب شرقا وغربا ويرحل صيفا وشتاء‮ "‬لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف‮" ‬فالشتاء كما يقول قاشاني‮: ‬غور البدن،‮ ‬ورحلة الشتاء لترتيب مصالح المعاش واصلاح أحوال البدن ورحلة الصيف للرقي في عالم القدس والتلقي‮. ‬فالقوم عند الشيخ مراتب ووظائف،‮ ‬ومراكبهم كذلك منها الخيل والإبل‮.. ‬المسافر هنا فتي يقود مركبه ويحافظ عليه ويحمي ظعينته‮.‬

- ‬باعتبار آخر يكون الجسم أرضا‮ "‬أيها الأخ الوالي إن أرض بدنك هي الأرض الحقيقية الواسعة وعلينا أن نميز بين هذه الأرض الحقيقية الواسعة والأرض الإلهية الواسعة‮. ‬ففي مكان آخر من الفتوحات،‮ ‬يتحدث الشيخ عن‮ "‬الأرض الإلهية الواسعة الواسعة،‮ ‬ففي مكان آخر من الفتوحات،‮ ‬يتحدث الشيخ عن‮ "‬الأرض الإلهية الواسعة ويقول‮: ‬هي أرض معنوية‮ ‬غير محسوسة لا تقبل التبديل،‮ ‬لها‮ ‬البقاء‮". ‬يبدو لنا أن هذه الأرض بالنسبة للأرض الحقيقية الواسعة كالضراح في السماء،‮ ‬مقابل الكعبة في الأرض‮. ‬فأرض البدن كما ينبه الشيخ فيها أرض الهوي وأرض العقل حيث سراج الشريعة،‮ ‬والمطلوب من الانسان هو الهجرة والعبادة فيها،‮ ‬فهي الأرض التي أمرنا الله أن نعبده فيها‮. ‬الانسان مدعو للسياحة فيها والحج لكعبتها،‮ ‬قد جعل الله فيها الكعبة وهي القلب‮. ‬وسواء سعي الانسان علي ظهرها أو نفذ في باطنها أو عرج في سمائها،‮ ‬فما‮ ‬خرج عنها قط كما يؤكد الشيخ‮.‬

- ‬وفي اعتبار ثالث هي دولة في المملكة الانسانية يجب تدبيرها والعمل علي منع خرابها وتسمي هذه الدولة بحضرة الجسم والبدن‮. ‬وهي مكونة من حاضرة وبادية ورعية،‮ ‬والعدل مطلوبها،‮ ‬ذلك أن الله سبحانه وتعالي سيسأل هذه الرعية عن حاكمها،‮ ‬حيث يستشهد الشيخ بالآيات‮: "‬إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا‮" "‬يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‮"‬
يعطي الشيخ الكيان الانساني هيئة فلكية،‮ ‬ويجعل الحواس الثماني تارة أفلاكا في سماء هذه الدولة،‮ ‬وتارة خوخات‮ "‬طاقات‮" ‬يجب المحافظة علي سلامتها،‮ ‬لأنها تطل علي عالم الحس،‮ ‬فهم عمال جبايات‮ ‬،‮ ‬مسئولون كل منهم،‮ ‬كما يقول الشيخ‮: ‬رئيس وخازن علي صنف من أصناف المال‮.‬
نلاحظ أن المطلوب في هذه المرحلة الأولي المحافظة علي الوعاء لما يحويه،‮ ‬المركب للراكب،‮ ‬وعلي الأرض الثمر،‮ ‬علي الدولة للرعية،‮ ‬علي القشر للباب،‮ ‬وعلي المكنز للكنز‮.‬
المرحلة الثانية
تمثل‮ ‬مرحلة خراب البدن‮ "‬ونحره‮" ‬تأويل الآية‮: "‬فصل لربك وانحر‮" ‬من سورة الكوثر‮. ‬والحديث الشريف‮ "‬موتوا قبل أن تموتوا‮" ‬فالمطلوب تبعا لابن عربي هنا،‮ ‬هو كشف‮ ‬غطاء الأكوان،‮ ‬كسر القشر للحصول علي اللباب والمكنز للكنز‮. ‬يقول الشيخ مشيرا الي قصة الخضر مع موسي،‮ ‬عليه السلام،‮ ‬عندما خرق الخضر سفينة لمساكين يعملون في البحر‮ : "‬سفينتك مركبك،‮ ‬فاخرقه بالمجاهدة،‮ ‬السالك هنا يترك النشأة الترابية،‮ ‬ويتسامي فتتوالي عليه الكشوف الغيبية والروحانية،‮ ‬ويصبح الجسم عبارة عن مجاز للحقيقة،‮ ‬وتصبح الاعضاء قوالب حسية لمعان‮ ‬غيبية روحانية،‮ ‬نفسانية أو إلهية،‮ ‬فمثلا تصبح اليدان‮: ‬رمز القوة والقدرة الإلهية،‮ ‬والكف‮: ‬الكرم،‮ ‬وتصبح القبضتان‮: ‬البسط،‮ ‬والقبض والقدمان‮: ‬التواضع والعجب،‮ ‬والأنف‮: ‬العزة،‮ ‬والعينان‮: ‬محل الحياء،‮ ‬واللسان‮: ‬الحكمة،‮ ‬والفم‮: ‬الصدق،‮ ‬والبطن‮: ‬الورع،‮ ‬والحش‮: ‬محل الهوي،‮ ‬والفرج،‮ ‬العفة،‮ ‬والفطنة‮: ‬القلب‮...... ‬وهكذا‮.‬

