فتحي عبداللهيبدو الشاعر فتحي عبدالله حادا في شعريته ولغته كما يتجلي في دواوينه راعي المياه وسعاده متاخره وموسيقيون لادوار صغيره، مثلما هو حاد ـ ايضا ـ في رويته وانتقاده لشعراء ونقاد وردت اسماوهم في هذا الحوار، وهذا ما يمكن ان نختلف حوله، لكن ما لا يمكن الاختلاف عليه هو شعريه فتحي عبدالله وحقه الغاءب في الوجود علي ساحه الثقافه بصوره تناسب وعيه المعرفي والشعري.

* لماذا ـ اذن ـ تصعد نصوص لا تصمد امام الاختبارات، ويبقى نص فتحي عبدالله سادرا في هامشيه تناسب شخصيته، وايثاره عدم التورط في علاقه مع الموسسات الثقافيه الرسميه..في هذا الحوار نكشف جانبا من هذه الثناءيه..فالي التفاصيل* تكاد تكون ثيمه العنف ساءده في كل اعمالك، خاصه الديوان الاخير موسيقيون لادوار صغيره فهل هذا قناع تخفي وراءه وجها اخر؟

حاله التوحش البداءيه، تكاد تكون مثيرا اساسيا بالنسبه لي، حيث الغراءز الانسانيه والانفعالات والعواطف اكثر فطريه، والخيال هو القوه الدافعه لجميع سلوك الانسان. وكانت تسيطر علي في الصغر غريزتان هما :الخوف والعنف. الخوف من كل ما هو غامض حيث الحكايات في القريه عن المخلوقات، التي تتحكم في مصاءر البشر مما دفعني الي قراءه كتب السحر والتنجيم ومحاوله استحضار الجان كشكل من اشكال القدره علي تحقيق الطموحات والاشواق‏.وكان العنف هو الوجه الاخر للخوف‏، فانشات فرقه من بعض زملاء الدراسه لممارسه العنف في اطار محدود‏، وحاولت الانضمام الي جماعه التكفير والهجره وقد بهرتني صوره شكري مصطفي بشكله الجيفاري وقدرته علي التذوق اللغوي الا ان خطابه لم يكن مقنعا لي في تلك المرحله ، وبعد التحاقي بكليه التجاره الخارجيه‏، انقطعت عن الدراسه وانفصلت عن المجتمع وكان رفيقي في التجربه الجديده الامام الغزالي في كتابه احياء علوم الدين فادخل علي قلبي السكينه وايقظ بداخلي غريزه الحب ولم يكن امامي الا الطرق الصوفيه بحسها الانساني، وكنت اقضي معظم اوقاتي في سماع القرآن والغناء الصوفي‏، والذكر في الحلقات ليلا‏، وفي ساعات النوم تختلط الاجساد وتتداخل‏، وكانت مشاركتي فيه نوعا من الفرح الاسطوري‏، وقد تجلي اكبر قدر من الخوف والعنف في ديواني الثاني سعاده متاخره‏، اما الاخير موسيقيون لادوار صغيره فقد جاء استجابه لغريزه المحبه لهامشيين‏، خارج انماط المجتمع‏، فهو يدور حول العازفين علي الالات في الافراح والاحتفالات الشعبيه.

*هناك من يري ان شعراء السبعينيات قدموا نصا جديدا كرد علي شعراء الستينيات‏، الذين جاءت قصيدتهم ظلالا باهته لشعراء الرياده؟

هذا ليس صحيحا‏، فنصوص عفيفي مطر جاءت مفارقه لنص الرواد وتضرب بجذورها في ثقافه بعيده‏، وتاثره بالسياب وادونيس في فتره من حياته لم يمنعه من ان يقدم تجربه خاصه وذات اهميه‏. وكذلك امل دنقل الذي تاثر بالشاعر "احمد عبدالمعطي حجازي"في اول حياته الا انه قدم تجربه متميزه وخاصه جدا فهو من اواءل شعراء مدرسه الحداثه استخداما للتفاصيل اليوميه والسرد والحكايه والبناء الداءري الذي يعتبر ركيزه اساسيه في الشعريه الجديده‏.‏
اما جيل السبعينيات فان اكثر ما يميزهم هو المغالاة في استخدام الصوره واللغه حتي اصبح النص مفرغا من الدلاله الشعريه ومن الحياه‏، فشعريه حسن طلب تعد انتكاسه لشعر الحداثه‏، وكذلك رفعت سلام والعاب امجد ريان‏، اما الذين يعيدون شعر الستينيات فهم كثر ويشكلون معظم السبعينيات‏.اما بعض التجارب المهمه في هذا الاطار فقد قدمها احمد طه‏، وحلمي سالم وعبدالمنعم رمضان وهي قليله لا تقيم شعريه مختلفه عن المنجز السابق‏، وان كان افقها مازال مفتوحا‏.‏

