الشاعر شريف رزق واحد من بين الوجوه الأهم بين شعراء جيل الثمانينيات في مصر، ليس فقط عبر الدواوين الخمسة التي أصدرها وآخرها الديوان الذي نحن بصدده حيوات مفقودة بل لأنه أحد أصحاب الاقتراحات الشعرية المتجددة بشكل دائم، وقد حقق شريف بالفعل العديد من هذه الانتقالات والاقتراحات داخل نصه بداية من ديوانه الأول عزلة الأنقاض 1994، مروراً بأعماله: لا تطفئ العتمة 1996، مجرة النهايات 1999، الجنة الأولي 2001، وأخيراً ديوانه الصادر عن دار الحضارة للنشر والتوزيع حيوات مفقودة . والديوان الجديد لشريف يثير العديد من التساؤلات حول ما يمكن أن أسميه بردة إلي الشكل الأقدم في البلاغة الشعرية لديه، وهي بلاغة تستنهض، ليس فقط العالم الشعري بكافة مفرداته، بل تستنهض شكل الصفحة ذاتها وتتعامل معها باعتبارها فضاء مضافاً للعملية الشعرية، لذلك سنجد أن صفحات الديوان مليئة بالمربعات والمستطيلات وأشكال هندسية مختلفة تتحكم بشكل ما في توزيع سطور الديوان وتقسيمه. ورغم أن شريف في هذا الحوار يستعيد ألقاً نقدياً بأكثر مما يستعيد ألقه الشعري، إلا أن الديوان الجديد لا يفتأ إلا أن يفاجئنا بالكثير من المفارقات.. في الوقت الذي يسعي فيه الشاعر إلي الكثافة اللغوية نجده يستفيد بأكبر قدر ممكن بالطاقة السردية العالية للشكل النثري عبر الكثير من التفاصيل وعبر ما يمكن أن نسميه بالأسطورة الشخصية. وفي هذا الحوار يرد شريف علي الكثير من التساؤلات الراهنة حول مشروعه الشعري وحركة قصيدة النثر العربية، ما أسفر عنه ضجيجها الذي غطي علي ما يربو من العقد ونصف العقد. وهنا الحوار:
* حدثني في البداية عن سنوات التكوين الثقافي وكيف استقر بك الحال في الشعر؟
شهدت فترة التكوين تحولات متتالية ، ومتوثبة، في البداية تركز السعي إلي القبض علي تجربة الذات في مدارات الرسم، ثم كانت نقلة أخرى باتجاه أفق القصة، وهي الفترة التي تم فيها التأسيس المعرفي والفكري، والتعرف علي تفجرات الذات وتحولاتها، وكان هناك مؤنسو الليالي الطويلة الأثيرون: طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس والنفري وجبران خليل جبران وابن الفارض ودوستويفسكي، ثم شرعت التجربة تميل شيئاً فشيئاً إلي التكثيف والتقطير، وصولاً إلي قصة الحداثة، استدعي قراءة جيدة للنثر العربي لدي جبران ومي ونعيمة، وأيضاً لدي الرافعي والمنفلوطي، من ناحية أخري، تزامن هذا مع توقد الهاجس الشعري التجريبي، وكان الأقرب ـ من الشعراء ـ إلي تحرقات الذات: النفري والحلاج والدسوقي والتوحيدي في الإشارات الإلهية، ابن عربي والجيلاني، لم أستطع التوقف طويلاً أمام تجربة شعرية واحدة، علي الرغم من معايشتي الكاملة لأبرز المتواجدين في المشهد الشعري، وفي أواخر الثمانينيات بدأت في نشر قصائدي في مصر، وفي غيرها من البلاد العربية، وهي القصائد التي هيمن علي تكوينها المفهوم الجمالي المهيمن علي الحداثة الشعرية في مصر حينئذ، حيث البناء المجازي المحتفي ببكارة التشكيل وانفتاح الأفق الدلالي علي شتي الأنحاء، والتجريب اللغوي ضمن البنية الإيقاعية الموروثة المتمثلة في: التفعيلة، وأبرزت هذه القصائد وعياً بعوالم التصوف: نظرياته، وآليات تعبيره وتشديده علي تحولات الروح وتشظياتها، وانحيازاً واضحاً إلي القبض علي منطقة خاصة فريدة في أعماق التاريخ الشخصي، عبر تكثيف التجريب اللغوي، وعضد أهمية هذا الوعي كتابات بارت، ورومان ياكوبسن، والشكلانيين الروس، وجون كوين، وتزفيتان تودوروف، ويوري لوتمان، وغيرهم.
