التقاه في صنعاء: محمود معروف

عبدالعزيز المقالحمنذ زيارتي الأولى لصنعاء، كان مقيل الدكتور عبدالعزيز المقالح ، بابي الي تلك المدينة المجبولة بالثقافة والأصالة وحب ضيوفها. مجموعة من مفكري اليمن ومثقفيه، ودائما كان معهم ضيف او ضيوف عرب، يتناقشون في الثقافة العربية وشؤونها، وفي حال المثقفين العرب وهمومهم.
قبل ان ازور صنعاء، للمرة الأولي، منتصف 1989، كنت وأثناء الإعداد لإصدار القدس العربي ، قد بعثت برسالة للدكتور المقالح، بواسطة الصديق عبدالله عبدالسلام صبرة، الذي كان في حينه سفيرا لليمن بالرباط. رسالة أحدثه فيها عن المشروع الذي سيري النور بعد ذلك بثلاثة شهور واسأله رأيه وإمكانية مساهمته، وكان رده خلال أيام يبارك فيها الفكرة ويبدي استعداده للمساهمة بالقصيدة او بالمقال.
اللقاء الاول مع الدكتور عبدالعزيز، الانسان، كان في جامعة صنعاء التي كان يرأسها، لم نكن بحاجة للتعارف، كان بالنسبة لي ما رسمه خيالي له علي ضوء ما كنت اقرأه له او ما يحدثني عنه أصدقاء مشتركون. قال لي ان مقيله في ذلك اليوم في منزل الصديق الشاعر محمد عبدالسلام منصور وكتب لي علي ورقة صغيرة عنوان المنزل.
منذ ذلك اليوم يكون موعدي في مقيل الدكتور عبدالعزيز في اليوم الاول لوصولي لصنعاء، أمر لزيارته بمكتبه بمركز الدراسات والبحوث في شارع بغداد او اتصل بمنزله وقت الظهيرة اسلم عليه ويبلغني مكان المقيل.
في المقيل، الذي يمتد من الثالثة ظهرا حتى السابعة مساء، كانت مواضيع النقاش تتعدد، من مقال منشور في صحيفة او فصل من كتاب او قصيدة جديدة وأحيانا قضية سياسية او ثقافية او فكرية، ودائما في مقيل مركز الدراسات كان الموعد مع الشعراء الشباب يقدمون آخر إبداعاتهم.
في اليوم الاول من زيارتي الأخيرة لصنعاء، لم يكن الوقت يسعفني لزيارته في المركز، اتصلت هاتفيا بمنزله ولم أجده وحوالي الثالثة اتصلت بالصديق محمد عبدالسلام الذي ابلغني ان المقيل سيكون في منزل الصديق علي الحبوري.
كان في المنزل لفيف من الكتاب والشعراء والباحثين. وفاة اللواء مجاهد أبو شوارب، احد أبطال ثورة 26 أيلول (سبتمبر) 1962 والمدافعين عنها طوال السنوات الأربعين الماضية، شغلت الحيز الرئيسي من تلك الساعات، سمعنا من الدكتور المقالح بعض أبيات من قصيدة رثاء وتحدث احد الأصدقاء عن مشروع كتاب شهادات عن الراحل ، وحكي الجميع عن ذكريات لهم معه.
حدثته عن حوار صحافي وبعد مراجعته لمواعيده اتفقنا علي ان نلتقي بعد جلسة افتتاح مؤتمر وزراء الثقافة العرب، والى ان نلتقي في ذلك اليوم، التقينا في اليوم التالي في مقيل الصديق عبدالله عبدالسلام صبرة وكان معنا الشاعر المصري الصديق احمد الشهاوي وعلي عبدالله السلال عضو مجلس الشوري اليمني وكانت محاور النقاش حول المسؤولية السياسية والشعر، وقدرة من يتولى المسؤولية ويقمع ويفسد سياسة وشعراً.
قبل ان نبدأ طرح الأسئلة علي الدكتور عبدالعزيز، ابدي رغبة في ان ندون أجوبته لا ان نسجلها، وهو ما حمل الزميل خالد الحمادي مراسل القدس العربي في صنعاء عبئا إضافة لعبء التصوير. وحين شعر الدكتور بالتعب طلب ان نكمل الحوار في وقت آخر وكان عصر اليوم نفسه في منزل الدكتور عبدالله مجاهد الرئيس السابق لجامعة ذمار وحين ذهبت لأودعه في يومي الأخير في صنعاء طلب إضافة فقرات جديدة.
كان حواري مع الدكتور عبدالعزيز المقالح من أمتع وأصعب الحوارات الثقافية التي أجريتها طوال مسيرتي المهنية، فرغم السنوات الطوال التي اعرفه فيها، كنت ارسخ خلال هذا الحوار قناعتي بنقاء هذا المثقف الحامل بكل تواضع لقب ضمير الثقافة العربية، وأيضا بكونه احد أركان الشعر العربي المعاصر، لكن الي جانب كل هذا تمسكه بالقيم العربية النبيلة التي لم يزد الظلام الذي يحاول ان يهبط علي أيامنا بهذه القيم الا صفاء ورسوخا عنده.
هنا نص الحوار:

