حاوره: حكيم عنكر

أحمد - تونستقول سيرته الشعرية انه من مواليد سيدي بوزيد في تونس في القرية الصغيرة، في العائلة العشائرية حيث للخبز ألف معنى، متوحدا ومنطويا على نفسه مثل "كوبرا" سوف يشعل "حرائق صغيرة" في العاصمة تونس، ملتزم وفوضوي، داخل حركة المجتمع التونسي ومطالب المجتمع المدني وفي عزلة قصيدته، يكتبها شعارا
لنقابة او بيانا شعريا لحزب، او قصيدة لجمهور الفقراء البائتين بلا خبز. أهدت له العاصمة ليالي من اعتقالات في المخفر البارد وحضوراً في المشهد الثقافي التونسي و"زعيماً" لأول بيت للشعر في الوطن العربي، ثم هكذا بلا شيء، خارجا ومطردوا، كي يعيد كرته الشعرية على اليد الجاثمة على قلب الحرية.

كتب "نشيد الأيام الستة" فمنعت لبعض الوقت ثم كتب رداً على أعداء في الحياة والكتابة "ليس لي مشكلة" وارتفع صوته قليلا كي يكتب "ولكنني احمد" وكان ركب فلكه في "جنوب الماء"، لكنه إبحار قصير سرعان ما ستعصف به رياح غير مرئية كي ترميه في النزع الأخير على يابسة شقبِة، ولم تكن تلك اليابسة غير بلده الرمزي، حيث ستمنحه فرصة الحياة كي يكتب "الوجبة" الأخيرة.

الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد هذا الاسم الطويل في الجسد النحيل، سيمضي "أوقاته" بالعاصمة متهكماً ومتعاركاً ورامياً سهامه في كل صوب وحدب، مطلقاً رصاصة الرحمة على الديناصورات الشعرية ومنتمياً لصوت "الشعب" ساخراً من ربابنة الحداثة وزبانيتها ومن التقليد وقبعاته ومن الكآبة التي تجعل الشعر العربي الحديث كوميديا سوداء.

لكن أعداءه أولا وأخيرا هم النقاد، دكاترة الجامعات الذين يأكلون كما يسميهم ويقبضون رواتبهم من أبيات للمتنبي وبشار بن برد والحطيئة. إنهم في نظره آفة الشعر العربي وسدنة التقليد.
في هذا الحوار معه، استنطاق غير بوليسي لأفكاره:

* على مدى ثلاثة عقود وأنت تكتب، وتبعاً لذلك استقرت تجربتك، وتوطدت وأصبحت اسماً شعرياً في تونس وفي خريطة الشعر العربي، كيف تعامل النقد التونسي مع تجربتك الشعرية؟

- إذا كان المقصود بالنقد الأدبي، الكتابة حول كتاباتي بشكل عام، فأنا من غير المحظوظين في تونس، لم تكتب حولي وعني دراسات كثيرة، إلا ثلاث او أربع، عكس آخرين، كتب عنهم الكثير بمن فيهم المبتدئون، وأرجع ذلك لأسباب عدة، منها ان حضوري في المدينة وفي البلاد متعدد الأدوار، فأنا أكتب الشعر، وأكتب النثر، وفي مقالاتي النثرية أكتب وأنقل الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية وحتى النقدية بحاسة انتقاديه "سليطة" أحيانا. ثم ان جسدي يتحرك في المدينة ليعلن عن حضوره المستفز للآخرين.
والنقد في تونس او في الوطن العربي مشغول بأحد شيئين: أما ان يعود الى الماضي كي يدرس المتنبي وغيره أو يخرج من بلاده كي يدرس شاعرا آخر، والسبب يعود الى أن أغلب نقاد الشعر والأدب في الوطن العربي لا يريدون تحمل مسؤولياتهم إزاء الحاضر، لأنهم يخافون من الكتابات التي تثير الزمن السياسي والأدبي، وأعتقد ان هؤلاء النقاد يتعاملون بانتهازية مفرطة، ثم إني لا أريد ان أسميهم نقادا، فهم في الحقيقة مدرسون في الجامعة. وفي الغالب ينشرون دروسهم على أساس انها نقد، وأميل الى تسميتهم بحسب رولان بارت ب "القراء"، ولذلك فإن أغلب قرائي هم الشعراء أنفسهم او المواطنون، إني أفرح عندما يقول لي شرطي او مواطن عادي انك شاعر، بل إنني ألجأ أحيانا الى الاسواق والحافلات لكي اسرق من الناس كلامهم الشعري وأعالجه شفويا.
إن الناقد الحقيقي هو القارئ، والناقد التقليدي هو نوع من القراء أيضا، لقد حضرت الكثير من المهرجانات وقابلت نقادا، وأرى أن اغلبهم لا يفرقون بين الشعر الحر والشعر النثري وبين المنثور والموزون.
لقد تعلمنا من مدرسينا ونحن في الابتدائي تفسير الأبيات قبل تأويلها، هذه العملية العقلية البسيطة لا يستطيع النقاد العرب القيام بها، إنهم يعتبرون كل ما يتناولونه ب "النقد" شعرا، والخلاصة ان تجربتي الشعرية لم تدرس بشكل جيد.

