أجرى الحوار: يحيى بن الوليد
المهدي أخريف واحد من الأصوات الشعرية الأساسية في ترجمة الشعر العربي المعاصر. ولقد أسهم حتى الآن في أربعة أعمال شعرية هي "باب البحر" و"سماء خفيضة" و "ترانيم لتسلية البحر " و " شمس أولى ". هذا بالإضافة إلى أن له ترجمة لشعر فرناندو بيسـوا نشرت في مصر والمغرب, وهي الآن تطبـع في مصر للمـرة الثانية. كما أن له إسهامات أخرى كثيرة متفرقة. وهنا حوار طويل أجريناه معه في بيته بمدينة أصيلة الصغيرة على امتداد ثلاث ساعات متواصلة.
يحيى بن الوليد
في البداية لا بأس من فتح حوارنا بالسؤال الكلاسيكي الذي عادة ما يطرح على الشعراء, أقصد العوامل الكبرى والحاسمة التي تفسر تطوركم في دنيا الشعر والإبداع؟
لا توجد عوامل كبرى ولا حاسمة فيما يتعلق بدخولي عالم الشعر... أذكر أنني دخلت كتابة الشعر من باب العشق المراهق... ومن باب محاولتي الأولى في كتابة الرسائل الغرامية... اكتشفت بالصدفة إذن سحر الكلمات وقدرتها على التأثير, فتحولت من عشق إلى عشق ومن عشق امرأة إلى عشق اللغة, ومن خلالها إلى عشق الذات واكتشاف مناطق فيها قادرة على الإدهاش... في سن الثالثة عشر نشرت أولى محاولاتي ... أذكر منها العنوان "سوف أحيا" في ركن "الناشئة" في جريدة العلم ... من حيث الصيغة يتخيل إلي أنني كنت متأثرا بأغنية فيروز تحمل نفس العنوان, كنت أدمن الإنصات إليها في عزلتي العبثية, وكانت ضمن أسطوانة أثيرة في خزانة الموسيقى العائلية. والتي لم تكن تحتوي سوى على عدد محدود من الأسطوانات (قبل ظهور الأشرطة الموسيقية في السبعينات عندنا )
واسمح لي هنا بأن أشير إلى أنه منذ مدة قصيرة كتبت في جريدة الحياة اللندنية عن زيارة الشاعر العربي الكبير نزار قباني لمدينة القصر الكبير. ووقت ذاك كنت لا تزال تلميذا. نريد في هذا الصدد معرفة النصوص الأولى في تجربتكم؟
ما كتبته عن نزار قباني بمثابة تحية إليه من جهة, ومن جهة ثانية بمثابة استعادة للحظة جميلة غيبتها التجارب والخبرات في تلافيف الذاكرة... كنت تلميذا بالفعل ... وكانت محاولتي الشعرية في بدايتها حينئذ... وأيضا في أشد حالات غزارتها واندفاعها ... وكانت طبيعة الكتابات تتراوح بين الموضوعات الرومانسية المغرقة في البكائية ونشدان الخلاص القدري وبين "الانزياحات " الرمزية وشبه السوريالية التي كان ينقصها قدر كبير من السند المعرفي والرؤيوي ... ومع ذلك تمكنت من نشر بعض قصائدي في نهاية الستينات في أكثر من صحيفة مغربية ... كما لقيت الكثير من الإهمال والتجاهل وهو ما حفزني على ركوب تحدي بإصرار وصمت تارة ... وبرعونة وتوثب تارة...
أين ذهبت تلك القصائد؟ تلك البدايات ! اختفت من تلقاء نفسها من مشهد المسعى الشعري الدؤوب كما اختفت نظيرات لواحقها في فترات متباينة من هذا الترحال...
