تكتب الشاعرة سعدية مفرح قصيدتها بوعي يتنامى بين خط اجتماعي وسياسي وثقافي، وبذلك تضمن موطئا فكريا لها بين شعراء جيلها التسعيني، على الرغم من أنها لا تؤمن كثيرا بمسألة المجايلة.
وعبر مشوارها الإبداعي تناول النقاد على شتى مشاربهم الدواوين الأربعة التي أصدرتها الشاعرة بمزيد من الدراسة، وكان آخر كتاب صدر عن أعمالها بعنوان (انتحار الأوتاد في اغتراب سعدية مفرح) للناقدة والشاعرة العمانية د.سعيدة بنت خاطر.. حول هذا الكتاب ومواضيع فكرية وحياتية اخرى كتطورات الشعر وانحسار نمط منه على حساب الآخر.. وقضايا اخرى كان هذا الحوار:
* الآن وبعد أربعة دواوين شعرية كيف تقيمين المرحلة التي أنت فيها خصوصا وان هناك خيطا أسلوبيا جمع هذه الأعمال، ولكن هل ثمة فكرة جديدة لم تقوليها بعد أو أسلوب جديد تدوينين الخروج به على نفسك في أعمال جديدة؟
لا استطيع أن أقوم ما أنتجته حتى الآن حتى لو أردت ذلك، ولكن ما يشعرني بقليل من الرضا هو أن كل مجموعة شعرية جديدة تصدر لي اشعر أنها وحدها من تمثلني شعريا، وهذا يعني أنني أحاول، على الأقل أحاول، أن أظل في بحث مستمر عن ذاتي الشعرية وعن صوتي الخاص في كل ما اكتبه من شعر.
أما الفكرة الجديدة التي لم أقلها بعد فيبدو أنها تظل حلما مستحيلا ليس بالنسبة لي وحسب، وإنما بالنسبة لأي شاعر.
فالفكرة الجديدة هي الفكرة الأخيرة والتي يظل الشاعر في صراع مستمر مع اللغة والموسيقى والمضمون بحثا عنها بين ركام القصائد والكلمات، ولن يجدها..ولعل هذا احد أسرار الشعر ومنبع من منابع فتنته الدائمة.
* ظهرت في الخليج مع مجموعة شاعرات استطعن ان تضعن بصمة واضحة في مسار القصيدة في المنطقة ثم غاب جيل كامل من بعدكن الى ان ظهرت الآن بوادر ولكن ليست مستقرة أو واضحة المعالم لجيل جديد..كيف تشرحين لنا أسباب ذلك؟
رغم أنني لست من أنصار مصطلح الجيل الا أنني استطيع التعامل به فأقول ان الجيل الجديد الذي تعنيه ظهر مع بداية الألفية، في حين ان الجيل الذي يفترض أنني انتمي اليه هو جيل التسعينيات، أي أنهما جيلان متتاليان وملتحمان زمنيا كما ترى، وبالتالي لا أوافقك على ان هناك جيلا مفقودا أو غائبا بين الجيلين.
وبشكل عام أرى أن الشاعرات الشابات أي أولئك اللواتي ظهرن في السنوات القليلة الماضية قادرات على تقديم منجز شعري فاخر، فمن خلال متابعتي لما يكتبن وينشرن أستطيع ان أقول أنهن يمتزن بطاقات شعرية هائلة، وجرأة وشجاعة تليقان بالشاعرات، ولعل في هذا ما يجعلهن قادرات على متابعة خطوطهن الشعرية بمزيد من التصميم والإرادة على العكس من الشاعرات اللواتي سبقنهن حيث تخلت الكثيرات منهن عن اختياراتهن الشعرية والإبداعية الأولى تحت وطأة الكثير من ضغوط الحياة وتحفظات مجتمعاتنا الذكورية القاسية.
* أصدرت عنك الناقدة الدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسي كتاب أسمته (انتحار الأوتاد في اغتراب سعدية مفرح) أولا كيف تجدين ما قالته الناقدة عنك.. ثم هل توافقين على مسألة ان الاغتراب في شعرك هاجس يستحق فعلا هذا الاكتشاف؟.
