عباس بيضون
(لبنان)

أمجد ناصر(الحياة كسرد متقطع) حاجة في شعرنا. إذا كان أمجد ناصر يريد ان يصل إلى الشعر عن طريق النثر فقد فعل هذا وعكسه. وصل أيضا إلى الشعر عن طريق النثر. هذا الجدل هو محرك كتابه الجديد. لقد نقل تمرسه بالشعر واللعبة الشعرية إلى الفضاء النثري، ليست شعرية النثر وحدها الموضوع هنا، بل إعادة وتجديد السؤال الشعري عمل كهذا من المهم ان يستولد سجالا، وليس غرض هذا الحديث سوى التحريض عليه.

* في مجموعتك الشعرية هناك نزوع إلى التجريب بلغات وجمل متعددة، هذا مزاج أم اختيار محسوب.. هل تعتبر نفسك تجريبيا وهل للتجريب قيمة بحد ذاته، أم هو محاولة لتوسيع الحيّز الشعري؟

- النزوع للتجريب قائم عندي كما هو قائم عند معظم الشعراء، أو لأقل عند الشعراء الذين تعنيهم قضية الشعر، وتؤرقهم أسئلته. نادرا ان تجد شاعرا مهتما بسؤال الشعر وقضيته وليس فيه شيء من التجريب. التجريب، في كل حال، هو تعبير عن قلق ذاتي وموضوعي في آن، كما انه رفض، بطريقة أو أخرى، لما هو قائم. لماذا تجرب إذا كنت تألف وتطمئن تماما إلى ما تعرف وما يتواضع عليه الآخرون؟ المطمئن إلى ذاته وأدواته وعالمه هو الذي لا يجرب.. فلماذا يجرب والطمأنينة تسري في قوله وموقفه من العالم. قد يبدو التجريب لعبة لا قصد لها سوى ذلك.. ولكني أظن انه ابعد من اللعب واستعراض المهارات.. انه قلق. وزحزحة عن السياق والثبات اللذين لا يفسحان مجالا لهواء ودم جديدين.
بهذا المعنى اعتبر نفسي تجريبيا.. فأنا أصلا انقلبت، باكرا، على ما كان سائدا في الكتابة الشعرية.. ومذ ذلك وجدت نفسي خارج التلقي العام. ليس لي، أصلا، حصة في هذه السوق، فصارت علاقتي بالشعر شخصية تماما. أي إنني أكتب ما يرضيني ولكن هذا لا يعفيني من المسؤولية، إن كانت هناك مسؤولية أصلا، حيال وضع الكتابة الشعرية، فرغم أنني اكتب في وضع تام من العزلة وإحساس بعدم وجود التلقي، إلا ان تجريبيتي ظلت في حدود ما هو تجريبي أصلا في الشعرية العربية. فقد كتبت ودافعت عن سياق شعري معين ضد سياق آخر، وخضت مع غيري حروبا من أجل ان تتقبل الثقافة العربية خيارنا الشعري الذي بدا وكأنه من خارجها.
وهذا يعني، في ما يعني، ان التجريب هو أيضا توسيع للحيز الشعري وطرح اقتراحات على الشعرية.

* آخر مجموعاتك (مرتقى الأنفاس)، لا تنم عما ستصل إليه في الحياة كسرد متقطع، بالعكس يبدو انك وصلت في الأولى إلى نهاية مقلب وانتقلت في الثانية إلى مقلب مختلف. ان لم يكن العكس، كيف حدث انك وصلت في فترتين متتابعتين إلى طريقين شعريين متعاكسين، أو على الأقل مختلفين إلى هذا الحد؟

