حاورته: سميرة عوض
(الأردن)
يستهل الشاعر الفلسطيني محمود درويش مهرجان جرش الشعري الثالث والعشرين في الثامنة مساء اليوم في قصر الثقافة بنخبة من قصائده واذا كان لم يقرر بعد ماذا سيقرأ إلا ان صاحب «لا تعتذر عما فعلت» يعد جمهوره بقصيدة جديدة تقرأ للمرة الاولى تكريما لهم لـ «جرش» الذي يشارك فيه للمرة الرابعة، وكان درويش أول شاعر عربي استهل القراءات الشعرية في المسرح الشمالي في جرش قبل سنوات مضت، ليغدو أول شاعر يقرأ شعره في أحضان جرش ومدرجها الشمالي وأعمدتها بعد ألفي عام من ولادة المدينة الأثرية.
ويؤمن درويش بان على الشاعر ان يتجاوز نفسه أولا قبل ان يتجاوز الآخر، داعيا الشعراء الى تجاوز قلق التأثير للشعراء الكبار.
الرأي التقت الشاعر محمود درويش عشية أمسيته التي ينتظرها جمهوره وكان هذا الحوار:
ماذا تعد من قصائد لجمهورك هذا المساء؟
- سأقدم مجموعة من القصائد التي لم احددها بعد، واعد جمهوري بقصيدة جديدة، تقرأ للمرة الاولى، سأختارها لاحقا، من بين قصائد لم تنشر أو تقرأ بعد.
أما عنوانها فسيظل مفاجأة لجمهوري الذي اقدره واحترمه دائما.
وان كنت أرجو من الأخوة الصحفيين إلا يفرغوا (قصيدتي الجديدة) لنشرها لان التقطيع والتفريغ قد «يخرب» القصيدة.
وأعلن أنني سأكون متساهلا مع طلبات جمهوري العزيز الذي يصر دائما على الاستماع لقصائد )قديمة) إلا أنني اصدم بقصائد جديدة، ما تلبث ان تصبح مستقبل القراءات القادمة.
* هذه المشاركة الرابعة للشاعر محمود درويش في مهرجان جرش؟
- مهرجان جرش تكرس كأحد أهم المهرجانات الثقافية في العالم العربي، ويسعدني ان أشارك فيه للمرة الرابعة، أولها كان في المسرح الشمالي في جرش، والقراءة الثانية في مشاركاتي الجرشية فكانت في مؤسسة شومان، والثالثة، والرابعة لهذا العام في قصر الثقافة، ومهرجان جرش حدث ثقافي فني كبير، ويسعدني تلبية دعوته دائما.
لم ولن اعتذر!
* بداية كتابك الأخير (لا تعتذر عما فعلت) هل هو محاولة لإيهامنا انك قلت كل ما لديك.. وهل هو اعتذار عن التجربة.. كما يقول بعض النقاد وتحديدا الناقد ابراهيم درويش في مقالة نقدية نشرتها القدس العربي مؤخرا؟
- لا افهم كيف يفسر عنوان «لا تعتذر عما فعلت» وما معنى هذا التفسير؟ كيف يفسر العنوان انه اعتذار عن التجربة، الكتاب هو عبارة عن تعامل مع تجربته على أساس أنها «وقعت» هذه حياته وهذه تجربته الوجودية والإنسانية، وليس من الضروري ان يلتفت الشاعر الى الوراء كي يعتذر، بل على العكس تماما، يلتفت الشاعر الى الوراء كي يعرف أين وصلت هذه التجربة. وبالتالي لا أرى أي التباس في العنوان الذي يقول: «لا تعتذر عما فعلت» وليس «اعتذر عما فعلت» كما فهم الناقد، وعلى أي حال من حق الناقد - أي ناقد - ان يجتهد في قراءة النص كما يريد، والنص مفتوح ولعدة تأويلات ومن حقه ان يصدق عنوان الشاعر، وليس لدي اعتراض على هذا النوع من القراءة.
* لكن ماذا أراد الشاعر محمود درويش ان يقول في احدث كتبه «لا تعتذر عما فعلت» والصادر عن دار رياض الريس العام 2004؟
- أردت ان أقول فيه ما يقول الشعر بشكل عام، هذا الكتاب مجموعة من القصائد، هي تتحدث عن نفسها وان يتكلم الشعر عن نفسه، أفضل من ان يتكلم الشاعر عن شعره!
