أجري الحديث : إبراهيم فرغلي
كاظم جهاد شاعر وأكاديمي ومترجم عراقي قدم العديد من الإنجازات الأدبية المهمة للمكتبة العربية أبرزها ترجمة الأعمال الكاملة للشاعر الفرنسي رامبو، والكوميديا الإلهية لدانتي وغيرهما الكثير، لكنه أخيرا قدم لجمهور القراء بالفرنسية كتابا يضم دراسات وتقديما لأهم الأعمال الروائية العربية علي مدي القرن الماضي وهو كتاب يعد الأول من نوعه في هذا المجال. وخلال مشاركته في فعاليات الجناح الفرنسي خلال الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب كان هذا الحوار.
** ما ظروف إنتاجك للكتاب الأخير عن الرواية العربية المعاصرة؟
في الحقيقة أنا منذ سنوات أعمل كأستاذ في الجامعة الفرنسية واختصاصي هو الأدب العربي القديم أو الكلاسيكي، لكنني اقترحت علي المعهد الذي أدرس به وهو المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية فأنا أيضا أستاذ محاضر في السربون، أشرف علي تخريج أساتذة العربية فاقترحت تعليم الأدب العربي الحديث، ووافقوا علي ذلك منذ نحو عامين، ولأنه لم يكن هناك أستاذ متفرغ للأدب الحديث فكلفوني بذلك ودرسته لمدة سنتين، حتى توفر أستاذ لهذا الموضوع وعدت أنا إلي تدريس الأدب العربي القديم مرة أخري، لكن خلال هاتين السنتين توافرت لدي محاضرات كثيرة وكنت قد نشرت بعضها في الصحف العربية وأعجب بها الصديق فاروق مردم بك مدير سلسلة سندباد في دار أكت سود الفرنسية التي تهتم بنشر ترجمات للأدب العربي إلي الفرنسية ودراسات في الأدب العربي بشكل عام واقترح علي نشر المحاضرات في كتاب لكنه طلب مني أن أتوسع فيها بحيث تقدم نظرة شاملة فأخذت الرواية العربية منذ رفاعة الطهطاوي باعتبار أنه كانت لديه إرهاصات أدبية منذ كتابه تلخيص الإبريز وصولا إلي الروائيين الحاليين، لأن اللغة الفرنسية في الواقع تفتقر إلي كتاب شامل عن الرواية العربية، حيث تجد هناك الكثير من الكتب عن الأدب العربي لكنها مبتسرة جدا.
فقدمت في400 صفحة مجموعة كبيرة من الأدباء والأعمال الروائية في تلك الفترة وهي بالتأكيد لا تكفي لأن هناك مئات من الأعمال والروائيين الجيدين فاضطررنا إلي عمل نوع من التضييق فصرت أعرف بالكتاب الأساسيين وأتعمق في دراسة رواية أو روايتين لكل كاتب أساسي وبالتالي فالكتاب ليس دليلا يجمع كل الأسماء وإنما تجد فيه تعريفا متأنيا وصبورا بالأعمال التي سجلت معالم أساسية في هذا الفن في اللغة العربية وبالتالي تضمن الكتاب تعريفا لبعض الكتاب الذين ظهروا خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة وبينهم مثلا حسن داود وهدي بركات ونجوى بركات وإبراهيم عبد المجيد ومي التلمساني وميرال الطحاوي وفؤاد التكرلي وغائب طعمه فرمان وغيرهم بالإضافة إلي كتاب مني المغربي العربي وسوف يصدر الكتاب عن دار سندباد بالفرنسية.
** بالرغم من أهمية ترجمة أعمال رامبو لكننا لا نجد لها أثرا جيدا هنا في القاهرة هل المشكلة مشكلة توزيع؟
ترجمة رامبو الكاملة بالفعل نفدت لأنها صدرت منذ أكثر من12 سنة، ومع الأسف فإن الأعمال التي تصدر في بيروت لا توزع جيدا هنا، لكنني سأعيد طبعها طبعه منقحة، لأنه بعد مرور هذه الفترة الزمنية يضطر الكاتب لإعادة النظر في أعماله لضبط إيقاع جملة أو تغيير جملة أخري لأن الترجمة في رأيي عمل لا نهائي.
** خلال وجودك في باريس منذ28 سنة ما هو تقديرك لحجم إقبال الجمهور الفرنسي علي الأدب العربي؟
هناك جمهور واسع في الواقع ومنهم طلبة الأدب العربي وهم بالمئات وهناك أبناء المهاجرين العرب الذين يقرأون بالفرنسية ولا يجيدون العربية، فهؤلاء لديهم دائما حنين إلي الجذور يجعلهم يقبلون علي قراءة الأدب العربي وهناك الجمهور الفرنسي العريق المحب للأدب وهو لا يهتم بالأدب الفرنسي أو العربي فقط لكنه يطلع علي آداب العالم بشكل عام.. الصيني والآسيوي والإفريقي.