- اذكر، انك أنت نفسك، كتبت حيال (مرتقى الأنفاس)، تقول ان هذا الكتاب نوع من الاكتمال، ولا بد ان الشاعر في سبيله إلى رحلة أخرى .لماذا تنبأت بذلك؟
لماذا؟
لأنك لاحظت هذه النقلات بين الأعمال عندما جمعت في مجلد واحد. أنا شخصيا لاحظت ان كل مجموعة تنتهي بما يشي ان هناك طريقاً آخر للمجموعة اللاحقة، خذ مثلا (مديح لمقهى آخر)، لقد ضم ما سيشي بهذا الانقسام والانقلاب على الذات. كان يمكن ان يكون، لو أنني أضفت إليه كل القصائد التي كتبتها في الأردن قبل مجيئي إلى بيروت، موزونا تماماً. حينها كنت اكتب قصيدة الوزن.. ولكن بيروت غيرتني. فجاء الكتاب الأول حاملا لبذرة الانقسام التي سترافقني طويلاً. تذكر انه ضم في ثلاثة أرباعه قصائد موزونة وفي ربعه الأخير قصائد نثر أو لأقل قصائد تتحرر من الوزن.
كان يمكن ملاحظة الوجهة القادمة من الربع الأخير من قصائد الكتاب. صحيح إنني لم اعد إلى الوزن في الكتب اللاحقة، ولكن الكتاب الثاني (منذ جلعاد)، لا يشبه كثيرا الكتاب الثالث (رعاة العزلة)، من حيث الكتابة والموضوعات، كما ان وصول (الغرباء) كتابي الرابع كان يحمل، عندما صدر عن دار رياض الريس في لندن عام 1990، بذور الكتاب اللاحق (سرَّ من رآك) ، بل إنني ضممت إلى سر من رآك قصيدتين أو ثلاث قصائد من وصول الغرباء أبرزها القصيدة الطويلة، (وردة الدانتيلا السوداء)، ثم ان (مرتقى الأنفاس) كتاب شعري يذهب إلى موضوعة تاريخية هي سقوط غرناطة، وبهذا فهو يختلف تماما على أعمالي السابقة سواء من حيث الموضوع أم شكل الكتابة وأفق تحركها.
أليست هذه انتقالات أيضا، انها ليست سلسلة مترابطة كخرز الدرع. لست شاعراً يواصل كتابة قصيدة واحدة، ولا مشروعاً واحداً، ولا شاعرا ينضبط إلى سياق، بل لعلني شاعر مزاج وقلق. هل يجعل هذا مني شاعرا تجريبيا، أو شاعرا بلا صوت منتظم وعالم متواصل، قد يكون الأمر كذلك. ولكن هذا ليس صحيحا تماما. فقد ظلت هناك ثيمات وظل هناك قاموس وظلت هناك جمل تتواصل من عملي الأول إلى عملي الأخير. لعلني شاعر عالم واحد ولكني أحفر فيه كل مرة، من طبقة ووجهة مختلفة، وبأدوات مختلفة.
ثم، أخيرا، لا تنسى ان (مرتقى الأنفاس) مكتوب، تقريبا، في منتصف التسعينيات، ولم اصدر كتاباً شعرياً مذ ذاك. أي ان هناك نحو عشر سنين مضت على كتابة هذا الكتاب، وجاء بعده كتاب صغير آخر، مختلف أيضا، هو تلكأت في إصداره لأنني شعرت انه صار بعيدا عن مزاجي الشعري بعد ان بدأت في حياة كسرد متقطع ، والمفارقة انه سيصدر هذه الأيام في عمان.
غير أنني لن أسلسله بعد حياة كسرد متقطع بل قبله، حتى وان صدر بعده بشهر أو شهرين تقريباً.

الشعر الحر

* لا نشك ان الحياة كسرد متقطع، كما يقول احد نقادك محمد علي شمس الدين ذو وجه نظري ونقدي للشعر. يمكننا القول، إذن، انك لم تصل إليه بالمزاج وحده، بل بقدر من التأمل في الشعر، ما هي دواعيك إلى ذلك.. اقصد الدواعي النظرية؟

- حسنا، لست من الذين يحسنون التنظير للشعر، ولكنني، في المقابل، لم اكتب شعرا مزاجياً خالصا قط، أي أنني، منذ كتابي الأول، وأنا مشغول بسؤال الشعر. وكل انتقالاتي، أو قفزاتي إذا شئت، كانت مدفوعة بهذا الهاجس. رأيي في الشعر والشعرية كنت اعبر عنهما بالشعر نفسه. ثمة من يستطيع ان ينظّر ولا يأتي التنظير قريباً من كتابته. لدينا الكثير من هؤلاء، أصحاب البيانات الشعرية، وأنا، لا اقلل من قيمة ذلك، ولا اعرّض بهم.
ولكنني نادرا ما رأيت القصيدة صاحبة البيان النظري مطابقة للبيان نفسه، قصيدتي معاكسة لذلك تماماً. انها تفكر في الشعر وهي تكتبه. تفكر في وجهته، موضوعه، أسلوبه حتى وهي تخوض فيه. لكنها لم تصل في وقت من الأوقات إلى درجة البيان الشعري، إذا جاز القول، إلا في هذه المجموعة الأخيرة.
دعني أقول أنني سعيد لأن أول استجابة نقدية تجاه الديوان جاءت ليس فقط من شاعر عربي مرموق مثل محمد علي شمس الدين، بل من شاعر راسخ في قصيدة الوزن، وربما، لم يكن على علاقة جيدة مع قصيدة النثر السائدة.. أسئلة محمد علي شمس الدين حول الكتاب والكتابة شديدة الأهمية انها أسئلة الشعر من شاعر تؤرقه قضية الكتابة. شاعر على درجة عالية من الحساسية، حيال القصيدة. لقد أسعدتني مقالته، وربما، طمأنتني إلى ان الأسئلة التي اطرحها على نفسي هي نفسها التي طرحها عليَّ وعلى نفسه أيضا. فهو اعتبر الكتاب برمته نوعاً من البيان الشعري، وهذا عمليا، صحيح.
لم تكن الصدفة البحت هي التي قادتني إلى هذا العمل، بل الانشغال الطويل بسؤال الشعر، وتحديدا سؤال قصيدة النثر ورأيي في الأمر كالتالي: ان معظم ما يكتب تحت يافطة قصيدة النثر عربيا ليس قصيدة نثر بالمعنى الاصطلاحي الغربي Prose poem بما ان منشأ قصيدة النثر غربي أصلا، بل هو اقرب إلى ما يسمي في الغرب الFree Verse أي الشعر الحر.
ما هو الفرق، فعلا، بين قصيدة النثر في النسخة العربية (أو في الغالب الأعم من هذه النسخة) وبين الأصل الذي جاءت منه؟ انه فارق كبير. ولكني دعني اسأل قبل ذلك. ما هو الفارق بين قصيدة النثر العربية، وبين قصيدة التفعيلة، الفارق ليس كبيرا. الأولى لا تحمل وزناً ولا قافية، بينما الثانية تفعل ذلك!
أنت تعرف ان قصيدة النثر الغربية لا تكتب، أبدا، ولا هي قريبة، قطعا، من النسخة العربية. أول الفوارق شكلي. انه تقطيع القصيدة وصفها على الصفحة، أي طالب أوروبي أو اميركي في الثانوية يعرف، من مجرد النظر إلى الصفحة، الفارق بين قصيدة النثر والشعر الحر. فالأولى تكتب على شكل كتلة نثرية على الصفحة.. بينما قصيدة النثر العربية، في مجملها، لها تقطيع يشبه تماما. تقطيع قصيدة التفعيلة.
هذا أمر لاحظته بعد سنين من الإقامة في الغرب والاحتكاك بشعراء غربيين، والقراءة في مهرجانات غربية. ولكن هذا ليس هو الفارق أو السور الصيني العظيم الذين يفصل القصيدتين عن بعضهما البعض.. فالأمر يتعلق كذلك بعالم القصيدة نفسها، باللغة. كأن طموح الشعر هنا هو النثر وليس العكس، حيث ستجد عالم النثر قائماً بما يعني السرد، ولكنه ليس نثرا إخباريا وظيفيا، بل هو نثر مشعرن إذا جاز التعبير، أي النثر الذي يخترقه توتر الشعر وتثوي في أعماقه، لا على سطحه، جمرة الشعر.
هذه أمور فكرت فيها كثيراً في السنين الأخيرة. كيف يمكن ان تصل إلى الشعر عن طريق النثر؟ أو كيف يمكن ان تزج النثر في الحقل المخصوص للشعر؟ قصيدة النثر العربية، السائدة، لا تفعل ذلك تماما. فعالمها ليس نثرياً ومادتها ليست، تماماً، نثرية.. هنا ارجع إلى الشكل مرة أخرى. فالسطر الطويل والجملة الطويلة الملتفة التي لا يمكن تقطيعها على شكل قصيدة التفعيلة يمكن لهما ان يستضيفا عالم النثر، بما يعني الحياة النثرية وما هو مستبعد لأسباب جمالية، من القصيدة. وفي هذا الخصوص، قرأت مؤخراً قصائد عربية، ذات سطر طويل.. وذات كتلة، تبدو نثرية، على الصفحة.. ولكن هذه الجملة الطويلة يمكن تقطيعها من دون أي ضرر يلحق بشكلها ونفسها في شكل قصيدة التفعيلة. فالسطر الطويل في هذه القصيدة التي تدعي شكل قصيدة النثر له تجهيز إجباري. فهو، كجملة ونفس ومعنى، ينقطع في منتصف الصفحة. التواصل في السطر والكتلة مفروض من الخارج بينما هو عندي في حياة كسرد متقطع تلقائي ومتدفق بشكل طبيعي، ومن المستحيل تقطيعه أو صفّه بطريقة أخرى. هذا الفارق هو الذي يجعل حياة كسرد متقطع أكثر نثرية من كل أعمالي السابقة.