سيرة شعرية
* هل نستطيع اعتباره استكمالا للسيرة الذاتية التي بدأتها في عدد من دواوينك السابقة؟
- نعم، فـ «لا تعتذر عما فعلت» يذكرنا الى حد ما بكتاب ما يشبه السيرة الشعرية «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» والفرق ان التجربة عبارة عن تسجيل، أو نتاج زيارة قمت بها الى مكاني الاول، وبحثت عن الطفل الاول الذي كنته، ومكونات وجودي الاول، فالسؤال من أنا؟ ومن هو؟ ومن أنت؟ وارد دائما في هذا النص، لان الانسان لا يستطيع ان يعود الى ما كأنه، ولا يجد المكان الذي كأنه من قبل.
لا أحب كل كتبي!
* لو قمت بمراجعة إصداراتك الشعرية.. بالتأكيد هناك كتب اقرب الى نفسك أكثر من غيرها، لسبب أو لآخر، ولكن أي كتب محمود درويش اقرب الى نفسه؟
- اعتاد الشعراء ان يقولوا ان كل كتبهم كأبنائهم، أنا لا أقول ذلك، إذا كان صحيحا ان الكتب أبناء، هم ليسوا كذلك فانا لا أحب كل أبنائي/كتبي، فكل كتاب يختلف عن الكتاب الآخر، وصرحت غير مرة انه لو أتيح لي ان أعيش في حالة - مفترضة - لم انشر فيها أي كتاب بعد - لما نشرت أكثر من خمسة الى ستة كتب من كتبي العشرين، أنا شديد التطلب، والمراجعة والنقد الذاتي، ولو أتيح لي ان اختار صفحات من مئات الصفحات التي كتبت، لن اختار أكثر من مئة صفحة، ولكن يؤسفني القول ان القراء لا يشاركونني هذا الرأي، والنقاد أيضا. لكنني شديد التطلب، وشديد الحساسية تجاه تطور تجربتي الشعرية.
الشعر: صناعة
* من المعروف انك لا تركن الى الكتابة الاولى، وتعمد الى إعادة الكتابة غير مرة، وربما تطلع عليها بعض الأصدقاء أو القراء؟
- لا انشر قصيدة من الكتابة الاولى، ولا أؤمن بان الوحي الشعري ينزل مرة واحدة، وليس من حق الذات الكاتبة ان تتدخل فيما اوحاه لها الوحي الشعري أنا لا اعتقد ذلك، واعتبرها خرافات شعرية، الشعر صناعة، إضافة الى انه موهبة وتجربة، لكنه في نهاية المطاف صناعة، صناعة شديدة الحساسية والإتقان، وبالتالي الصانع الماهر هو الذي يغير النص الشعري، ويشتغل عليه، ويعيد صقله وكتابته، وأحيانا يضحي به، ويلقيه في سلة المهملات، ان لم يكن يحمل شروطا شعرية جمالية جديدة. لذلك أنا شديد القسوة على ما يسمي «مسوداتي». ذلك أنني أؤمن ان الكتابة الاولى تكون حرة، والكتابة الثانية تكون كتابة حرفية/ مهنة، والكتابة الثالثة يكون فيها توازن بين الشاعر والناقد، اللذين يتجاذبان كتابة هذا النص.
السؤال الصعب!