*انت تحدثت عن امل دنقل وعفيفي مطر فقط باعتبارهما جيل الستينيات في مصر‏، بينما هناك اخرون منهم فاروق شوشه وابو سنه‏، فما معيار تصنيف عفيفي مطر ضمن هذا الجيل‏.ولماذا لا تعتبره ضمن جيل الرواد عبدالصبور وحجازي؟

المعيار الاساسي هو الشعريه ومدي تحققها في زمان ومكان متعينين‏، حتي لا نهدر تاريخيه الابداع‏، وكيف تطور من حقبه الي اخري ونص مطر جاء لاحقا لتجربه الرواد ومطورا لها‏، فتجليه الاكبر كان في اواخر الستينيات والسبعينيات ولهذا لا يمكن اعتباره ضمن جيل الرواد‏، الذين اكتشفوا الشكل الجديد‏، بكل اخطاءهم وتردداتهم ومحاولاتهم المستمره في خلق انساق اداءيه للكتابه الحديثه‏، سواء استطاعوا ام لم يستطيعوا‏، يكفيهم فقط هذا الميراث من الانجاز سواء في الشعريه ام الكتابه عنها‏.‏
يبقي ان الانجاز الحقيقي للستينيات هو تطوير هذه الاشكال والدفع بها الي مناطق اكثر شعريه‏، وقد تميز منهم ثلاثه فقط هم مطر‏، ودنقل‏، وابو سنه‏، اما فاروق شوشه فقد قدم نصوصا مازومه‏، تنتمي في شكلها للحديث اما الرويه فكانت قديمه‏، واكثر كلاسيكيه من عصر الاحياء‏، هذا من جانب وعلي الجانب الاخر فان شعريته ضعيفه‏، ومكتوبه سلفا من قبل جيل الرواد‏، ولم يقدم خصاءص او سمات لنصه اللهم الا التكرار والرتابه والسكون‏، فهي شعريه لا حياه فيها ولا احداث وانما هي مجرد ترانيم لغويه لا تميل الي شيء ذي قيمه‏، اما ابو سنه فقد قدم النموذج الامثل لما عرف بالشعر النقي الخالص من جميع التطورات الايديولوجيه والتراثيه‏، وكان يمثل جناحا خاصا في الشعريه المصريه‏، مازال له مذاق خاص حتى الان‏.‏

*رغم رأيك السلبي في شعريه حسن طلب الا انني اظن انه الوحيد بين ابناء جيله الذي يمتلك مشروعا شعريا قائما على وعي كبير بالتراث في الدرجه الاولي؟

حسن طلب يمتلك مشروعا شعريا متعددا‏، ومتنوعا وان كانت تحكمه في معظمه الرويه التوفيقيه ذات الحس الفلسفي في الجمع بين الحديث والقديم الا ان اداءه الشعري جاء منحازا في كليته للقديم وتغليب المفاهيم التي تنتمي للعصور الوسطي علي اللحظه الراهنه والمعاشه‏، والكلام الكثير عن تميزه يفقد اهميته لانفصاله عن الحقبه التي يعيش فيها‏، فنصوصه تعاني اغترابا لغويا ووجوديا بشكل لم يحدث في الشعر العربي‏.‏

*تناولت بايجاز عفيفي مطر‏، ذلك الشاعر الذي لم تقيم تجربته بصوره نقديه صحيحه الي الان فكيف تري هذه التجربه؟

مطر ذو تكوين شعري خاص‏، قدم شعريه خاصه سواء في السياق المصري ام العربي وتعتمد في معظمها على الخيال والمعرفه الانسانيه معا فان تغلب الخيال قدم نصوصا عاليه الشعريه، وان تغلبت المعرفه قدم نصوصا متواضعه الا انه في مجمله قدم تجربه لم ينظر اليها في السياق الثقافي العام، وعندما كبرت ادركت ان هناك نشازا في هذه التجربه، فالموسيقي الصاخبه والحاده لا تعكس قيمه ايقاعيه او معرفه حقيقيه بموسيقي الشعر وانما هي اطار خارجي قد ورثه من الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل كما ان لغته الخشنه وتراكيبه الغراءبيه لا تعكس حسا لغويا فريدا بقدر ما تعكس ضعف علاقته باللغه الداخليه للشعر وانها تاتي لملء الفراغات الايقاعيه داخل الديوان‏.ومن هنا كان خروجي عليه وعلي جيل الستينيات جميعا