* هناك شعور بأن الثقافة العربية في حالة تقهقر وانهيار؟

أشاركك والآخرين الشعور نفسه والرؤية نفسها، فكل شيء في واقعنا العربي يعاني من الانهيارات المتلاحقة، ولا تستطيع الثقافة أن تنجو بنفسها من هذا الواقع المنهار ولكني قد أختلف معك ومع الآخرين في أن هناك جوانب من المشهد الثقافي تبعث علي الأمل وتؤكد، ولو في نطاق محدود، بأن الصورة ليست قاتمة الي هذا الحد، ولعل هذا الجانب المضيء في الثقافة يذكرنا بالجانب المضيء من المقاومة لكل أسباب الانهيار، والمتمثلة حتى الآن في المقاومتين الفلسطينية والعراقية... ولا ينبغي أن ننسي أن هذا الإشعاع المقاوم يعطي للثقافة ضوءا يساعدها علي ألا تنهار كليا ولا تسقط كل جدرانها، تستطيع أن تلمح ذلك في بعض القصائد وفي بعض اللوحات وفي الأناشيد الوطنية التي لم تفقد بريقها، في أشياء كثيرة تحاول ان تكون انعكاسا لذلك الضوء المنبعث من المقاومة الفلسطينية ثم المقاومة العراقية ثانيا.

* هذا الضوء المنبعث، هل هو ضوء متجدد أم جديد ؟

لا أستطيع الفصل بين الضوء القديم المتجدد والجديد كما لا أستطيع الفصل بين المقاومة قديما والمقاومة حديثا، وإذا اعتبرنا المقاومة الفلسطينية استمراراً للتضحيات التي قدمها هذا الشعب العظيم علي مدي نصف قرن، فكيف سنحكم علي المقاومة العراقية وهي ابنة اللحظة الراهنة، وخميرة مقاومة عربية جديدة علي استعداد لتمتد الي بقية الأقطار العربية في حالة ما إذا تواصل التحدي وأيقظ كوامن الإحساس في الأمة التي طال صبرها وإذلالها.

* في العقود الماضية، كانت قصيدة تستطيع ان تحرك الشارع العربي، أما الآن فلا، هل هذا عيب في القصيدة أم في الوجدان؟

من قال لك ذلك، ما يزال محمود درويش قادرا علي أن يحول عشاق كرة القدم من الذهاب الي الملعب الرياضي الي الذهاب الي القاعة وحول القاعة، التي يلقي فيها قصائده، قد يكون العيب في بعض القصائد وفي بعض الشعراء وليس في القصيدة أو الشعر، فمازال وجدان الأمة الساخن قادرا علي الانفعال بالكلمة الصادقة وما أكثر الشواهد التي يمكنني إيرادها في هذا المجال.
الشعور المتأجج الراهن لا تصنعه الأحداث العاصفة وحدها وإنما تصنعه الكلمة أيضا، صحيفة القدس العربي ، وأنا لا أجاملك ولا أجامل صحيفتنا، بل أعكس واقعا حقيقيا، هذه الصحيفة تقوم بدور قوات مسلحة، فيما يتعلق بما تنشره وتفضحه من مواقف من خلال الكلمة الصادقة التي تتبناها، تأثيرها غير عادي. واسمح لي أن أقول أن كل كلمة صادقة هي قصيدة، بغض النظر عن طريقة صياغتها. وهي قنبلة إذا أحسن صاحبها استخدامها.

* منذ بداية التفكير والترويج لاحتلال العراق، رأينا جيوشا من المفكرين والمثقفين العرب يروجون لهذا الاحتلال. فكيف يكونون مثقفين وهم يروجون لأعداء الوطن ضد الوطن؟

لا نستطيع أن نعاقب أو نلوم الأرض التي تنبت الورد أنها تنبت العلّيق والحقل الثقافي باتساعه لا يمكنه في كل الأحوال أن لا ينبت الا مثقفين مخلصين، صادقين مع أنفسهم ومع أمتهم ومع الانسانية جمعاء.
في الحقل الثقافي نماذج هي الأردأ والأسوأ من بقية الحقول المعرفية، وتجار الكلمة موجودون في كل زمان ومكان وما يكادون يحسنون كتابة بعض الجمل حتى يبدأوا في عرض أنفسهم في سوق النخاسة، شأنهم شأن كل شيء رخيص معد للبيع. أقرأ أحيانا في بعض الصحف وأشاهد أحيانا في الشاشة مسوخا بشرية تنتمي الي الثقافة والي السياسة، وأشعر، وهي تتحدث، بحالة من الغثيان الشديد، ولا أظن أن إنسانا يمتلك ذرة من الإحساس بالوطنية وبالقيم الروحية والإنسانية يمكن أن يسمح لنفسه بالقيام بما يقوم به هؤلاء من التحريض علي أمتهم، علي أهلهم وربما يتجلي الخزي في أبشع صورة، عند هذه الفئة من مثقفي الدولار الذين يبررون الاحتلال الأمريكي، ويرون فيه تحريرا. يا لقذارة الكلمة عندما تسقط الي أدني حضيض.

* هذا الجو غير ملموس بكثافة في اليمن؟

أعتقد أن الفضل في ذلك يعود الي الثورة اليمنية التي حمت روح الانسان من الانهيار وأعطته قدرة علي مقاومة المغريات، وجعلته دائما مشدودا الي قضايا أمته ولا أعتقد أن اليمن وحدها هي التي تتمتع بهذا القدر من النقاء، كل أقطارنا العربية دون استثناء، ولكننا أحيانا نقرأ الوجه الظاهر ولا نتعمق في قراءة ما تخفيه هذه الأقطار من مثقفين ملتزمين، يتبنون بصدق وإخلاص مواقف أمتهم ويرفضون أن يكونوا أبواقا لأعدائها تحت كل الظروف.

* هل لهذه القضية علاقة بالإعلام ودوره في تخريب الثقافة؟

لاشك عندي في الدور التخريبي الذي لعبه الإعلام العربي في تخريب الثقافة والعمل علي تهديم صروحها المتينة وما بذله بعض رجال الإعلام من شراء النفوس واستقطاب الأقلام ولكنني كنت دائما أفرق بين ما تبذله بعض الأقطار العربية ووسائل إعلامها من استقطاب أقلام رخيصة للدفاع عن توجهاتها الاقتصادية والسياسية ولتبرير مواقفها الداخلية وبين دور الإعلام في الاستقطاب الأخطر والأقدر لتسويق ولترويج المشروع الأمريكي الصهيوني والعمل ليل نهار علي إعطاء هذا المشروع صبغة الديمقراطية وحقوق الانسان، الي آخر هذه الأكاذيب وهنا ربما أمكن الحديث عن أولئك المثقفين المبشرين بمشروع الإصلاح الأمريكي للوطن العربي وسرعة انخداع هؤلاء بأن الإدارة الأمريكية تمتلك مشروعا لإصلاح الوضع الفاسد في الوطن العربي. وما يؤسف له أن هؤلاء المخدوعين الخادعين لم يتوقفوا ليتساءلوا عن حقيقة هذا المشروع وهدفه، كما لم ينهضوا من قبل ولا من بعد بتقديم مشروع إصلاح عربي نابع من قلب الأمة ولفضح الفساد وإهدار الاقتصاد وكل ما يعانيه المواطن العربي من اضطهاد وقهر وبؤس. لماذا لا يكون هذا مشروعنا بدلا أن يكون مشروعا أمريكيا. وحتى لو كانت الإدارة الأمريكية صادقة في مشروع كهذا فان غالبية الأمة لابد أن ترفضه وتقاومه فضلا عن أنه مشروع خداع مؤقت لا غير.

* تلاحظ أن أبرز الأصوات الداعية للمشروع الأمريكي كانت أبواقا للأنظمة الديكتاتورية والفاسدة ، ولماذا تركزت دعوة الديمقراطية وحقوق الانسان علي الدول العربية الفقيرة ؟

نحن بحاجة الي إصلاح عربي من الجذور، إصلاح في التعليم وإصلاح اقتصادي سياسي وإصلاح ثقافي وإصلاح وضع المرأة والطفل. نحن نعيش في واقع عربي متخلف وضاغط ولكن الحل لن يأتي من خارج هذه الأمة ولن يكون علي دبابة أو طائرة أجنبية، الحل بأيدينا نحن، بأيدي السياسيين العرب والمثقفين والاقتصاديين العرب بأيدي النخبة التي شتتها المصالح والأهواء السياسية ولم تستفد من تجاربها الطويلة ولا من تجارب الأمم الأخرى حولنا وبالقرب منا. والغريب أننا كنا نقسو بشدة علي المثقف الذي يتعاون مع الحاكم في بلده أو مع المثقف الحزبي الذي يقف مع حزبه الحاكم ثم أصابتنا حالة من الصمت واللامبالاة تجاه مثقفين يعملون مع الأجنبي ويروجون لمشاريعه وأفكاره.

* هل تعتقد أن هذا الحال هو الذي يحول دون ظهور مبدعين عمالقة كالذين ظهروا في الخمسينات والستينات وغيرها؟ تلاحظ معي انه لم يظهر في حياتنا الثقافية طوال العقدين الماضيين عمالقة؟

لا أريد أن يصل بي التشاؤم الي درجة ترديد ما يقال من أن في عصر الأقزام لا يوجد سوي الأقزام. الوطن العربي حتى في هذه العتمة يوجد فيه كثر من العمالقة في مختلف التخصصات لكن الواقع المنحط لا يركز أضواءه سوي علي نجومية معينة ذات صفات غير ايجابية وما عليك الا أن تشاهد أقرب قناة تلفزيونية لتري كيف يتم الترويج لنجوم الفن الهابط وعلي ذلك عليك أن تقيس بقية الحالات والمجالات الإبداعية.
الأمة العربية أمة ولود وهي لم تتوقف في يوم من الأيام عن إنتاج العمالقة من المبدعين والمبتكرين ومهما ساءت الأحوال فلا ينبغي أن يصل بنا اليأس والتشاؤم الي درجة تصور الأمة وقد أصبح أبناؤها مجموعة من الأقزام.

* احتضنت صنعاء كعاصمة للثقافة العربية مهرجان الشعراء الشباب، هل لمستم ما يبشر بشعراء محدثين في ديوان العرب؟

لا أكتمك أنني صدمت بأغلبية النماذج المقدمة في ذلك المهرجان بما في ذلك عدد من المبدعين اليمنيين الشباب الذين شاركوا في هذا المهرجان الخاص بشعراء التسعينات، ولكنك وأنت تسمع وتري لابد أن تجد وسط هذا الحشد نماذج متميزة وقادرة على أن تكون شيئا كبيرا ورائعا في المستقبل القريب ومن المؤكد أن المهرجان لم يحضره سوى عدد قليل من الشعراء وأن هناك نماذج متميزة أخرى لم تشارك وقد يتاح لها الفرصة في اللقاء القادم فوزارة الثقافة اليمنية تنوي اكتشاف شعراء المستقبل من بين هذا الرصيد الإبداعي، والكنز المخبوء في أعماق هذه الأمة التي وصفتها فيما سبق بالولود؟

* الشعراء الحداثيون العرب نهلوا من كل التراث الشعري، لكننا نجد الآن الشعر الشاب منفصلا من هذا التراث؟

اسمح لي أن آخذ دور محامي الشيطان في هذا اللقاء وأن أدافع عن الجيل الجديد باعتباره المستقبل شئنا أم أبينا ولا أخالفك أبدا بما يتعلق بانصراف الغالبية عن التواصل مع التراث والاقتراب من أهم عناصره والقلة القليلة هي التي تفعل ذلك، وبين هذه القلة عناصر تملك من الوقاحة أو الصفاقة ما يجعلها تنكر كل شيء قبل ولادة عبقريتها وهي مع ضحالة فكرها وتفاهة ما تنتجه من كلام منثور تفوقه بعض المقالات الصحافية، تدعي أن تاريخ الشعر يبدأ معها، ولا تكف عن الدعوة الي القطيعة ليس مع التراث فحسب بل ومع مبدعي جيل السبعينات والستينات والخمسينات باعتبارهم جزءا من الماضي.
الفقاقيع يا أخي كثيرة والظواهر الشاذة في حياتنا الأدبية موجودة بشكل يؤذي الضمير ولكنه من حسن الحظ أنها لا تمثل سوى بقع ونتوءات في الجسد السليم.
كيف صنع المقالح علاقته مع الجيل الجديد من الشعراء اليمنيين؟
أتوهم أن علاقتي بالمبدعين على اختلاف أجيالهم تقوم على أساس متين من المحبة وتبادل الخبرات والاهم وجود مساحة من الاحترام والثقة بين الأجيال وان كان الأمر لا يسلم من وجود نوع من الشذوذ الذي سبقت الإشارة اليه، فهناك أفراد لا ينقصهم الطموح ولكن ينقصهم مقومات الطموح، وليس في أعماقهم شيء يمكن أن يتبلور في يوم من الأيام يمكن أن يشد القارئ المحلي أو العربي.
لذلك فان فشلهم الواضح والأكيد جعلهم لا ينكرون آباءهم ويعتبرون أنفسهم لقطاء، ويعتزون بحالتهم هذه فقط، وإنما يسارعون الي التطاول علي زملائهم وعلي كبار المبدعين في الوطن العربي والعالم. وأتذكر بالمناسبة أحدهم هاجم المتنبي بعنف لأنه لم يكن اشتراكيا علميا.

* المقالح مرجعية ومحج للمثقفين العرب وعنوان للثقافة اليمنية هل هذا عبء عليه؟

أرجوك أن تحميني من هذه الألفاظ والمهام، وتعلم كم أقدرك وأحترم رأيك القوي النابع من القلب ولكنك لا تدري ما تجره علي هذه الصفات من ويلات الصغار، في الثقافة وفي الرؤيــــة وفي احترام الناس، لست مع نفسي سوى مشروع مبدع عربي يحاول أن يقول شيئا في هذا الظلام قد يوفق تارة ويفشل تارات، وربما كان رأسمالي هو صداقتي لعشرات المبدعين في داخل هذا الوطن الصغير وفي الوطن العربي الكبير من المغرب الي جبال ظفار في عمان، وبهؤلاء ومعهم نستطيع أن نقيم أفضل الصلات وأن نواصل البحث عن مناجم جديدة للإبداع.

* هذه الصلات والعلاقات تبنى من خلال السفر الدائم وأنت معتكف عن السفر، وكل مبدع عربي يأتي اليى صنعاء لابد له من المقالح وان قصر السفر؟

ذلك كله مصدر اعتزازي وتقديري وربما كان لبقائي الدائم في هذه المدينة، صنعاء، وعدم مبارحتي لها ما يجعل عددا من أصدقائي يحنون إليها ويشاركوني الاستمتاع بأجواء هذه العزلة الاختيارية الجميلة، ولا أخفي أنني أري العالم كله من خلالهم وأشعر عندما يتأخرون علي المجيء الي صنعاء بأن الجفاف يحاصرني رغم طاقتي الداخلية وقدرة هذه الطاقة علي الرحيل المستمر الي أنحاء عديدة من هذا الكوكب الذي أصبح صغيرا الي درجة لم تكن متوقعة.

* التطورات التقنية الحديثة في ميدان الاتصال (الانترنت والهاتف المحمول) قربت العالم إليك أم أبعدتك عنه؟

هذه التقنيات المدهشة بقدر ما قربت العالم الي بعضه وجعلت المعرفة كالماء والهواء فقد حطمت أشياء جميلة في النفوس وفي الحياة وأخشى ما أخشاه أن تقضي علي قدرة التخييل وهو رأسمال المبدعين والشعراء عليى وجه الخصوص. هؤلاء الذين تأخذهم التصورات الى أماكن بعيدة لم تكتشف بعد. تلك هي مشكلة التقنية مع الإبداع والمبدعين أما ماعدا ذلك فقد فتحت الآفاق الواسعة ليرحل عبرها الانسان الي اكتساب كل ما من شأنه أن يجعله إنسانا حديثا ومعاصرا.

* الإبداع، الشعر تحديدا، لغة وصورة، هل هذه التقنيات تؤثر علي إبداعيات الصورة؟

لا أشك في ذلك، صورة عنترة في ذهني أجمل وأروع بما لا يقاس من تلك التي قدمتها لنا الصورة التقنية بمقدار ما تساعد علي التجسيد والتقريب بقدر ما تقتل الحواس وتحد من قوة الخيال. القصة التي أقرأها أو أسمعها في الراديو تعطي ذهني قدرة علي تخيل الأماكن والأشخاص بحرية وبالطريقة التي أريد، أما تلك القصة التي تقدمها لي شاشة التلفزيون فهي تضعني في إطار محدود لا أستطيع تجاوزه، وتقدم لي أشخاصا وأماكن قد لا يروقون لي ولا يجسدون ما كان في خيالي، تلك هي التقنية ولكن أين نهرب من آثارها وسطوتها.

* مع حالة الانهيار كثرت الجوائز التي تخصص للشعر والقصة والرواية؟

الجوائز، سلاح ذو حدين، فالمثقف العربي والمبدع بخاصة، يعاني من حالة فقر مزمنة، تعود الي أقدم العصور واليى درجة ربطت هذه الحالة بكل مبدع أدركته حرفة الأدب .
معني ذلك أن الإبداع الأدبي رافق دائما الفقر والحاجة وهو للأسف الأمر الذي دفع عددا من الشعراء والمبدعين الي الارتزاق والكسب بشعرهم وإبداعاتهم. وكاد العصر الحديث يصير امتدادا للماضي، فلم تظهر مؤسسات شعبية وغير رسمية بعيدة عن السلطة تأخذ بأيدي المبدعين وتحررهم من وطأة الحاجة وكان لابد من أن تظل فكرة الجوائز التي صار الجميع من كبار الكتاب والشعراء والنقاد يتقبلون بعضها بقدر من الرضي غير الكامل.
ومن وجهة نظري أن الجوائز غير المشروطة قد ساعدت بعض المبدعين العرب علي تجاوز حالة الفاقة والعوز الي حياة ممكنة نسبيا وأعرف عددا من المبدعين الذين حصلوا علي هذه الجوائز ما كانوا يجدوا مأوي قبل حصولهم علي واحدة من هذه الجوائز.
وعلينا ان لا ننسي أن الأوضاع المؤسفة للمبدع العربي والمثقف العربي جعلته ينتظر مثل هذه الجوائز ويعتبرها طوق النجاة والملاذ الممكن للخلاص من حالة البؤس الدائمة.

* اعتكفت عن السفر، حتى بات اسم المقالح مقترناً بعدم السفر؟

لأسباب عديدة منها ما كنت أصرح به ومنها ما لم أكن أصرح به، ما كنت أصرح به أنني شاهدت جزءا لا بأس به من العالم وزرت جزءا من المدن الصغيرة والكبيرة وبعض الأماكن سواء في الوطن العربي أو في أوروبا، زرتها أكثر من مرة مما أثار في نفسي حالة من الملل وأقنعت نفسي بأن لا جديد تحت الشمس، هذا ما كنت أصرح به، وهو صحيح وهناك ما لم أصرح به وهو التنافس على السفر وعلى بدل السفر، عندما بدأت عملي في احدى المؤسسات اكتشفت أمرا فظيعا وشاهدت معارك لا تقل في خطورتها النفسية عن عاصفة الصحراء بين الموظفين على من يسافر ومن يستحق بدل السفر الأكثر عندها أقسمت يمينا بألا أشارك في هذه المعارك، وقد نجحت وأتذكر أن أحد المسؤولين قال لي سافر بدون بدل سفر فقلت له من سيصدق أنني سافرت بدون بدل سفر. وفي هذا المجال بالذات أود أن أدحض ما يقال أن الطائرة هي سبب رئيسي في عدم قبولي للدعوات والأسفار الخارجية، فأنا سافرت على الطائرة عشرات المرات وكنت ومازلت اعتبر السفر عليى الطائرة نوعا من ممارسة الشعر، فالتحليق بين الغيوم البيضاء ضرب من الإبداع الجميل، ولهؤلاء الذين ما زالت في ذهنهم بقية من الشك في هذه الفرية أقول لهم إنني لا أسافر من صنعاء الي قريتي التي تبعد بالسيارة 90 دقيقة فقط لسبب صار واضحا أنني شديد العزوف عن السفر في حد ذاته لا في وسيلته.

* هل السبب هي صنعاء؟

لقد صارت صنعاء بالنسبة لي وفي المرحلة الراهنة كالماء والهواء وصرت في أحيائها القديمة كالسمكة التي لا تستطيع مغادرة الماء. تعيش هذه المدينة في وجداني منذ الطفولة الباكرة وتأخذ شكلا أسطوريا قد لا يكون لها في الواقع.
قروي في الخامسة أو السادسة من عمره يدخل المدينة الكبيرة المبهرة، يشده معمارها وتدهشه مآذنها الضاربة في الأفق البعيد، كان مع زملاء طفولته يلعبون لعبة الدخول من باب والخروج من باب آخر أو لعبة السباق في الدوران حول أسوارها القديمة التي كانت العربات تمشي فوقها.
كل شيء الآن في هذه المدينة يذكره بطفولته في زمن بائس ولكنه عذب وجميل لبساطته وخلوه من التعقيد فصنعاء القديمة ما تزال تمتلك جوانب كثيرة من هذه العناصر المثيرة للدهشة ولإيقاظ الطفولة من مكامنها ولا تستطيع أن تتصور مدي سعادتي عندما أجد مبدعا عربياً أو أجنبيا يشاركني هذا الإحساس بالجمال الخفي للمدينة التي باتت تتعرض منذ وقت غير قصير للهجوم غير المنظم علي تراثها الرائع.
لقد حاولت أن أسجل مشاعري إزاء هذه المدينة بعمل شعري لقي اهتماما وتقبلا غير متوقعين وهو كتاب صنعاء ومازالت هذه المدينة قادرة علي أن توحي لي بالجديد بالإضافة الي أنها تجعلني أسير مناخها وجمالها الطبيعي النادر.

القدس العربي
2004/12/31