يساهم جان شارل دو بول في مدّ جسور التواصل الشعري بين العالم العربي وموطنه فرنسا. دأب منذ أعوام على ترجمة شعراء عرب الى الفرنسية، وشعراء فرنسيين الى العربية، بالتعاون مع أصدقاء شكّل معهم محترفاً متخصصاً في عملية النقل والتبادل تلك. وفي هذا السياق، وتحت عنوان تبادل الشعر المعاصر، كانت له مؤلفات عديدة منها: "بيروت، مارسيليا"، "دمشق، مرسيليا" و"مئة عنوان، شعر بالعربية".
في مصر كان اتصاله الاول باللغة العربية التي جذبته فتعلمها وأمسى يتكلم بها، ولو في ثقل أحيانا وفي لكنة موشّاة باللكنة المصرية.
جال دو بول ولا يزال يجول في العديد من المدن العربية دارساً وأناسيا وباحثاً في علم الاجتماع، وفي موازاة عمله باحثاً نشأت لديه فكرة التبادل الشعري من طريق الترجمة. وراهناً، يتخذ بيروت موضوعاً لدراسة مدينية اجتماعيا وانتروبولوجياً. أما شاعراً فيكتب منذ أربعة عقود تقريباً، إلا ان إنتاجه المنشور في كتاب لا يتعدى المجموعتين، علماً انه ينشر في مجلات أدبية وشعرية قائلا انه لا يجيد كثيراً جمع قصائده في كتب لكنه سيحاول القيام بهذه المهمة من الآن فصاعداً. وعن الترجمة والشعر والنشر كان هذا الحديث.
* هل نبدأ بإلقاء الضوء على مسيرتك الخاصة أدبا وترجمة وبحثاً في مجال الشعر؟
- أقوم في الواقع بنشاطين، فأنا باحث في مجال العلوم الاجتماعية، وأناسي. اعمل منذ عشرين عاما حول مدن المشرق، العربي خاصة، وأتابع الاشتغال على القاهرة، وعلى بيروت قليلا. وكنت اشتغلت على صنعاء وحلب...
* أي انك درست هذه المدن انتروبولوجياً.
- درست أسلوب عيش هؤلاء الناس في المدينة المتغيّرة، أي التي هي قيد التحول اليوم. انه جزء من عملي: كيف تُقسَم المدن؟ ما هي المفاهيم المشتركة، الأعمال المقارنة بين مدينة وأخرى، بين ثقافة وأخرى. وفي الموازاة، اكتب الشعر منذ نحو أربعين عاماً.
* كيف تستعيد مسارك الاول شاعراً؟
- بدأت انشر عام .1965 نشرت للمرة الاولى في مجلة جان بول سارتر، ثم مضى وقت طويل لم انشر شيئاً خلاله. ولاحقاً نشرت في مجلة "عمل سياسي" وعملت في هيئة التحرير خمسة عشر عاماً. ثم شاركت في إصدار مجلة أسستها مع مجموعة أصدقاء، وهي مجلة تعنى بالشعر وتصدر في مارسيليا مرتين في السنة، إلا أنني لم اعد أشارك في تحريرها اليوم. إذن، تحت عنوان اهتمامي بالشعر عامة، شاركت في إصدار مجلتين شعريتين مرموقتين، وأصدرت مجموعتين شعريتين آملا في إصدار الثالثة هذه السنة.
* أنت شاعر منذ نحو أربعة عقود. أليس مستغرباً قليلا ألا تكون أصدرت خلالها سوى مجموعتين؟
- بلى. ميدان النشر الأساسي لي هو المجلات والانطولوجيات. نشرت في ست انطولوجيات. لا أتقن جيدا الاستراتيجيات الحرفية ولا أجيد الاهتمام بجمع القصائد في مجموعات. من السهولة ان انشر في مجلة، بلا أي مشكلة. صدرت لي قصائد أيضا في مجلة ميشال دوغي ومجلة "نيويورك". أما اليوم فأحاول جمع قصائدي في كتب، واهتم بهذه المسألة ساعياً الى ان أكون أكثر فاعلية في ما يتعلق بالنشر في مجموعة أو كتاب، رغم عدم إجادتي في هذا الموضوع.
مجموعة كل عقد
* متى صدرت مجموعتك الأخيرة؟
- قبل عشر سنين. حسن ان أتمكن من نشر مجموعة كل عقد.
* أرى انك لا تهتم إطلاقاً بالنشر المنتظم.
- بلى، لكن المسألة لم تكن سهلة لأنني لم أشأ ان انشر لدى أي ناشر كان. ثمة دور كثيرة لكن يهمني ان يتم الصدور عن دار ليست أي دار. ثم، ينبغي ان تكون المجموعة متماسكة كفاية. اعتقد أنني سأصدر كتاباً على الأقل هذه السنة.