* وما الذي أسفرت عنه هذه الرحلة الطويلة مع كل هذه المعارف؟
توجت هذه المرحلة بإنجاز قصيدي: الجنة الأولي ومع بداية فكرة القصيد الشعري المتكامل ذي البناء المتنامي، وقد تأخر نشر هذا القصيد عشر سنوات كاملة، حيث لم ينشر كاملاً إلا في العام 2001، فقد آثرت أن أبدأ بنشر القصيد الثاني، بترتيب الكتابة ـ عزلة الأنقاض 1994، الذي جاء انقلاباً علي العقيدة الشعرية السابقة، ونقلة كاملة في أفق ما يُعرف بـ: قصيدة النثر وشدد هذا القصيد بقوة علي جماليات التشظي، والتشذير والبناء بالهدم، وقد جاء تحولي إلي القصيد النثري ضمن مجموعة من أبناء جيلي، شكلت ظاهرة، باعتمادها علي ما ظل مهمشاً عن المشهد الشعري، رهاناً علي بديل شعري، كان التحول يعد تحولاً لمرحلة كاملة، كان تحولاً جماعياً، وإن تحول، كل تحوله الفردي علي طريقته، ومن هذه المجموعة: علي منصور، محمود قرني، ياسر الزيات، كريم عبد السلام، إيمان مرسال، وانضم بقوة أسامة الديناصوري وأحمد يماني وعماد أبو صالح وعلاء خالد، وما حدث في مصر حدث في غيرها، وهو ما جعل رموز الشعر التفعيلي يستجيبون لهذا التغيير فجرب البياتي وفاروق شوشة وسواهما. ولأن التحولات الشعرية العميقة تتأزم مع التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى، فقد أثبت القصيد النثري بتحولاته العميقة علي أصعدة البني النصية أنه الممثل الشرعي لتحولات دولية عميقة بدأت منذ العام 1989، وكان من أبرزها: انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الآلة الأمريكية بالهيمنة، وغزو العراق للكويت وما ترتب عليه من التأكيد علي تداعي المشروع العربي وبداية ظهور الأطماع الاستعمارية في المنطقة مرة أخري، وتغلغل الكيان الصهيوني في المنطقة وغطرسته. كان التحول إلي قصيدة النثر تحولاً عن أفق شعري إلي أفق آخر تماماً، ولم يكن تحولاً إيقاعياً فقط، كما يتعامل البعض معه، كانت المرحلة كلها إذن مهيأة لهذا التحول، وعلي ضوئه أعيد الاعتبار لمشروع قصيدة النثر في مجمل تاريخه السابق، وبخاصة منجز تجمع مجلة شعر البيروتية، وتحديدا عند محمد الماغوط وأنسي الحاج، ولمنجز جماعة كركوك ومنها: فاضل العزاوي وسركون بولص وصلاح فائق وجان دمو، ولشعراء سبعينيين كوديع سعادة وعباس بيضون وسليم بركات، وظل هؤلاء وأقرانهم يشاركون في ترسيخ مشروع القصيد النثري في عمق المشهد الشعري الراهن.
