قال عنه الشعراء الموريتانيون إنه ولد ناضجا بالشعر، وأنه يمارس في شعره "الصوفية التقنية"، وأنه من الشعراء الذين أدركهم إيمان الصدق الفني.
وينظر إلى هذا الشاعر على أنه أحد أبرز الوجوه الشعرية الشابة في موريتانيا، وأكثرها جرأة في الطرح الشعري والطرح السياسي، إذ يعتبر اليوم من وجوه المعارضة الموريتانية البارزة، وأحد القيادات القومية العربية في موريتانيا.
أثرى ولد أبنو المكتبة الموريتانية بعدة دواوين شعرية ونصوص إبداعية مهمة تميزت بجمال اللغة والاستنطاق الشيق للتراث العربي.
من منفاه في باريس أجرت "الخليج" معه هذا الحوار عبر الانترنت:

* نبدأ من عملك السردي الأخير "أودية العطش"، فقد كتبت نصوصا نثرية، تحمل من الكثافة اللغوية ما يجعل القارئ يظن أنك تبحث عن أسلوب ثالث بين الرواية والشعر؟

- ربما. دعني أميز بين الشعر كجوهر ملازم للوجود الإنساني ما دامت ثمة حياة وحب وموت من جهة، ومن جهة ثانية الشعر كجنس أدبي أي كأي جنس أدبي تاريخي يظهر ويختفي وقد لا يعمر طويلا كالمقامة مثلا، وقد يكتب له كالحكاية أن يقاوم الزمن جزئيا أو كليا، ويتداخل ويتصارع مع الأجناس الأخرى التي تخضع لنفس القاعدة التجديدية يتقادم بعضها ويشيخ وأحيانا يموت أو يصل إلى حالة من فقدان الحيوية، أي من الترهل تشبه الموت، ليولد البعض الآخر بعنفوان جديد يناسب تجدد الحياة وبطاقة قادرة على الانخراط في زمنيتها أي في معاصرتها. الشعر جوهرا يخترق التاريخ، بينما الشعر جنسا ينتمي إلى مختلف الأجناس الأدبية الأخرى التي يحكمها التاريخ وتحكمها أكثر من ذلك تاريخية الثقافات التي تنتجها.
فالشعر كجوهر موجودٌ لدى كل الثقافات، أما كجنس فهو كالقصة والرواية والمقامة وغيرها قد يوجد في هذه الثقافة وهذه اللغة دون تلك، وقد يشكل جزءا من حاضر ثقافة ما، بينما تكون أخرى قد طمرته في ماضيها أو نفته في بعض جيوبها الطرفية. إذا قبلنا القيام بهذا التمييز الأولي بين هاتين الدلالتين المختلفتين للشعر فلندخر مصطلح شعر للمفهوم الأول، ولنطلق على الثاني مصطلح قصيد. الشعر بالمعنى الخاص الذي حاولت أن أوضحه قد يتحقق عبر القصيد أو عبر القصة أو عبر الرواية أو غيرها من الأجناس المعروفة حاليا أو التي قد تظهر أو تنتشر في المستقبل، بل لنقل بجسارة أكثر إن الشعر بالمفهوم الأول يمثل السقف الأعلى لكل الأجناس الأدبية ومن ثم فإني طبيعيا أحاول أن ألمس هذا السقف الشعري في نصوصي بغض النظر عن تصنيف هذه الأخيرة "أجناسيا"، كما بغض النظر عن وجاهة أي تصنيف قد يسقط عليها.