***

تمثل هذه المرحلة قمة التأويل عند الشيخ الأكبر،‮ ‬لأن المطلوب هنا،‮ ‬هو معني ما ظهر،‮ ‬والشيخ يقول‮: "‬ما ظهر إلا ليعطي معني‮"‬،‮ "‬فالجسم الكثيف‮" ‬هنا،‮ ‬كما سبق وأشرنا،‮ "‬حجاب الغيب،‮ ‬وهو ليل هذه النشأة الحيوانية،‮ ‬لما كان سترا علي ما تحويه من اللطائف الروحانية،‮ ‬فلا يدرك جليسه ما عنده إلا بعد العبارة عن ذلك والاشارة اليه‮. ‬فالجسم من حيث ذاتيته عند ابن عربي،‮ ‬ليس بأمر سلبي،‮ ‬يؤكد الشيخ‮ "‬أن الجسم لا يطلب منك إلا سد جوعه،‮ ‬واما النفس فلا تطلب منك الا الطيب من الطعام والمنظر والمشرب والمركب والمسكن،‮ ‬انما تريد كل شيء أحسنه وأعلاه منزلة‮.. ‬والذي يؤدي الي ذلك،‮ ‬طلب التقدم والترأس‮. ‬ولا نبالي ان كان ذلك حلالا أو حراما‮. ‬فالجسم ليس كذلك،‮ ‬انما مراده الوقاية مما ذكرناه‮. ‬ولا ننسي أن نقول‮: ‬إن العرب قد استخدموا واعتمدوا لغة الجسد للتعبير عن المعاني اللطيفة بكثرة،‮ ‬لما تعطيه هذه من قوة حسية للصور المتخيلة بكثرة،‮ ‬لما تعطيه من قوة حسية للصور المتخيلة‮. ‬وكأن لغة الجسم تصبح كالروح للنص‮.‬

وأما المرحلة الثالثة‮: ‬فتبدأ عندما تنعدم المرآة وينتهي التأويل،‮ ‬فاذا كانت المرحلة السابقة تمثل تحليل التركيب،‮ ‬فان هذه المرحلة تمثل تركيبا بلغ‮ ‬التحليل‮. ‬نقول‮: ‬ان ترك التأويل هنا،‮ ‬يكون من باب‮ "‬قد بلغ‮ ‬الكتاب أجله‮" ‬وبلغ‮ ‬اليتيم أشده،‮ ‬فحان‮ "‬هدم الجدار‮" ‬يقول الشيخ‮ "‬أهدم الجدار‮" ‬وهو في التأويل جدار العقل النظري‮. ‬يشير الشيخ هنا الي قصة الخضر وموسي،‮ ‬عليهما السلام،‮ ‬الآية‮ "‬واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك‮".‬

ووفقا لمنهاج الشيخ في التأويل نقول‮ : ‬إن اليتيم هنا بلغ‮ ‬أشده،‮ ‬واستحق أرثه وكنزه،‮ ‬والكتاب بلغ‮ ‬أجله،‮ ‬ودخل المريد في الثلث الاخير من ليله البهيم‮. ‬فينصح الشيخ‮ "‬المريد السالك‮ "‬الساري‮" ‬بتوقيف الفكر النظري العقلي التأويلي،‮ ‬حتي يتلقي ما إن يتنزل عليه من الكشوفات الإلهية للأسرار الأعجمية البهيمية التي لا تنال بالتأويل ولكن بالتعريف‮.‬

‮- ‬ماذا يعني الشيخ بالكشف الأعجمي البهيمي؟

يتحدث الشيخ الأكبر عن الاعراس الإلهية،‮ ‬والأسرار الأعجمية،‮ ‬واختصاصها بالحضرة الموسوية في الباب الثاني والثمانين والثلاثمائة من الفتوحات المكية‮. ‬ولقد كان لنا اهتمام برمزية العربية والأعجمية عند ابن عربي،‮ ‬وعالجنا الموضوع في رسالتنا عن الفتوة عند ابن عربي يقول ابن عربي‮: "‬ما ثمة عجمة إلا في الاصطلاح والألفاظ والصور الظاهرة،‮ ‬وأما في المعاني،‮ ‬فكلها عربية ولا عجم فيها‮. ‬فمن ادعي علم المعاني وقال بالشبه فلا علم له‮. ‬ففي ضمن هذا الاطار،‮ ‬يجب اعتبار اشارة الشيخ‮ "‬ما ثم مجاز أصلا الكل حقيقة‮".‬

فنحن كما ترون بصدد انعدام المرآة،‮ ‬وانتهاء التأويل،‮ ‬حيث يسود النور ويتضح السر المبهم،‮ ‬وتصبح الأسرار الأعجمية عربية‮. ‬يقول أبوالوفا شيخ الشاذلي‮ "‬كل ما يأتيك بأعجمية حسك فسره بعربية قلبك،‮ ‬تجد هدي‮". ‬وينصح شيخنا قائلا‮: "‬نور بيتك المظلم وأوضح سرك المبهم ما دام أركان بيتك‮ ‬غير واهية قبل أن تحصل بالهاوية فنشأة ليلية حيوانية بهيمية وكشف أعجمي لسر مبهم!؟

‮"‬إن اطلاق اسم البهيمية ليس ذما‮. ‬فهو مشتق من الإبهام لكونه أبهم علينا من حيث جهلنا ذلك،‮ ‬وأما عند أهل الكشف فهو‮ ‬غير ذلك‮". ‬يقول الشيخ مفصلا موضوع المبهم والبهمة في بابين من فتوحاته‮: ‬الباب السابع والخمسون وثلاثمائة والباب السابع والثمانون وثلاثمائة‮.‬
ويستطرد قائلا‮: "‬هذا البهائم لديها علوم فطرها الله عليها‮. ‬فيذكر الشيخ بقصة بقرة بني اسرائيل في القرآن الكريم وقصص أخري‮. ‬ونذكر بدورنا قصة ناقة الرسول صلي الله عليه وسلم عندما حضر المدينة،‮ ‬واختلفوا علي مكان اقامته،‮ ‬فجعل الامر للناقة كما هو معلوم‮.‬
‮- ‬نحن هنا بصدد لطائف وخفايا أسرار عند الشيخ الأكبر،‮ ‬يجب تناولها ومعاملتها بعناية ولطف‮. ‬فهذه المرحلة عنده تعتبر من المراتب الاخيرة في الطريق،‮ ‬ورجالها كما يسميهم،‮ ‬هم رجال النومة العسلية،‮ ‬ويشرح ذلك قائلا‮: "‬لما فيها من اللذة لهم،‮ ‬للاستراحة في آخر الطريق،‮ ‬معرفة ما أودع الله في هياكلهم من الحكمة المتعلقة بالحقائق الإلهية‮".‬