* وكيفت تري ملامح قصيدة النثر في مشهدها الراهن علي ضوء ما تقول؟
لقد أصبحت قصيدة النثر ممثلة لملامح شعرية هذه الفترة، هذه القصيدة التي راهنت علي كل ما هو بديل لمنجز تاريخ الشعرية المتوارث، هذه القصيدة التي أصبح الرهان الأساسي للشعرية حالياً، وهي الإنجاز الحقيقي للشعرية العربية الراهنة، غير أن قصيدة النثر ليست قصيدة واحدة، فهناك التجربة اللغوية في شعر سليم بركات وقاسم حداد وأمجد ناصر، حيث للعمل اللغوي دور أساسي في تجسيد النص الشعري، وهناك شعراء رومانسيون ينتمون إلي نفس الحساسية الشعرية، والتي انتمي إليها جبران وحتي حسين عفيف، وآخر هؤلاء الشعراء: فارس خضر، وهناك شعراء ربطوا القصيدة بفن السينما واعتمدوا علي التفاصيل الصغيرة اعتماداً باهظاً لخلق نص شعري أقرب للموضوعية وللصورة البصرية غير أن كثرة التفاصيل عند هؤلاء طرحت السؤال التالي: هل تتولد القصيدة حقاً كتجربة شعرية بهذا الفيضان غير النهائي من الصور الصغيرة والتفاصيل، ومن هؤلاء الشعراء: علي منصور وعماد أبو صالح ومحمد متولي وغيرهم ممن يرسخون لـ ريتسوسية عربية، هناك أيضاً قصيدة ذات مفهوم فرنسي استندت أساساً علي رؤى سوزان برنار وتجارب رامبو وسان جون بيرس وتتبدي في شعر أنسي الحاج وأدونيس، وهناك قصيدة اشتغلت علي شبقها الشخصي وحركة الذات الفردية المتمردة علي العالم، ويمثلها محمد الماغوط في أواخر الخمسينيات وأسامة الديناصوري في بداية التسعينيات، وهناك قصيدة تؤسس مشهدها علي خلفية السرد الصوفي وسرد الكتاب المقدس وأناشيده لإنجاز قصيدة نثر عربية الأداء تتسق مع التياعات الروح وتطوحاتها بين المحو والصحو، ويجسدها محمد آدم وحده، وهناك شعراء استغرقوا في فكرة العمل الشعري المركب تركيباً خاصاً ليكون هذا النص نصاً جامعاً في بناه للنوع الأدبي الجامع ومنهم علاء عبد الهادي. وقد هيمن علي شعر النثر مسعيان، أحدهما انحاز إلي التفاصيلية والآخر إلي الشخصانية، وفي قصيدة التفاصيلية تهيمن علي النص الشعري: المشهدية وحيادية اللغة، وجماليات الصورة البصرية، والنسبي والمفارقة. أما قصيدة الشخصانية فتهيمن حركة الذات بإيقاعاتها ولغتها وتحولاتها. الذات هنا فردية عادية تمارس طقوسها الشخصية، وتهيمن هنا الغنائية، وشاعرية البوح والسرد الاستبطاني، وتلعب الجمل الاعتراضية وتداخل الأصوات دوراً مهماً في خلخلة الأداء السردي المتدفق، وبين القصيدتين قصيدة تهيمن عليها جماليات الفانتازيا والنزوع إلي تأسيس أسطورة شخصية من التفاصيل المحلية المعيشة لذات فردية بسيطة، ومن هذه التوجهات هيمنة الشفاهية وهذا يتيح للشاعر التخفف من الجزالة التاريخية ومن الدوران في فلك مجازات متكررة غير أن بعض شعراء هذا التوجه يقعون أحيانا في الاستظراف والاستخفاف والقفشات، وتكرار لوازم معينة مثل بالضبط والله هذا حصل . إن المشهد شديد التنوع رغم تكرارية بعض حالاته.
* وكيف تري أعمالك الشعرية الخمسة التي أصدرتها في إطار هذه التوصيفات؟
تنتظم أعمالي الشعرية الخمسة المنشورة ـ حتى الآن ـ هم إبداعي أساسي هو البناء الخاص للعمل الشعري المتكامل، المنفتح علي طاقات السرد ودرامية الحالة وخصوصية كل بنية من هذه البني عن غيرها، لم أنشغل في هذه الأعمال سوي بما أعرفه تماماً، بذاتي، بتاريخها الشخصي بأدغالها وعتمامتها، وتطوحاتها وانشطاراتها. لم أنضم ـ مباشرة ـ إلي جماعة محددة، وإن تعاونت بقوة مع مجلات الهامش الشعري المستقلة، التي قادت عملية التحول الشعري، ومنها الكتابة الأخرى و إيقاعات وساهمتُ في تحرير مجلة الشعر مع خيري شلبي ست سنوات، فيما بين تشرين الأول (أكتوبر) 1993، وتشرين الأول (أكتوبر) 1998، قدمت أثنائها، قدر استطاعتي الكثيرين من شعراء القصيد النثري، من مصر ومن خارجها، وقدمت مختاراتي للشعر العربي وقراءاتي لها، وتوليت أثناءها تحرير باب حوار الأصدقاء. إلي جانب أعمالي الشعرية الخمسة بحوزتي عدة كتب نقدية منجزة وبعض فصولها منشورة، وتشغلني بشكل أساسي: نظرية الأنواع الشعرية العابرة للنوع ومفهوم التنوع الأدبي الجامع، وتحولات الشعرية وأشكال التجريب الشعري.
