أجرى الحوار في مدريد : خالد النجار

عبدالواهاب البياتيكنا على تخوم ريف مدريد تلك الليلة، وكان ليل مدريد يمتلئ بأرواح الشعراء الميتين لوركا، مشادو. خمينيث.. مغنطيس وكهرباء في الجو.. وكان هذا الحديث ابحارا في الكلام الشعري.. تعرّى فيه البياتي وتجلى ازاء الموت، والحزن،والقصيدة ، وربيع الارض، والايام ، والمدن... وقد جاء الحوار حديثا شاملا مع شاعر ينعطف على نفسه كملاك، و يسهر على ينابيعه ليشهد تحولاتها الليليّة.

* عندما تتأمّل هذه السنوات الطويلة من الفصول والناس والمدن والقصائد .. بماذا تفكر؟

ـ عبد الوهاب البياتي: اواجه حقيقة كلية ربما قد توصلت اليها من خلال المواجهات الجزئية وهي ان التاريخ (تاريخ البشر، الفن، الطبيعة) لايعيد نفسه بل يتخذ اشكالا اما اكثر سموا وطموحا للوصول الى المثل الاعلى، او اشكالا اقل من ذلك، والعلو والهبوط في اخذ هذه الصور يعود الى قدرات البشر الابداعية والعلمية في هذا العصر او ذاك، والى المؤثرات المادية والروحية التي اثرت فيهم وعليهم. وكما ان هناك ذروات ابداعية تاريخية خطيرة في تاريخ الفن، كذلك هناك ذروات تاريخية لاتقل عمقا عنها؛ ولكنها اي هذه الذروات التاريخية كانت في العصور السابقة تتخذ طابع العنف والتدمير والقسوة واللاانسانية اي انها كانت لا تعمد الى تدمير منجزات الانسان بل الى تدمير الانسان نفسه والى محاولة اذلاله وربطه بعجلة الوجود المادي من جديد. فلو كان التقدم او محاولة الصعود الى معراج الفن والابداع التاريخي يتخذ شكلا مطردا فأين ذهبت حضارات العالم القديم وكيف ماتت وانقرضت. ولو قارنا ـ مثلا ـ بين الابداعات الفنية للحضارة المصرية القديمة، او السومرية، والمكسيكية والى المحصلة النهائية التي تركتها هذه الحضارات بالنسبة للمسيرة الانسانية خلال اكثر من 30 قرنا نجد ان الانسان يسير وكأنه لا يزال في بداية البداية. اتساءل وأنا في غمرة حياة طويلة عشتها ايهما كان هو الأقوى وسيد المصير الوجود ام العدم؟ وهل صحيح ان هناك وجودا منفصلا وعدما منفصلا ام ان هناك محقا لا عقلانيا يسير نواميس الكون وحرقات البشر في العصور بالرغم من المعقول الذي ساد العالم منذ ارسطو وما سبقه حتى الآن.آه كم اتذكر الشاعر الفرنسي "مونديارغ" اذ يقول: "التاريخ مومس لا اخلاقية.."

* هذا ليس هجاء للتاريخ وانما تكشف للاعقلانيته وتراجيديته. فهل يتكلم الشعراء بلسان متعدد ولكن بلغة مفردة؟

ـ عبد الوهاب البياتي: تجربة وجودية ناضجة لشاعر مثل "طرفة بن العبد" ماذا كان سيكتب لها لو اتخذت طريق مسارها الطبيعي حسب قانون او سلم التطور التصاعدي للاشياء. هل نقف ونموت وندور حول انفسنا ؟ او نبدأ من حيث ينتهي الاخرون؟ ليس هناك ألغاز ولكن هناك قانونا يسود الحياة الانسانية لم تستطع حتى الرياضيات العالية والعقول الالكترونية وعلوم الحياة الحديثة ان تحل لغزه.