وأعود إلى استعادتي لزيارة نزار للقصر الكبير المنشورة في جريدة "الحياة" لأضيف بأنني على الرغم من إعجابي بالنزارية لا بالنزاريين. لم أقع مطلقا تحت دائرة تأثيره... لم يكن نزار من شعرائي المفضلين خلال تلك السنوات البعيدة, ولا خلال سنوات "النضج" التي تلتها. وإن كنت اعتبره, وهو كذلك بالفعل, ظاهرة فريدة وصحية في الشعر العربي الحديث. إنه شاعر الناس عامة. وهو معلم كبير للحب والحرية والجمال.
قلت إن نزار قباني رغم أهميته الشعرية لن تتأثر به. ويمكن أن أضيف بأن هذه المسألة تنطبق على الجيل الذي تنتمي إليه, أي جيل السبعينات, هل بإمكانك أن تشرح لنا هذه الفكرة؟
§صحيح, لأن نزار بحكم موهبته وثقافته واختياره الشعري, كان معنيا بأسئلة جمالية ومعرفية عمومية. وكان يؤثر السياحة في المياه الشعرية والإبداعية القريبة. بينما كان شعراء الجيل الذي أنتمي إليه هنا في المغرب وفي المشرق أيضا مؤرقا بأسئلة مغايرة أبعد, قليلا أو أكثر, عن انشغالات الجمهور العام...
من الملاحظ أن أصيلة كذاكرة وفضاء تحضر بقوة في تجربتك, ما سر ذلك؟
أصيلة فضلا عن كونها مكان إقامة يومي معيشي. فهي إقامة رمزية, فضاء شعري وينبوع ومهماز للمخيلة والميثولوجيا الشخصية السرية ... أي لا شعر ممكنا بدونها...
وفي هذا الصدد أود أن نقف عند ديوانك الأول "باب البحر" لكي تحدثنا عن تقنية الاستعادة التي تميزه, استعادة الأمكنة والفضاءات.
صحيح بالإمكان الحديث عن الاستعادة لا كتقنية وإنما كرؤية بخصوص "باب البحر" إنه ديوان يندرج, أو بالأحرى أحسبه كذلك, أو هكذا يبدو لي الآن, ضمن محاولة لتأريخ براني / جواني للمدينة ... وهو في الوقت نفسه احتفال بتفاصيل المكان ونكهات ذواكر ومحاولة لشعرنة الحياة اليومية وتخليدها, عبر بعض وجوهها البشرية والجغرافية ... لكن قيمته الشعرية في نظري تبقى محدودة, بسبب "المعالجة" الشعرية الخارجية زيادة على اللزوم. وانفلات خيط الكثافة الشعرية أحيانا, بل تحول بعض اللمحات الوصفية إلى نثر بارد وواطئ.
وتقنية الاستعادة تقع في صلب قصيدة النثر التي تحفل باليومي والهوامش والتفاصيل. وفي هذا الصدد هناك من يرى بأن ديوان "باب البحر " يمثل البدايات الأولى لقصيدة النثر في المغرب. كيف ترون ذلك؟
ليس بالضرورة... وإذا كان عبد العزيز المقالح يرى في "باب الباحر" البداية الأولى لقصيدة النثر في المغرب, فإن هناك من يعتبره من حيث الانتماء أقرب الى قصيدة التفعيلية منه إلى قصيدة النثر... التي لا تتحدد باليومي والهامشي فقط, وإنما بالإيقاع وبلمسات أخرى عديدة هي موضوع نقدي متشعب. وهو خلاف لا يعنيني شخصيا من الناحية الشعرية تحديدا... وبالمناسبة أود الإشارة إلى أن الشاعر أحمد بلبداوي كان قدم خلال مناقشته الديوان في اتحاد كتاب المغرب, رأيا مدعوما بتحليل تفصيلي يغلب فيه النظر الى "باب البحر" باعتباره ينطوي عن عناصر تكوينية بنائية تضعه داخل "الشعر" وليس ضمن قصيدة النثر, بالرغم من خلوه من الموسيقى التفعيلية.
وبخصوص النثرية, فإنه يمكن الحديث عنها أيضا من داخل التفعيلة, وهذا ما يمكن ملاحظته مثلا بخصوص الإنجاز الأخير لمحمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيدا"
وهذا ما أعنيه بالخلاف المتشعب حول قصيدة النثر و"شساعتها " وقصيدة التفعيلة و "نمطيتها" وأنا معك في كون محمود درويش يقدم مثالا ساطعا على ... ودغمائية التصنيفات وجاهزيتها.. لأننا نجد داخل شعره التفعيلي على الدوام ليس فقط في "لماذا تركت الحصان وحيدا" بل في "أحد عشر كوكبا " و " الهدهد"... قدرة مذهلة على نثرية الشعر أي على تشظية الأنفاس وزرع الانزياحات وممارسة " حرية " و "فوضى" الخلق الشعري على نحو لا نجده عند عامة "الماسكي" بناصية "قصيدة الشعر" والناعين على أصحاب التفعيلة نمطية شكلهم ولغتهم وعبوديتهم للإيقاع والبناء الجاهزين.
وستلاحظ هنا أننا نتحدث عن نثرية الإيقاع؟
التساؤل الأساسي هو الذي تضفيه أو تحققه هذه النثرية من شعرية جديدة... الإيقاع نثريا أو شعريا لاوزن له إن لم ينجح في نحث ذات موقعة ونسج خصوصيته المميزة في كل قصيدة مضيفا في كل تجربة تلوينات إبداعية جديدة لا إلى قول صاحبه وحسب, بل إلى عموم القول الشعري... ومن ثم يبدو لي أن مسالك الإيقاع العميم مقوم حاسم في الشعر نثريا كان أم تفعيليا... لأنه, أو لتتحدث عن الموسيقى بالأولى هو الذي يخصص أو يجسد القصيدة عينها ... الهوية المخصصة, وفي قصيدة النثر على الخصوص, أو القصيدة اللا مفعلة يصبح الرهان على تحقق هذا الإيقاع خاص من دون أي سند موسيقي خارجي كما هو الشأن بالنسبة لملتزمي ... التفعيلية. لذاك كانت التجارب المميزة شعريا بشكل لافت ضمن هذا الشعر قليلة ومعدودة... نعم حاول المرحوم جبران خليل جبران أن "يؤسس" لحداثة شعرية تسقط من حيثياتها عنصر الموسيقى تماما, لكن الحصيلة الشعرية كانت ضعيفة وغير مقنعة ولا ممتعة في عموم ما خلف من آثار شعرية.
وماذا عن شرط الكتابة في الشعر المغربي عامة وقصيدة النثر خاصة؟
علينا أن نقر بأن الوضع الشعري القائم محبط... شروط التداول الشعري وآفاقه محدودة ومعوقة, ليس عبر مستوى النشر أو على مستوى التواصل والقراءة, بالرغم من التراكمات والمجهودات الفردية والجمعوية... لكن علينا أن نقر أيضا بأن الشعر بصفة عامة كان وسيظل "ظاهرة نخبوية" وحتى "ماسونية" بالمعنى البيسري للكلمة .. وإذن فلا داعي للتشكيات, فالذين يكتبون الشعر ينبغي أن يستمروا في الكتابة إن كان لديهم بالفعل ما يكتبونه, لاينبغي أن نضيع الوقت في الجدالات النظرية العميقة في الغالب, المهم هو فضل الكتابة ذاته بالنسبة للشعراء... الشروط الأولى المسعفة على تفسير سبل تداول النجاح الشعري, مسألة ثانوية في نظري وهي من اختصاص الغيورين على الشعر والأدب عامة أكثر مما هي من اختصاص الشعراء وكتاب الشعر... شخصيا أنا معني أساسا بمسار الكتابات الشعرية وتحققاتها, تحولاتها, فتوحاتها وإخفاقاتها الخاصة في شعرنا المغرب,ي منتمية الى التفعيلة كانت أو إلى "قصيدة النثر" ومن الأفضل أن تستعمل القصيدة اللا مفعلة إن صح هذا التعبير... ولكنني في الوقت نفسه مهتم بعنصر المتعة والإمتاع, الجدة والإضافة, العمق والصميمية, فيما تقع بين يدي من شعر مغربي وغير مغربي... وعلي, بل علينا جميعا أن نعترف بأن المنجزات والإضافات المتحققة لدينا, رغم جودة بعضها محدودة وغير كافية وإن التراكم الكمي غير كاف, بل إن عدد الشعراء قياسا إلى ما يختزنه هذا الشعب من طاقات قليل, إن المواهب شخصية... ولتسمح لي بأن أخالف المرحوم محمد الخمار الكنوني, حينما دعا الشعراء الشباب إلى الإقلال من الكتابة, شخصيا أدعوهم إلى العكس, علينا جميعا أن نكثر من الكتابة, نريد غزارة في الإنتاج شريطة أن يكون لدينا ما نكتبه بالفعل... لاتهم التمييزات والمفاضلات بين الموزون وغير الموزون من الشعر... بل إنها ضارة ومضللة, المهم هو الشعر نفسه, هو ما يتحقق من شعر هنا وهناك... لابد من توفر شعور جذري بحرية الخلق الشعري وبالقدرة على الاختيار. ليس الأشكال الجاهزة أو المصطنعة ما يمنح الشعر شعريته... وأنت تعرف ذلك من تجربتك كناقد وقارئ للشعر...
والكتابة تسعف في تعميق التشظي الذي هو إحدى خصائص قصيدة النثر, وفي هذا الصدد هناك من يرى بأن قصيدة النثر وضعت للقراء وليس للإنشاد, وطبعا أتحدث عن القراءة والإنشاد من داخل التحققات النصية لأنه مهما كان فقصيدة النثر يقرؤها أصحابها في المهرجانات واللقاءات.
نظريا أو افتراضا صحيح, لكن إذا تفحصنا واقع النصوص الشعرية المنشورة يمكن أن نكتشف شيئا آخر, حتى بدون عناء, الحقيقة أنني أجد في كثير مما ينشر من شعر باحث عن التشظيات النثرية, ضيقا كبيرا في التنفس ومحدودية فاجعة في الأدوات... بل وتشابها ونمطية في الصور والقوالب التعبيرية, والسبب في رأيي يعود إلى كون الكثير من الشباب الذين ينخرطون في مغامرة الكتابة الشعرية, يفتقرون افتقارا أساسيا الى الثقافة الشعرية القديمة والحديثة معا, وأنا أتكلم من موقع العارف بالتجربة الشخصية ومن خلال النصوص التي تدل بشكل حاسم على ذلك.
أما بخصوص صلاحية "قصيدة النثر" للقراءة لا للإنشاد, فأنا لا أشاطر أصحاب هذا الرأي رأيهم, بل أنا أزعم أن القصيدة الجيدة حتى ولو كانت نثرية لابد أن تكون صالحة للإنشاد مادامت تنطوي على إيقاع مميز, مهما كان خافتا وباطنيا... والأمثلة حاضرة لدي من شعر سيركو بولص... وشعر عبد الله زريقة كلاهما تهبني القراءة المتكررة لشعره اليقني بصلاحية ما يكتبان لإنشاد, وللأنشاد الغني الأبعاد المتعدد المستويات... أتذكر أيضا واحدا من شعراء قصيدة النثر المعروفين وهو عباس بيضون, حينما فاجأني مفاجأة جميلة في بداية الثمانينات في صنعاء خلال مهرجان الشعر العربي, حيث نجح إلى حد كبير في الإنشاد بدرجة جاوز فيها بعض فحول الشعر الموزون.
وعلى ذكر القراءة نود الحديث عن المقروء, ولذلك ما رأيك حول تلك العلاقة بين السند النظري والتجربة النصية في الشعر المغربي؟
سبق أن أشرت إلى غياب الثقافة الشعرية في محاولات بعض الشعراء الشباب, وأود أن أضيف بأن المعرفة النظرية بالشعر إذا كانت هي المقصودة في السؤال, يمكن أن تلحق ضررا بالغا بالتجارب الشعرية الغضة, مالم تنهض على قاعدة المعرفة المطردة المتعمقة بالإبداع الشعري... بيد أن الشرطين معا غير كافيين وها نحن نسقط في تقديم التعليمات والوصايا ! بدون انخراط مستبصر في تجارب المعرفة بمختلف ضروبها وأنماطها الحياتية والنظـرية العامة, وللتحقق من واقعية هـذه الملاحظة أدعوك إلى تتبع مستوى المعجم الشعري في الأشعار الراهنة وصلته بالرؤية والتجربة...
ولكن ألا تلاحظ بأن المقروء على حدة غير كاف لخلق التجارب الشعرية؟
صحيح تماما, ومع ذلك فأنا مؤمن بأن التربية المعرفية المنظمة وخصوصا التربية الشعرية - التي ينبغي أن تهيأ شروط تحققها في المؤسسات التعليمية بمختلف أسلاكها- كفيلة بتوفير القاعدة اللازمة والسليمة للممارسة الشعرية, وتبقى العناصر والشروط الأخرى رهينة بجهود واجتهادات ومواهب الشعراء... بما في ذلك التجارب الحية والمحصلات الشخصية من الخبرات المعيشة اليومية والحياتية.
وقصيدة النثر تحفل باليومي والهوامش والحياة؟
ليس باطراد ولا بإجمال ...بل نعثر أحيانا كثيرة على "نتف" مجزءة ومنثرة أكثر من النثر اليومي نفسه, ستقول لي تلك غاية هذا الشعر: أن ينثر اليومي... وأقول ليكن إنها من داخل الشرط الجمالي للشعر. أي شرط جمالي كان, لأن حضور اليومي والهوامش في ذاته ليس بكاف.
سؤال أخير حول قصيدة النثر وإن كان غالبا ما يطرحه الصحافيون: هل تمثل إضافة داخل الشعر المغربي؟
من الصعب إصدار أحكام قيمة بخصوص ما تحققه, نحن بحاجة أولا الى قراءات تفصيلية نقدية أساسا للإصدارات الشعرية الراهنة... ثم إن كثيرا مما يتراكم من شعر في الملاحق الثقافية والمجلات ما يزال مغرقا مشتتا ويحتاج إلا أن يجمع في دواوين... كما أن النقد الشعري المواكب شبه غائب والكثير منه تطغى عليه المجاملات والتكتلات والزمالات, وهو ما لا يمكن أن يساهم في تطوير الممارسة الشعرية الشابة عندنا... أضف إلى ذلك نقاد الشعر - باستثناء بعض الاجتهادات الفردية المحدودة- غير موجودين... أعني ذلك الطراز من العارفين المتبحرين في الشعر والمكتويين بناره البروميتيوسية... لأنه منهج من فضل اللجوء الى مقاربة أنواع أخرى كالرؤية والسينما والترجمة أو تقوقع داخل برج الأبحاث الأكاديمية "الرصينة" و"الجادة". ولا حاجة إلى ذكر الأسماء فهي معروفة... وأعود...وأعود الى سؤال الإضافة لأقول بأن "قصيدة النثر" في المغرب هي جزء من التجربة الشعرية العامة, جزء أساسي وهي تملك أكثر من غيرها احتمالات وإمكانات التجدد والإضافة, لأنها مشروع مفتوح على المغامرة والتيه, في الوقت الذي تبدو فيه قصيدة "التفعيلة" مهددة باستنفاد كل "الآفاق" المحدودة التي أتاحتها لذلك النهر الواسع من التجديد الشعري الذي بدأ مع السياب ووصل الى ذروته مع محمود درويش... لكن الإضافة الحقيقية والنوعية رهينة لا بقصيدة النثر في ذاتها (فهي سور قصير جدا لمن أراد المطية السهلة) بل بخالقيها من الشعراء بقدراتهم واجتهاداتهم, وهذا ما لم يتجسد بعد على ساحة الفعل الشعري المنظور كممارسة أو تيار شعري عام, وإن تجسد جيدا من خلال إضاءات ولمع متفاوتة متباعدة..
كما هو معروف لقد ترجمت لبيساوا, في أي سياق حصل ذلك؟ وكيف كان صدى هذه الترجمة وخاصة في مصر؟ وما الذي قدمه لك بيساوا؟
ترجمتي لبيساوا كانت في الحقيقة تتويجا لعلاقة شعرية وطيدة امتدت سنوات عديدة متقطعة, قبل بيساوا ترجمت شعراء وتجارب كثيرة من الإسبانية وخاصة من جيل 1927 و1950 وبعض شعـراء التجربة الجديـدة في السبعينات والثمانينات في إسبانيا والمكسيك والأرجنتين ... كانت الترجمة بالنسبة إلي وما تزال تمرينا شعريا جادا وعاشقا, وامتدادا للكتابة الشعرية نفسها... لقد أفدت كثيرا من الترجمة وترجمة الشعر التي منحتني محفزا إضافيا على الاستمرار الشعري في الحالات التي كان يتأبى فيها القصيد... لكن ترجمة بيساوا تنتمي إلى تجربة أخرى... إنها تجربة الموت الشعري الخارق... تجربة التماهي واكتشاف الذات الأخرى المسكونة بالتشظيات داخل ذاتي المألوفة عبر قراءة بيساوا وإعادة كتابته.. نجحت في رهاني البالغ الصعوبة (النجاح النسبي طبعا) نجحت في خلق امتداد لذاتي الشعرية عبر ذات شاعر آخر, هو واحد من أعظم مبدعي هذا القرن بلا جدال. ولقد فوجئت وفوجئ معي مسؤول دار النشر المصرية التي أصدرت مختاراتي الأولى "في هيأة قصور الثقافة"كما فوجئ العديد من أصدقائي من الشعراء والكتاب بما لقيته الترجمة من إقبال مكثف من لدى المثقفين وعامة القراء هناك في أرض الكنانة, وقد كتب عنها الكثير من التعليقات في الصحف والمجلات المصرية والعربية... كما أنني تلقيت برسائل عديدة من أدباء معروفين من مصر والعراق ولبنان وسوريا, بعضها يحثني على المضي إلى النهاية في ترجمة أعمال بيساوا كاملة إلى العربية...وما قدمه إلي بيساوا فيما قدم محمود درويش هو أن الشعر إنما أن يكون رهانا جذريا أو لا يكون أبدا.