* ولكن ماذا عن عالم هذه المجموعة؟

- عالمها، أيضا، مختلف، انها تتضمن استجابة إلى أصوات خفيضة غير مدونة، أو لا تجد سبيلا إلى التدوين، الشعري خصوصاً، باعتبارها ليست من عدة الشعر وعتاده.
ان التعالي الجمالي، للقصيدة العربية، ما بعد المرحلة الكلاسيكية، أو ما سميناه بالشعر الحر، هو الذي جعل شاعرا، مثل محمد الماغوط يحتل، دفعة واحدة، حيزاً كان شاغراً في الشعرية العربية المعاصرة. ولكن قصيدة النثر، العربية لم تواصل طريق الماغوط ونثريته، فظل قسم لا يستهان به منها يعتصم بترفع جمالي ولغوي لا يختلف كثيراً عما هو عليه في الكلاسيكية العربية...طبعا لم يكن هذا قصد قصيدة النثر حتى عند بودلير.. بل العكس تماما، فهو، بوصفه والد قصيدة النثر الغربية كان يحاول الخروج من ارستقراطية الشعرية إلى بورجوازية النثر، بحسب وصف الناقد الأميركي جوناثان مونرو. كان النثر هو الوحيد القادر علي استضافة الهوامش والفقراء.. أي انه ايديولوجيا كان في مواجهة الشعر ذي الفضاء الارستقراطي. هل فعلنا في قصيدة النثر العربية هذا؟ أي هل كانت قصيدة هوامش الحياة وبشرها الساعين في مناكبها؟ لا أظن.

* أيضا، في المجموعة الجديدة تنتقل إلى لغة نثرية، ليس فقط بسبب صياغتها النثرية: السرد، الاستنتاج، البرهان، التقرير، وإنما، اعتمادك على الصورة النثرية، التي هي الكناية أو الصورة المأثورة والمتداولة.. أي انك تختار النثر بجملته وأسلوبه وصورته، في هذه الحالة أين نجد الشعر؟

- كنت أريد ان اكتب في هذا الديوان، قصيدة هي أقرب ما يكون إلى ما أقوله وأفكر فيه واسمعه في المقهى والشارع، هناك موضوعات لم أستطع ان أفكر فيها شعريا في الشكل السابق الذي كتبت فيه قصائدي. وهذا سيرجعنا مرة إلى سؤال الشكل باعتباره جوهرا أو أمرا عضويا في القصيدة. لماذا لم أستطع ان أكتب عن القبلة مثل ما كتبت بالعرض والتقرير والاستنتاج والكنايات التي أشرت إليها إلا في هذا الكتاب؟ باختصار لأن الشكل السابق لم يستطع ان يقدم لي مثل هذه الخدمة. لقد كتبت شعرا في النثر. هذا تناقض ظاهري أعرفه.. وطرح من قبل، ولكن هذا التناقض، بالذات، هو أحد خصائص قصيدة النثر. ولا سبيل إلى حله. بل ربما لا ينبغي حله.. أو البحث له عن حل. ولكن الشعر لا يوجد فقط في شكل القصيدة السائدة وموضوعاتها.. بل يمكنك ان تجده في نثر واسع وعريض في المدونة النثرية العربية التراثية.. لماذا قال بعض العرب القدماء عن سور من القرآن انها شعر رغم انها نثر؟ لأن جوها، تجليها، الحالة التي تنقلها إلى القارئ، أو المستمع، هي شعر أو قريبة من الشعر. بالطبع لم أفكر في الأمثولة القرآنية وأنا أكتب، بل في اليومي والراهن والمعيشي، وكذلك في مخزون الذاكرة الشخصية.. أردت ان اكتب هذا من دون تعال جمالي أو اعتصام ببرج عاجي مخصوص للشعر كجنس.. كنوع، متعارف عليه. هل هذا ممكن؟ لا أدري تماما. ولكنني حاولت ذلك.