* اذن بأي المدارات انت الآن؟

ـ عبد الوهاب البياتي: اشعر انني لست وحدي، وانني لم ابدأ حياتي بعد، بل انني ربما كنت قد بدأتها قبل الف عام. وها انا ابدؤها من جديد بعصر آخر وزمن آخر مختلف فهل الحياة الانسانية هي محاولة للاستحواذ على الصورة المثلى او المثل الاعلى باشكال واساليب ومحاولات مختلفة؟ وهل التسكع مثلا في شارع مدينة ما في العالم، او النوم على سرير المرض او النوم الابدي هو مجرد حدث بسيط في حياة الفرد او حياة المجموع، أم ان ذلك كله اشارات غامضة لم نستطع ان نفسر معناها بعد؟؟؟ اشعر احيانا وانا انام، واستيقظ، واسافر، واموت سأما وانتظارا، انني البي نداء قوى غامضة. ولا أقصد بوصفها غامضة أنها قوى خرافية لامعقولة، بل قوى علمية وما انا وانت الا ذرات عالقة في الضوء نتعانق مثلما تتعانق الذرات وفي الفجر نموت، كما ذكرت ذلك في احدى قصائدي. ان محاولات شرح قانون دوران الارض او نظرية النسبية تقنعني علميا تماما، ولكن هل الاقناع العلمي لمثل هذه النظريات او غيرها يتوقف عند هذا الحد؟ وهل ان رسم خريطة لشيء ما بالرغم من غايتها هو نهاية لها؟! ام انها بداية لشيء لم يدرك كنهه الانسان بعد؟! كان الشاعر قبل 20 أو 30 أو 40 سنة يجد اجوبة رومانسية مؤمنة تصل الى حد السذاجة احيانا، تملؤه قناعة بالسعادة، ولكن مثل هذه الامور قد ولت الى الابد. فالشاعر او الكاتب الان يعيش العدم ويواجهه في كل لحظة؛ وما الكلمات او الاشارات التي يقوم بها كفعل او ككلمات الا محاولة وقف تنفيذ لاعدام صدر مسبقا على الانسان: محكوم بالاعدام انا مع وقف التنفيذ وعقوبتي الحياة

* الشعر في بعض وجوهه احتضان للكل ولكني اراك تمضي بعيدا، وتتوغل في فرادتك كان نجما غامضا يقودك في الاقاصي؟

ـ عبد الوهاب البياتي: في بداياتي كنت اكتب كما يكتب اي شاعر مبدع قصائده بعيدا عن مواجهة الفجيعة الكونية التي تواجه الانسان, ولكن مرور السنوات وتقادمها قادني الى اكتشاف جديد هو ان استخدام الكلمات والصور والادوات الفنية الاخرى لايقود الى كتابة القصيدة المتفردة بين مثيلاتها؛ سواء بالنسبة لشعري، او لشعر الاخرين. بل احسست فجأة ذات يوم، وتلك كانت بداية الفاجعة، ان هذه الادوات قد تسعف الشاعر على قول شيء ابعد. فالشعر بمعناه الحقيقي ليس الخيال او الكلام الموزون المقفى او الصور الجميلة او الموقف. اكتشفت ويا للفجيعة. ان القصيدة يمكن ان تضم بين جوانحها كل مالا يعرف او مالا يقال سواء كرها او طواعية، وانها يمكن ان تكون الشاهد الماكر الوحيد الذي يمتلك القدرة على الديمومة والعبور من خلال الموت دائما وابدا، خاصة اذا لم تعتمد القصيدة على ريشها الزاهي وصورها الواهية ومعانيها الباهتة، فقصيدة صغيرة لشاعر جاهلي ضاع اسمه الان او مقطوعة للشاعر الروماني "اوفيد" او لاي شاعر آخر في عصر آخر قد تعادل "هوميروس" باكمله، أي ان الاكاديميات والدراسات الادبية لاتزال تتعامل مع الشعر على انه شعر وحسب، حسب العرف الذي تعارف عليه الناس سواء التقليديون منهم او المتمردون (التمرد بمعناه الظرفي ـ الزماني ـ المكاني ـ السياسي) وحتى الوجودية وهي احدى فلسفات عصرنا باستثناء "هيدجير" قد فشلت فشلا دريعا باكتناه سر جوهر الشعر اكتناها حقيقيا ورسالة أم مقالة "هيدجير" عن الشاعر الالماني العظيم "هلدرلن" هي نقطة الضوء الوحيدة في تاريخ الشعر الانساني وكان يجب على النقاد والباحثين والدارسين ان يبدأوا بها.