* في الأعمال ذاتها استحضار مركز للعامل التاريخي، الأسماء الأماكن، الأحداث... هل ترى أن استحضار هذه "المغيبات" التاريخية الماضية يأتي بدافع إبداعي، أم بدافع سياسي نظرا للواقع نفسه؟

- لا أميز بين الدافع الإبداعي والسياسي اللهم إلا إذا كان المقصود بالأخير هو الدافع التعبوي المباشر، فلأخير خطابه الخاص المتميز حديا عن الخطاب الإبداعي أو لنقل عن النص الإبداعي.. ولكن الدوافع العميقة والمحددات الجذرية لصاحب النص الإبداعي أيا كان الجنس الأدبي الذي عليه يتوكأ تتكشف لا محالة في نصه. ف"الإناء" الإبداعي "بالذي فيه يرشح"، "المسكوت عنه سياسيا" حاضر غير مرئي في المشترك الثقافي اللغوي كما في الخاص الذاتي واللامعجمي، والمبدع همه أن يهتك الحجب وأن يخترق معا أقنعة عقله الباطني الذاتي، وأقنعة العقل الباطني للمتلقي مفردا وجمعا، المحددات الجذرية لا تتجلى كما هي إلا في الأشكال التعبيرية الإبداعية بحصر المعنى، وأقصى ما تصله مستويات الخطاب الأخرى كالخطاب التعبوي أن تحاول ترجمتها بلغة غير اللغة الإبداعية وكل ترجمة كما يقال خيانة.

* وصف الشاعر الموريتاني الكبير محمد الحافظ ولد أحمدو قصيدتك بأنها محملة "بالصوفية التقنية أو الفنية" ، إلى أي حد توافقه الرأي؟

- قبل أن أجيبك دعني أؤكد أن الأستاذ محمد الحافظ شاعر كبير فعلا، وإذا ما كتب لأعماله أن تنقذ من الضياع فإن التاريخ سينتقم يوماً ما له.. فهو مظلوم بشكل مزدوج.. أولا ككل المبدعين الموريتانيين الذين تئدهم الصحراء وقطاع طرقها، ومظلوم ثانيا لأن علو سقفه التجديدي يخفى على الكثيرين ممن يتوقفون معياريا وليس وصفيا عند بعض حيثيات جزالته القاموسية.
أعود إلى سؤالك، أعتقد أنك تشير إلى الندوة التي نظمناها معا في المركز الثقافي السوري سنة 1990 رفقة الأستاذ محمد الحافظ ولد أحمدو وكذلك رفقة صديقنا الشاعر محمد سالم ولد الداه. وكان الأستاذ محمد الحافظ يشير بهذه العبارة إلى حوار مطول أجراه معي قبل ذلك بسنة في إطار البرنامج الإذاعي "المجلة الثقافية" الذي كان يشرف عليه. وكانت الزاوية التي انطلقنا منها هي قصيدتي " الأعاصير" التي افتتح بقراءتها البرنامج. سألني حينها محمد الحافظ كيف أميز ما يراه وأراه حينها تأثري أو ولعي بالشعر الصوفي عما سماه أدونيس بالصوفية الوثنية. والعبارة الأخيرة أوردها أدونيس في سياق لقاء بجامعة انواكشوط سنة 89 حيث وصف نفسه بالصوفي الوثني. وأنت تعرف النفس الصوفي العميق في شعر محمد الحافظ، كما تعرف أيضا أنه أبعد ما يكون عن الإعجاب بأدونيس. وفي ذلك ما يفسر خلفية الحديث. وقد فصلت ما حسبته المرتكزات النظرية لهذا في مقال نشرته في الصحيفة الوحيدة الموجودة حينها أقصد صحيفة الشعب وعبارة "الصوفية الفنية أو التقنية" جاءت في ذلك السياق لتمييز المستوى الذي نتغياه كوعي إبداعي وليس كغلاف إيديولوجي. الصوفية في المستوى الذي عنيته مجال فني للتجربة الإبداعية. منه تمتاح الرؤى وبه تستباح.