* هل يمكننا عبر شعرية النثر الوصول إلى نوع آخر من الشعرية. شعرية ذات تراث وتجربة كبيرين. أي نصل إلى نوع آخر من الشعر، إذا كان مهما بعد ان نسميه شعرا؟

- تلاحظ، عزيزي عباس، ان كل أسئلتك تشكيكية. ولا أجد غضاضة في ذلك. ولكن حتى عندك لم تلق هذه المجموعة أو هذا الكتاب الشعري أو هذا الديوان، سمّه ما شئت قبولاً مريحا، أو هيناً.
هناك قلق في نبرتك استغربه عن صفاء الشعر. كأنك تذود عن حياض المستقر والثابت. أو كأنك تشكك في إمكانية ان يصل الشعر عبر اللغة، بوسيط مثل النثر.
لست منزعجا من هذه الأسئلة ولكنها تطرح عندي، مرة أخرى، فكرة استقرار الأنواع وثباتها وخصوصا الشعر، وهذه أسئلة لا نطرحها كثيرا على نوع أدبي مثل الرواية أو القصة، أو فنون أخرى مثل الفن التشكيلي والسينما. افهم ذلك لأن الشعر ببساطة هو تراث عربي عريق وأنا لست ناكرا لهذا التراث، بل المشكلة، إنني من الذين يهتمون به.
كل سؤال عن أجناس أدبية، أو فنية أخرى نقبله، ولكننا نتريث كثيرا عند الشعر، لأن في المساس بالثابت والمنجز نوع من المساس بالذات. اسمح لي، مع ذلك، ان أقول أننا يمكن ان نصل إلى الشعر من طريق النثر، من دون خلط الأنواع تماما، ولكن أيضا، من دون الدفاع المستميت عن الأنواع.
الأنواع ليست مقدسة بحيث لا يمكن تخطي حدودها.. بل هي تعرضت حتى في شعريتنا إلى تغيرات كبيرة بحيث لا يمكن لشاعر أو قارئ من عشرينيات أو ثلاثينيات القرن الماضي ان يتصور ان الشعر العربي يمكن ان يصل إلى هذه الحدود.
ولكن التواضع على تحديدات معنية للأجناس الأدبية أصبح عسيرا جدا حتى في الغرب.. فليس هناك مثلا، تعريف جامع ومانع ينفي كل لبس على الFree Verse، مثلما يصعب أكثر وضع تحديد جامع ومانع لقصيدة النثر Prose Poem. وهذا يعني ان الشكلين متحركين، ومتجددين، على عكس ما يراد له عربيا. فالوزن (اقصد التفعيلة) استقرت على حدود معينة.. لقد اكتفت، بقناعة شديدة، بالبحور الصافية ذات التفعيلة الواحدة.. ونادرا جدا ما تجاوزت ذلك.

اقتراح

* هذه المحاولة أين تجد أسلافها أو أشقاءها الشعريين العرب وغير العرب؟

- عربيا، لا اعرف، ولكن غربياً هناك ما يشبه ذلك، خصوصاً في قصيدة النثر الأميركية التي هي الأنشط غربيا اليوم.

* هذه محاولة راديكالية وذاهبة نهائيا في العمق، هل يعنيك بعد الدفاع عنها على انها شعر ومحاولة التدليل على ذلك، أم ان لا فرق عندك، وقد تتصرف مثلما تصرف جاك بريفير حينما أثقلوا عليه بالكلام عن ان ما يكتب ليس شعراً، فكان ان عنون احد كتبه نثر وهل يحتمل عنوانك حياة كسرد متقطع ردا كهذا؟

- لم أكن اعرف ان بريفير يكتب نثراً وليس شعراً. أنا لا أعرف الفرنسية.. ولكننا في العالم العربي لم نعرف بريفير إلا شاعرا سواء كانت ترجماته جيدة أم لا. هذا يعني انه حتى وان كان بدا للبعض في فرنسا انه لا يكتب شعرا، بالمعنى المألوف للكلمة، فهو لم يتم التعامل إلا كشاعر.
وبصرف النظر عن المقارنة، بين الشخصين أو الكتابتين، فأنا لا اخفي ولا أتنصل من ان ما اكتبه هو شعر في النثر. اعني لم أتنصل من النثر.
لقد جئت مما يسمى عربيا قصيدة النثر ، اعني إنني، أصلا، واقع تحت هذه الطائلة، وتحت هذه التهمة: النثر. ولكنني لم أصل أبدا إلى هذا الحد من النثر إلا في هذا الكتاب.
هذا الكتاب فعلا مادته وقوامه هما النثر ولكن جمرته الخفية أو مقصده هو الشعر. أعي التناقض الذي أوقع نفسي فيه. اعرف إنني أدافع عن كتابة لم تأخذ هذا المنحى النثري من قبل ويصر صاحبها، في الوقت نفسه، على انها شعر.
قد أصل إلى الحد الذي لا احفل فيه بما يقوله الآخرون عن هذه الكتابة. ولكنني لم أصل إلى هذا الحد بعد، ما زال يعنيني ان أدافع عن خياري هذا في إطار الشعر، من دون ان افرض شيئا على الآخرين. دعني اسميه اقتراحا شعريا ليس أكثر.
ثم لا ادري ان كان جواب الشاعر الفرنسي جاك بريفير في عنوان كتابه مشابها لعنوان كتابي. فلم أواجه بأسئلة كهذه من قبل في خصوص أعمالي السابقة. ولكن ربما يتوجب علي ان أوطد النفس عليها منذ الآن. حياة كسرد متقطع يشبه في كلمة واحدة عنوان بريفير انها سرد. كأن سرد هنا، تعني، بالضبط، كلمة نثر .. التي استخدمها بريفير.. ولكن لم اقصد هذا بالضبط.. قصدت ان الحياة هي مثل سرد، ولكنه ليس متصلا، ومتواليا ومتتابعا، بل سرد يتقطع. انه مثل سرود الواقع المشظاة، ومثل سرود الذاكرة أيضا.

* ما هي الردود التي تلقيتها أو تتوقعها على كتابك. هل تتوقع تجديداً للسجال حول الشعر، علما ان هذا السجال يكاد يكون متوقفا، وربما الابتكار متوقف رغم كل المظاهر.

- الغريب أنني ألقيت كثيرا من قصائد هذا الكتاب في ملتقيات شعرية عربية، وكانت ردود الفعل مستحسنة، ولكنها عندما صدرت في كتاب ران صمت حولها لم يحط أيا من أعمالي السابقة.
ربما تفيد الملاحظة هنا ان أول كتابات قرأتها في نقد الكتاب أو في الكتابة عنه لم تكن من نقادي المعهودين. أول مقال هو كما أسلفت لشاعر لم يتطرق من قبل، رغم انه كتب في نقد الشعر، هو محمد علي شمس الدين، إلى أي من أعمالي السابقة، بل كان يخالجني الظن انه يقف منها في الوجهة المقابلة. كان هذا مدهشا حقا.
مقال آخر اعتبره مهما وحمل قراءة حقيقية للعمل هو للشاعر السوري عابد إسماعيل الذي تابعت نقوده في الشعر في الصحافة العربية ولكني لا اعرفه شخصيا، ولم يكتب شيئا عن أعمالي السابقة.
تعرف ان شمس الدين كتب عما يحمله الكتاب من رؤية للشعر، وحول الأسئلة التي افترض ان الكتاب يطرحها على المشهد الشعري العربي، بينما لم يتوقف عابد إسماعيل عند ما أثاره شمس الدين إلا في جملة واحدة في ختام المقال يقول فيها ان هذا الكتاب يضيف حساسية جديدة إلى قصيدة النثر العربية.
أي انه اعتبر وقوع هذا الكتاب في حيز الشعر مفروغا منه ولا يحتاج إلى وقفة، فصرف باقي المقال، وهو طويل، في الحديث عن البنية الدرامية والحكائية، التي يتضمنها الكتاب.
هذا يعطيك فكرة عن نوعين من المقاربة النقدية للكتاب، وان كنت أتوقع ان أسئلة شمس الدين ربما تكون الغالبة على رد الفعل.
هذا من دون ان ننسى ان الكتاب مقدم أصلا من طرف ناقد أساسي في شعر اللحظة العربية هو صبحي حديدي، الذي كان مدركا تماما للإشكالية التي قد يطرحها الكتاب خصوصا لجهة الجنس الأدبي. فشدد في كلمته الدقيقة على كونه قصيدة لا قصة أو أقصوصة شعريتين.
أما بخصوص بعث السجال في الشعرية العربية فلا أتوقع ان يفعل كتاب واحد هذا الأمر.
اتفق معك على توقف السجال، بل ربما على موته في كثير من قضايا الحياة العربية. انها لحظة رجراجة ومهزوزة لا يكاد يثبت فيها شيء. لحظة لم نعرفها من قبل، ولا ادري ان كانت ايذاناً بانطلاق رؤى وتصورات جديدة أم انها ستفضي إلى موات فعلي.