* ما الذي يشدك الى هيدجر الذي خضع حتى للقراءة اللاهوتية خاصة في فرنسا؟

ـ عبد الوهاب البياتي: يخيل الي ان الرجل بالرغم من انه فيلسوف كبير لم يتوصل الى اكتشافاته في الشعر من خلال "هلدرلن" الا لانه اكتنه موهبة باطنية عميقة اقتربت به من كشف اشياء قلما يصلها البشر العاديون. وكما ان هناك فرقا كبيرا بين الحالة الانسانية للتصوف الروحي العميق الذي اوصل كثيرا من المتصوفة المسيحيين والمسلمين الى ذرى ومشارف وقمم لم يبلغها احد.
ولا أعني التصوف المدرسي الافتعالي المرضي المهني الذي يمتهنه بعض صانعي العاهات.. وكما ان الحديث عن الوصول الى ذروة التجربة الباطنية العميقة في الشعر والثورة والتصوف، فكذلك الامر بالنسبة لمفهوم الحداثة في الشعر. فمفهوم الحداثة في الشعر تحول - على يد بعض الببغاوات والتلامذة الصغار، ولا اقصد الصغار سنا، ولكن الصغار عقولا، وحلوما من ذوي الانتماءات العشائرية والطائفية والعنصرية والتبعية الى الثقافات المنقرضة - الى ما انتهى اليه مفهوم الشعر والتصوف والثورة بمعناها الكوني على يد البعض الاخر. لقد افلت زمام المصير الانساني من يد الشعر والفلسفة والعلم المرتبط بالوضع الانساني الى الابد. وها ان الانسانية تواجه الان عصورا بربرية طويلة لا اول لها ولا آخر. وحتى الثقافة - بالرغم من بعض مناراتها التي ماتزال تشع - قد سقطت في وهدة التقسيم، والتعصب، والعنصرية.

* اين ربيع الارض اذن مملكة الشعراء الحقيقية؟ كأنك تقول مع الشاعر الالماني "رينر ماريا ريلكه ان دمائي لاتتحمل ربيعا آخر"؟

ـ عبد الوهاب البياتي: يظل الامل الانساني هو المنقذ من الضلال، او هو الحقيقة. والامل الانساني قد يكون الشيء الوحيد الباقي للانسان، او الذي كان له منذ البداية؛ ولولاه لكان الوجود الانساني اكثر تدنيا من الوجود الحيواني. ان هناك الآن مدنا بكاملها تموت في العالم؛ ويموت البشر فيها بالرغم من البشر. والدليل على ذلك ان لغة التخاطب بين هؤلاء البشر الاحياء ـ الموتى تحولت الى حشرجات، و إلى وعواء ذئبي لاعلاقة له بصوت الانسان المنتظر. ولا يظن القارئ من خلال حديثي هذا بأنني غارق في التشاؤم، او انني قد تلوثت بالتشاؤم الميتافيزيقي او الوجودي بل انني اعتبر نفسي كأحد افراد سكان هذه الارض اقل الناس عدمية وتشاؤما. ذلك لانني اقل الناس خداعا لنفسي، وللاخرين لانني لست من الذين يمثلون مصلحة دنيوية عابرة اريد الدفاع، او الترويج لها.

* هل انت اجمالا رجل حزين؟

ـ عبد الوهاب البياتي: لا ابدا. الحزن ظاهرة اجتماعية وبالنسبة لي فقط تخطيت اسوار الواقع الاجتماعي. لان الواقع الاجتماعي يسوده قانون الربح والخسارة. والحزن، حتى وان كان منسيا مغطى بالف قناع فانه يبقى تابعا لقانون مبدأ الربح والخسارة، واذا ماحزنت فان حزني ليس حزنا ظرفيا، او آنيا؛ انه حزن الانسانية التي قمعت، وخينت، وسرقت، وخدعت، ولا تزال تخدع طوال عصورها اي انه حزن من اكلت الذئاب خبزهم في كل العصور.

* متنك الشعري يعطي مفهوما "للواقعي" متسعا حيث القصيدة تستفيد من كل عطاءات المدارس فكيف ترى الواقعي؟

ـ عبد الوهاب البياتي: لقد ابتليت الواقعية ايضا بمثل ماابتليت به اشياء اخرى. فهناك واقعية القبائل، وواقعية الشركات الكبرى، والحكومات الخفية والعلنية، وواقعية الفكر الذي يمثلها.. ولكن واقعية الفكر الانساني الشامل الذي ظل غائبا عن ذهن القاتل والمقتول هو هاجسي، وهذا، اي مثل هذا الواقع، لا يمكن ان يحدد من خلال الفكر الفلسفي المحدد او النظري، بل من خلال التجربة الوجودية المعاشة لهذا الانسان او ذاك في اي عصر من العصور. فواقعية "المعري" مثلا الشعرية والانسانية والاجتماعية والفكرية وتوازنه كفرد إزاء الكون هي وجه انساني حقيقي يعادل اكثر من واقعية الف شاعر اخر خضعوا للزمن الرديء. حتى وان كتب بعضهم شعرا جيدا تظل شهادة المعري في تاريخنا الادبي اقوى شهادة واقعية في تاريخ الانسانية من كل الشهادات التي ادلى بها المؤرخون، وشهود الزور، والقضاة، ولصوص الخيل، والاساتذة، والشعراء.

* الخارطة الشعرية العربية تبدو منقسمة شطرين: ردة شعرية عند بعض الرواد؛ ونص جديد موغل في التغاير، و الغموض النافل لدى الشباب؟ ماذا تقول انت؟

ـ عبد الوهاب البياتي: اؤيد وجهة نظرك الاولى بان هناك ردة شعرية. وهذه الردة ليست جديدة وهي قائمة في كل الاداب العالمية منذ اقدم العصورن تتبناها المؤسسات ذات الهيمنة المادية والمعنوية؛ وتتبناها الفئات ذات المصلحة في الردة. ولكن هذه الردة تهزم في هذا العصر او ذاك كما هزمت الفئات التي تحتمي وراء متاريسها. كما حدث مثلا في كومونة باريس والثورة الفرنسية والثورات الاوروبية الاخرى، والثورة الاشتراكية في روسيا، والثورات العربية المتعاقبة في مختلف الاقطار العربية في القرن العشرين. ولكن البنية الهشة الهلامية للفئة التي تتبنى حركة التمرد، وطليعية الادب كانت تؤدي بها الى الهزائم في النهاية، او الى الانتهازية والمصالحة ؛او الى بيع نفسها. وقد اثبت تاريخ الادب العالمي ان الثورة الدائمة في الادب لم يكتب لها الاستمرارية في كل عصور التاريخ. بل ان بعض الحركات الطليعية او بعض الثورات الدائمة في الادب قد استسلمت وانهزمت في بعض عصور الثورات السياسية واصبحت كابحا لها.

* والكتابة الشعرية الجديدة..؟

ـ عبد الوهاب البياتي: اما الخط الثاني فليس له هنا ممثلون يمكن ان يشار اليهم بالبنان. فهذا الخليط العجيب من الصحف والمجلات والاسماء؛ وهذا الخليط العجيب من الكتب المترجمة من كل العصور وبكل اللغات قد بات يقرؤها البعض ـ سواء كانت مترجمة او مؤلفة ـ باخطائها المطبعية ايضا. ان بعض التيارات الادبية قائمة على هذا التناقض الساخر: فالحداثة او الجدة لاتولد من خلال الرغبة الفردية المحضة، او من خلال ملامسة سطح أشياء اللغة، انما هي قدر محتوم ياتي كما تاتي النار والطاعون، والثورة واي حداثة لاتفرض نفسها منذ اول صيحة لها ليست حداثة بل هي محاولة او خربشة رديئة على سطح املس.. الثقافة ومن ثم الاشكال والاساليب واللغة تولد من خلال الانهيار والدمار الحقيقي، وبدون هذا الانهيار الشامل والدمار الحقيقي فليس هناك تجديد او حداثة او ما اشبه، انما هي الامراض الصغيرة التي انتقلت الى بعض صحفنا الادبية مثل انتقال الحمى البرتغالية الى موانئ العالم السفلي.