** هناك انطباع سائد يقول بأن القارئ الغربي مازال يبحث عن أجواء ألف ليلة وليلة وهو ولع تغذيه عدم المعرفة بالمجتمعات العربية وبالتالي بنوع جديد من الأدب الحديث هل تري هذا حقيقيا في فرنسا علي نحو خاص؟
الجمهور الفرنسي مختلف عن أوروبا بشكل عام، بسبب الاختلاط بالعرب الذي يعود لأزمنة بعيدة، بالإضافة إلي الدور الذي لعبته الجامعة الفرنسية من خلال مستشرقين كبار ومثل جاك بيرل وأندريه ميليل ومكسيم رودنسون غيرهم من الجيل الجديد الحالي، وهؤلاء بذلوا جهودا لا يستهان بها للخروج من فخاخ الاستشراف، وفقيد الفكر العربي والفلسطيني إدوارد سعيد اعترف في كتابه الشهير الاستشراق بأن ثمة الكثير من النماذج الفرنسية التي تخرج من فخ الاستشراق وبالتالي فهم يختلفون عن مدارس الاستشراق الأمريكي مثلا المبطن عنصريا والذي يتناول العربي من خلال التهميش والتحقير والغرائبية.
وحتى تلامذة جاك بيرل ومكسيم رودنسون لا يحبون أن يطلقوا علي دراساتهم لفظ الاستشراق ويمنعون عن أنفسهم النطق باسم العربي وبدلا عنهم ويلقون علي الأدب العربي نظرة تحليلية موضوعية وبالتالي فقراءة الأدب العرب في فرنسا مختلفة عن قراءته في أوروبا.
أدونيس
** رغم نشاطك الملحوظ في ترجمة الشعر في فترة سابقة إلا أن ذلك لم يعد ملاحظا أخيرا لماذا هل هناك علاقة بين جودة الشعر المنتج في العالم الآن وتأثر قراءة الشعر بشكل عام؟
الحقيقة أنا مهتم الآن فقط بكتابة الشعر والتدريس، وآخر ما أنجزته في الترجمة هو ترجمة الكوميديا الإلهية لدانتي منذ نحو5 سنوات لكنني أهتم بإعادة الاعتناء بأعمالي القديمة خاصة في الترجمة ولاحظت أن الترجمة قد استهلكت سنوات من وقتي وجهدي الذهني علي حساب الشعر وعند العودة إلي نفسك تجد أنك قد استهلكتها، كما أنني لا أعمل في الصحافة مثلما كان الأمر في السابق وإنما أعمل في التدريس وهو أيضا يحتاج إلي تركيز ووقت وبالتالي لم يعد هناك الوقت الكافي لعملية الترجمة.
** هل لديك مشروع ما شعري تريد إنجازه أم أن الشعر بالنسبة لك حالة مزاجية؟
الشعر عندي اختيار روحي عميق وليس مزاجيا ولكن أيضا في الشعر لا توجد مشروعات، وتخطيطات مسبقة، فيكفي لأن تفكر بديوان حتى يتحول إلي برنامج وحالة ذهنية، ولابد أن يعطي الشخص لنفسه فرصة الإصغاء، أو الإنصات الداخلي العميق، أو ما يسمي بالانتظار الفعال فبهذا يتحقق الإلهام اللازم لأي إنجاز شعري.
ولكن هناك شعراء لا يمكن تجاهل أن إنجازهم الشعري مبني علي مشروع.. ومحمود درويش قد يكون مثالا في هذا الصدد. لا أحب الكلام عن الآخرين، ولكن كلمة مشروع لها معان عديدة، فقد تكون لدي الشخص فكرة لإنجاز جمالي ما وإنتاجك هو الذي يحدد طبيعة المشروع لكن لا يمكن التخطيط له بهذا الشكل أو ذاك.