أكثر من ضفّة

* ماذا بعد هذه المحاولة التي يبدو وكأنك وصلت إلى نوع من الذروة، والى الأقصى، إلى أين سيصل الأمر؟

- لا ادري إلى أين سأصل، ولكن المؤكد، حتى الآن، ان مزاجي الكتابي لا يزال في جو هذا الكتاب. هناك حالة دفع قوية ما أزال مندرجاً فيها، ولا اشعر أنني استنفذتها.
وبقدر ما هذا الكتاب كما تقول ذروة وحدّ أقصى، فهو أيضا بداية. فكيف تستقيم البداية. مع الذروة، أجد الأمر عسيرا على التحديد.
المؤكد بالنسبة لي ان هذا خط أو لأقل مرحلة على غرار ما هو موجود عند الفنانين التشكيليين الذين يحلو لهم ان يقسموا أعمالهم إلى مراحل. هذه مرحلة قد تستغرق كل ما تبقى لي من كتابة وقد لا تطول، وقد تتداخل مع خط قديم، أو شيء مستحدث.
لست معنيا بعد الآن بالسياق الشعري العربي السائد.. لا يهمني ان أبدو غريبا أو شاذا داخله.. فأنا لا أعيشه حياة، بل اطل عليه من بعيد. حياتي موزعة على أكثر من ضفة وجهة.
أحببت، شخصيا، الحل الذي عثرت عليه للمأزق الذي وجدت نفسي فيه بعد مرتقى الأنفاس، ما اكتبه الآن هو استمرار ل(حياة) كسرد متقطع وهو يلبي حاجتي الشخصية والفنية لإيجاد مسرب آخر للشعر في شكل مختلف. ولكن هذا السؤال طرح عليَّ شخصيا من بعض الأصدقاء الذين بدوا قلقين من أنني أضعت طريق الشعر.
يريدون ان يتأكدوا ان ما كتبته في هذا الكتاب مجرد نزوة سرعان ما انتهي منها لأعود إلى الشعر.
هل ترى أننا نبقى أحيانا في تعريف الشعر، نقول ان الشعر هو هكذا وهكذا، وافترض ان قصائدك أمثلة على هذا التعريف، أو على الأقل، أمثلة لهذا التعريف. إذا كنا نبقى في التعريف، أليس للانجاز الشعري قيمة بحد ذاته، قيمة لا تنحصر في التعريف؟
كل تاريخ الشعر محفوف ومخترق بالتعريف. لم يتوقف الشعر قط عن ان يطرح مثل هذا السؤال، ولكنه لم يحصل مرة واحدة ان وصل إلى تعريف جامع مانع. هناك تواضعات معينة، خطوط كبرى يتم الاتفاق عليها في لحظة تاريخية معينة ولكنها سرعان ما تتغير بتغير اللحظة نفسها، بل ثمة دائما من كان يناهض الإجماع، إذا افترضنا ان هناك إجماعا.
وأظن ان التعريف كان يسير في محدداته وقيوده في جهة فيما الشعر يمضي في وجهة، أخرى، أو على الأقل. في وجهة خاصة به. الشعر هو أبن الانجاز أبن الكتابة وليس وليد التعريف. لم ينطلق شعر قط من التعريف. التعريف دائماً لاحق على الكتابة.
في الخمسين سنة الأخيرة عرف الشعر العربي عددا كبيرا من التعريفات، أو من محاولات الوصول إلى إجماع على ما هو الشعر، ومن أي طريق يأتي وبأي شكل يكتب. لكن الإجماع لم يحصل. صحيح ان هناك تيارا يسود كل مرة ولكنه لا يتواجد وحده، بل غالباً ما توجد مناهضة لهذا التيار من طرف شعراء وكتابات أخرى. وهكذا، نحن الآن، رغم ما يبدو من إجماع في اللحظة الشعرية على تعريف، فان هذا مجرد سطح خادع.
الواقع ان هناك استنقاعاً أو استنفادا للقوى والطاقة هو الذي يجعل مثل هذا التعريف مستقرا.

* هل تتوقع في كتاب جديد تسوية ما، وعودة إلى عناصر بدأتها في مجموعتك هذه؟

- ممكن، لأن هذا الكتاب كما قلت هو بداية وليس ذروة أو نهاية طريق. وككل بداية هناك تعثرات، هناك شوائب ربما تحتاج إلى تصحيح أو تصفية. كتبت على نحو هادر وبلا انقطاع قصائد هذا الكتاب، بدا لي التيار جارفا، وقد يكون هذا التيار الجارف حمل ما يدعو إلى التصفية والعزل والتنقية.
ورغم الجو الموحد الذي ينطوي عليه الكتاب إلا ان هناك نغمة واحدة قد تكون هي التي سيصار إلى الركون إليها، أو تعزيزها.