* في دواوينك المنشورة، وقصائدك التي رافقت شخصيا ميلاد الكثير منها، هناك دائما تشابك بين الهم الشخصي والهم العام للأمة، حتى القصائد الغزلية أرى فيها صورة الأمة أكثر مما أرى صورة امرأة عادية معشوقة؟

- الإبداع ذاتي أولا، ولكن كل ذات لا تحمل أو تجسد الواحد الفرد إلا بقدر ما تحمل أو تجسد المتعدد الجمع، إنه الخاص والمشترك وجها لوجه انفصالا واتصالا، الوجع الذاتي مثلا هو تجربة لفرد داخل جماعة، لا يعبر عنها إبداعيا كناطق بأناها الجمعي، ولكن يعبر عن تجربته بما هو فرد بالنظر إلى جمع، أي في ابتعاده اقترابه عنها ومنها. الإبداع يصدر عن الأنا لا النحن ولكن كل إفصاح عن الأنا هو إضمار للنحن تلقائيا، وكلمة الأمة في العربية تحيل تماما إلى هذا المعنى فكأنها تقول لنا الفرد أصل الجمع لا العكس. فهي تصوغ الأمة من الأم وكل ما هو أصل ومصدر وأول يسمى في العربية الأم. ومن الأم تصوغ لغتنا الإمام الذي يؤم ويتصدر أي الذي يكون مقدمة وأولا أي أمّا. إنه الواحد الذي يلد المتعدد وليس الذي يخضع له أو يأتمر بأمره أو يصدر عنه أو يمثل مجرد نتاج أو محصلة له. هذه الدلالة "المصدرية" أو الإيتمولوجية خصبة بمستوى الإبداع لأن الفرد لا يتبع الجماعة ولكن ينتجها، ليس رقما ولكنه ذات فاعلة وخلاقة ومبدعة

* أنت أحد وجوه الحركة الشعرية الموريتانية الحديثة، ماذا حققت هذه الحركة إن جاز التعبير، وما الذي يميز الجيل الجديد عن جيل الرواد؟

- أولا أغلب الذين احتككت معهم إبداعيا إما أن الصحراء وقطاع طرقها وسدنة أفاعيها قد قضت عليهم إبداعيا إن لم تكن قضت عليهم جسديا، وإما أنهم يعيشون اليوم ومنذ أكثر من عقد خارج موريتانيا بعضهم في البلدان المشرقية والآخر في إفريقيا وأمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. ثانيا لا نستطيع أن نتحدث عن رواد ما لم نحدد الإطار الزمكاني المعني، ولكن إذا حصرناه بالمحدد المجازي للدولة الوطنية الحديثة فيمكن أن نرى أن جيل الرواد هو جيل "نهاية الجيل''، جيل نهاية المفهوم الوثوقي القطعي للجيل، نهاية الانتماء الأدبي الببغائي، نهاية الانخراط.. الأصوات التي ظهرت في بدايات الدولة الوطنية كانت تسير في اتجاه أو اتجاهات موحدة أو مشتركة يمكن للدارس أو الناقد أن يرسم معالمها أو ملامحها العامة، أما ما تسميه الجيل الجديد فحتى صفة جديد إذا تجاوزت دلالتها الزمنية الخطية المحضة فقد لا تكون صفة مشتركة. "الجيل الجديد" صفة مجردة لأجيال لا يجمعها إلا عنصر السن والتزامن الخطي.. أغلب أصدقائي من مجايلي جزر متناثرة في بحار متباعدة قد لا يجمعها إلا هلال ونهار حميد بن مالك.

* تمكن بعض الرواد من الوصول للتعملق محليا على الأقل، ألا ترى أن الجيل الجديد في القصيدة الموريتانية عجز عن ذلك؟