أود قبل كل شيء ان انوه بالجهد الجهيد الذي بذلته الدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسي في تأليفها لذلك الكتاب، كما أود ان اشكرها على التفاتها لتجربتي الشعرية المتواضعة والقصيرة نسبيا قياسا إلى تجارب العديد من الشاعرات الأخريات في المنطقة.
ولأن الدكتورة سعيدة الفارسي لا تعرفني شخصيا، ولم ألتق به في حياتي حتى الآن، فإن ما كتبته عني اعتمادا على قراءتها لأشعاري فاجأني كثيرا.. وأسعدني أن يعكسني قصيدي بهذا الشكل الذي اكتشفته الدكتورة سعيدة الفارسي حيث قدمت من خلال الكتاب تأصيلا ساعدني على اكتشاف اثر الاغتراب على قصيدتي بشكل مباشر أحيانا وبشكل غير مباشر أحيانا أخرى.
والاغتراب الذي رصدته الدكتورة سعيدة الفارسي في مجموعاتي الشعرية الأربعة التي صدرت حتى الآن هو الاغتراب الاجتماعي والاغتراب القومي بالإضافة إلى الاغتراب عن المدينة، وكل هذه (الاغترابات) التي رصدتها الباحثة في شعري هي اغترابات حقيقية ولكنني لم أكن أعي أنها موجودة بهذا الشكل الفاضح لدى الا بعد أن قرأت الكتاب، خاصة وأنني لم أكن اقصد التعبير عنها، ولا حتى الإشارة إليها، فموضوعات القصيدة لا يعرفها الشاعر بالضرورة وخصوصا تلك التي تنجد في احتلال زواياها الخفية بين سطور الشعر، وتحاول أن تبث أنفاسها بين مفردة وأخرى دون أن تظهر تحت الضوء.
* دعينا ننتقل قليلا الى الجانب الفني الا ترين معي بان القصيدة العمودية بدأت فعلا بالانحسار من عالم النشر على حساب التفعيلة أو النثر بماذا تفسرين ذلك هل هو غضبة الحداثيين وانتصارهم لنمطمهم من القائمين على الصفحات الثقافية أم ان القصيدة الكلاسيكية لم تستطع ان تتكيف مع لغة العصر ولم تعرف كيف تحفظ نوعها من؟
نعم.. بدأت بالانحسار منذ زمن طويل.. وهذا شيء طبيعي جدا، لا يعود إلى غضبة الحداثيين، كما تقول، فأنت تعرف ان الشعر لا يخضع لمنطق الإلغاء، فلا قصيدة قادرة على إلغاء قصيدة أخرى، ولا أسلوب يمكن أن يسود على حساب أسلوب آخر، ولعل الشعر أحد أكثر الفنون قدرة على التحاور والتجاور... لكن هذا لا يمنع من أن يكون لكل عصر لغته وأدواته وفنونه وأساليبه في الكتابة أيضا، وإذا كانت القصيدة الكلاسيكية لم تستطع الصمود في راهننا فهذا لا يعين أنها قاصرة فنيا بقدر ما يعني ان الشعر يجدد نفسه دائما، وإذا كانت قصيدة التفعيلة قد سادت لسنوات طويلة وها هي قصيدة النثر تنتشر بشكل أفقي كبير الآن، فهذا لا يعني أنهما قمة الإبداع الشعري بقدر ما يعني ان المستقبل مفتوح دائما على اقتراحات شعرية جديدة ومبتكرة.. وهذه هي مهمة الشعراء دائما، حيث التجاوز والتجدد هما الضرورة الأساسية التي تعطى للقصيدة الجديدة شرعيتها الإبداعية. ولعلنا لا نأتي بجديد عندما نقول ان القصيدة الحقيقية لا تموت أبدا، فالقصيدة الكلاسيكية ان لم تجد الآن من يكتبها مثلا لا يعني أننا لا نتذوق ما أنتج من نسخ رائعة منها على مدى تاريخنا الشعري الطويل، وهكذا الأمر بالنسبة لقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر أيضا... خاصة إذا ما تعاملنا مع كل قصيدة وفقا لظروف عصرها...