* هل تردّ اهتمامك بالشعر العربي المعاصر الى اشتغالك على مدن عربية انتروبولوجياً، أم العكس صحيح؟
- شاعراً وقارئاً الشعر عامة، وكوني اشتغل أكثر فأكثر على مدن من العالم العربي، كل ذلك مجتمعاً دفعني تلقائياً الى الاهتمام بالشعر العربي المعاصر أولا، طبعاً في موازاة التفاتي الى الشعر العربي القديم والعظيم عامة. انصبّ اهتمامي تحديداً على الشعر المصري المعاصر إذ أقمت في مصر بضعة أعوام. كما اهتممت بالشعر اللبناني لأن لي أصدقاء هنا. وجّهت اهتمامي أساسا الى جيل ما بعد الحرب.
* لكن الملاحظ ان اهتمامك اقتصر على الشعراء الشباب دون الشاعرات المجايلات لهم.
- اعرف جيدا الشعر الأنثوي في مصر.
* ثمة نزعة توحي أحيانا نوعا من الطغيان الذكوري في الشعر عربياً ولبنانياً.
- بلى. لكن في أي حال، النساء يلعبن دوراً مهماً في تجديد الشعر. هذا أكيد. ثمة إيمان مرسال في مصر، وثمة شاعرات فلسطينيات. اعتقد ان لديهن نبرة حرية وجرأة أكثر ارتفاعاً من نبرة الشعراء الرجال.
* هل لأنهن يواصلن ما يمكن اعتباره انتفاضاً ضد ما يكبلهن؟
- أنهن يتمردن. تضاءل سجنهن.
* هل ترى التبادلية الشعرية سائرة اليوم نحو الأفضل بين مختلف اللغات؟
- أرى ذلك، رغم ان هذا التبادل بعيد عن الكمال المطلوب. صدرت في بريطانيا قبل أعوام انطولوجيات عديدة ممتازة، إنما لم يصدر في فرنسا ما يعادلها. ثمة انطولوجيا ضمت الشعر العربي المعاصر وضعها مترجم ممتاز هو رواد طربيه الذي كان يدرّس العربية في باريس. ثمة انطولوجيا أخرى مهمة جدا للشعر العربي المعاصر وضعها عبد القادر الجنابي وخصت الشاعرات بحيّز واسع.
اهتمامات مشتركة
* كيف تنظر الى تجربتك لناحية التبادل بين الشعرين العربي والفرنسي؟
- أواجه صعوبات على هذا المستوى. ثمة نقاط واهتمامات مشتركة بين الشعر العربي والشعر الفرنسي، لكن ثمة أيضا أمور مختلفة جدا بينهما. مثلا دور الصورة في الشعر العربي قوي جدا مقارنة بدورها في الشعر الفرنسي اليوم. أواصل التعرف الى الشعر العربي. اعرف راهناً شعراء عرباً من أبناء جيلي مثل بول شاوول وعباس بيضون، وكذلك الأمر على مستوى الروائيين ومنهم رشيد الضعيف. حين انظر الى الجيل الأصغر فان ما يهمني هو النظرة الخاصة بالحداثة. قرأت حديثاً بالصدفة مقالة نقدية حول مجموعة "مارسيليا - بيروت" في مجلة نقدية فرنسية. لا اعرف كاتبها، لكن المهم أنني أتبنى ما قاله: "أمر جيد ان نقرأ هؤلاء الشعراء غير المعروفين فرنسياً. حين نقرأهم نلاحظ أنهم يعكسون صورة معينة للحداثة بعيداً عن [أدبيات] الحداثة الفرنسية". تعلمت كثيراً عن الشعر العربي، ومن شعراء عرب مثقفين جدا.
* أنت منهمك في نقل شعراء عرب الى الفرنسية في حين ان أصواتا لا تنفك تتحدث عن تراجع الشعر أو حتى موته.
- أرى ان الشعر في وضع حَسَن. ثمة شعراء كثر، وثمة أماكن كثيرة مخصصة للشعر. قال مخرج ذات مرة ان المسرح فنّ قديم. في الواقع، كل شيء قديم. الشمس قديمة. الشعر فن قديم بما فيه التقنيات الأكثر حداثة. هذه الحقيقة القديمة الخاصة بالشعر لا تموت ولا يمكن ان تموت. إنها تنام، في بساطة. الشعر كالموسيقى. إنهما مغروسان عميقاً. لا يمكن الشعر ان يموت. هذا اقتناعي.
النهار
الثلثاء 6 نيسان 2004