- دعني أنظر إلى هذا الموضوع من زاوية مختلفة لأقدم الملاحظات التالية.. من نتائج العزلة المذهلة التي يعانيها الموريتانيون، والقهر والتهميش الذين يعاني منهما المبدعون الموريتانيون أننا نظلم أنفسنا، ونكرر بطرق أقل إبداعية معارك الفرزدق وجرير.. وهي معارك دفعت كثيرين إلى نوع من الزهد الإبداعي للابتعاد عن حروب أشبه بتناهش تائهي سفينة ضالة وجد أهلها أنفسهم في جزيرة معزولة.. ولعلك استطرادا تذكر أن سفينة "مديز" التي أكل ركابها لحوم بعضهم والتي ألهمت الرسام "جريكو" تاهت في الشواطئ الموريتانية. هذا المستوى الأول. في المستوى الثاني أنا عايشت عشرات الأصوات المتميزة التي طُمرت اجتماعيا وسياسيا. عرفت أقلاما كثيرة مبدعة واعدة تم القضاء عليها.. أحد الأصوات الأكثر جمالا في نظري ممن عرفت في الثمانينات التقيته منذ سنوات صدفة فقال لي إنه تخلى كليا عن الكتابة لأنها "لا تسمن ولا تغني من جوع إلا أعداءها''.. صديق آخر اضطر للهجرة وضاع وتاه في دول عديدة ثم نجح في التجارة ثم أبلغني صديق أن تجارته قد قضت في حروب إفريقيا ثم حالفه "الحظ" ليتيه من جديد غريب الوجه واليد واللسان في إحدى دول البرد والريح.. لقد أطفئت جذوته كما أخمدت جذوات المئات من أقراننا.. منهم من قضى نحبه ومنهم ينتظر.. كثيرون كرروا بشكل أو بآخر تجربة حرق أبي حيان لكتبه دون أن يوجد وراق واحد يحتفظ صدفة بنسخة ناجية من الإمتاع والمؤانسة.

* كيف تنظر للأدب النثري في موريتانيا، ألم يظلمه الشعر؟

- كلاهما مظلوم لأن كليهما غير منشور، وبالتالي فهما بالمقياس الفني المعاصر يكادان لا يوجدان، هذه كارثة، لم نستطع أن نقدم إلى العالم ولا إلى العرب شيئا ولو قليلا مما أنتجنا، بلاد المليون شاعر - على ما في هذا التعبير من مبالغة -كانت تحيل فعلا إلى ظاهرة إبداعية حقيقية وملفتة ولكنا طمرناها، لم نكتب ما أبدعه أهل هذه الأرض ولم نصفه نقديا.. حتى لو حدثت معجزة الآن وبعنا كل فلاهات "تفرغ زينة" وسياراتها اليابانية لنشر ما بقي فلن نتدارك شيئا ذا بال.. لقد كررت وأكرر أنه حدثت كارثة إبداعية في موريتانيا لا يشبهها دون أن يماثلها إلا ما تتعرض له اليوم المدن الأثرية ومكتباتها.. سيأتي اليوم الذي نصارح فيه أنفسنا والعالم بحجم الكارثة الثقافية التي حلت بهذا البلد.. ويومها سنخجل من التباهي بأنا بلاد مليون شاعر.

* ظلت القصيدة الموريتانية حتى السبعينات من القرن العشرين قصيدة "جاهلية" لغة وبيئة، والبعض يقول إنها ولجت الحداثة بمفردات تلك اللغة.. هل توافق هذا الرأي؟

- هناك بفعل صدمة الآخر الأوروبي لدى الدارسين ولدى بعض الكتاب الشعراء وغيرهم انبهاران وكلاهما يصدر عن عقلية تقليدية، أي عن عقلية لا تعرف إلا أن تقلد وتجتر. الانبهار الأول بالماضي والثاني بالآخر. هذه عقلية الانبهار السلعي. عقلية قادرة على استهلاك المنتجات السلعية للحداثة وبها تتباهى ولكنها عاجزة عن الانخراط الحداثي العميق لأنها عاجزة عن الإنتاج أي عن الإبداع. إنها عقلية المحاكمة الصورية التي لا ترى الإبداع وإنما بعض "موضاته" السلعية التي تتخذها معيارا. هذه العقلية هي السائدة اليوم ليس فقط لدى "النخب المصدومة" الموريتانية بل لدى أغلب النخب المهيمنة في العالم العربي، الواقع أن الظاهرة الأدبية الصحراوية حالة استثنائية لم تدرس بعد جوهريا ولا يمكن اختزالها في أحد منابعها كالمنبع الجاهلي والمنبع الأندلسي أو غيرهما.

الخليج
2005-11-14