كان اختراع الحروف ومعرفة الكتابة أهم حدث في تاريخ البشرية، فالحضارة لم تبدأ إلا بعدما سطّر الإنسان بالخط أفكاره وآثاره.
يقول القلقشندي في صبح الأعشى (ص5): «الخط واللفظ يتقاسمان فضيلة البيان ويشتركان فيها، من حيث أن الخط دال على الألفاظ والألفاظ دالة على الأوهام... وذلك أنهما يعبـران عن المعــاني، إلا أن اللفـظ معنى متحرك، والخط معنى ساكن، وهو إن كان ساكناً فإنه يفعل فعل المتحرك، بإيصاله كل ما تضمنه إلى الإفهام وهو مستقر في حيّزه قائم في مكانه».
ويروى عن النبي الكريم قوله: «قيّدوا العلم بالكتابة».
يقول جورج سارتون في كتابه «تاريخ العلم» (ص 76): «إن المصريين الأوائل هم الذين اخترعوا الكتابة، باستعمال صور للتدليل على أشياء أو أفكار، ثم تطورت هذه الطريقة عندهم فأصبحت الصورة تمثل كلمة، ثم استعلمت الرموز وهي أشكال أو أجزاء من صورة للدلالة على الكلمات», وقد تنوعت الكتابة المصرية القديمة، فمنها الهيروغليفية المستعملة في النقوش، والهيراطيقية وهي الخط المستعمل على ورق البردى، والديموطيقية التي تستعمل في كتابة اللهجة العامية.
ومن المصريين أخذ الفينيقيون الحروف القديمة وعددها خمسة عشر حرفاً وأسسوا عليها حروفهم، تؤكد ذلك نقوش عثر عليها «تبري» عام 1905 في شبه جزيرة سيناء، حيث كان للفراعنة مناجم فيروز، تشكّل حلقة الوصل بين الكتابة المصرية القديمة والخط الفينيقي القديم. وكما يشير «عمانويل دي روجر» في أبحاثه عام 1859 إلى أن الحروف الفينيقية مشتقة من الهيراطيقية.
ومن الحروف الفينيقية اشتق الآراميون خطهم ثم نقلوه شرقاً إلى الهند، كما انتشرت الحروف الفينيقية غرباً فاشتق اليونان منها حروفهم، وهم يعترفون أن الأبجدية الإغريقية تُعزى إلى الفينيقية، وهي أيضاً مصدر الأبجدية الرومانية – اللاتينية...
ثم جاء الأنباط، وهم عرب سكنوا مدين، وما جاورها شمالي البلاد العربية، وأغاروا على الآراميين بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، ومن آخر صورة لخط النبطي استعار العرب خطهم، بين منتصف القرن الثالث وآخر السادس الميلادي، وقد قال آخرون أن الخط العربي وصل الحجاز من الحيرة والأنبار، وهو ما يشير إليه ابن خلدون (ج1 ص 349) «بأن الخط الحميري هو أجود ما وصلنا من دولة التبابعة، ومن الحيرة لقنه أهل الطائف والحجاز».

*

المصري (هيراطيقي) الفينيقي الآرامي النبطي الحيري العربي.

*

والحروف العربية غير منقوطة مثل الحروف النبطية تماماً، كما أن الفتحة الممدودة في الكلمات العربية لم ترسم الفاً، في كلمة كتاب أو ثلاثين مثلاً، إذ كانت تكتب من دون ألف مثلها في الكتابة النبطية، وأسماء الأعلام المنونة في العربية كانت تنتهي بحرف واو، كالنبطية، ثم اختفت ولم تبق إلا في «عمرو» فقط.