* قصيدتك عن ابن عربي في المجموعة، وهي بالمناسبة جميلة جدا، لاتندرج تماما في سرديتك الرديكالية، مع ذلك فهي من أجمل قصائد المجموعة بدون ان تبدو مختلفة تماما. أو خارجة عنها.. إلا يدعوك هذا إلى التساؤل عن الحاجة إلى تسوية أكثر من نفض راديكالي؟

- من الممكن ان يحصل هذا، فالكتابة تملك القدرة على تصحيح أو تعديل مسارها. هذا نوع من الغريزة، إذا جاز التعبير، تنطوي عليه الكتابة أصلا.
قد تكون لهذه الملاحظات، لهذه الأسئلة المدوخة التي حاصرتني بها، وكذلك ردود الفعل الأخرى، دورها في التسوية التي أشرت إليها. وبخصوص قصيدة ابن عربي، بالمناسبة هناك قصيدتان عن ابن عربي في الكتاب، واحدة تتحدث عن تحولات سحرية تحدث لي داخل ضريحه الذي زرته فعلا، وظلت هذه الزيارة في ذهني طويلا إلى ان وجدت تعبيرا شعريا عنها في هذا الكتاب، والثانية نوع من المساءلة لما هو دنيوي وما هو إلهي عند ابن عربي. ربما لم تكن هذه هي القصيدة الأولى في الديوان، ولكن الديوان بدأ من لحظة صوفية أو دعني أقول على نحو أدق، من لحظة اقتراب ومساءلة للحالة الصوفية ولشيوخ متصوفين بعينهم مثل السهروردي أيضا. وقد أفضى عملي الشعري السابق على هذا الكتاب الذي سينشر قريبا وهو بعنوان (كلما رأى علامة)، إلى أجواء الكتاب الجديد حياة كسرد متقطع ففي ذلك الكتاب تأملات شبه ميتافيزيقية ولو انها اتخذت الطابع الشذري.
هناك اختلاف، ربما في الإيقاع بين قصيدة مساءلة ابن عربي وبعض القصائد الأخرى في حياة كسرد متقطع الإيقاع مشدود أكثر، الحالة شعرية أكثر أيضا، السرد اقل حدة، ربما هذا هو الذي أعطى الانطباع باختلافها النسبي من باقي قصائد الكتاب.

* لغتك كلاسيكية، متينة، هل هذا نوع من البديل عن الانفجار اللغوي الفلكي السيال والمائع المعروف. ماذا عن اللغة، هل تنكفئ من موضوع للشعر وغرض إلى أداة أم ان المسألة مختلفة، أو أننا لا نستطيع ان نجزم؟

- أنا أصلا، لست من مدرسة اللغة الانفجارية، الفلكية السيالة، لم أكن قط، قريبا، من هذه المدرسة التي لم يقنعني أبدا، انفجارها اللغوي الذي يطغي على الشعر، بل يصبح هو الشعر.
اللغة عندي أكثر من وسيط وأداة واقل من غرض. أي ان اللغة ليست مجرد حامل للمعنى، بل هي عضوية في الكتابة وأساسية ولكنها لا تتحول إلى غاية، إلى نهاية الكتابة وختام مطافها. المعنى مهم عندي، الصورة أكثر أهمية، أنا شاعر صور.. ولكنها أيضا صور منضبطة. باختصار أنا شاعر معتدل في اللغة والصبور ولكنني قد أكون متطرفا في الخيارات أو في زج هذين الاعتدالين في راديكالية لا تشط، على ما آمل، عن غرضها. أما العماء اللغوي، الانشطارات والتداعيات التي تنساق لغواية اللغة فلا أطيقها.
كنت أظن أنني انحزت إلى لغة بسيطة، وأحيانا شفوية، في هذا الكتاب على عكس ما فعلت في (مرتقى الأنفاس) أو في (سر من رآك)، ولكن يبدو ان أثار هذين الكتابين الخاصين في مدونتي الشعرية لا تزال ملموسة.
أقول لك شيئا.. كنت أريد ان أتخفف، ما أمكن من البلاغة والصور، وكل ما يمكن ان يصنف في خانة المهارات، في هذا الكتاب أردت ان أصل إلى الدرجة صفر في البلاغة.. ولكنني على ما يبدو لم انجح في ذلك.
كان هذا في رأس مقاصد حياة كسرد متقطع . اذكر أنني تحدثت معك في هذا الشأن أكثر من مرة في لقاءاتنا المتقطعة..لقد لاحظت أنت شخصيا ان ميلا مشتركا في قصيدتنا ينحو نحو مباشرة الموضوع من اقرب وجهة لغوية وجمالية، وهذا يعني ان أمر إثبات القدرة والمهارات اللغوية والجمالية لم يعد هاجسا.

السفير
2005/02/04