وبشكل عام، ودعني أخبرك أنني رغم كل ما قلته صرت لا أفضل ان أطلق على القصيدة تلك التوصيفات التصنيفية التي تحدد نوعها، فأفضل ان تكون القصيدة قصيدة دون أن نلحق تلك التسمية بأي تصنيف إضافي . وهذا يساعدنا على تلقي كل قصيدة وفقا لظرف إنتاجها ومعطياتها الجمالية والفنية بعيدا عن التصنيفات النقدية والتوثيقية.
* جيل السبعينيات حمل هزائم وخيبات حقبة الستينيات مع العدو الإسرائيلي ثم جاء جيل الثمانينيات ليحمل احباطات وانكسارات بعض الأنظمة.. بالنسبة لكم انتم جيل أوائل التسعينيات أي هم وانكسار حملتم؟
تكاثرت الظباء على خراش.. فما يدري خراش ما يصيد، وتكاثرت القضايا والانكسارات والهموم علينا، فما ندري ما نتبنى ونتحمل منها، وما نترك!! حتى أننا لم نعد متحمسين لتبني أي قضايا سوى قضايانا الفردية، وانطلاقا منها أمكننا الانطلاق إلى القضايا التي يمكن أن تكون عامة.
ولكنني بشكل عام أرى ان جيلنا، بحكم التاريخ، هو الأكثر وعيا بمعطيات المرحلة التي يعيش في خضمها، وهذا لا يعني أنها الأكثر ثقافة مثلا ...لكن الوعي بتلك المعطيات قدم لهذا الجيل حلولا فردية لا بأس بها للتعامل مع قضاياه الخاصة وقضاياه العامة عبر شعريته غير الخاضعة لاشتراطات فنية خانقة ...كما كان يحدث في السابق. نحن أكثر حرية في تداول الشعر وتناوله والتعبير من خلاله حتى عن اللاشيء، ونحن أيضا أكثر قدرة على تخليص قصيدنا من ضرورة ان يكون له وظيفة ما سواء أكانت هذه الوظيفية معنية بالشأن الاجتماعي أو السياسية أو حتى الشأن الخاص . قصيدنا هو نحن بكل متناقضاتنا وبحجم وعينا الناتج عن كل هذه الاحباطات والانكسارات التي يبدو أننا تآلفنا معها حتى أنها لم تعد تثير حنقنا بقدر ما تثير سخريتنا، ولم تعد تستفز دموعنا بقدر ما تستثير ضحكنا ..ولكنه ضحك كالبكاء..!!.
* ما الذي تحضرينه الآن في قريحة النشر هل ثمة أعمال جديدة تلوح في أفق الشعر؟
مشاريعي كثيرة جدا، ولكن يبدو أن همتي في انجازها أقل مما كنت أعتقد حتى أنني اخشي أن ينتهي العمر دون أن أنجز منها الكثير مما أود انجازه فعلا، أحيانا يبلغ بي حماسي مداه الأقصى فأقبل على ملفات تلك المشاريع الكتابية بكل ما أوتيت من تصميم على انجازها، وأحيانا أشعر باللاجدوى من كل شيء وتكون تلك المشاريع أولى ضحايا تلك الحالة التي أمر بها، حاليا.. أحضر كتابا يبحث في سير نساء عربيات يجمعهن خيط من الأسى الشفيف، رغم اختلافهن زمانا ومكانا، كما قد أتشجع وأدفع للنشر مجموعتي الشعرية الخامسة،وهي جاهزة للنشر منذ زمن طويل، ولكن لا ادري ما الذي يجعلني أتردد في الدفع بها للنشر . اشعر أحيانا أنها تحتاج للمسة ما، لمسة سحرية تعطيها خصوصيتها، ولكنني لا اعرف ما هي هذه اللمسة، وما أستطيع ان أضيفها إليها، ان كنت استطيع فعل، من يدري...؟
جريدة الوطن - السعودية