المشكلة اليوم أن الشعر فَقدَ روابطه مع فنون الرسم والموسيقى
ليذوب كلياً في التقنية مفضلاً المآثر السمعية والإلكترونية

أنطوان جوكي
(باريس)

أنطوان جوكيأي مهمة نوكلها للشاعر في زمن لم يعد فيه الشعر "معلّم البشرية"؟ وما هو موقع القصيدة اليوم في الغرب وكيف يمكننا تحديد مزاياها بعدما فقدت معناها الأصلي وعلاقاتها بسائر الفنون لتتحوّل إلى أداءات تقنية سمعية وبصرية ترتكز على الكلمة، لا بل الحرف، كدال مادي وصوتي وخطي على حساب الجملة النحوية المعبّرة عن معنى معيّن؟ وهل الحداثة الشعرية هي بالشكل أم بالمضمون أم بالاثنين معاً؟ وإلى أي حدود يمكننا المغامرة في هذا التحديث بدون أن يفقد الشعر ماهيته؟ أسئلة تراود كل شاعر أو متذوِّق للشعر اليوم، رغبنا في طرحها على الشاعر والمفكّر الفرنسي الكبير ميشال دوغي، إلى جانب أسئلة أخرى تتناول مواضيع دواوينه الشعرية العديدة وتجربته الكبيرة كمدير لإحدى أهم المجلات الشعرية في فرنسا، Po&sie، فكان هذا الحوار في منزله في باريس الذي هو عبارة عن مكتبة ضخمة للشعر والفلسفة قلّ مثيلها.

***

يقول الشاعر الفرنسي جان بيار بوبييو بأن الشعر هو كل شيء باستثناء ما كان عليه، وأنه أيضاً كل شيء ما عدا الصمت أو الصلاة النهائية أو الفكرة الصافية، هادفاً بذلك غنائية مسكّنة تحاول إقناعنا بشعرية بالية حول الكينونة والجوهر والعدم. هل توافقه هذا القول؟

ـ أقبل أن الشعر هو غير الصلاة النهائية والفكرة الصافية وأن هدفه ليس غنائية مسكّنة وبالية. كما أوافق على أن الشعر هو كل شيء باستثناء ما كان عليه، نظراً إلى التغييرات العظيمة التي طرأت عليه. لكنه يخطئ حين يعتبر أن الشعر لا علاقة له بأسئلة تتعلق بالكينونة والجوهر والعدم، فهي مفاهيم فلسفية كبيرة ليست غريبة عن الشعر وتدخل ضمن اهتمامات الشاعر. كما أن الغنائية حين لا تكون بالية هي من أسس الشعر. أما تعبير "الفكرة الصافية" فمبهمة. فالشعر بالنسبة إلي فكر.أما الصفاء (pureté) فقد يعني الطهرية والتزمّت المرفوضين شعرياً، لكن علينا أن لا ننسى جملة مالارمي الشهيرة: "إعطاء معنى أكثر صفاء لكلمات القبيلة"، التي لا تعني إطلاقاً تطهيراً عرقياً. كما أن الصفاء كلمة فلسفية كبيرة عند الألمان وتعني الدقة والتصفية. إذاً لا أوافق على الجملة بكاملها.

الغنائية النقدية

ما رأيك بالغنائية النقدية التي يدافع عنها الشاعر جان ميشال مولبوا التي ترتاب من ذاتها وتحاول إعادة تحديد شروط إمكانياتها، من داخل القصيدة؟

ـ مولبوا هو شخص أحترمه ويرجع غالباً إلى أعمالي في أبحاثه الشعرية ومواقفه. لكن علاقته بالغنائية هي شأن خاص به. طبعاً في حال سُئلتُ عن الغنائية النقدية فرأيي ليس سلبياً على الإطلاق. إذ يمكن القبول بفكرة أن القصيدة لها علاقة جديدة ومتغيّرة بالغنائية وأن على هذه الأخيرة أن تكون نقدية بمعنى أن تراقب ذاتها وترتاب من ظروف حضورها وتهتم بشروط إمكانياتها من داخل القصيدة. كل هذا جيد، لكنه لا يكفي لتحديد معنى الشعر وإمكانياته بالنسبة إلي.