* هل هناك اصوات جديدة وواعدة في شعرنا.. هل تذكر بعضا منها؟

ـ عبد الوهاب البياتي: اقولها بكل صدق بأني قرأت اشياء كثيرة واعدة، ولكن الاسماء لم تستوقفني بقدر ما استوقفتني القصائد فكثيرا ما افجع في الاسماء اذ ليس هناك شخصية متكاملة الملامح في ثقافتنا الجديدة وكل مايكتب هو من قبيل التمني او بلهجة او لغة احدى القبائل.البعض يقول ان ادباء الاجيال السابقة هم الذين يسدون الطريق امام الاجيال الجديدة وهذا منطق مضحك، فظهور الادباء ليست عملية سباق خيل، وليست مراهنة في بورصة، وليس ولادة مليون شجرة مثلا جديدة في شرق جبال الانديز يمنع من ولادة 3 ملايين، او شجرتين في غربة. لا احد الآن يملك العصمة والهيمنة. والحكم النهائي هو ضمير القارئ وضمير العصر. ومن كان لديه شيء جديد فليتقدم. لقد تقدم الكثيرون وملأوا الدنيا صراخا ولكن ماذا كانت النتيجة؟ اريد من كلامي هذا ان اصل الى حقيقة جديدة بعيدا عن الاكاذيب، وبعيدا عن الافواه الملوثة، وبعيدا عن الادعاءات، وبعيدا عن اي اعتبار آخر. فالشاعر الحقيقي سواء في العصور القديمة، او الوسطى او الحديثة قد نبغ وظهر منذ اول صيحة اطلقها او قصيدة كتبها. والشعر ليس عملية تزوير، او تسويد، او انشاء، بل هو مغامرة وجودية ولغوية. إنه اقتحام للعالم وتدمير له من اجل ولادة جديدة؛ اما الفذلكات التي تطلقها الصحف فانها تظل تدور مابين حلقات المجاذيب، والبائسين، والمستضعفين في مقاهي هذا الشرق الكبير الذي ينام كما تنام بقرة ميتة منذ الف عام.

* ماذا تريد من وراء الكتابة؟

ـ عبد الوهاب البياتي: اكتب كي لا اختنق، او اموت، او اتلوث، او انتحر. وفي النهاية فانا اتحصن بالكتابة ضد تعاسة حبي في هذا العالم.

* والكتابة الا ترى انها تمضي الى الابيض، الى الموت؟

ـ عبد الوهاب البياتي: طبعا الكتابة ككتابة ستختفي مثلما تختفي حرف كثيرة في هذا العالم اذا اعتبرناها مهنة او حرفة. اما اذا اعتبرناها فعلا ثوريا ومحاولة لتأكيد وجود غائب، وملئه فانها ستستمر وستأخذ اشكالا جديدة وربما لن تسمى كتابة في مثل هذا الحال؛ وانما هو يطلق عليها اسما جديدا. فالعمل الفني ليس هو الاداة او الشكل انهما احد اثواب العمل الفني النورانية. وستأتي عصور جديدة تغير هذه الاثواب النورانية باثواب جديدة. و ذلك:
عندما يصبح الانسان مليكا للافلاك السبعة/
وسديما لاخيه الانسان/
يرهن خرقته للخمار/
ويبكي مجنونا بالعشق

* انت اكثر الشعراء العرب انتشارا خارج الوطن العربي وقد اثبت شعرك عالميته لماذا تعزو ذلك؟

ـ عبد الوهاب البياتي: ربما يعود السبب الاول الى انني عندما اكتب قصيدة لااقصد كتابتها كما يعمد الشاعر البرجوازي، او غير البرجوازي الى كتابة قصيدة حسب الازياء والمواسم والفصول؛ فأنا افتح جرحي هكذا للريح وللشمس، واجعله ينزف. ولهذا فان هذه القصائد بالرغم من انها كتبت باللغة العربية ولكنها كتبت بلغة البشر المشتركة وهي اللغة التي اشار اليها "بول ايلوار" في كتاباته، اي لغة الانسان المشتركة، اللغة التي لاتتجه الى البيان والبديع بقدر توجهها الى اللحم الحي للتجربة الانسانية. هكذا كان الامر بالنسبة لي، والا ماسرّ، وما تفسير ان قصيدة " اولد واحترق بحبي " على سبيل المثال لا الحصر قد احدثت التأثير العميق نفسه في نفوس قارئيها ومستمعيها في كل اللغات التي ترجمت اليها. اذا ما وضعنا في نظر الاعتبار ان كل هذه الترجمات لم تكن في مستوى بالغ الروعة. فالشعر بالرغم مما يحيط به احيانا من غيوم قد تحجبه لكن يظل في داخله سيف البرق الذي يمزق احشاء الظلمة وينفذ الى كل مكان.