** وكشاعر ما انحيازاتك في القصيدة؟
ربما يكون ديواني الماء كله وافد إلي نموذجا جيدا لإبراز انحيازاتي، فهو يضم مختارات من قصائد كتبت علي مدي15 عاما، ونشرت في بيروت ثم أعيد نشرها في الهيئة العامة للكتاب هنا في القاهرة، وإذا راجعتها تستطيع أن تري اختياراتي الشعرية، فقد مارست كتابة القصيدة التفعيلية في البداية وتجاوزتها إلي قصيدة النثر، لكني أظن أن قصيدة النثر أيضا ـ في رأيي ـ تمر بمخاض صعب في العربية، في إطار الكثير من الكتابات التي تعكس نوعا من الاستسهال، وقلة الاشتغال علي الصور والتذاكي، أو استخدام الذكاء، كأن القصيدة يمكن أن تبني بصورة واعية فقط، بالإضافة إلي الاعتماد علي النكتة اليومية، وفي رأيي أن هذه أشكال تقتل القصيدة، صحيح أننا لم نعد في عصر القصيدة الغنائية الخالصة لكن الشعر أيضا جوهره الغناء، حتى لو كتبت شعرا ميتافيزيقيا أو تجريديا فلابد من لمسة من الغناء، أما غياب العاطفة كليا فهو نقص أساسي لأن العاطفة جزء من مكونات الشعر في تعريفه الأساسي.
** ومن في رأيك استطاع تحقيق شروط كتابة القصيدة النثرية بالشكل النموذجي أو بالشكل الذي لا يتعارض مع المفاهيم الأساسية؟
هناك في لبنان مثلا أعمال عباس بيضون، فلديه الغناء، والعمق الفكري في نفس الوقت، لكنه عمق لا يسقطه في فخاخ التجريد الذهني أو الجفاف العقلي، وكذلك الشاعر بسام حجار، فهو شاعر جيد ولديه نزوعات فلسفية ونوع من الانطواء المشع، إذا صح التعبير، فهو ليس انطواء الإنسان الأناني المتقوقع المنعزل، وإنما انطواء إنسان شبه زاهد في الوجود ولكن بصفاء وفي مصر يوجد الشاعر أحمد يماني، وهو شاعر ممتاز جدا، وله قصيدة في ديوانه الثاني بعنوان مقابر يضيف بها للموت أفكارا جديدة ويمتلك الإيقاع والصورة، وفي سوريا أيضا توجد بعض النماذج.
لكن أحب لفت الانتباه إلي أنه عند الحديث عن النماذج المضيئة يجب الخروج من إطار الأسماء المكرسة وأحابيل الشهرة لأن هناك أسماء مكرسة ليست بالضرورة هي الأفضل بينما توجد أعمال جيدة لا يتحدث عنها أحد.
** بالرغم من التراكم الذي حدث لقصيدة النثر العربية، إلا أن أثرها الجماهيري مازال محدودا ما مستقبل هذه القصيدة في ظنك؟
الحقيقة أن هذا ينسحب علي الشعر العربي كله وليس قصيدة النثر فقط، وعلي سبيل المثال فإن بدر شاكر السياب وهو من كبار الشعراء المعاصرين ولكن هل يعرف طلابنا في المدارس أو الجامعات عنه شيئا؟!
الحقيقة أن هناك قطيعة تامة بين الأدب العربي الحديث إجمالا والذائقة العامة وهذه مسئولية التعليم والصحافة والبنية الثقافية بشكل عام.
** هل وجودك في فرنسا يجعلك تقارن بين القصيدة الفرنسية وقصيدة النثر العربية باعتبارها نتاجا متأثرا بالإنجاز الفرنسي الشعري بشكل من الأشكال؟
أقرأ كل شعر في سياقه لأن الأوروبيين لديهم تراكم كبير وقصيدة النثر تعترف ببودلير لكنها ظهرت قبله، وأسهم السورياليون في ترسيخها وظهر بعد السريالية شعراء مهمون مثل أندريه ميشو وغيره والتراكم ليس زمنيا فقط وإنما تراكم معرفي ولغوي وفي الثقافة الفرنسية لا توجد قطيعة بين مختلف الآداب والفنون فهذا التطور حدث في السينما والمسرح والرواية.
في العربية لدينا مشكلات أولا أننا لم يكن لدينا هذا التراكم فقصيدة النثر ظهرت في الأربعينيات لكنها لم تظهر بكثافة علي يد الماغوط وشعراء آخرين في الستينيات تقريبا. وحتى قصيدة النثر بمعناها الحرفي كنثر بلا وزن بدأت جريئة جدا وهناك تفاوت في تطور الفنون الأخرى.
** وهل توافق علي مقولة إن الرواية هي ديوان العرب الآن؟
هناك كثرة إنتاج في الرواية وتضخم، لكنه إنتاج يحتاج إلي غربلة، وهذا واجب النقاد، وفي أوروبا شاعت مثل هذه المقولات لفترات ثم انحسرت، لأن الفنون تزدهر مع بعضها البعض.
الأهرام العربي
2005 فبراير 26
إقرأ أيضاً:-