* أليس من المستغرب ان يكون هذا رأيك، وأنت الذي كتبت قصائدك الاولى، وأنت لا تعرف ان ما تكتبه «شعرا» كتبت فروضا مدرسية «إنشاء»؟
- لا تستغربي ذلك، فإحساسي بالمسؤولية الشعرية، ووعي الثقافي الشعري - آنذاك - لم يكن يؤهلني لأن أحرر، أو اشطب، أو أغير، الانسان تتطور معرفته الشعرية، أيضا يطور الشاعر طريقة تمرده على نفسه، أي لا يكرر نفسه، طبعاً في الطفولة، أو المراهقة يكتب الانسان «أي شيء» دون رقابة، لأن ليس لديه وعي، أو رقابة نقدية قوية، في البداية، ولكن عندما ينمو الشاعر ويصبح مسؤولا أكثر، أمام نفسه، وأمام القراء، وأمام الحركة الشعرية أيضا، تصبح الكتابة أصعب، هناك قول لـ ت.س اليوت يقول: «السؤال الصعب: هو كيف نكتب الشعر بعد الخامسة والعشرين؟». ذلك ان الانسان قبل عمر الخامسة والعشرين يكون اقل مسؤولية، أكثر فوضى، أكثر نرجسية، وامتلاء الذات، لأنه لا يعرف، والإنسان الذي لا يعرف يغامر أكثر، فالمعرفة - صحيح أنها تشحذ الموهبة بطاقات اكبر - ولكنها قيد، لأنها تحرك في الانسان حس المسؤولية. عندما نعرف ما هو الشعر! ونحن لحد الآن لا نعرف ما هو الشعر - تزداد صعوبة كتابة الشعر.
افتقار المواكبة النقدية
* هل تعتقد ان محمود درويش «الشاعر» لم يدرس بعد، كما يجب من النقاد؟
-ربما أنا لا استحق اهتماماً نقديا اكبر، ربما، لكن بشكل عام، لا أتكلم عن شعري، ولا عن نقادي، أنا أتكلم عن علاقة الشعر العربي المعاصر - بشكل عام - الحركة الشعرية ما بعد جيل النقاد تعاني من افتقار الى مواكبة نقدية، كما حصل مع جيل الرواد، فالرواد درس شعرهم في الجامعة، وكتبت عنهم أطروحات جامعية، ولدى القارئ الجامعي العربي، يتوقف الشعر عند تلك المرحلة، أما التجارب الجديدة، وهي غنية جدا - ما بعد مراحل الرواد - فهي لا تدرس حقيقة كما يكفي، ولست الوحيد الذي يعاني من هذا النقص، هنالك شاعر كبير مثل: سعدي يوسف، لا اعتقد انه درس كما يجب. هناك أطروحات جامعية، ودراسات أكاديمية لا تواكب النقد الأدبي الحديث، ولا النظريات النقدية الحديثة، وبالتالي هي عبارة عن قراءات مدرسية، وهنالك - طبعاً - بعض اللمحات واللمعات الذكية، ولكن بشكل عام تجربة الشعراء ما بعد الرواد لم تدرس بعد.
سجال الإبداع والنقد
* أشاطرك الرأي ان الحركة النقدية العربية، لا تزال متخلفة عن الإبداع الشعري، والأدبي عموماً، فالمبدع تجاوز الناقد، فيما مضى كان العكس تماماً؟
- لا أريد ان أدين أحدا، فالنقاد - ربما - لديهم أسبابهم - ربما يجدون صعوبات، لان النموذج الشعري العربي - ربما لم يأخذ ملامحه النهائية، أو شبه النهائية، وربما تكون أزمة الشعر، ودائما هذا السجال بين الشعراء والنقاد، الشعراء يتهمون النقاد، والنقاد يتهمون الشعراء، أنا لا أريد ان ادخل في هذه المعركة التي لا تغني، ولكن بشكل عام الحدث الشعري دائما يسبق المواكبة النقدية.
وما يؤكد وجهة نظري ان النظريات النقدية تتغير دائماً، والتغير يحدثه الإبداع الشعري، في العالم العربي هنالك انفصام بين الحركة النقدية والحركة الشعرية، والإبداعية بشكل عام. واذا أخذنا أميركا - على سبيل المثال - كل الحركات الأدبية والنقدية تظهر من الجامعات، أي من المؤسسات الأكاديمية وبالتالي قد تكون النظرية الأدبية متقدمة على الإبداع، عندنا على العكس تماما - الجامعات قيد على تطور الحساسية الشعرية، وبالعكس تربي لدى الطلبة سوء تفاهم مع تجريد الشعر، لأن الجامعة ما تزال «محافظة»، وبالتالي لا نعول على خروج حركة نقدية طليعية من جامعاتنا، ويظل القول الأكيد: ان الشعر يسبق التنظير، ولا يتبع النظرية، بل يغيرها ويحركها.
الرأي
22 يوليو 2004
إقرأ أيضاً: