كانت لدينا قناعه تامة، قبل الإعداد لهذا الحوار، بأن يأتي بصورة غير نمطية، واعتقدنا أن ذلك يتحقق بطرح أسئلة، لم تستهلك في الحوارات التي أجريت مع الشاعر العربي الكبير أدونيس علي كثرتها. حاولنا ذلك. فهل نجحنا؟ المهم أننا اكتشفنا انه يؤمن بالمرأة مغنية فقط، لا صاحبة إنجاز ثقافي أو ريادة شعرية، اكتشفنا كلاسيكيته في سماع الموسيقي، وهو علي النقيض تماما من حداثة الإيقاع في شعره.
تبقي الإشارة إلى أن الحوار الجانبي ـ قبل التسجيل ـ كشف لنا رأيه في أخلاق نجيب محفوظ العالية، وانه لم يقرأ له سوي رواية (ثرثرة علي النيل)، وانه هو الذي قدم السياب واختار له قصائد ديوانه (أنشودة المطر)، وان الحركات الشعرية قبل ظهور مجلة (شعر) في بيروت، لم تكن إلا إرهاصات للتجديد الحقيقي.
وحينما كنا نحاول ضبط شريط الكاسيت، داعبنا قائلا: صوتي يشبه عبد الحليم حافظ، فرأيناها فرصه لنسأل:
* هل تحب صوت عبد الحليم حافظ؟
في الحقيقة لا احبه ولا اسمعه، أو بمعني اصح لا اعرف الغناء العربي خارج بعض أغاني سيد درويش ومحمد عبدالوهاب وفيروز، وأم كلثوم التي احبها كثيرا.
* وماذا عن مارسيل خليفة؟
مارسيل جيد كموسيقي، اكثر مما هو مطرب، فلو قارنت صوته بالأصوات التي ذكرتها أظنه يختلف، وهو لا يزعم بأنه مغن علي هذا المستوي، لكن له طريقه خاصة في الغناء، ودور الصوت في العالم المعاصر تغير عنه في الماضي، ويمكن لأي شخص أن يغني بصوت لا يحمل بالضرورة المعني القديم للصوت في الغناء، وتظل أم كلثوم وفيروز هما المغنيتان العظيمتان، ولحسن الحظ أن المرأة تبرز في الغناء، ففي المجتمع العربي قلما تبرز المرأة في الميادين الثقافية المختلفة وأنا سعيد بأن تكون المرأة بارزة في فن من أهم الفنون، وهو الغناء.
* أدونيس. ألا تحن إلى اسمك القديم علي احمد سعيد؟
هذا الاسم لم يفارقني أبدا، ومن غريب المصادفات أن أدونيس يعني باللغة القديمة (سيدي) والسيد هو (إبل)، ويمكن أن يكون هو الاسم الأصلي لـ علي، البابلية والسومرية والكنعانية بها أصول من مفردات العربية، إذن أدونيس في معناه العميق علي، وأنا غيرت اللفظ، لكن الجوهر لم يتغير، ولذا لم يفارقني لكي احن إليه!
* ألا يزعجك أن هذا الاسم كان مثار إشكاليات صغيره تودي إلى الطعن فيك بداية من الاسم؟
لا. ففي إطار ما يثار في الثقافة العربية لا شيء يزعجني إطلاقا، لان دوافع هؤلاء الذين يثيرون مثل هذه القضايا ليست دوافع ثقافية، و إنما شخصيه، ولذلك انظر إلى مثل هذه الإثارات من زاوية نفسيه لا ثقافية. فهناك حاله نفسيه عامه عند بعض الكتاب أو الذين يسمون أنفسهم مثقفين، ويعكسونها أو يسقطونها علي الآخر، ولذلك لا تثيرني، بل أشفق علي مثل هؤلاء اكثر مما أثار.
* هل هذه الدوافع الشخصية هي سمه الثقافة العربية؟
اعتقد أنها سمه قائمه في الوقت الحاضر، وهي قائمه في جميع الثقافات، وكانت في ثقافتنا القديمة، لكن كان هناك ما يقابل هذه الدوافع والمهاترات الشخصية إذ تري أشخاصا يحافظون علي القيم الموضوعية ويدافعون عنها، فانتم تعرفون أن اعظم شعرائنا الذين أسسوا للشعرية العربية، وجدوا من يتهمونهم بالسرقة، بداية من آبي نواس وأبي تمام والمتنبي وصولا إلى د. طه حسين.
إذن هؤلاء العظام الذين صنعوا الحواس، وخلخلوا القيم والذائقة، وأسسوا لشعرنا وفكرنا، كانوا يتهمون دائما بالسرقة أو بالإلحاد والمروق، وهذه سمه قائمه في الثقافة العربية، لكنها اليوم تكاد تكون غالبه لأسباب تستدعي تحليلا.
* لماذا؟
لا أظن أنني قادر علي تحليل هذه الأسباب بدقه، وان أشرت إلى بعض عواملها، وهي تتصل بالأخلاق والقيم والانتماءات السياسية والأيديولوجية.
وهذا كله سيذهب جفاء، ويجب ألا نقف عنده، فما سيبقي هو الجوهري، ولحسن الحظ أن هناك أشخاصا كثيرين في المجتمع العربي، وان كانوا مهمشين بشكل أو بآخر، يحافظون علي هذا الجوهري ويدافعون عنه، وهذا ما يبشر بإمكان تجاوز مثل هذه الإشكاليات الصغيرة، وتحويل الصراع من أفق شخصي محض إلى افقه القيمي الموضوعي الإنساني.
لماذا اخترت المتنبي ليكون محورا لـ الكتاب برغم اعتراضك علي القصيدة الوطنية لأنها تستبدل القضية بالممدوح، ومع اعترافنا بعظمه المتنبي إلا انه كان مادحا من الطراز الأول وأنت ضد العلاقة بين المادح والممدوح؟
المتنبي كل لا يتجزأ، وحين تقوم شخصا، أيا كان، فأنت تقومه في اتجاهه الأخير، فلا تقوم كيف كان يأكل أو ينام، أو يتصل بفلان دون فلان، إنما تقومه بالضوء الأخير الذي يتبقى منه، وإلا فلن تستطيع أن تري أي شاعر إذا قومته بعلاقته بممدوحيه، فلماذا لا تقومه بعلاقته بنفسه أيضا، إذن يظل هناك عدم إحاطة، والإحاطة الحقيقية في الإنسان هي أن تلتقط جوهره الأخير وبهذا المعني تماما نظرت إلى المتنبي كدليل، عدا أن المتنبي يمثل اكثر من غيره من الشعراء العرب هذا التمفصل بين السياسي والثقافي، بين السلطوي والتمردي، ولا نجد أي شاعر علي الإطلاق في التاريخ العربي، يمثل هذه النقطة من الصراع والتضاد، والتلاحم والتفكك كما يمثلها المتنبي، وقد اخترته لأرى عبره هذا التمفصل المتواصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، بين ما هو سلطوي وما هو رفضي ثائر، عدا أن المتنبي كان ذروة وخاتمة رؤية شعرية، فبعده انهار التعبير كاملا، إذا استثنينا أبا العلاء المعري، وهو ـ معترفا بعظمه المتنبي ـ سمي كتابه الذي شرح فيه شعر المتنبي معجز احمد، واعتقد أن المتنبي يضيء لنا التاريخ العربي اكثر مما يضيئه لنا الحدث التاريخي، والذي نفسره اليوم بشعر المتنبي ولا يمكن تفسير شعر المتنبي به، فهو حين هجا كافور أو مدحه قال: (وما كان شعري مدحا له. ولكنه كان هجو الورى). كان ينتقد هذا المجتمع وهؤلاء البشر، الذين يدفعون شخصا عظيما مثله للجوء إلى كافور أو غيره، كأنه كان يريد أن يضع الشعر في قلب قياده المجتمع، لماذا لا يكون الشاعر قائدا؟
* لماذا لا تصغي السياسة إلى الشاعر بدلا من أن يكون تابعا لها؟
وفي حياه المتنبي كلها، وفي كل ما كتبه كان يضع الشعر كأنه المنارة الأولى للفكر وللسياسة وللإنسان، بهذا المعني أخذت المتنبي.
* تعرضت في حديثك للعلاقة بين الثقافي والسياسي هل يجب أن تكون هناك فجوه بين المثقف والسلطة بالرغم من أن هناك من يدعو إلى تجسير هذه الفجوة؟
أنا أدعو إلى إعادة النظر في العلاقة القائمة بين السلطة والثقافة، فلا يمكن أن تكون في أي مجتمع سياسة عظيمة، إذا لم تكن مؤسسة على ثقافة عظيمة وتبعا لذلك فان السياسة جزء من الثقافة، وليس العكس، فلا يمكن للثقافة بأي حال ـ في مجتمع حي ـ أن تكون وظيفة، كما هي اليوم في المجتمع العربي، فالثقافة رؤية نقدية تغييرية، ويجب أن تظل هكذا، وبهذا المعني فان السياسي يجب أن يكون تابعا للثقافي ومن المؤسف أن السياسة لا تقيم أي وزن للثقافة الخلاقة في المجتمعات العربية، والمثقف العربي اليوم يخون ثقافته ورسالته بقدر ما يقبل بان يتبع سياسيا.
تدعو دائما لقرائة النص الأول، ألا توجد إضافات مضيئة شارحه له، يمكننا الرجوع إليها في هذه اللحظة الراهنة؟
* لنبدأ من النص الشعري الأول، والقراءات التي عرفناها عند النقاد العرب، هل يمكن أن نقول أن الآمدي أو ابن قتيبة أو الجرجاني قرأوا الشعر الجاهلي قرائه نهائية، أم أننا علينا أن نستفيد من قراءاتهم، ونقرأهم نحن قراءة أخرى مختلفة، بحسب المشكلات القائمة؟
أما بالنسبة للنص الديني فالشيء نفسه يمكن أن نقوله، لماذا نقبل بان تكون قراءات الشافعي ومالك واحمد بن حنبل، والفقهاء الآخرين هي القراءة النهائية والكاملة، وليس في النص الديني ذاته ما ينص على أن هذه القراءات يجب أن تكون نهائية وأخيرة، فالنص الديني يقول أن علي المسلم أن يعمل عقله دائما في كتاب الله، وهذا لا يحدث مع الأسف، لأننا إذا لم نقرا نصوصنا الأولى من أفق المشكلات التي نجابهها اليوم ومن أفق علاقتنا بالآخر، والتطور الذي تم منذ1050 سنه إلى اليوم، لكأننا نتخلى عن هذه النصوص، ولابد من قراءتها قرائه جديده وبشكل مباشر مع احترامي الكامل لكل القراءات وضرورة الإفادة منها.
* في هذا الإطار أشدت بقرائة (محمد أركون) الجزائري الذي نري انه منعزل في قسم الدراسات الشرقية في الجامعة التي يعمل فيها في باريس؟
أن يكون معزولا، فهذا شيء، وان يكون قد كتب اعمق ما يكتب حول هذا الموضوع فذلك شيء آخر، وان يحارب وتقلل أهميته، وتطلق حوله التهم الكثيرة، فهذا لن يغير من حقيقة الأمر شيئا، لان هذا كله من باب الدعاية والغيرة والحسد والخلافات الدينية، لكن في تقديري أن ما يكتبه أركون حول النصوص الأولى هو اعمق ما يكتب الآن.
قريبا من هذا لاحظنا أن النقاد العرب المقيمين في أمريكا حققوا بعض الإضافات إلى الثقافة الإنسانية علي عكس النقاد المقيمين في أوروبا؟
* ماذا تقصد بالإضافة؟
ايهاب حسن مثلا قدم نظريه نقدية جديده، وكذلك هناك إسهامات إدوارد سعيد التي لا يمكن تجاهلها في هذا الإطار؟
ايهاب حسن جزء من الثقافة الأمريكي كما أن إدوارد سعيد ليس جزءا من الثقافة العربية، والمثقفون العرب الجزائريون والمغاربة، شاءوا منذ البداية أن تكون مشكلاتهم عربيه، أما مشكلات ايهاب حسن فهي ليست عربيه، وأيضا إدوارد سعيد، باستثناء كتاباته الأخيرة، وهي سياسية في الأساس، وأقل أهمية من كتبه النقدية التي كتبها بالإنجليزية.
* لماذا خرج هؤلاء؟ ولماذا يناقشون النسق العربي والهوية الإسلامية في مناخ آخر، هل المناخ العربي لا يوجد فيه أفق ـ يسمح بذلك ـ ولا أمل في أن يكون لدينا هذا الأفق؟
لم يخرجوا، وإنما لظروف تاريخية يكتبون بلغة غير عربية، وهذه الظروف لا يمكن تغييرها. و آمل ألا تتكرر، إذن يجب أن نتفهم هذه الظروف، إضافة إلى أن المناخ في الثقافة الأوروبية رحب وواسع اكثر من مناخنا الثقافي العربي، فهم يجدون راحه وتفاهما وتفاعلا اكثر مما يجدون في إطار الثقافة العربية، ولو قيست المساحة التي يتنقل فيها المفكر العربي، أو الذي يكتب بالعربية في مجتمع عربي، بالمساحة التي يتنقل فيها أوروبي أو أمريكي، لبدت المساحة لدينا سنتيمترا أو اقل، بينما المساحة هناك فضاء لا ينتهي.
* بالرغم من هذا الفضاء الواسع إلا أن هناك توجسا دائما من قبل المثقفين نحو الآخر ويدور حديث لا ينتهي عن الغزو الثقافي كيف تري ذلك؟
هذا التوجس يقوم به العرب في الداخل، وهو توجس سياسي لا مبرر له، يراد به تمويه أشياء كثيرة، لماذا لا يتكلم هؤلاء الذين يغارون على الإبداعية العربية وعلي المنجزات العربية الثقافية، عن الغزو التقني، مجتمع عربي بكامله لا ينتج، يستهلك فقط، لماذا لا يتكلم هؤلاء عن الغزو الأمريكي الآلي التقني، ويهرعون إلى نقد شاعر يقرا بودلير أو هولدرين أو فرويد كيف نهجم علي هذا المثقف وننسي الغزو الآخر القاتل؟
تصور لو أن التفافه العربية خلت تماما من التأثير الغربي فيها، ماذا يتبقى منها؟ لا يتبقى إلا ما هو ديني وما هو شعري، ماعدا ذلك لا شيء، إذن هذا الكلام عن الغزو الثقافي يناقض كل تاريخنا الثقافي، فالعربي لم يكون ذاته ثقافياً إلا عندما اختلط بالآخر. هذا هو التاريخ.
* في الثابت والمتحول ذكرت أن ثلاثة أرباع الثقافة العربية صنعها غير عرب، الآن تعيد الرأي نفسه. فهل اللحظة الراهنة ـ أو القرنان الماضيان ـ لا تحتمل وجود منجز ثقافي خاص بالعرب؟
المنجز العربي الإبداعي، في هذين القرنين ألخصه في شيئين، أولا في الفنون إجمالا، وفي طليعة هذه الفنون الشعر والفنون التشكيلية، وفنون أخرى كالرواية، وفي هذا الميدان نجد منجزات عربيه جيده، إضافة إلى الموروث الديني والشعري، أما في ميدان العلوم الإنسانية والفلسفة والرياضيات والأنثربولوجيا قلما نجد، وإذا وجدنا أفرادا عربا، فهؤلاء نبغوا وأبدعوا وأنتجوا في مجتمعات أخرى أتاحت لهم أن يبدعوا، إذن نتاجهم ينتمي إلى المجتمعات الغربية التي شجعتهم، ولا ينتمي إلى الثقافة العربية.
* تكلمت عن المنجز اليدوي وحريته في مقابل عدم حرية الإنسان؟
قارن المنجز اليدوي اليوم بالمنجز نفسه في العصور القديمة كالفاطمي والمملوكي صعودا إلى العباسي، ستجد أن ما ينتج اليوم يدويا علي الأقل لا يضاهي علي أي مستوي ما أنجز قديما، فالمنجز اليدوي اليوم ليست فيه من اليدوية إلا الاسم تقريبا فالصناعة والسرعة والآلة غلبت على كل شيء فيه، فهو لا يجد الوقت الكافي ولا المساعدة من الدولة، لذلك يميل إلى السهولة والإنجاز السريع، لذلك ماتت اليد، وقارن فن الهندسة المعمارية اليوم بالمعمار القديم ستجد فروقا هائلة، وعندما أسير في شوارع القاهرة القديمة، ألاحظ فقط مجرد جمال بل أكاد أرى واسمع شهيق وزفير من عمر وهندس هذه الآثار المعمارية، وحينما انتقل إلى شوارع حديثه، لا أرى غير الآلة والسرعة والاستهلاك والوظيفية، مما يتناقض كليا مع عالمنا القديم الجميل.
* الوظيفية كانت جزءا من القديم؟
نعم. لكن لم يكن هناك فاصل بين الحياة والفن اليوم حدث هذا الفاصل، في الماضي كانت الوظيفة جزئا من الحساسية الفنية، وكنت تستخدم الكرسي وتجلس عليه كوظيفة، لكن في الوقت نفسه كان آية من آيات الجمال والفن.
* أنت اخترت نصوصا لمحمد رشيد رضا والكواكبي ومحمد بن عبدالوهاب، وغيرهم، كما قدمت لهذه النصوص، ما الذي يجمع بين هؤلاء، وما الذي حكم اختياراتك؟
كان هذا جزءا من مشروع تتمه لـ الثابت والمتحول. لأن هذا الكتاب صدر للمرة الأولى في ثلاثة أجزاء و أشرت في الجزء الأخير المتعلق بعصر النهضة، إلى أنني سأستكمله بجزء عن الفكر وتطوره، فالثالث خاص بالأدب في عصر النهضة، أما الرابع فهو خاص بالفكر في عصر النهضة، وقد أخذت نماذج قديمة، وحديثه من هذا العصر، حديثه بمعنى الراهن، وقلت لابد من الكلام عن محمد بن عبدالوهاب لكي نري كيف قرأ الإسلام، وهي قراءة مؤثرة في المجتمع العربي كما تعلمون، فيجب أن نفهم سر هذه القراءة، بالإضافة إلى أنني أخذت محمد عبده وآخرين، وقد انتقدني البعض: كيف أكتب عن محمد بن عبدالوهاب، فاستغربت لهذا النقد، كيف لا اكتب عنه وهو مالئ الحياة العربية، ومصر بالدرجة الأولى، برؤيته للإسلام، فلكي أحارب شخصاً يجب أن أفهمه، وأنا لست من الأشخاص الذين إذا عادوا فكر شخص ما يهملونه، بل أذهب إلى عمق أعماقه لكي أعرف طريقه لفهمه وبهذا الهاجس كتبت عن محمد بن عبدالوهاب، إضافة إلى انه اكثر المفكرين تأثيرا في العالمين العربي والإسلامي.
* لماذا؟
هذا راجع إلى أسباب تاريخية ودينية واجتماعية.
* لقد كتبت عنه، وبالتأكيد وصلت إلى أعماقه؟
كتبت عنه لكي اكشفه، واعرف الأسس التي يستند إليها، حتى اعرف كيف أتخطاها، و أتجاوزه نحو أفق آخر، لكن أن أهمله وكأنه غير موجود، فهذا من باب وضع الرأس في الرمل.
* وهل هناك جامع بين هؤلاء؟
الجامع هو رغبتي في متابعة خطي الثبات والتحول في التراث العربي، وقلت أن اكبر دليل علي الثبات هو وجود شخص مثل محمد بن عبدالوهاب، انتم الذين تقولون أن الفكر والمجتمع تغيرا، قولوا لي: لماذا ينشأ ـ إذا كان هناك تغير محتمل ـ مثل هؤلاء، هذا مزيد من التوكيد على أن البنية العميقة للثقافة العربية لم تتغير، وقيل لي كيف تكتب عن هذا وذاك، أشخاص لا يدركون ماذا يقرأون، قيل أيضا أنني كتبت بناء على طلب، كيف وهو ممنوع من دخول السعودية وحوربت من أجله، لأنني قرأته بطريقه مختلفة.
* وهل عوده شوقي والبارودي إلى محاكاة نماذج كتبت في العصر العباسي تعني أننا نعيش في زمنين؟
عندما كتبت عنهما، أثيرت عاصفة بأنني ضد الشعر المصري، وهذا كلام معيب، لا يقال أبدا، فقد وضعت شوقي في إطاره، فهو افضل من استعاد اللغة الكلاسيكية، لكنه لم يقدم جديدا، هل هذه الرؤية الموضوعية تكون كراهية لشعر مصر، أنا آسف أن يكون هناك أشخاص يفكرون بهذا المستوي.
* في رأيك لماذا أثيرت هذه الضجة؟
لأن هناك أشخاصاً يماهون أنفسهم بالبلاد، بالأمة، فإذا لم تتحدث عنهم كأنك أهملت الأمة بكاملها.
* إذن ما تقييمك النهائي لمدرستي أبوللو والديوان؟
أنا أول من كتب عن أبوللو والديوان بأفق حداثي.
* نحن نلاحظ انك تكتب علي غلاف الطبعات المتتالية من كتبك طبعه مزيدة منقحة نستطيع أن نفهم ذلك فيما يخص الدراسات النقدية، لكن أن تحمل طبعات دواوينك الشعرية عنوان صياغة نهائية فهذا مالم نفهمه؟
هو نوع من التحسين، وليس تغييرا أساسيا، فهناك أخطاء أصححها، أو فكره أوضحها، وإذا أعدتم قراءة ما سمي ب صياغة نهائية فلن تجدوا إضافات، أنا لم اعد كتابه أي قصيدة، و إنما قد احذف مقطعا لا اكثر.
* علي أي أساس؟
القصيدة لا تنتهي، ولو لم اكن اليوم مشغولا بكتابه أشياء جديدة، لأعدت صياغة قصائد كثيرة لي، القصيدة عمل لا ينتهي على الإطلاق، ويظل مفتوحا إلى أن يموت صاحبها، وقد تظل كذلك بعد أن يموت.
* وأين موضع القارئ في هذه الحالة؟
أنا لست وثيقة، أنا انفجار شعري أمامك كقارئ، أما إذا قلت لي متى ولدت ومتى كتبت هذه القصيدة وأين، فهذا لا يهمني ولا علاقة له بالشعر، هذا جانب توثيقي، يهم بعض مؤرخي الأدب، أنا اهتم بالتوهج الدائم في القصيدة.
* مادامت لا توجد قصيده مكتملة، فلماذا العنف والعنف المضاد حول شعرك؟
العربي قارئا وناقدا لا يهتم بجوهر شعرية القصيدة بقدر ما يهتم بما حولها، و أقرأ النقد الذي يكتب الآن، ونادرا ما أرى استثناءات قليلة، تحلل جماليات القصيدة وشعريتها، بينما العديدون يلخصون أفكارا، يقول الشاعر كذا، وهذا وطني وذاك غير وطني، هذا يحب الأرض، وذاك لا يحب الأرض، يعني هو نقد تبسيطي ومدرسي، لكن الغوص في اللغة الشعرية وتحليل مستوياتها وعلاقاتها الجمالية فقلما نراه في نقد الشعر، إضافة إلى أن ذلك يقتضي جهدا وثقافة عالية وفهما شعريا، هناك نقاد لا يميزون بين المنثور والموزون، فكيف يحللون لغة شعرية؟
* قلت أن هناك استثناءات؟
كمال أبو ديب هو الناقد الذي حاول وليس دائما تحليل بنية القصيدة، لا مناسبتها أو أفكارها، هناك أيضا جابر عصفور، وعبدالرحمن بسيسو، الذي كتب دراسة نقدية جميلة، لكن مهملة، عن القناع، لا أحد يتحدث عنها. هؤلاء هم النقاد المستبصرون الذين يتحدثون عن الشعر لا عن مناسبته. وأنا أتمنى أن تكون هناك دراسة واحدة عن شعرية الأرض، في الشعر العربي سواء أكان فلسطينيا أم غير فلسطيني، أو شعرية اليأس أو البطولة، لكن كل النقد يلخص القصائد ولا يذهب عميقا في تحليل الشعرية.
* ولكن الغموض الملغز والمثلثات والدوائر التي تمتلئ بها صفحات أبو ديب. هل هذا هو النقد الأمثل؟ هذا موجود في كل الثقافات.
* أليس جزءا من أزمة ثقافتنا العربية؟
هذا ليس موضوعي ولا ادخل فيه.
* أنت لست شاعرا فقط، بل ناقداً أيضا؟
لا أريد أن أدافع عنهم، إنما مثل هذه الخرائط والرسوم التبسيطية توضح اكثر، لو أردت أن اشرح لك وضع الفرد في المجتمعات العربية، ورسمت دائرة، للمجتمع العربي سيكون الفرد في داخلها، و أقصى ما يسمح له بالخروج أن يكون متعالقاً بعيدا عن المركز، فإذا خرج بعيدا صار زنديقا، بعكس الفرد في المجتمع الغربي، يناقشه ويرفضه، ومع ذلك يقبله المجتمع وهذا هو الفرق. (عندئذ تناول أدونيس ورقه وقلما و أوضح هذه الفكرة عبر الرسومات) وبدون هذا الرسم لن نفهم التوضيح الفكري.
* هناك علاقة بين شكل ديوان الكتاب والسينما فما علاقتك أنت بالسينما؟
بدون تواضع كاذب، اعتقد أنني من بين الشعراء العرب المحدثين الذي أقام منذ بداياته علاقة بين الفن الشعري والفنون الأخرى، خصوصا الفنون التشكيلية وفي رأيي أن العلاقة بين الغناء والموسيقي علاقة عضويه مع وجود درجات مختلفة، فهناك مثلا تطريب أو إنشاد، وهناك درجات كيانية أو رؤيوية في الوجود والإنسان.
إذن العلاقات المهمة التي يجب أن تقف عندها هي التشكيل الشعري واللوني والهندسة والعمارة واكرر بدون تواضع كاذب أنني أول شاعر كتب قصيده معمارية الشكل وتشكيلية البناء، إذا صح التعبير خصوصا القصائد الطويلة مثل (هذا هو اسمي) و(مفرد بصيغه الجمع) و(قبر من اجل نيويورك) إذن الشعر أراه مثل السينما بهذا المعني دعوت إلى القصيدة الشبكية، والقصيدة التي تكون مثل شجره تمتد جذورها في جميع الأنحاء وتقدم شريحة كاملة عن المجتمع والتاريخ، وتكون بمثابة عمارة تدخل إليها وتتطلع من نوافذها، وهذه القصيدة تشبه إلى حد ما شاشة السينما التي تعطي في لحظه واحدة وفي فترة زمنية معينة، وفي رويه واحدة شريحة تشكيلية وموسيقية وغنائية وصوتية.
* ما السينما التي رايتها؟
احب السينما الإيطالية لدي فلليني وبازوليني واحب بعض الأفلام اليابانية، أما العربية فلا اعرفها جيدا.
* والعالمي يوسف شاهين؟
لا أستطيع أن أعطى رأيا دقيقا عنه لأنني لا اعرف كيف تطور، شاهدت له بعض الأفلام و أعجبت به، لكن يبقي مجرد إعجاب يحتاج إلى تدقيق أيضا ومعرفة اكثر.
* شكل القصيدة التي تحدثت عنه الشجرة/العمارة، هل جاءت تأثرا نتيجة إقامتك الطويلة في الغرب؟
لا يمكن إلا التأثر، لكن حينما تنجز عملك هذا الذي أنجزته، بالنسبة لي، لا يشبه أي منجز غربي.
* نلحظ تعدد أصوات وإيقاعات داخل قصائدك فهل حدثتنا عن الغناء والموسيقي؟
اعشق الموسيقي العربية القديمة، و آلتيّ العود والقانون خصوصا، وأحيانا الناي، ولذلك احب الموسيقي الإيرانية والتركية.
* ما علاقتك بموجات الموسيقي الحديثة الجاز الروك اندرول؟
لا احبها طبعا، لكنني احب الموسيقي الكلاسيكية الغربية.
* كيف وأنت تحاول تكسير أنماط موسيقية كلاسيكية في الشعر؟
يمكن أن يكون هذا ذوقا أو أن أكون مخطئا، لكنها لا تعني لي شيئا، مع أنني اعلم تماما انه لو كان بيتهوفن موجودا في القاهرة، وأيضا مايكل جاكسون لحضر حفل جاكسون أضعاف أضعاف بتهوفن، ومع ذلك سأكون بين الحضور القلة الذين يصغون إلى بيتهوفن.
* كيف تري هذه المدن: بيروت، القاهرة، باريس؟
بيروت القديمة انتهت، وننتظر ولادة بيروت جديده لكن ما يميز بيروت عن العواصم العربية الأخرى هو أن بيروت منفتحة كالقصيدة، ويمكن أن تكتب باستمرار، بينما هناك مدن كدمشق أو بغداد أو القاهرة أراها مكتملة وشبه مقفلة، هذا ما يميز بيروت عن بقيه العواصم الأخرى ولذلك فهي لا تدور حول نفسها، ولا تشعر بأنها في دائرة مغلقه، بالعكس فهي تسير في أفق مفتوح، بينما اخشي أن أقول أن بقيه العواصم العربية بشعورها بالاكتمال تدور داخل إطار هذا الشعور.
* وهل هذا عيب أم ميزه؟
كل اكتمال هو نقص!!
* وباريس؟
هي مدينه انفتاح علي الآخر، قد لا يكون لها مثيل في العالم، جزء أساسي من نشاطها الثقافي هو الاستقبال العالمي، وهو جزء كبير من مؤسسات ضخمه تعمل من اجل ذلك، أحيانا أقول لبعض الأصدقاء الفرنسيين تصوروا لو أنكم جردتم باريس من الآخرين، من الأجانب، ماذا يبقي فيها؟ باريس بمعني ما يخلقها الآخر، والشيء الجميل انهم يعدونه جزءا حيا من ثقافتهم، ولا ينظرون إليه علي انه غزو، إذن باريس مدينه حيه، وأحيانا ما تكون اعلي من مستوي الباريسيين، وأنا أقول لهم أن باريس اعظم من سكانها، فهي لا تليق بكم.
* لماذا إذن لم يحتملها سعدي يوسف؟
أنا لا أتحدث عن أشخاص.
حتى لو جاء اسمك في حوار نشر مع سعدي وتحدث فيه عن لقاء مع أحد المفتشين في الداخلية الفرنسية لمحاولة استمالته.
أنا لا انجر إلى مثل هذا الكلام، حتى لو كان منشورا.
* قدمت سعدي في مجلة شعر وأصدرت له ديوان (قصائد مرئية) واصبح منقطعا عنك الآن، وهناك أسماء أخرى غادرتك، لماذا هذه القطيعة بين الشعراء الكبار؟
سأتحدث عن نفسي، أنا لم أقم بصراع في حياتي كلها مع شخص، وتاريخي معروف، حتى الذين يهاجمونني يوميا لا أرد عليهم، ليقيني الكامل أن ما يبقى هو الشعر في الأخير، وإذا كان شاعر ما له أهمية وهجم علي، سيوحدنا ذات يوم الشعر، ولذلك لا ادخل في المهاترات، والاتهامات، وهي كثيرة، وهناك شعراء ممتازون لا يدخلون في مثل هذه المهاترات وأخيرا على صعيد التعامل، يصعب عليّ أن أميز بين الشعر والأخلاق، أو أتصور شاعرا حقيقيا يكذب أو يتهم شاعرا آخر تهما باطلة وكاذبة، هذه أخلاقي، و أخيرا لكل ثقافته وشعره وأخلاقه.
* ترجمت عددا كبيرا من المسرحيات لماذا لم تكتب المسرح الشعري؟
حاولت ولم افلح، اعترف بذلك، لأنني لم استطع أن اخلق لغة مسرحية خاصة بالشعر، وتواكب لغتي الشعرية، وأنا اشك وأتسائل حول اللغة المسرحية بشكل عام في العربية، لا أجد أي لغة مسرحية بالمعني العميق للكلمة في الشعر، واعتقد أن اللغة المسرحية في النثر تكشف عن أزمته في هذا الصراع بين العامية والفصحى.
* ومسرح صلاح عبدالصبور؟
لم أقراه كمسرحي، لأنني أثق واعرف أن ابتكار لغة مسرحية ليس أمرا سهلا بالعربية ولذلك أقراه من زاوية شعرية.
* أليست هذه مصادرة، قد يكون حقق ذلك في مسرحه؟
قرأت مسرحه أو ما سمي ب المسرح وهو حوارات مركبة في ذكاء، لكنها ليست مسرحا كما افهمه، والكتابة المسرحية موهبة، أيضا لا يجوز لشخص لا موهبة له أن يكتبها، وأنا شخصيا أتمنى أن اكتب رواية، لكن لا موهبة لدي في كتابة الرواية فأنا اكتب الآن مزيجا من السرد، لكن هل الذي اكتبه هو رواية؟ أنا أقول لا، لذلك سأسمي ما اكتبه (هن هي أنت نشيد لتحية الجسد).
* هناك إشكاليات خاصة بعلاقة بعض المثقفين بالغرب، وحركه الترجمة. كيف تفرز المثقف الحقيقي من الزائف عبر هذه الإشكاليات؟
المثقفون اتجاهات وأشخاص، إيديولوجيون وحزبيون وغير ملتزمين وفوضويون، ويبحثون عن الأفكار لمجرد البحث عن الأفكار، لا نستطيع أن نصنع من المثقفين طبقه منسجمة، فهم عناصر متفاوتة ومتضاربة، ولذلك أحيانا يكون المثقف ضد مثقف آخر، وغالبا في المجتمع العربي كان المثقف اقسي على زميله من قسوة السياسي أو العسكري، المثقف إجمالا هو الذي يفسد السلطة وهو الذي يكتب تقارير ويهاجم فيها زملائه المثقفين، وليس هناك رجل بوليس يقرأ كتابا ليقرر منعه، الذي قرأه وقرر منعه كاتب ومثقف.
* كتبت عام 1979عن الثورة الإيرانية، الآن بعد عشرين عاما هناك زحف نحو الإصلاح، كيف تري ما يحدث الآن هناك؟
منذ بدايات الثورة كان لدي موقف له مستويان: الأول هو الخيار بين نظام الشاه، وهذه الثورة، التي لم يقم بها العمال ولا العسكريون ولا التجار ولا الفقهاء، قام بها الشعب سلمياً، وهو حدث فريد في تاريخ الثورات، وإذا قورنت بنظام الشاه، فأنا تلقائيا وبدون تردد مع هذه الثورة واعتقد أن معظم المثقفين العرب والأجانب الأحرار، وبينهم ميشيل فوكو على سبيل المثال كانوا إلى جانبها، أما المستوى الثاني فهو أن هذه الثورة قامت باسم الدين، فهل يصلح الدين لان يكون أساسا لنظام اجتماعي، هنا قلت: لا، فأنا ضد نظام يقوم على الدين، أيا كانت الأهداف. وحذرت في إحدى مقالاتي من أن ينشأ لدينا ما سميته الفقيه العسكري. كنت آمل لإيران أن تسير شيئا فشيئا، بعد الدفعة الدينية، في سبيل نظام ليبرالي يستلهم الدين فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية والحريات وما يخص المرأة، ولا يكون الدين أيديولوجيا تفرض علي جميع الأفراد، بمعني أن يقبل الإيراني إيرانيا آخر لا تنسجم أفكاره مع أفكار الفقهاء و الأئمة، اعني مجتمعا يستلهم الدين، لكن أفقه يسمح لغير المتدينين بأن يكونوا أحرارا, وان يمارس نظامه بشكل ديمقراطي، و الآن اثبت النظام الإيراني عن طريق الانتخابات ديمقراطيته، يبقي أن تتجسد هذه الانتخابات الديمقراطية في العمق، في المؤسسات والجامعات والمدارس والعلاقة مع الآخر، ونحن كعرب يجب أن نخجل من أنفسنا لأنه ليس هناك نظام عربي واحد حقق مثل هذه الديمقراطية.
* عندما أيدت هذه الثورة قوبلت بهجوم شديد خاصة من بعض اليسار، مقاله صادق جلال العظم على سبيل المثال، هل تتصور أن هذا الموقف كان عصابياً ضدك؟
لا أريد أن أهاجم أحدا، لكن أنا في حياتي كلها لم أومن بأن هناك فكرا يساريا عربيا أبدا، والظروف أثبتت ذلك ولا نحتاج إلى دليل، قلت مرة و أكررها أن ماركس يعيش في الثقافة العربية منذ العشرينيات، ولا نستطيع مع ذلك أن نقول أن هناك مفكرا ماركسيا عربيا، كما نقول ماركسيا إيطاليا، بمعنى انه أضاف أو فهم الماركسية في ضوء عربي، بحيث تكون هناك ماركسية عربية، يرجع إليها، كما يرجع إلى الماركسية الماوية واللينينية والجرامشية. اطروحات مهدي عامل أو حسين مروه في النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية.
بدون استثناء علما بان هناك من تأثروا بالماركسية، لكنهم يقرأونها كتبا ونظريات في معزل عن الواقع الحي الذي نعيشه، وكتاب حسين مروه مجرد تبسيط، ليست هناك فائدة فكرية أن تقول أن هناك نزعات مادية في التراث الإسلامي، المهم أن تدرس آلية الفكر الإسلامي من داخل تفكير المسلمين، لا أن تستقصي ظواهر هنا وهناك، وتقول هذه ظواهر مادية، كأنك تستوعب هذا التراث، فأنت تستطيع اليوم أن تكتب مؤلفا عنوانه النزعات الروحانية في الماركسية أو تجد نزعات مادية في الأناجيل، وفي القرآن أيضا بعزلها عن سياقها، هذا قد يجدي سياسيا، بمعنى أننا كشيوعيين لسنا ضد التراث، ولكن نحاول أن نستوعبه، ونحن مع الإسلام ونحاوره، على هذا المستوي التكتيكي السياسي يمكن أن يفهم كتاب حسين مروه وغيره من الكتاب الماركسيين، الذين يبحثون في التراث، أما على المستوي المعرفي فلا قيمه له في رأيي.@
عن الأهرام العربي - 15 ابريل 2000
(نشر النص الأصلي من هذا الحوار في مجلة (بانيبال) يصدر في لندن بالإنجليزية مارغريت أوبانك و صموئيل شمعون، وترجمته مجلة (عيون) التي يصدرها خالد المعالي من كولون بألمانيا، التي نأخذ عنها هذا النص.)
ولدت في سنة 1930 في قرية فقيرة وبسيطة اسمها قصابين، في منطقة اللاذقية قرب مدينة جبلة. قرية تذكر ببدايات الخليقة: أكواخ من الحجر والطين سميناها بيوتا وسط يتمازج فيه الشجر والبشر، وليس جسد الإنسان إلا الشكل الآخر لجسد الطبيعة.
كان طين بيتنا يتشقق موسميا، وكنا، في كل موسم، نكسوه بطين جديد، لكي يقدر أن يصمد في وجه المطر والريح والزمن. السقف: قضبان خشبية تغطى بنبات شوكي، يغطى بالتراب، ومن ثم تكسى بالطين لكي لا يخترقه المطر. مع هذا كثيرا ما كان المطر يتسلل عبر شقوق غير منظورة، ويسقط نقطة نقطة فوق رؤوسنا جميعا، أبي وأمي واخوتي، وفي جميع أنحاء البيت، فيما نجلس للراحة أو للطعام أو فيما ننام.
هكذا نشأت كأنني شجرة أو نبتة. ولم يكن البيت إلا حاجزا واهيا بيني وبين عشب الطبيعة حين تعصف أو تمطر، أو رضاها حين تهدأ وتصحو.
كان بيتا ضيقا. لذلك أقام أبي سريرا من خشب واسعا ننام فيه جميعا، على أعمدة عالية من الخشب. كان هذا السرير بيتا صغيرا داخل البيت، ودون أن يأخذ من مساحته شيئا، إذ كنا نستخدم المساحة تحت السرير لأغراض كثيرة. وفي الشتاء البارد كانت تنام تحته بقرتنا الوحيدة الطيبة، وصديقها ثورنا الوحيد الذي كان هو أيضا طيبا. كنت أذهب كل يوم حافي القدمين إلى معلم القرية، الشيخ، أي ما يسمى ."الكتاب"، لأتعلم القراءة والكتابة.
كان يجلسني قربه، ويضع في قدمي الرأس المقوس لعكازه، كأنشوطة تمسك بي وتحول دون أن أغافله وأهرب إلى التسكع في الحقول، كما كنت أفعل، حينما تسنح لي الفرصة. حتى الثانية عشرة من عمري، لم أعرف مدرسة بالمعنى المتعارف عليه. فلم يكن في منطقتنا مدارس حكومية. وكانت أقرب مدرسة إلى قريتنا تبعد مسافة طويلة لا يقدر طفل في سني أن يجتازها مرتين، يوميا.
وحتى هذه السن، لم أشاهد سيارة، ولم أعرف الراديو، ولا الكهرباء وطبعا، لم أعرف المدينة. وبدأت باكرا باكتشاف جسدي، في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، حيث تلقنت درسي الأولى في كيفية اللقاء بين ذكر وأنثى. كان ذلك ليلا، في واد صغير، وراء القرية، وهي التي أخذتني إليه. بعد هذا الحدث، صرت، أحيانا، أدعك جسدي بأعشاب الأرض، وألامسها كأنني ألامس جسد امرأة.
بعد أن أنهيت تعلم الكتابة والقراءة عند شيخ قريتنا في "الكتاب"، قرر أبي أن يرسلني إلى تلك المدرسة البعيدة. وأطمأن، رغم قلق أمي، إلى أن تلميذا آخر يكبرني سنا سيذهب معي. كان هذا التلميذ ابنا لمختار القرية، يوسف الكعدي، وكان اسمه عباس.
وفي أحد أيام الشتاء، عدنا من المدرسة إلى قريتنا، تحت مطر هائل لم ينقطع، طول الطريق. وصلنا مع غروب الشمس إلى النهر الذي يفصل بين قريتنا والقرية التي توجد فيها المدرسة واسمه نهر الشدة وكان كمثل البحر يهدر طائفا عباس لا. لا تنزل. النهر عميق. سيغمرنا بالماء. سنغرق. الأفضل أن ننتظر ربما توقف المطر، وخف الفيضان.
- لا يزال هناك ضوء إذا حل الليل، لا يعود بإمكاننا العبور وربما ازداد الفيضان. إنه يجيء من مطر الجبال، لا من هذا المطر الذي ينهمر علينا. نعبر الآن، أو تعود إلى المدرسة.
كان الوقت غروبا، تكاد كثافة الغيوم أن تساويه بالليل. وكنا عائدين، عباس وأنا، من أقرب مدرسة إلينا في قرية يفصلها عن قريتنا هذا النهر، نهر الشدة أو الشذة، لا أعرف. لم أكن رأيت من قبل مطرا مثلما كان في ذلك اليوم. لم أكن رأيت النهر في مثل فيضانه هذا. وكان عباس الذي يكبرني ببضع سنوات يريد، كما خيل، أن يثبت شجاعته، لا أمامي، بل أمام قريتنا والقرى التي تجاورها. لم يصغ اليه أخذ ينازع تموج النهر، يقدم رجلا، ويؤخر الثانية، كأنه يفحص اندفاع المياه وقرار النهر. وبدا المطر غزيرا ملحا ينهمر من غيوم تكاد أن تلامس أكتافنا، في صخب هائل من الرعد.
- لن نغرق. هات يدك. امسك بي جيدا. لا تخف. لم يكن لي خيار. أخذت يده، ولم أكد أمسك بها، وأضع قدمي في النهر حتى رجني الماء. وأخذ يغمرني، حتى صدري، حتى كتفي، حتى عنقي. أسلمت نفسي للنهر، وليدي عباس. ، قليلا، ونصل إلى الضفة الثانية. قليلا. لكن الفيضان كان يعلو. والمطر يشتد. لم أصدق أننا وصلنا إلى الضفة الثانية. وحين تجاوزنا الخطر، ووضعنا أقدامنا فعلا في الجهة الأخرى من النهر، فوجئت بعباس يصمت، ويمتلئ وجهه بملامح غريبة لا تعرف أهي خوف أم فرح أم مزيج منهما معا. كأنه أدرك لتوه أن عبورنا النهر كان نوعا من جنون الطفولة البريء. كأنه أدرك أننا نجونا من الموت بقدرة ليست فينا. كأنه تدارك تهوره: كيف لم يحسب أي حساب للنتيجة الأخرى التي كانت ممكنة جدا، عنيت الغرق والموت؟ نجونا. وغرقت كتبنا ودفاترنا وكان وصولنا إلى القرية عيدا.
هذا النهر الذي كاد أن يأخذني معه إلى سرير النوم الأبدي، هو نفسه الذي كان يأخذ أيام طفولتي بين أحضانه، غدرانا، و مغاور، صخورا وأعشابا، أشجارا ونباتات كانت الألوان على ضفافه تتنوع وتتدرج، وكنت أمنحها عيني كأنني أمنحها للحلم كنت أشعر أن وجودي بينها ليس إلا صورة، مزيجا منها جميعا. كانت طفولتي تنسما لمجرى النهر، لضفافه، ولما حولها، ولما تحتضنه. كان طيف يمسك بيدي، ويجري معي، نجلس تارة على صخرة، ونخوض تارة مني مائه المحمول على بساط من الحصى والرمل وكنا نتمرأى في غدرانه، وننظر بشغف إلى أسماكها الصغيرة، ونمد أيدينا نحوها، إليها، ونحسب أننا نحول الماء نفسه إلى طست كبير تلعب فيه مع أيدينا.
في أيامنا، وليس عهدها بعيدا، كان الفلاحون في القرى يحسنون الإصغاء إلى كلام الطبيعة. كانت شجرة الزيتون من بين كلماتها الأكثر قربا إلى الطبع والى القلب، والأكثر ألفة. تمد حروفها كمثل الغصون بين يدي التراب أقواسا خضراء حانية يتداخل رأسها وعنقها وصدرها في نسيج واحد: كأنها غيمة بقدمين موغلتين مني أعماق التراب. لا تحب الوحدة، تؤثر أن تندرج في جملة، وأن تكون في جمع. وتزهو بقدر ما يكثر حولها الأصدقاء. وهي نفسها تحيا في معجم الطبيعة بلا عناية، تقريبا. منذ أن تمسك جذورها بصدر أمها الأرض، تتولى هي رعاية نفسها وتربيتها تكتفي بقليل من الضوء الذي تمنحه الشمس، وقليل من الماء الذي يجود به الغيم وتعرف كيف تدافع عن نفسها، ضد العواصف خصوصا: تصنع من غصونها شباكا لصيد الرياح. فيها، يجد الفلاح ما يشبه حياته، معنى ورمزا. وكثيرا ما يفيء إليها، في لحظات التعب، ويتكئ عليها، متمتما في ذات نفسه: بالزيتون، أقسم الخالق وتظل أبدا في ردائها الأخضر. صيفا شتاء، ربيعا خريفا. لا تشحب ولا يتغير لونها. لا يسقط ورقها. وفي موسم عطائها، تتدلى ثمارها في عناقيد، خضراء، سوداء. كل حبة نهذ صغير. غابة من النهود. أنوثة كونية.
لم يكن عندنا في البيت الذي شهد ولادتي، مطبخ كما هي العادة في البيوت اليوم كان المطبخ في الهواء الطلق. أمام البيت. قرب العتبة. كانت القدر كمثل قربان يرفع إلى الأفق. هذا في الفصول أو الأيام التي لا تعرف المطر والبرد. أما في الأيام الأخرى شتاء فكانت المدفئة داخل البيت تتحول هي نفسها إلى مطبخ نتجمع حول المدفئة. نمد أرجلنا في اتجاه دفئها. نصغي إلى نشيد الحطب يتصاعد في لهب أحمر. ننظر بشغف إلى القدر فوقه، تلبس السواد وتخبئ طعام يومنا قي حناياها،
- انهض. يكفيك نوما. طلعت الشمس ، إنه صوت أبي. يهزني من كتفي، رافعا عني اللحاف. كأنه يقول لي "لا يكفي أن تقرأ الكلمات، أو أن تحفظها، وترددها. ينبغي أيضا أن تحولها إلى غيوم تمطر فوق الحقول"
وفي كل صباح، عندما كانت أمي تهيئ لي زوادة المدرسة، وتكرر، فيما تقبلني، العبارة، اللازمة: "در بالك على حالك "، كنت أشعر، وأنا في طريقي إلى المدرسة "الكتاب"، أنها ترافقني. أنها، أحيانا، تجلس إلى جانبي. أنها كانت تمد يديها لتلمس الفضاء فوقي، أهو ندي، أم يابس؟ أهو مائل إلى الصحو، أم إلى التغيم؟ إلى الدفء والاعتدال، أم إلى البرودة؟ ولعلها كانت تضيف إلى ثيابي ثوبا آخر منسوجا من خيوط صلواتها.
لا تزال راسخة في ذاكرتي صور من أشياء طفولتي في القرية. أذكر منها السرير الخشبي الهزاز الذي كان بمثابة رحم ثانية. تمثال للنوم واللعب في آن. ينام فيه الطفل لاعبا، ويلعب فيما ينام. سلة مستطيلة، بمقبض طويل، يوضع فيها الطفل كمثل ثمرة. رمز، مادي هذه المرة، للحياة والولادة. وهكذا حوله القرويون إلى لغز يتبارون في خفه: "شيء، لا شيء. له قدمان، ويمشي" ذلك هو السرير الخشبي الهزاز وكان يمشي على بساط صوفي أبيض، غالبا أو تخالطه أحيانا خطوط حمراء أو سوداء، كأنها صور عن خطوط اليد الق نسجته. وكان البساط يغار من السجادة التي لم تكن تفرش إلا للضيوف. كان الضيوف جزءا من العائلة، الجزء الذي يخترق رتابة العادة لهذا، كان يستقبل بما يخترق أيضا هذه الرتابة. كان يدخل إلى البيت كأنه ضوء من مكان آخر. ينور البيت، ويضفي على حضور العائلة ألق السرور والغبطة. وحين .يكون الضيف صديقا للعائلة، تشعر كأن بيتها تحول إلى حديقة من النور.
أذكر أيضا حقل تبغ أمام بيتنا. وحقول قمح، قريبة إليه. وحسن الليمون. منذ طفولتي، تمرست بالعمل، فلاحة وزراعة، وحصادا. مرة، أخذ المنجل إصبعي، ولا يزال أثر ذلك الجرح واضحا حتى اليوم. وكنت أسابق البارعين في شتل التبغ. كان الشاتول كمثل قلم في يدي، والحقل كمثل صفحة بيضاء. وكانت شتلات التبغ بمثابة الكلمات. يا لتلك السطور، تتلألأ حميمة في كتاب العمر. وقد عرفت كيف أخطها بفضل التتلمذ على حسن الليمون الذي كان يعمل مع أبي في الفلاحة والزراعة والحصاد. حسن الليمون، ألمحه الآن يتكئ على المحراث أكثر انحناء منه. ظهره كمثل القوس، وعيناه أكثر نفاذا من السهام. كان صديقا، بين أقرب الأصدقاء، إلى المطر والغيم، الحقل والشجر. إلى البقرة والماعز، الثور والجدي. وما تبقى، في ذلك الفلك الحيواني الوديع، الصامت. كان يعمل، ويأخذ بدلا عن عمله، قمحا أو زيتونا، أو نتاجا آخر. لم تكن لأبي القدرة لكي يعطيه مالا نقدا. وهو نفسه كان راضيا بما يأخذه، وسعيدا. لم يكن مجرد عامل يساعد أبي. كان قبل ذلك صديقا محبا. وكان أبي يعامله كأنه عضو في العائلة. أذكر أيضا عين قصابين وكانت قريبة إلى حقل التبغ أمام بيتنا. من مائها، كنا نسقي مشاتل التبغ، وشتلاته عندما كنا نسلمها لأحضان الحقل. عين، تمثال ضوء وعتمة، طالع من أحشاء الأرض. أحاطها أهل قصابين بصخر، وبنوا فوقها قبة من الحجر، تظللها كطفلة تغطى، وقاية من الريح والغبار. عين ترى إلينا، فيما نشرب دمعها. أهي التي كانت ترانا، حقا، أم الجنيات الساكنة فيها، تختبئ نهارا، وتظهر ليلا؟
عين تنبجس منها أيامنا وتسيل كأنها الماء. أذكر كذلك التنور. يمكن أن أنسى أشياء كثيرة في القرية، إلا التنور. ألأنني لا أقدر أن أنسى النار، أو أنسى الخبز الذي كان يخرج منه، وتسبقه إلينا رائحته الذكية كأنها آتية لتوها من السماء؟ وبين العين والتنور، بين الماء والنار، كنا، نحن الذين راهقنا، نستعرض نساء القرية، ثيابهن وألوانهن، وكيف يصففن شعورهن، ويتزين. ونتوقف طويلا طويلا عند صدورهن، وأعناقهن وأردافهن، وسيقانهن.
لكن، أين هذه القرية الآن؟ حين عدت إليها، بعد خمسين عاما، شعرت كأنني أعود إلى نوع من الموت، محمول في ماء اللغة. شعرت كأنني صاعد على جبل من الريح. وما أتحدث عنه هنا ليس، إذن، إلا دخانا لا موقد له، وضيع ناره الأم. لا مادة تمسك ببصري: هل يكفي أن أتنورها ببصيرتي؟ صحيح، بقيت من هذه المادة أسماؤها، وليست الأسماء إلا أصداء، وأخيلة، وتوهمات. وهل يجدي أن نكتب التوهم؟ أم لعلي، في عودتي إلى القرية، عدت لكي أرى الأب الذي مات، دون أن أراه، دون أن أحضر مأتمه، وأشيعه إلى داره الأخيرة، لكي أراه ظلا لا يكاد أن يرتسم، يتنقل على الدروب إياها، تحت الأشجار نفسها، أو ما تبقى .منها بين الكتب التي كان يختارها لي، ويختزنها.
على أوراقها التي تكسوها أنفاسه، وأنفاس الذين خطوها. أم أعود لكي أتفحص، شأن كثيرين غيري، ما نصيب الواقع، حقا، في الحياة، وما نصيب الذاكرة، وما نصيب التخيل؟ أم لكي أستعيد من جديد، توهما، جريان الزمن الذي ليفصلني عن مكان ولادتي؟ هل لكي أقارن بين قسمات وجهي وتجاعيد جسدي، وبين قسمات المكان وتجاعيد الوقت؟ هل لكي أستبق موتي وأراه عيانا عبر جريان هذا الزمان، فني الأشياء التي عرفتها طفولتي والتي تغيرت، ولم تعد هي هي؟ هل لكي أواجه موتي، مسبقا؟ أو لكي أرى تلك النقطة الغائمة، الهائمة التي تفصل بين الحياة والموت، وتصل بينهما في اللحظة نفسها؟
كأنني أبتكر مكان ولادتي، كما أبتكر قصيدتي؟ والقصيدة لا تكتمل. كذلك المكان الذي ولد فيه الإنسان: انه هو أيضا لا يكتمل. هل أفاجـئ، أو أصدم أحدا، إن قلت: أتعجب ممن يزعم أنه يعرف نفسه؟ كيف أعرف نفسي/ فيما تبدو لي كمثل الأثير، أو كمثل خيط في غزل الشمس، أو كمثل الهواء، سائحا في الجهات كلها؟ كما خيل إلى أنني أقترب منها، أكتشف أنني أبتعد. وأعرف أنها ليست سرابا. إنها كمثل ضوء يسلمك، فيما تضل إليه، إلى ضوء آخر يسلمك هو نفسه إلى آخر. إلى ما لا ينتهي. وكل ما كتبته ليس، في ظني، إلا بحثا عنها: بحثا، وليس تعبيرا عنها. كنت أترصدها، أستقصيها، أكمن لها. وكانت تفلت دائما. كأن نفسي، كأن هويتي هي هذا البحت، أبدا.
أذكر أيضا قراءة الشعر العربي القديم، بعناية أبي وبسهره على تربيتي. كل ليلة قراءة. للشعر وحده. يحضر المتنبي (كان الأكثر حضورا). يحضر أبو تمام، البحتري الشريف الرضى. يحضر امرؤ القيس. المعري، لكن، نادرا. ربما لأنه كان "حكيما"، لا شاعرا، كما تعلم تقاليد التذوق، وكما يقول العارفون بشعرنا القديم. قراءة بصوت عال وأمام ضيوف يحبون السماع، وهم أنفسهم شعراء. يصغون إلى صوتك باهتمام، كأنهم يمتحنون ويقومون. يصغون إلى لغتك، نطقا، وتجويدا. يطربون غالبا. لم تكن تقرأ برأسك وحده. كنت تقرأ بقلبك، بحواسك، بجسدك كله. بعد السماع، يأتي امتحان الصرف والنحو. أعرب هذه الكلمة. هذا البيت. واذكر وجوه الخلاف، هذا أو هنالك ثم يأتي امتحان المعنى. ما معنى هذا البيت؟ هل أخذه الشاعر، أم ابتكره. ما المعاني الخاصة به في هذه القصيدة، وحده، دون غيره؟
كل ذلك في جلسة بعد العشاء، في البيت الذي ولدت فيه، والذي يتكون من غرفة واحدة في ضوء قنديلي شاحب يغذيه زيت النفط، الذي حل محل زيت الزيتون. كل ليلة. تقريبا. تتكرر القراءة. مسرح مفتوح يكاد أن يحاذي ذلك المسرح الأول في رأس شمرا. قرب اللاذقية ، حيث ولدت الأبجدية.
وكانت الكتب قليلة وكانت غالبا تستعار. وغالبا، لا ترد. كان من يملك في القرية كتابا يشعر أنه يمتلك ما هو أكبر من القرية. وكان مقامه في نظر الفلاحين يكبر ويعلو.
الشعر. سمعته أو قرأته أو كتبته، سفر. يوسع العالم، خارجا، وداخلا. وداخلا خارجا. تتوسع القرية فتحاذي تخومها تخوم البلد الذي نشأ فيه الشاعر. داخلا تتسع حدود الحلم والخيال والمعرفة. هكذا كان يؤكد القرويون الذين يمضون سهراتهم مع الشعر.
- "غدا أسافر لزيارة الأصدقاء في قرية (يسميها). أو في قريتين (يسميهما). هل تأتي معي؟ تقرأ لهم شعرا. سوف يسرون بك، ويحبونك "
وتكون القرية، غالبا، بعيدة علي، أنا الطفل الذي لم يكد يتجاوز العاشرة. لكن، أستيقظ مع أبي صباحا. نفطر خبزا وزيتونا، ونمضي. يسير أمامي. يضع عكازه وراء ظهره، ويشبك به ذراعيه. وإذ أتخيله الآن، يبدو لي في هيئة شخص مصلوب. أتعثر، ألتفت يمينا، شمالا، ورائي. أنظر إلى السماء. ألهو، أحيانا، وأتخلف عنه قليلا يلتفت ليتفقدني، ويقف ضاحكا - تعبت؟ "
بلى، يولد الإنسان أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان. ولادته الأولى من أبويه عمل الطبيعة. لا اختيار فيه. وربما بدوت مغاليا إذا قلت إنني، منذ طفولتي، كنت مسكونا بشعور غامض أن مكان ولادتي الأولى ليست مكانا لكي أنمو فيه، بل لكي أنطلق منه. شعور يقول لي: لن تجد نفسك إلا في مكان آخر، في أمكنة أخرى. كأن الإنسان لا يصبح نفسه إلا بالخروج منها. كأن تاريخ الإنسان هو تاريخ الخروج من نفسه. لكن، كيف أخرج، وأين؟
لا أعرف كيف خطر لي أن أحلم حلم يقظة، أرسم فيه الطريق إلى دخول المدرسة. قلت الرئيس الأول للجمهورية الأولى لسورية بعد الاستقلال، سيزور منطقة اللاذقية، ضمن برنامج زيارته للمناطق السورية. سأكتب له قصيدة ألقيها أمامه مرحبا. وسوف تعجبه. وإذن سوف يطلب أن يراني. وسوف يسألني عما أريد. وسأجيبه: أريد أن أتعلم. وسوف يعمل على تحقيق هذه الإرادة، وهكذا تم حرفيا. أول حلم يحقق، كنت آنذاك في الثالثة عشرة من عمري. ومن ذلك اليوم، أحب رقم 13.
كان ينهمر كأنه يصعد من الأرض السوداء الموحلة، أكثر مما يهبط من الغيم. جسدي تحته يرتعش كمثل عصفور لا يجد مأوى. وتنجبل قدماي بذلك الوحل الأسود. وتكاد قامتي أن تتحول إلى عمود راسخ في الأرض، لا تستطيع أن تتحرك. قدماي شبه حافيتين. كتفاي تنوءان. وثيابي غيوم سوداء تسيل مطرا. شجر، والرياح تمارس عنفها على أعناقه. وكان الشجر ينحني لهذه الرياح، ويظل عاليا.
كان زعيم العشيرة التي أنتمي إليها، متسلطا عليها، كانها ملكه الخاص. يقرب هذا ويبعد ذاك. يجازي ذلك أو يثيبه، وينتقم من هذا أو يعفو عنه. وكان أبي على طرفي نقيض معه. لم يخضع له قط وظل حريصا على أن يبقى بعيدا عنه. غير أنه دفع الثمن غاليا غاليأ. وكان هذا الزعيم قد أعد استقبالا، قرب قصره، في دوير الخطيب، على الطريق العامة، احتفاء بالرئيس الأول للجمهورية الأولى في سورية، شكري القوتلي، بعد زوال الانتداب، ونيل الاستقلال. رفض أبي أن يحضر هذا الاستقبال، إمعانا منه في رفض هذا الزعيم، وكنت أنا قررت حضوره. لم أستشر أبي، بالمعنى الدقيق، وإنما أعلمته، وقرأت له القصيدة التي كتبتها. اعجب بها ولم يمنعني، ربما احتراما منه لرغبة أحس أنها قوية عندي، تنفيذا لفكرة خطرت لي، وأخبرته بها.