يقول الشاعر الإيطالي والباحث الكبير أندريا زانزوتو في مقدمته لكتابك "راقدون" Gisants)) أن كتابتك الشعرية تنتمي بشكل وثيق إلى التجارب (من رونيه شار إلى إيف بونفوا مروراً ببول سيلان) التي، بعد الحرب العالمية الثانية، عبّرت عن ضرورة مطلقة للشعر لا يمكن بلوغها إلا من خلال "إرهاب" الحد الفاصل بين شعر ونثر (...). هل توافق على هذا الانتماء وعلى ضرورة "إرهاب" الحد الفاصل بين شعر ونثر؟

ـ إنه سؤال يتضمن أشياء كثيرة مثيرة. لكن جميع عناصر هذا القول هي بشكلٍ ما قابلة للاعتراض والمناقشة. فهل يمكننا أن نقول: من شار إلى بونفوا مروراً بسيلان؟ فسيلان يأتي بعدهما وإن توفي منذ فترة طويلة بينما بونفوا ما يزال حياً. كذلك بالنسبة إلى الضرورة المطلقة للشعر التي يمكن مناقشتها. أما في ما يتعلّق بإرهاب الحد الفاصل بين الشعر والنثر، فأنا لا أحب كلمة "إرهاب"، بل أفضّل في هذه الجملة كلمة "بين". هنالك عبارة أساسية للشاعر بول فاليري هي "تردد بين" (h?sitation entre). إذ يقول إن القصيدة هي تردد بين كذا وكذا. وأتوقف عند هذه العبارة لأشير إلى أن القصيدة هي تردَّد بين نغمٍ ومعنى، بين نظمٍ ونثرٍ. والقصيدة الحديثة منذ بودلير ثم أبولينر هي دائماً تردَّد بين نظمٍ شعري ونثر. إذاً أنا أسكن هذا "التردد بين"، بين الفلسفة والشعر، بين المعنى والإيقاع، بين أشياء كثيرة. كما أجد أن الترجمة هي أيضاً تردّد بين لغتين، أي أن المترجم يُعدي (contamine) اللغة المستقبلة بالمعنى الذي تحمله لغة النص الأولى، أو يُبدّل شكل هذه الأخيرة لبلوغ المعنى في اللغة المستقبلة. إذاً التردّد بالنسبة إليّ مهم جداً ويحمل معنى إيجابياً، والأصل اللاتيني للكلمة يعني الارتباط بشيئين بشكلٍ متواتر وليس الحيرة أبداً.
فوتوغراف

يعتبر بوبييو أن مسألة استخدام البيت الشعري أو النثر في القصيدة أصبحت ثانوية وقديمة منذ أن استولى الشعراء على الفونوغراف والمسجّلة وباقي تقنيات الصوت والصورة. ما رأيك في ذلك؟

ـ أنا لا أتفق معه في هذه المسألة، بل أعتبر أن الفونوغراف والمسجلة والمركِّب الصوتي (synthétiseur) هي التي استولت على الشعر وليس العكس. ويبدو هنا المجال واسعاً للمناقشة مع بوبييو. إذ لا يمكننا تحديد ما هي الحداثة اليوم بدقة مقارنة بالبارحة. فالكلمات ما تزال على حالها، وفي الشعر ما زلنا نستخدم الكلمات ذاتها. فقط الأشياء هي التي تتغيّر دوماً، ومهما حاولنا اللحاق بها نبقى دائماً متأخّرين. إذاً تحديث الشعر يبقى مسألة داخلية وتقنيات الصوت والصورة على أهميتها تبقى مسالة ثانوية وجانبية على مستوى القيمة الشعرية.