هذه الهياكل الليلية،‮ ‬أنوارها كذلك ليلية فنكون هنا مع شيخنا في حضرة تجلي الليل وأنواره أو كما يسميه الشيخ تجلي الغلس،‮ ‬فيكون للغلس تجل وسدفة كشف وحجاب‮.‬
يؤكد الشيخ أن هذا الكشف لا يناله المريد بل الولي‮ "‬إلا بعناية أزلية يعطي استعدادا لقبوله برياضات ومجاهدات بدنية،‮ ‬وتخلق باسماء إلهية،‮ ‬وتحقق بأرواح طاهرة فلكية،‮ ‬وتطهر بطهارة شرعية،‮ ‬مشروعة لا معقولة،‮ ‬وعدم تعلق بأكوان وتفريغ‮ ‬محل‮".‬

في هذا المكان يتحقق الولي بمقام‮: "‬وما رميت اذ رميت ولكن الله رمي‮" ‬ويجوز‮ "‬أسرار الاختصاص‮" ‬يقول الشيخ‮: ‬كل جوارح الانسان واعضائه تذكر وتنطق وتسبح فتشرق وتتجلي للولي في هذا المقام،‮ ‬ويكشف له عن ذلك‮:‬

فأشرق الجسم بأنواره
‮ ‬وأظهر الأسرار اذ اشرق

ومن هذا المقام يؤكد الشيخ‮: "‬تكون كرامات الأولياء‮"‬،‮ ‬ومنه يرافق الحياء الكشف،‮ "‬فمن علم ان كل شيء ناطق،‮ ‬ناظر الي ربه،‮ ‬لزمه الحياء من كل شيء حتي من جواحه‮".‬
وفي نهاية هذا المطاف،‮ ‬في مجال الجسم وتأويلاته،‮ ‬عند الشيخ الأكبر،‮ ‬نجمل ونقول‮: "‬إن التأويل عند ابن عربي مقام له‮ "‬رجال‮" ‬قد تحققوا به‮. ‬وليكن آخر ما نسمعه من شيخنا في هذا الصدد،‮ ‬ما جاء في الباب السابع والخمسين وثلاثمائة من فتوحاته،‮ ‬بعنوان‮ "‬في معرفة منازل البهائم من الحضرة الإلهية وقهرهم تحت سرين موسويين‮"‬،‮ "‬وأما المؤمنون الصادقون أولو العزم من الأولياء فعبروا بالظاهر معهم لا من الظاهر إلي الباطن وبالحرف عينه إلي المعني ما عبروا،‮ ‬عنه فرأوا الأمور بالعينين،‮ ‬وشهدوا بنور إيمانهم النجدين،‮ ‬فلم يتمكن لهم إنكار ما شهدوه،‮ ‬ولا جحدوا ما تيقنوه،فأسمعهم الله نطق الموجودات،‮ ‬بل نطق الكلمات قبل وجودها‮" ‬وبهذا نفهم قول ابن عربي‮ "‬ما ثم مجاز أصلا،‮ ‬الكل حقيقة‮".‬

ومن هنا فإن الغاية من التأويل عند ابن عربي هو التحقق به،‮ ‬وذلك لا يكون إلا بوجود الجسم وحواسه‮...‬

لما انتهي للكعبة الحسناء
‮ ‬‮ ‬جسمي وحصل رتبة الأمناء
وسعي وطاف وثم عند مقامها
‮ ‬صلي وأثبته من العتقاء
فهذا مقام من تحقق بالحكمة والمحبة
قيل يا حكمة هذا محب
‮ ‬حاكم يرغب وصلا بجسمه
والحمد لله رب العالمين‮ .‬

اخبار الأدب
13 ديسمبر 2008