* حدثني بشكل أوسع عن مفهومك لـ الأثر المفتوح أو النص الجامع كما تطلق علي نصك وبعض النصوص المجايلة.. هل هي ردة فعل ضد الشكل الذي أشاعته قصيدة النثر؟
في نهاية الثمانينيات حدثت في مصر هرولة جماعية لـ قصيدة النثر . كان تركيز الجماعة الصاعدة في التسعينات إلي قصيدة النثر مباشرة علي النثر الخالص والاستفادة من إمكانات السرد وتيار الوعي وانتهاكات التابو الجنسي والتوسع في التفاصيلية، بينما ركزت تجارب شعر الثمانينيات علي عملية تنظيم الخطاب ووضوح الإيقاع والوعي بمفاهيم ما بعد الحداثة والتكثيف وظل هذان المنحنيان مهيمنين علي طبيعة قصيدة النثر وفي معظم الأحوال طرحت المجموعة الأولي بشكل عام نموذجاً أقرب إلي نثر القصيدة بينما عكفت المجموعة الثانية علي إنجاز قصيدة نثر ، الأولي انتمت إلي دائرة الشعر الواسعة فيما انتسبت الثانية إلي دائرة القصيدة تحديداً . وكان التيار الأكثر حضوراً هو تيار الشعر الحر بالمفهوم الأنغلوساكسوني، وهو المصطلح الدال علي القصيدة الخالية من الوزن والقافية، المكتوبة في سطور حرة حسبما تقتضي الدفقة الشعرية، وقد توهجت رغم قلة نماذجها قصيدة النثر هذه القصيدة غير المقطعة، قصيدة الإيقاع المتدفق الموصول في خطاب يتدفق، فيحتل مساحات البياض، في هيئة كهيئة النثر الموصول علي الصفحة كأي نثر، مستثمرة طاقات السرد في اصطياد الشعر من خريطة النثر، ليصبح من النثر العادي: الكيان الفني المحكم الذي هو القصيدة كاملة في هيئة النثر وسيولته وتدفقه، وإن ظل مصطلح قصيدة النثر دالاً على النوعين الشعرنثريين الرئيسيين، كخطأ تاريخي مقصود. وأعيد الاعتبار لشعراء النثر في الأجيال السابقة واكتست بعض الأسماء بهالات طارئة، وامتلأت مرحلة التجريب بأسماء عديدة.. وبعد أكثر من خمس عشرة سنة، استقر حضور القصيدة القائمة علي تنظيم الخطاب ووضوح الإيقاع، والتكثيف، وتوارت أسماء وظهرت أسماء. واختفت الأصوات والجماعات التي طالما زعقت وأرهبت، وبدأ الضجيج يقل والصخب يهدأ، ثم بدأت القصيدة تدخل في اعتيادية جديدة، كما يحدث في كل الدورات الشعرية الأساسية، لأسباب عديدة، تحتاج إلي تفصيل. غير ان هذه الأسباب اقتضت ضرورة الخروج من القصيدة إلي شكل أرحب، وأظهر بناء ومجازاً مثل الأثر المفتوح و النص الجامع .
* وهل أسفر العراك الذي أشرت إليه عن شيء؟
تحولات المشهد الآن تلقي معظم ما حورب من أجله إلي مزابل التاريخ، وتمحو أسماء كثيرة، تقدمت علي إنجازاتها، وتفضح تهافتها الكاريكاتوري الصياح.
* وماذا عن ديوانك الأخير حيوات مفقودة كيف تراه في هذا السياق؟
في حيوات مفقودة تجاوزت مفهوم النص الديوان، القصيد النثري السردي الدرامي، إلي مشروع النص الجامع، للاستفادة من إمكانيات الشعرية المتعددة والمغايرة داخل بناء النص، فتجاور الغنائي والسردي، وتجاورت الأصوات المتعددة في المساحة الزمنية الواحدة، وتجسدت في أنماط طباعية مختلفة، وتفضح هوياتها المتعددة المتمايزة، وبرزت علاقة المكتوب والبياض التي تجسد علاقات الحضور والغياب. وأعتقد أن قصيدة النثر ليست نهاية المطاف. فهي كشكل شعري كتبت علي أنها بداية لانفتاح شعري أكبر وأشمل، يتخطي حدود بنية القصيدة، ويتجاوز الدال السخيف حول المجاز اللغوي أو البصري، وصورة البلاغة أو بلاغة الصورة.
القدس العربي
2005/04/29