*تكاد تكون مستبعدا من المشاركه في اغلب ما يخص الموسسات الرسميه من مهرجانات شعريه او حتي تمثيل الشعر المصري في الخارج فهل سبب ذلك ـ كما ذكرت ـ انك لا تريد التورط في علاقه مع الموسسه؟

المؤسسه الثقافيه الآن‏، ليس لها سياق يدور حوله النقاش‏، سواء بالرفض ام القبول‏، وانما لها ولاءات‏، اشبه بولاءات العشيره والقباءل‏، وكلها ولاءات ذات مصالح متبادله‏، ويلعب ما هو شخصي دورا كبيرا في الاختيارات والتهميشات او النفي المتعمد والا ما الذي قدمته فاطمه قنديل وميرال الطحاوي حتي تمثلا الادب المصري في كل هذه الموتمرات والمهرجانات‏.ان العلاقات برئيس الموسسة جابر عصفور وراء كل هذه الافعال وهو ناقد قديم‏، انصرف الى اعمال الاداره‏، وكل ما قدمه خلال السنوات العشر الاخيره مجرد مقالات صحفيه في الشان العام‏، محاوله منه ان يكون كاتبا معروفا مثله مثل لطفي الخولي او غالي شكري الا انه لم يستطع ذلك لحسه الاكاديمي من ناحيه وان القراء والمثقفين يعرفون انه يلعب ادوارا ايديولوجيه ـ ربما لا يتماهي معها ـ وانما كل ذلك تكءه للصعود الوظيفي‏.وهو لا يعرف عن النص الجديد شيءا الا ما يقدمه له بعض تلاميذه المخلصين وهي في الغالب نوع من الوشايات‏، بحيث يستبعد كل الذين لا طموح لهم في الموسسه‏.وهذا نوع من قمع الابداع والمبدعين في الفتره الاخيره‏.‏
وانا لا اشارك في اي احتفالات ثقافيه‏، صغيره ام كبيره‏، رسميه ام غير رسميه‏، ولا يعود ذلك الي موقفي من الموسسه‏، وانما هي حاله خاصه لي‏، لا استطيع ان افعل غيرها‏، ويكفيني فرحتي بكتابه النص ونشره‏.‏
وصراعي الثقافي مع كل جماعات الضغط هو نوع من الدفاع عن الذات واختبارها من حيث القوه او الضعف‏.وقد استطعنا في مطلع التسعينيات ان نقدم اقتراحا شعريا لقصيده النثر‏، لم تملك الموسسه تجاهه سوي الاستجابه‏، واصبح خيارنا هو المتحقق اذ ان قصيده النثر الان تمثل المتن الحقيقي للشعريه المصريه بكل تنوعاتها واختلافاتها في الاداء والشكل‏.‏
وفي الحقبه الاخيره‏، لم تعد المؤسسة تمثل لي اكثر من دار نشر‏، لا علاقه لها بالثقافه سواء بالسلب ام الايجاب فقد استطاعت ثوره الاتصالات والمعلومات ان تجعلها متحفا‏، لا يحافظ عليها ولا يدافع عنها الا اصحاب المصالح السريه والتي تنتمي في اغلبها الي موسسات ماليه واعلاميه كبيره تتقاطع مع هذه الهياكل البيروقراطيه لتمرير بعض الصفقات تحت مسميات ثقافيه براقه‏.‏

*اثرت معركه مع عدد من شعراء لبنان حول ما اشاعه بعضهم عن الشعريه المصريه وتاثرها بالنص المترجم او ضعفها اللغوي‏.الا يمكن ان يكون هذا صحيحا فيما يخص الموجه الشعريه الجديده؟

الشعريه المصريه الجديدة التي بدأت مع بعض شعراء الثمانينيات وانتشرت في النص التسعيني لم تلق الاحتفاء النقدي من النقاد المصريين‏، ربما لعجزهم عن تتبع هذه الظاهره‏، لانها تشككهم في موروثهم النقدي‏، ولكون بعضهم مجرد ابواق لتكرار ما يقرا في النقد العالمي‏، دون تذوق حقيقي للنصوص‏، فانصرفوا لانصاف المواهب من الاجيال السابقه‏، يعددون الافعال وانواع الاساليب وكان النقد ليس نشاطا انسانيا‏، منحازا بالاساس وان هذه النصوص لها سياق ثقافي‏، لابد من التعرف اليه ووضعها في اطارها التاريخي‏، مما اعطي فرصه كبيره لبعض الموتورين والطاءفيين من البلدان العربيه‏، والباحثين عن وجود لا يتاتي الا بمهاجمه الشعريه المصريه وتاره بالتعيش علي الموروث الاوروبي‏، وكان الثقافه في اي مكان في العالم تمتلك اي قدر من النقاء‏، وتاره بتقليد النموذج الشامي‏، وكان الشعريه الشاميه ذات تمايزات خاصه تفصلها عن الشعريه العربيه‏، او الشعريه بشكل عام‏، ان الشعر الذي يكتب في مصر في المرحله الراهنه من ازهي وانضج النماذج مقارنه ببقيه البلدان الاخري‏.وهذا لا يلغي الاصوات النابهه في الاقطار الاخري‏، وانما يجمع كل ذلك في سياق جديد يهدد بقيه الشعريات المنقرضه‏، والتي تدفع باصحابها الي اختلاق صراعات فارغه‏، لا تحمل الا اسماءهم مجرده من الابداع الذي يواكب اللحظه الراهنه‏.‏

*اذن ما شكل العلاقه بين القصيده الجديده في مصر والتجربه اللبنانيه؟

ان لبنان لم يقدم شاعرا كبيرا في حقبه الحداثه العربيه‏، وان قدم بعض الاصوات‏، التي اخذت اهميتها من الايديولوجيا‏، مثل الشاعر خليل حاوي‏، وانسي الحاج رغم الاختلاف بينهما وانما كانت مكانا اكثر ديمقراطيه‏، يسمح بالتعدد الثقافي‏، والتعدد العرقي‏، ومن هنا فقد كان في العالم العربي لان تصبح مدينه كوزموبوليتانيه لولا الحرب‏، التي قامت علي اساس طاءفي‏، فخلخلت هياكل الدوله‏، وبالتالي خلخلت النص الحديث وولدت نصوصا اكثر حريه واكثر فوضي مما قربها مما هو انساني ومعيشي ويومي‏، فقدم نموذجا شعريا جديدا‏، بمنخات مختلفه‏، وباصوات كثيره ايضا‏، تميز منهم عباس بيضون ووديع سعاده الا ان هذا النموذج لم يتطور‏.‏

*تمتلك حسا نقديا عاليا هل اثر ذلك علي قصيدتك؟

الشعراء في العالم اجمع‏، يمارسون انواعا كثيره من الكتابات‏، بل والفنون‏، لكن يظل الشعر هو المحور الاساسي في حياتهم اما ثقافتنا العربيه‏، فمازالت تري ـ بحكم احاديتها الموروثه من عصور الانحطاط والتخلف ـ ان الشاعر لا يكتب الا شعرا وهذا خطا فادح‏، جعل معظم التجارب محدوده القيمه ولا تملك الا التكرار‏.‏
فشاعر بقامه حجازي لم يكتب الا خمسه دواوين ونثره ضيق ايضا ومحدود‏، وتجاربه قليله ولولا الظروف التاريخيه لصعود دوله عبدالناصر لكان حجمه اقل من هذا بكثير‏.‏

*لكن حجازي قيمه كبيره استمدها من دواوينه‏، لا من الخارج‏، وهي توهله لان يحتل مكانه شعريه‏، بعيدا عن انتماءه للحقبه الناصريه‏..

لا احد يشكك في قيمه حجازي الشعريه‏، الا ان مواضعات كثيره كانت وراء نجوميته‏، اهمها انه الابن البار لثورة يوليو وشاعرها المقدم‏، وحامل شعاراتها الاجتماعيه والانسانيه‏، وما قدمه من نصوص لايجعل منه شاعرا كبيرا وان كان متميزا‏، فقد اغلق تجربته مبكرا وانكفا علي الاغراض القديمه كالهجاء والرثاء التي تلعب ادوارا سياسيه في الحقبه الراهنه‏، لقد لعب ادوارا كثيره بعيدا عن الشعر‏، كلها تصب في السياسي المباشر للحصول علي مكانه اجتماعيه‏، تناسب طموحه الشخصي.

الأهرام العربي 2 نوفمبر 200