في قصائدك، تبدو الحدود رقيقة أحياناً بين شعر وفلسفة (أو نثر تأملي، كما تفضّل). ويقول زانزوتو بأن نصك الشعري يقع عند ملتقى الخطاب والسرد ويراوح بين تأمّلٍ نظري وعمودية غنائية. ما هي الروابط التي تجمع بين الشعر والفلسفة؟ وهل يتميّز الشعر عن الفلسفة بطريقة قوله المختلفة فقط ؟

ـ يثير هذا السؤال مشاكل كثيرة لتعقيده البالغ. ولتبسيطه سأتحرك في تأملي في اتجاهين: الأول أبيّن فيه القربة العميقة بين الشعر والفلسفة، والاتجاه الثاني لإظهار نقاط الاختلاف الأساسية بينهما. وأوّل ما يجمع هذين الميدانين هو اللغة المحلية المستخدمة (vernaculaire). فالشعر كما الفلسفة يفكران بواسطة لغة واحدة، ولهذا يمكننا أن نقول: قصيدة بارمينيد أو لوكريس، مع أنهما فيلسوفان ولم يكتبا شعراً أبداً. وهذه الإشارة مهمة لأن العلوم الرياضية مثلاً لا تُكتب باللغة ذاتها، بل إنها لغة "مصوغة". (Langue formulaire) وحين نقرأ نصاً لفيلسوف كسقراط يناقش فيه إيون، في خطاب أفلاطون الشهير مثلاً، نلاحظ أن إيون يُطلق عليه صفة herméneute التي يمكن ترجمتها بالشاعر أو المفسّر. والمعروف هو أن إيون كان يعرف عن غيب ملاحم هوميروس. وما مكّنه من التحاور مع سقراط هو إتقان الاثنين للغة اليونانية. ولهذا أميل اليوم إلى اعتبار جميع الفلاسفة الكبار ككتّاب. فخطاب الفيلسوف جاك دِريدا هو مثلاً باللغة الفرنسية ويتبيّن فيه صراعاً مستمراً مع اللغة داخل اللغة، وهذا مسعى شعري بحت وغير فلسفي. من هنا القرابة بين الشعر والفلسفة. من جهة أخرى، حين أفتح كتاب فلسفة للفيلسوف كانط مثلاً وكتاب شعري لهولدرلن مثلاً، أرى أن الكتابة تختلف كلياً على مستوى المنهج والصيغ، وإن تحدّث الاثنان معاً عن الموضوع ذاته، كالمخيلة مثلاً. هنا لا يمكننا تقريب القصيدة من البحث الفلسفي. لكن يبدو لي اليوم مهماً الإصرار على القرابة العميقة بين الفلسفة والشعر لأن الانفصام المهم والمثير لا يفصل الشعر عن الفلسفة وإنما الأدب الذي يضم الشعر والفلسفة، والكتابة غير الأدبية كالنص الإعلاني أو المعلومة أو لغة العلوم الرياضية أو العلوم الأخرى. أنا أصر على القدر المشترك للفكر الشعري والفلسفي ويمكنني أن أعود إلى أفلاطون وأرسطو لأبرهن أن الفلسفة والشعر يسيران سوية بدون عدائية بين أقطابهما. فقلق الشعر على طبيعته مثلاً مرتبط بشكلٍ وثيق باستفتاء أرسطو الشهير: 1ـ بما أو بأي مادة؟ ـ 2 المظهر أو بأي شكل؟ ـ 3 الغاية أو ما فائدة ذلك؟ ـ 4 من وراء ذلك؟ أليس هذا شأن الشعر مباشرة؟ إذاً الأمثلة على التقارب بين الشعر والفلسفة كثيرة. أما تاريخ كل منهما فمتمايز. فالفيلسوف هيغيل مثلاً قرأ كانط الذي قرأ لايبنيز الذي بدوره قرأ ديكارت... وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعراء الذين لهم تاريخهم الخاص. إذاً، منذ البداية، هناك قربة وسير مشترك بين الشعر والفلسفة لكن ضمن تمييزٍ واضح.

معلم البشرية

تقول: "لم يعد الشعر معلّم البشرية". هل كان معلماً للبشرية في فترة ما؟ وما هي المهمة التي يجب أن يضطلع بها اليوم؟

ـ "الشعر معلّم البشرية" هي جملة للشاعر الألماني هولدرلن يستخدمها في رواية "هيبريون". وهنالك تقليد قديم في هذا الاتجاه يعود إلى هوميروس. هيرودوت يقول إن هوميروس أعطى لليونان آلهتها. وضمن نظرة شاملة تواكب الشعر منذ القرن السابع قبل الميلاد مع هوميروس وحتى هولدرلن، نعتبر الشعر ما يؤسّس علاقة الإنسان مع الآلهة وعلاقة الإنسان مع ذاته داخل اللغة. إذاً الجملة المذكورة بقيت صالحة حتى انتهاء الرومانسية في أوروبا. فالبشرية تحلم، والحلم يتحوّل إلى قصيدة. وبالمعنى البسيط للجملة، نلاحظ أنه حتى حقبة حديثة نسبياً، اعتمدت المدرسة لإحلال الطفل في لغته على الشعر من خلال تعليمه قصائد شعرية. إذاً يلعب الشعر هنا دور المعلم. فلو تخلينا عن الشعر في الصفوف الابتدائية والثانوية لتوارى الشعر وانقرضت ممارسته. فالناس العاديون لا يهتمون بالشعر إطلاقاً. نقطة أخرى مهمة في هذا السياق، هو أن ما يجعل من الإنسان إنساناً هو الكلمة. وما يعطي لشعبٍ ما هويته وقدرته على الوقوف بأنفة وفخر بين الشعوب، منذ فترة طويلة، هو الشاعر. "حين يملك شعبٍ ما شاعره الكبير"، يقول بول سيلان. في فرنسا، المرّة الأخيرة التي عرفنا فيها شاعراً كبيراً هي مع فيكتور هوغو. فحين توفي عام 1885، سار الشعب ليلاً ونهاراً في باريس وعبر مئات الألوف من الناس جادة "الشانزيليزه" في اتجاه ساحة "النجمة" حيث وُضع ضريحه. وهذا يعني أن الشعب كان يرى الشاعر كمرآة له ولهويته. مع الأسف، عرفت فرنسا منذ هوغو الكثير من الشعراء الكبار، لكننا لم نعرف بعد ذلك تظاهرة من هذا النوع. إنه مبدأ رومانسي. لكن الرومانسية ولّت وبالتالي لم يعد الشعر معلم البشرية. خلال الحقبة الرومانسية، وعلى المستوى الجمالي، لا بد من الإشارة إلى طبيعة علاقة الفنون ببعضها البعض. فبالنسبة إلى الفيلسوف الأوروبي الكبير هيغيل، الذي كان صديق هولدرلن وشيلينغ، كانت علاقة الفنون ببعضها البعض تراتبية (hiérarchique)، أي كنا نجد في أسفل السلم فن الهندسة وفي أعلاه الشعر، على أساس صيرورة أكثر فأكثر روحية. فالهندسة والنحت كانا في الأسفل لماديتهما وبقائهما في الأبعاد الثلاثة. ونجد فوقهما مباشرة فن الرسم الذي يبقى مادياً ولكن ببعدين فقط، ثم فن الموسيقى الذي نرتفع به عن سطح اللوحة، فالشعر الذي ينحني بدوره أمام الفلسفة. وبالنسبة إلى الرومانسيين، كان هذا الترتيب أساسي. أما اليوم فلم يعد هنالك أي تراتبية بين الفنون، بل ثمة حضور متكافئ وتحالفات عديدة، وتلعب التقنية هنا دوراً مركزياً. إنها طريقة أخرى لأقول بأننا لم نعد رومانسيين.

الحب والموت

يبقى ديوانك "راقدون" من أهم دواوينك الشعرية. كيف تحدد مضمونه وما هي المعاني المختلفة الذي يحملها هذا العنوان الذي تعطيه لعدد كبير من قصائدك داخله؟

ـ موضوع هذا الديوان هو الحب والموت. وتعبير "راقد" باللغة الفرنسية يعني شاهد قبور يمثل إنساناً مضجعاً غالباً ما يكون من طبقة النبلاء، وأحياناً نجد زوجته إلى جانبه. إذاً نُمثل في هذا الضريح الزوجين ممددين في الموت وفي الخلود. إذاً الرجل والمرأة سوية في الحب كما في الموت. إنها طريقة بين طرق كثيرة للقول بأن الحياة والتجربة الشعرية هما مسألة حبّ وموت. و"الراقد" هو مسألة الشعر ولكن أيضاً الرسم والنحت طبعاً والموسيقى (تريستان وإيزوت). إنها كناية رائعة عن الشيء الذي نريد تمثيله، وقد سمحت لي في هذا الديوان بقراءة متسلسلة تقارب بشكلٍ غنائي وسريع جوانب مختلفة لموضوع واحد.

يحتل ديوان "إلى ما لا نهاية له" موقعاً خاصاً بين دواوينك الشعرية، لدرجة رفضك إدراجه في أيَ من الانطولوجيات التي خُصصت لقصائدك...
ـ إنه مرثاة ونشيد حب وموت، ولهذا يمكن أيضاً أن يحمل عنوان "راقد"! كتبته لدى وفاة زوجتي. هنالك جزء مهم من أعمالي الشعرية يمكنها أن تحمل العنوان المذكور وتتميز بنفس غنائي، بخلاف الجزء الحديث من كتاباتي. وديوان "إلى ما لا نهاية له" هو قصيدة واحدة بدون ترقيم للصفحات، ويزعجني جداً أن أقتطع منه أجزاء لنشرها في انطولوجيا معينة. في بعض المرات، قرأت منه مقتطفات. لكنه كلٌّ لا يتجزّأ، نشيدٌ ينبغي قراءته سحبة واحدة.

طاقة اليأس

وماذا عن كتابك "طاقة اليأس"؟

ـ إنه كتابة مختلطة، مزيجٌ من الشعر والنثر، من التأمّل والتساؤل والإجابة عن الأسئلة المطروحة، ومنها: ماذا يمكننا أن نفعله اليوم مع الكتابة الشعرية وضمن هاجس الشعر. وطبعاً لا أخلط الاثنين مع بعضهما البعض، إذ يمكننا في محاضرة الاهتمام بمشاغل الشعر وهواجسه وماهيته، لكن ذلك يختلف عن كتابة الشعر بحد ذاتها. ومشاغل الشعر أسميها "الشعرية" (la poétique) ، وفقاً لعنوان بحث أرسطو في هذا المجال، ونجدها اليوم أكثر فأكثر مشحونة بقلقٍ بالغ لأن البشرية لم تعد تستمع إلى معلّمها. إذاً ماذا يمكننا أن نفعل بواسطة الشعر؟ وهل من جدوى في استنفار البشرية بهذه الواسطة؟ بما أني أؤمن بذلك، وبما أن اليأس يزداد تدريجياً، أُسمّي ذلك "طاقة اليأس". يجب علينا التخلي عن كافة الأوهام والتحلي بأفكار راديكالية. يجب الخروج من منطق الخديعة (le leurre). وماذا يعني الخروج من الخديعة طالما يستحيل ذلك؟ يعني إدراكها كما هي وإدراك حالنا مهما كان ذلك صعباً.
تقصد بذلك تمزّق (déchirement(l' الكائن البشري الذي يجب أن لا نبحث عن كيفية حلّه أو تخطيه، لاستحالة ذلك، وإنما القبول به وعيشه كما هو...
ـ تماماً. لكن ذلك صعب جداً. فلنأخذ مثل التعزية والقنوط. لا يوجد تعزية بدون قنوط، والعكس صحيح أيضاً. لكن سذاجة البشر تقتصر على التخلي عما هو سلبي والاحتفاظ بالعزاء. وهذا غير منطقي لارتباط الاثنين بشكل وثيق وحميمي. فلنفترض أننا إلى جانب شخصٍ على حافة الموت، وهي حالة لا بد أن نواجهها جميعاً في يومٍ ما، سيكون مضمون الكلام المتبادل عزاءً طبعاً. لكن ذلك هو نوع من الكذب الذي يتضمّن بعضاً من الحقيقة، ومن يستمع إليه يعرف أن الصور والوعود المستحضرة تنبع من الحزن والغم لتحاشيهما تحديداً. إذاً في التعزية ثمة نوع من الكذب الذي لا يمكن اعتباره كذباً لأن كلّ من الشخصين المتحاورَين يعرف حقيقة الأمر. هذا ما أسميه بنية الخديعة.
أستخدم دائماً بنية الخديعة لفهم الوعد، أي لتأمّل ما نورثه للباقين على قيد الحياة. للخديعة في هذا الإطار بنية إيصائية (testamentaire). فالشخص الذي على شفير الموت يحاول دائماً قول شيء ما للأشخاص الذين حوله. ولفهم ما يقوله، على هؤلاء تفسير وعده أو أقواله. هذا ما أسميه "طاقة اليأس"، أي أننا نكمّل ونستمر في الحياة على الرغم من أن كل شيء مصيره الهلاك.

تقول: "أمنية القصيدة هي الهندسة". ماذا تقصد بذلك؟

ـ أردتُ أن أقول بأن القصيدة هي شكل ثابت، كعمارة. فالمهندس يشيّد شيئاً ما يمكن سكنه، كمنزل مثلاً. ويجب تقريب هذا البيت الشعري من بيتٍ آخر لهولدرلن:"شعرياً يقطن الإنسان". أمنية القصيدة إذاً هي في إمكانية تأمين هذا السكن أو الاستقرار، ولو فيها، أي في إنشاء بنيانٍ يمكن أن يكون ملجأ للناس. إنها أيضاً طريقة بسيطة لقول: أرغب في تكوين شيء جميل. كما أن القصائد المهمة تتميز بتشييد رائع وبنية عظيمة، على خلاف القصائد السطحية غير المضمونة والتي تتوارى بسرعة.

تقول أيضاً: "ما نخسره، نحوّله إلى حقيقة خسارته، كي يبقى معنا ككنز مفقود". هل المقصود بهذه الجملة ما يشير إليه علم التحليل النفسي حول مثل الكاهن الذي يفقد إيمانه فيصبح مؤرّخاً للديانات؟

ـ بالفعل، يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال اعتمادنا على علم التحليل النفسي: ماذا نفعل بما تبقّى؟ ولا أنسى أن الحلم يتكوّن من بقايا أشياء شاهدناها أو اختبرناها خلال النهار. كذلك الأمر بالنسبة إلى الثقافة التي نحددها أيضاً على الشكل التالي: ما تبقّى بعد نسيان كل شيء. لكن المعنى الذي أقصده في هذه الجملة غير ذلك: كيف يمكننا توجيه ما فقدناه نحو حقيقة الخسارة، أو كيف نحوّل هذه الخسارة إلى "صرحٍ". إنه موضوع كتابَي الأخيرَين، موضوع "الذخائر" (les reliques). فالذخائر هي ما تبقّى من شيء ثمين. هذه المسألة تخص الترجمة مثلاً، حين ننقل نصاً من لغة ميتة إلى لغة ما تزال متداولة، وفي هذه العملية خسارة دائماً. كما تقترب هذه المسألة من الجدلية الهيغيلية، أي أننا مثلاً في مرحلة ما، ثم ننتقل إلى مرحلة جديدة. لكن كي لا نخسر حصيلة المرحلة الجدلية السابقة نحوّلها إلى طريحة (thése) يقابلها نقيض الطريحة (antithése)، محتفظين بأفضل ما تتضمن الحصيلة السابقة. بشكلٍ ما، إنه التقدّم بالمعنى الهيغيلي. لكني أطرح هذه المسألة على مستوى الذخيرة، أي كيف نحتفظ بما لم نعد نؤمن به، كيف نحوّل إلى ذخيرة شيئاً يمكن أن نفقده بشكلٍ كامل.، وأقصد هنا الديانات بعد خروجنا منها. موقفي هو أنه على البشرية الخروج من هذه المرحلة بدون خسارة الكنوز المتراكمة خلالها، وبالتالي إعداد معنى لما لم نعد نصدّق به.

شعر

تدير مجلة "شعر" (Poesie)منذ فترة طويلة وتتلقى إذاً الكثير من القصائد والنصوص الشعرية للنشر. من هذا الكم، ومن خلال تجربتك الخاصة، كيف تحدد الشعر الذي يُكتب في فرنسا اليوم؟ وما هي المعايير التي تعتمدها لاختيار القصائد التي تنشرها؟

ـ معظم ما نستلمه بواسطة البريد غير صالح للنشر. فالنصوص المرسلة بهذه الطريقة هي نصوص مؤثرة ومثيرة لكنها تافهة شعرياً. على الساحة الفرنسية هنالك حالياً نوعان من الشعر: من جهة، الكتابة الشعرية التي تنضوي داخل التقليد الأعمق والتي يمكن أن نصفها بالمقاوِمة لاستمرارها في الركون إلى الجملة ولاعتبارها الشعر مسألة قصيدة، والقصيدة مسألة إفصاحية (grammaticalité) وإيقاع وجمالية ومنطق، باختصار، كل ما تميّزت به القصيدة منذ بداية الشعر. فحين أكتب شخصياً قصيدة، أحاول أن تكون متماسكة داخل اللغة وأن تركن داخل البنية العميقة للغة، وأن يستطيع قارئها أو المستمع إليها التعرّف عليها وإدراكها كأداء أو كجزء من اللغة الفرنسية. ومن جهة أخرى، هنالك الكتابة التي تخرج عن كل هذه المفاهيم وهي في طور التغلّب على الكتابة الأولى. وتتميز هذه الكتابة بهاجس التقنية الذي يستولي عليها، وتعتبر أن الشعر لم يعد مسألة تماسك في الجملة أو إيقاع أو إفصاحية في اللغة. بالنسبة إلي، على الشعر أن يتحلى بمعنى منطقي ونحوي وأن يتوق إلى التعبير عن حقيقية ما. لكن معظم الشعر الذي يكتب اليوم يرتكز على المادية والصوتية للدال داخل القصيدة، أي يهتم بتوزيع الأصوات (phonémes) بواسطة مقوّيات (relais) أو مشغّلات (opérateurs) تقنية. ووراء هذه الكتابة الجيل الأميركي الذي انطلق بتقنية التقطيع (cutting) واللصق وإخراج الكلمة من طبيعتها ككلمة بمعناها المعجمي لمعالجتها كدال فقط في ماديتها الصوتية والخطية. داخل هذا التوجه، هنالك أشخاص احترمهم مثل برنار هايدسيك الذي كان أول من وضع أسس الشعر السمعي، وفيليب بيك الذي يحافظ داخل اختباراته على الجملة النحوية ويتوق داخل قصائده إلى بلوغ معنى واضح. المشكلة اليوم أيضاً هي أن الشعر فقد روابطه مع فنون الرسم والموسيقى ليذوب كلياً في العنصر التقني، مفضلاً المآثر السمعية والإلكترونية التي تخرج القصيدة من دائرة المعنى. هذا هو المستقبل الذي ندخل فيه: الشعر يخرج من العنصر الذي كان من خلاله معلم البشرية.

المستقبل
الاثنين 4 تشرين الأول 2004م