والآن لو سمحتم ننتقل إلى علاقة الشعر بالتشكيل خصوصا وأنك تكتب من حين لآخر حول التشكيل. ولذلك كيف تفهم هذه العلاقة؟
وطيدة هي العلاقة بين الشعر والتشكيل منذ أقدم العصور... لقد تبادلا الحوار والتأثر وأغنى كل منهما التجربة الإبداعية للآخر, وما أفاده الشعر من الفنون التشكيلية أوسع وأكثر تشخصا في النصوص, وفيما يخص ميولي إلى التشكيل فهي نابعة أولا من المحيط الجمالي للمدينة التي نشأت فيها, وفيها تربت وتشكلت خبرتي البصرية عبر الضوء والصفاء, والزرقة الشاسعة المزدوجة والأصوات الهادئة في الأمكنة والوجود - والأشياء الهادئة والملموسة والمرئية... ليست لدي أدنى موهبة في التشكيل عدا هذه القدرة المتواضعة على الإصغاء البصري وعلى التعلم الدائم... وما كتبته من "قراءات" وجيزة حول أعمال تشكيلية مخصوصة إنما يندرج ضمن الكتابات الانطباعية ذات اللغة الأدبية البعيدة عن لغة التخصص القرائي للأعمال التشكيلية, وبالمناسبة أذكر أن أول مساهمة لي في هذا الميدان تعود إلى سنة 1970 حينما نشرت في الملحق الثقافي لجريدة العلم نصا قصيرا حول أعمال الرسام المبدع "الذي طواه النسيان أو اختار هو النسيان بديلا للتهافت الفج على الظهور " العربي البوفراحي, وكانت تحت عنوان : "شريحة من معرض فنان حقيقي"
وتجمعك بخليل الغريب صداقة قديمة ثم إنك حاولت محاورة تجربته في ديوانك الثالث "ترانيم لتسلية البحر" ما هي أبعاد هذه المحاورة؟
علاقتي بخليل غريب تعود إلى زمن بعيد.. لقد ساهمنا معا مع أصدقاء آخرين قلائل, في صنع جزء مشع من التاريخ الثقافي لجمعية قدما الإمام الأصيلي أواسط السبعينات, وفي ما يتعلق بالتشكيل فقد تعلمت منه الكثير, وهو كما تعلم صارم في اختياراته المبدئية والإبداعية لايبيع ولا يشتري, ويعيش عيشة كفاف وزهد متفرغا في هدوء وعزلة لمهمته الجليلة: الإبحار في المتلاشي.
ولكن تجربة خليل الغريب أكثر اشتغالا على الذاكرة, في حين أن نصوصك تنحو بعض الشيء نحو الذهنية؟
تجربة خليل لاتشتغل عن الذاكرة بل تصنع الذاكرة, إنها تجربة "ترمم" المتلاشيات من "الذاكرة" بغية منها قدرة أكثر هشاشة على التلاشي المشع والتبليغ... لغة خليل التشكيلية هي من الجدة المعتقة ومن الرهافة يغدو من الصعب تماما ترجمتها أو بالأحرى قراءتها بلغة عادية ومباشرة... لذلك لجأت شخصيا في الديوان الذي ذكرت إلى محاورة أعمال خليل بلغة اللغة, بلغة الشعر وهي لغة استقطرتها من إنصاتي الطويل إلى مخلوقاته التي هربتها بموافقته إلى دارة بديع الزمان في أواخر الثمانينات حتى أضمن لإنصاتي الشغوف جوا "طقوسيا" يليق بجلائل أعماله... من الطبيعي أن تختلف القراءات حول النصوص التي كتبتها عن خليل (وهي بالمناسبة شديدة التلاحم وليست بشذرات البتة كما فضل نجيب العوفي أن يراها)... غير أن هذه النصوص ليست بذهنية أبدا إنها معبأة بمفردات "المادي" والملموس بل ومشخصة زيادة على اللازم ولربما يصح ذلك بالنسبة إلى باقي قصائد "ترانيم لتسلية البحر" و "سماء خفيضة" و "شمس أولى" ذلك أن المادة التخيلية الخام مستقاة من ذاكرة المكان والخبرات الحسية والحواسية, ومما تم امتصاصه في اللاوعي من صور وخبرات جمالية وتناصات تندرج في نفس الاتجاه... ولا يحتاج الأمر سوى إلى إعادة قراءة متأنية متفحصة للتجربة في تناميها وامتداداتها للتثبت من هذا الرأي الذي أسوقه هنا كقارئ لا كشاعر... وعلى سبيل المثال ولا أبقى في العموميات أود أن أشير إلى أن قصيدة "مقبرة اليهـود" ذات المرجعيـة المكانية الصريحة في ديوان "سماء خفيضة" لم يتنبه أحد من النقاد والأدباء (باستثناء محمد الأشعري) إلى أنها ظلت حاضرة باستمرار في الديوانين اللاحقين بنفس الرؤية الشعرية ونفس الإشارات المرجعية المكانية, وأنها فقط كانت تبدل قناعتها وأسماءها وتتخذ في "الترانيم" وفي "شمس أولى" أقنعة وأسئلة جمالية وأنطلوجية مغايرة بدون التخلي عن التيمة النواة: تيمة مساءلة التلاشي والموت بضمير النسيان الجمعي, ضمير الموتى اليهود وهو ضمير رمزي مركزي في الدواوين الثلاثة المشار إليها.
* الملاحظ ان تجربة المهدي أخريف لم تحضر في بعض الكتابات النقدية التي اشتغلت على تجربة جيل السبعينات. ما سبب ذلك؟
§عدم حضوري في بعض الكتابات النقدية التي اتخذت من جيل السبعينات موضوعا لها يعود للاختبارات الرؤيوية للذين كتبوا عن هذا الجيل ... ولا شك أنك تعني بالتحديد الشاعر المرحوم عبد الله راجع الذي كان قد راسلني في موضوع أطروحته مخبرا إياي بأنه مضطرا إلى إقصائي من "متنه المدروس" لكون قصائدي لاتستجيب للبنية الشعرية المرصودة: بنية الشهادة والاستشهاد... جيل المجاطي والخمار والسرغيني, وهذا من حقه كباحث, ومن حق غيره أيضا, وعموما فأنا لا أنزعج من اللا مبالاة التي يمكن أن تصدر عن هذا الناقد أو الباحث أو ذاك...
وماذا حول علاقة الشعر بالنقد والنقد بالشعر, ما الذي قدمه كل طرف للآخر؟
§سبق أن قدمت إشارة بخصوص غياب نقد الشعر, أعني النقد المختص. وعلي أن أستدرك بأن بعض القراءات العميقة والأساسية في الشعر المغربي, إنما أنجزها الشعراء لا النقاد. إذ عندما تجتمع للشاعر العدة النقدية مع الخبرة الميدانية بالشعر, تتولد لدينا قراءات عاشقة متفهمة ما أشد حاجتنا إليها وسط حال التخبط النقدي والتجريبي المنهاجي الذي يعانيه درس الشعر في المغرب, في الجامعة وفي المختبر النقدي معا, لكن مع ذلك ستظل الحاجة الى نقد الشعر قائمة لا من أجل مهمة أكثر جدلية, مهمة التربية الذوقية والجمالية وهي مهمة لابد من تظافر جهود عديدة لإنجازها: شعراء ونقادا وباحثين ومؤطرين تربويين وعشاق شعر.
في الأخير نشكركم شكرا جزيلا على صبركم ونريد أن نختم بالجديد الذي تفكرون في تقديمه للقراء والحقل الثقافي؟
الجديد في الشعر: ديوانان: أحدهما يحمل عنوان "قبر هيلين" وهو قصيدة طويلة.. والثاني يضم ثلاث قصائد ويحمل عنوان "ضوضاء نبش في حواشي الفجر": وفي النثر "تجمع" لدي كتابان: أحدهما يحوي نصوصا وكتابات سردية, والثاني تأملات أدبية وقراءات في تجارب ووجوه أدبية, وآمل أن أجد طريقا لنشرها في الحياة إن أمكن وإلا بعد الموت.. وفي الترجمة صدر لي عن المجلس الأعلى للثقافة كتاب "اللهب المزدوج" لأوكتافيوبات... وأنتظر صدور الترجمة الثانية الواسعة لمختارات بيساوا الشعرية عن نفس المجلس في منتصف 1999.
موقع - محمد أسليم