* هل بسبب انك شخص غير مرغوب فيه، فوضوي، وخارج المدونة الاجتماعية؟

- خذ مثلا ما يسمى الحداثة، فمحمد علي اليوسفي اسم بارز، ولكنه لا يكتب إلا عن ادونيس والسياب او الشابي الذي مات. وأذهب بعيدا لأقول ان الناقد لا يعطينا صفة الشعر، فالشعر ضرورة، والمجتمع يحتاجه مثلما يحتاج الدين ويحتاج السياسة ويحتاج الاقتصاد، فهيجل مثلا في كتابه "الاستيتيقا" يتحدث عن ثلاثية أساسية في الشعر: هناك الشعب والدولة والشعر، فجمهور الشعراء هو الشعب وجمهور النقاد هم التلاميذ والطلبة، وهم جزء من الشعب يدرسونهم بشروط بيداغوجية محافظة ومحددة.
وبسبب هذه الآراء الشخصية التي كنت دائما أجاهر بها بقيت قصيدتي خارج اهتمامات النقاد، إنهم نقاد مدرسون ومسكونون بحب التلمذة.
ثم انه يطلب منك دائما ان تكون شاعرا مهذبا، وان تحافظ على علاقات في مستوى من الطيبة، حتى تتم دعوتك الى مهرجانات وحتى تمنح بطاقات أسفار وأن تكون اتحادات الكتاب سماءك الوحيدة، أنا غير ذلك، ولا أريد مظلات كثيرة تحميني غير قصيدتي.
وأقول لك إنني في تونس، شخصي مستهدف للنقد أكثر من نصي، إنهم يدعونني بشكل او بآخر الى أن أعمل "بيروسترويكا" على نفسي وأن أقلل من حضوري الجسدي في البلاد، أي بمعنى آخر الخضوع للقانون الاجتماعي المحافظ، لكنني من الذين لا يفرقون بين الشاعر والقصيدة وبين الحياة والتجربة والكتابة، إنني أحاول ان أنسجم مع ذاتي وأن أكون شيئا واحدا.

* طبقا لذلك، ماذا تعني لك الكتابة، هل هي ضرورة وجود، أم مجرد حامل وناقل؟

- يجدر بي الاعتراف إنني جئت الى الشعر متأخرا، وجئت اليه من النثر. كنت أكتب مقالات أسبوعية عاصفة ونقدية، وفي بداية الثمانينات طلبت مع جماعة نقاد وشعراء في احد مقاهي العاصمة واستمعت لهم طيلة الجلسة، وقلت في نفسي، إذا كان هذا هو الشعر فإني سأكتب، وقررت ان أكتب الشعر، فانطلت علي اللعبة، وأصبح قدري أن أكتب.
وحين أكتب، أعتقد أنني أحقق جزءا من ذاتي، ثمة معضلات أحلها بالكتابة. إنني أصدق الكتابة وأؤمن بها.

* بعد سحر البدايات هذا، أصبح لك برنامج شعري، تصور، رؤية شعرية؟

- من المشكلات التي تواجها تجربتي الشعرية، هو أنني مقل في كتابة الشعر، اكتب بصعوبة، وحرص وتشدد، وفي فترات متباعدة، انه لأمر صعب، حتى بالنسبة للتجربة نفسها، الخوف من النضوب من الصمت ومن البياض، وكأن الأمر يتعلق ب "سن اليأس الشعري" فظاعة ذلك لا تقاس بالنسبة الي، تمر علي سنوات دون أن أكتب سطرا شعريا واحدا، أحس بالخفاء، وبأنني سأموت، لذلك كان النثر فسحتي، حديقتي الخلفية، كنت أذهب الى النثر، وإلى المسرح، حيث اشتغلت فيه قليلا، لأستريح من عذابات داخلية او ربما لأجعلها تنضج أكثر.
وكان أن بدأ يتبلور أمام عيني مشروع قوامة الاشتغال على كتب، بدل نصوص، كتب تتطلب جهدا آخر، بحثاً ومادة توثيقية ورؤية كلية ناطقة، فبدأت اشتغل على مشروع كتاب سميته "كتاب التوانسة" وهو عبارة عن شذرات نثرية ذات نفس سردي مسنودة بمادة توثيقية وتاريخية وفكرية وأدبية وفلسفية.

* هذه الرغبة في تأليف كتاب، هل تريد بها الانتقام من النقص الذي تحسه اتجاه الأكاديميين من أصدقائك النقاد والجامعيين في تونس؟ هل تريد ان تقول لهم: إن أولاد احمد يستطيع أن يؤلف كتابا مثلكم تماما؟ أم أن الأمر خارج هذا المنطوق الضيق؟

- لا أفشي سرا، إذا قلت أنني لم أكمل تعليمي ولم أكمل تعليمي الجامعي، وذلك لأسباب عائلية ومادية. لقد كنت فقيرا، ولم تكن معي فلوس، وكان علي ان اشتغل، لكنني اعتقد أنني قرأت من الكتب ومن الآداب الأجنبية أكثر مما قرأ هؤلاء الذين يأخذون الأموال من الجامعات. الشهادات الجامعية لا تخلق كاتبا او شاعرا. وعلى سبيل الطرفة، فأنا رقيت نفسي منذ سنتين، بمرسوم شخصي من رتبة شاعر الى رتبة كاتب، كان ذلك على سبيل التسلية من كثرة الشعراء.
وبجدية مطلقة أقول ان الكتابة أمر كلي، إنها تكون وتتحقق حين تتداخل الأشكال والتقنيات والمعارف.

* أسست "بيت الشعر" في تونس وهو أول بيت شعر في العالم العربي، لكنك أخرجت منه شبه مطردو، وظل الأمر بالنسبة إليك حادثة مأساوية لا تنسى، كيف حصل ذلك؟

- أسست "بيت الشعر" في تونس سنة 1993 بمعية الدولة وكان الأمر يعبر عن إرادة سياسة في الدولة التونسية. وقبلها بخمس سنوات كنت جائعا ومشردا وعاطلا عن العمل. وقد أرادوا منحي وساما خلال تلك الفترة فرفضت بسبب وضعي الشخصي الصعب، لكن بعد ان عرضت الفكرة تم قبولها واشتغلت فيها وعليها. لقد أردت ان أبرهن من خلال ذلك على أن منطقة المغرب العربي ليست منطقة لإنتاج الفكر والنقد والفلسفة ولكنها أيضا لإنتاج الشعر، ثم عممت الفكرة بعد ذلك في المغرب وليبيا والإمارات وفلسطين والأردن والجزائر
لقد كانت فكرتي كالآتي: لما يبقى الشعر تابعا للمدرسة او الجامعة او النقاد، لماذا لا يستقل بذاته في مؤسسة، وكان برنامجنا طموحاً جداً ومن بين نقاطه الأساسية أن نحدث مكتبة لذاكرة الشعر العربي والإنساني، وأن نحدث ورشات للترجمة وأن نقيم مهرجانات وأن نتابع الشبان، وأن نوثق للشعر سمعياً وبصرياً. ومنذ سنة 1993 الى 1997 اشتغلنا وقمنا بعمل مهم ولفتنا الانتباه إلينا كحالة مؤسسية جادة واستدعينا تجارب وأسماء من كل الحساسيات الشعرية. وفي سنة 1997 عندما كانت تونس عاصمة الثقافة العربية، كنا بصدد تنظيم الملتقى الأول للشعر العربي، وقعت تدخلات من أطراف عدة، وأنزل نقاد جامعيون بالمظلات لاتخاذ القرارات في تنظيم هذا المهرجان.
كانت رؤيتي كالتالي: ما دخل هؤلاء النقاد الجامعيين في عمل "بيت الشعر" وهم الذين لم يكتبوا سطرا واحدا عن الشعر التونسي خلال حياتهم وكانوا يعتبرون أنه لا يوجد شعر في تونس، ويجاهرون به. كيف نعطيهم هذه الفرصة؟ ثم إنني خريج تنشيط ثقافي وأعرف كيف أنظم وقد أحتاج الى المسرحيين والتشكيليين أكثر من حاجتي الى النقاد.
بعد هذا الاحتجاج الذي أعلنته لوزير الثقافة آنذاك، وقع إخراجي من "بيت الشعر".
لقد كان حلمي ان أحقق تجربة أو حالة عربية في مستوى ما شاهدته في أوروبا وفي فرنسا تحديا حيث تقام مهرجانات للشعر وبيوتات يقرأ فيها الشعراء، وحيث هناك عدد لا يحصى من أشكال الاحتفاء بالشعر والشعراء، وكنت أقول، نحن أمة الشعر أولى بتأسيس هذه البيوتات. لكن أعتقد ومن خلال هذه التجربة ان الأخبار الجميلة لا تقتلها الدول والمؤسسات بقد ما يقتلها المثقفون أنفسهم، الأنظمة أرحم من المثقفين.

* بعد هذا الخروج من "بيت الشعر" أحسست بأنك مطلوب ومطارد وأن خناق العاصمة يضيق عليك، فكان أن وجهت سهامك شمالا وجنوبا؟

- لم يتم التصرف معي بشكل جيد، كان سلوكي غير لائق بشاعر، لكن ما آلمني أكثر بعد خروجي من "بيت الشعر" وبقيت في منزلي آخذ راتبي، وكأني في إقامة جبرية مدفوعة الأجر، هو المضايقات التالية من قبل بعض الجهات الإدارية، وذلك بمنعي من تلقي الدعوات ومن السفر مرات عدة حيث تم تفويت مهرجانات عدة ولقاءات علي، وكأن الأمر يتعلق بخطة مدروسة لتطويقي وإنهائي، ولذلك استغل الفرصة لأقول لكل من يريد ان يدعوني ان يدعوني على هاتفي او على عنواني الشخصي دون أن أمر من أية "مؤسسة".
فالشعراء والمثقفون ليسوا وحدة متجانسة، من يقمع المثقف؟ انه المثقف الآخر، ومن يقمع الشاعر؟ انه ذلك الشاعر الآخر، ونيتشه يسمي هؤلاء ب "تقنيي المعرفة" وكثير من الشعراء العرب قمعوا من شعراء آخرين او مثقفين آخرين.
إنني هنا، لا أشتكي من بلدي، ان السلطة تعتبرني شاعرا والشرطة والمعارضة والنقابة يعتبرونني شاعرا، ولكني تعبت وأستطيع أن أعيش لحظات هدوء لكي أتمكن من الكتابة، لكي لا أظل اشتكي وأهاجم دفاعا في كتابتي. لا بد أن نبرم "معاهدة سلم" حتى يتفرغ كل واحد الى شغله وعمله، فالشاعر لا يشتغل بالسياسة من حيث كونها تكتيكاً واستراتيجية ولكنه يشتغل بمصطلح آخر وهو "السياسي" Lo poltique.
ان وظيفة أي مثقف حقيقي وأي كاتب هي وظيفة نقدية، و"التزام" أي انه يطرح بشكل صادق أفكارا وقيما ويدافع عنها، وطبقا لذلك اعتبر نفسي ملتزما، ولكن بماذا؟ بأن يكون الإنسان حرا، وان نعمل على أن يتحرر الانسان، انه يسوءني ان يتحدث النقاد عن الشعر وكأنه نشاط علوي يحدث في السماء. ان الواقع وجسد الشاعر هما وسيلة لإنتاج الشعر.

* هل تشعر بأنك تترجم ذلك في شعرك؟ أي انك تكتب من الموقع النقدي؟

- أصارحك القول إن الغالب على شعري هو نقد الأفكار والقيم المطروحة، ثم جانب من السخرية، لكن عندما تقرأ نصوصي لا تجدها تشبه الآخر، كأنني أكتب كل مرة من جديد، إنني اكتشف نفسي في كل لحظة ونصوصي مستقلة الذات وقائمة بنفسها، غير إنني أتمنى أن أخرج من دائرة رد الفعل.

الخليج الثقافي
2005-01-17