*
انتشرت الكتابة في الجزيرة العربية بعد حرب الردة، ولما فتحت البلاد الفارسية، كان في الحيرة كثيرون ممن يعرفون الكتابة فانتقل بعضهم إلى المدينة ليعلموها أبناءها، وقد كلف النبي الكريم فقراء أسرى بدر أن يعلم من يعرف الكتابة منهم عشرة من صبيان المدينة فدية لهم، والإسلام ساعد، من ثم، على انتشار الكتابة.
وهكذا اهتم الخليفتان الراشديان أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان بجمع القرآن وكتابته، وتوزيع نسخ موحدة على الأمصار، وخط القرآن حينذاك كان خالياً من النقط والحركات، والمشهور إن اختراع ذلك كان في زمن الخليفة عبدالملك بن مروان، ذلك انه لما كثر التصحيف واللحن، خصوصاً في العراق، التبست القراءة على الناس لتكاثر الأعاجم من القراء، واللغة العربية ليست لغتهم، فصعب التمييز بين الأحرف المتشابهة، وهنا يذكر فضل الحجاج وأبي الأسود الدؤلي وغيرهما في وضع النقط (أي الأعجام) والحركات.
والغريب إن هذا الأمر لاقى معارضة من البعض، إذ كان أمثال الإمام مالك بن أنس يرونه ازدراء بمعرفة المكتوب وفهمه. وينقل أن أبا نواس هجا رجلاً بعث إليه برسالة أكثر فيها من الاعجام والإعراب، لأنه شعر في الأمر إهانة له، فأنشد:
«يا كاتباً كتب الغداة يسبني/ من ذا يطيق براعة الكتاب
لم ترض بالاعجام حين كتبته/ حتى شكلت عليه بالإعراب
أحسست سوء الفهم حين فعلته/ أم لم تثق بي في قراء كتاب
لو كنت قطعت الحروف فهمتها/ من غير وصلتهن بالأنساب».
والخط العربي في مسيرته التاريخية هذه وصلنا في ستة أنواع (أقلام) رئيسة هي: الثلث والنسخ والرقعة والديواني والفارسي والإجازة أو التوقيع، وهي الأقلام الستة التي يعرفها الخطاطون معرفة تامة. كما أن هناك خطوطاً عرفت بأسماء الأمكنة التي ظهرت فيها كالمكي والحجازي والكوفي... وهذا الأخير يعود بأصله إلى الخط الحيري ثم جوّده أهل الكوفة، وبه كانت تكتب المصاحف وتسك النقود وتزخرف جدران المساجد.
والثلث أم الخطوط، يليه الفارسي، وأول من وضع قواعد الثلث الوزير ابن مقلة، وكذلك النسخي، الذي اشتقت قواعده من الخطين الجليل والطومار، وقد أسمي البديع ثم النسخي لكثرة استعماله في النسخ.
أما خط الرقعة فهو الأسهل، والديواني يأتي بعده، وهو قسمان: ديواني رقعة وديواني جلي، الأول خالٍ من الشكل والزخرفة ولا بد من استقامة سطوره من أسفل فقط، والثاني تتداخل حروفه، وسمي الديواني لأنه صادر عن الديوان الهمايوني السلطاني، فكل الأوامر والانعامات والفرمانات تكتب به، وكان في الخلافة العثمانية سرّاً من أسرار القصور لا يتقنه إلا الخطاطون المقربون من السلطة.
والخط الفارسي جميل بهي المنظر، وهو ثلاثة أنواع: الأول المعروف عندنا وقد وضع قواعده التبريزي عام 919 هجرية وحسّنه الشيرازي، والثاني والثالث كالطلاسم يعرفان فقط في بلاد فارس.
أما التوقيع أو الإجازة، وهو ما كان بين الثلث والنسخ، فوضع قواعده الشجري زمن المأمون، ثم أدخلت عليه تحسينات.

المراجع :

تاريخ الخط العربي وآدابه – محمد طاهر بن عبدالقادر الكردي – القاهرة 1939.
انتشار الخط العربي – عبدالفتاح عبادة – القاهرة 1915.
الخط العــربي – أنيس فريحة - بـيـروت 1961.
الخط العربي – زكي صالح – القاهرة 1983.
المدخل إلى علوم القرآن – محمد أمين فرشوخ – بيروت 1995.
أستاذ جامعي لبناني.

الحياة - 2005/05/14