-"وفقك الله"، هذا كل ما قاله لي، وهو ينظر إلي أترك البيت، شبه حاف، بالقنباز وبقية الزي القروي، وأنطلق تحت غيم كثيف أسود يكاد أن يلامس رؤوس الشجر. كان آلاف الناس يصطفون على جانبي الطريق. ولا أذكر كيف عرف زعيم العشيرة بأنني آت لألقي قصيدة، تحية لرئيس الجمهورية. وهو خبر سرى بسرعة وشاع بين الحضور. أذكر وجوها: كان في بعضها شيء من الفرح، وفي بعضها شيء من عدم الاكتراث، وفي بعضها شيء من الغضب والرفض.
- "هو ابنه، إذن؟ أطردوه. لا أريد أن يبقى هنا. لا أريد أن أراه "، أخذ هذا الزعيم يردد هذه العبارات على حاشيته، بلهجة جادة، غاضبة. طردوني. بكيت. ماذا أفعل؟ هل أعود إلى القرية؟ كلا. سأتابع، وأحاول تحقيق ما صممت عليه. أذهب، إذن، إلى مدينة جبلة القريبة. سأصل إليها قبل أن ينتهي الاحتفال هنا. وفي جبلة، سأحظى دون شك بمن يساعد في. وأقرأ القصيدة. إلى جبلة. مشيا. عبر الحقول، وكان معظمها حديث الحراثة، لهذا كان المطر والوحل حليفين ضد قدمي، وضد سرعة الوصول، خوفا من أن يفوتني الوقت. وصلت. ولم أكن أقطر عرقا، بل مطرا. أين أذهب. من أرى؟ لا أعرف أحدا. من اللافتات التي تملأ ساحة المدينة، عرفت أن للبلدية شأنا في إعداد الاستقبال. إذن، أذهب وأرى رئيس البلدية، وأخبره، وأطلب أن أقرأ قصيدتي لرئيس الجمهورية. وكان يرئسها آنذاك، ياسين علي أديب - ماذا تريد يا ابني؟
سألني رئيس البلدية، بنوع من الشفقة والاستغراب، وهو ينظر إلي، مبللا، شبه حاف، أرتعش، لكن دون أن يفارق البريق عيني. - أريد أن ألقي قصيدة أحيي بها رئيس جمهوريتنا.
صمت. شعرت أن استغرابه زاد. شعرت كأنه يتساءل في ذات نفسه: كيف لهذا الطفل، وهو في هذه الهيئة، أن يلقي قصيدة أمام رئيس الجمهورية، في حشد حافل؟ تبسم قال بلطف: - طيب، اقرأها لي.
تناولت القصيدة من صدري حيث أخبأتها حفاظا علمها من المطر، وأخذت أقرؤها أصغى، بانتباه قليلا. بانتباه. بحماسة. بفرح. ولم أكد أنهيها حتى قال بغبطة كبيرة - نعم سوف تلقيها.
اتصل هاتفيا بشخص عرفت فيما بعد أنه القائمقام عبدالله الياس. أرسلني إلى مكتبه في السراي. دخلت المكتب. كان بللي قد خف، وعاد إلى وجهي إشراقه الطفولي المكتب قاعة كبيرة كانت تمتلئ بالموظفين الكبار و السراي. صمت ودهشة. ثم قال لي القائمقام: - "اقرأ القصيدة لنرى"
قرأتها. استحسان و اعجاب. لكن حيرة كذلك في أمر هذا الطفل - "نعم ستلقيها"، قال القائمقام، بفرح أقل من فرح رئيس البلدية. ثم تابع - "اذهب الآن. انتظر في ساحة السراي. أمام المدخل مباشرة. عندما يجيء دورك في الإلقاء، سنناديك "
لم أصدق. إن صح الأمر فسوف تكون الأعجوبة هذه المرة، أعجوبة واقع، لا أعجوبة خيال. سوف يكون التخيل هو نفسه الواقع. ساحة السراي. الناس صفوف متراصة على مدى النظر. لافتات، أعلام، صور: سقف عائم في وسط الساحة، مقابل الشرفة التي سيطل منها رئيس الجمهورية، ليرد على تحية مستقبليه ويخطب فيهم، نصب منبر خاص للخطباء. إذن، سوف أصعد هذا المنبر. سوف يملأ صوتي، أنا أيضا، هذه الساحة. ويصغي إليه رئيس الجمهورية نفسه. وبعد أن أنهي قراءة القصيدة، سوف يناديني، أنا القروي الطفل، لكني أقابله، هو رئيس المدن والقرى في البلاد كلها. وسوف يسألني: "ماذا تريد، يا بني، ماذا يمكن أن نقدم لك؟" وسوف أجيبه بعبارة وحيدة واحدة " أريد أن أدخل المدرسة، أريد أن أتعلم "
هو ذا موكب الرئيس. أمواج من البشر تحيط به، منشدة هاتفة. يصعد إلى السراي يطل من الشرفة. تصفيق. هتافات. صمت. تبدأ خطب الترحيب. الخطيب الأول. الثاني الثالث. وآخرون نسيت عددهم وأسمائهم. وأنا؟ أهملوني، إذن؟ غيروا رأيهم. أكاد أن أنفجر، لكن حنقا وغيظا، هذه المرة. والناس، الآن، ينتظرون خطاب الرئيس. في هذه اللحظة، والرئيس يهم بإلقاء خطابه، سمعت من يقول لي، غاضبا "أهملوك. انه القائمقام "
وشتمه. ولم أعد أذكر عبارة الشتيمة. أمسك بيدي، وصرخ بأعلى صوته، فيما كان الرئيس يبدأ خطابه: "يا فخامة الرئيس، هذا طفل جاء من أعالي الجبال، لكي ينقل إلى فخامتكم مشاعر أهل الجبل وعواطفهم. نرجوك أن تصغي إليه ". توقف رئيس الجمهورية، وأشار بالقبول. حضنني هذا الشخص، وكان رئيسا لدائرة الأحوال الشخصية في جبلة، وكان اسمها "دائرة النفوس"، وحملني، ووضعني على المنبر، وعرفت فيما بعد، أن اسمه عبد الرزاق المحمود. أحسست كأنني رئيس أخر. وبهذا الإحساس، قرأت القصيدة. كانت مفاجأة ضخمة. وصفق الناس إعجابا. وازداد إعجابهم حين أخذ الرئيس بيتا من القصيدة، استشهد به، وبنى عليه جزءا من خطابه. وعندما أنهى الرئيس خطابه، أخذ الناس يتدافعون حولي، فيما كان صوت يناديني "يريد الرئيس أن يراك"
صعدت إلى السراي. حضنني الرئيس بحنان. قبلت يده
- "ماذا يمكن أن نقدم لك؟ ماذا تريد؟ "
- "أريد أن أدخل المدرسة. أريد أن أتعلم "
- "سنفعل ذلك. اطمئن "
بعد حوالي أسبوعين جاء الدرك يبلغونني:
"أنت مطلوب لكي تذهب إلى طرطوس، وتدخل المدرسة"
كنت حين اتخذت هذا الاسم : أدونيس، أتابع دراستي الثانوية في اللاذقية. وكنت في حوالي السابعة عشرة من العمر. كنت أكتب نصوصا شعرية ونثرية أوقعها باسمي العادي: علي أحمد سعيد، وأرسلها إلى بعض الصحف والمجلات آنذاك للنشر. لكن أيا منها لم ينشر في أية صحيفة أو مجلة. ودام هذا الأمر فترة. فاستأت وغضبت. وفي لحظة من لحظات الاستياء والغضب، وقعت في يدي، مصادفة، مجلة أسبوعية، لبنانية على الأرجـح، قرأت فيها مقالة عن أسطورة أدونيس: كيف كان جميلا، وأحبته عشتار، وكيف قتله الخنزير البري، وكيف كان يبعث، كل سنة، في الربيع.. الخ. فهزتني الأسطورة وفكرتها. وقلت، فجأة، في ذات نفسي، سأستعير من الآن فصاعدا اسم أدونيس، وأوقع به. ولا شك أن هذه الصحف والمجلات التي لا تنشر لي، إنما هي بمثابة ذلك الخنزير البري الذي قتل أدونيس. وفعلا كتبت نصا شعريا وقعته باسم أدونيس وأرسلته إلى جريدة لم تكن تنشر لي، وكانت تصدر في اللاذقية. وفوجئت أنها نشرته. ثم أرسلت نصا ثانيا، فنشرته على الصفحة الأولى، أرفقها المحرر بإشارة تقول: المرجو من أدونيس، أن يحضر إلى مكاتب الجريدة لأمر يهمه. فرحت حين رأيت النص منشورا، خصوصا حين قرأت الإشارة. فذهبت إلى مكاتب الجريدة. وعندما دخلت واستقبلني أحد المحررين بدا عليه أنه لم يصدق دعواي بأنني أنا أدونيس. فدخل مسرعا إلى رئيس التحرير وأخبره بحضوري. وحين دخلت إلى غرفة رئيس التحرير بدا هو أيضا كأنه غير مصدق. كان ينتظر شخصا بقامة رجل، فرأى أمامه قرويا، تلميذا بسيطا وفقيرا، وسألني:
- هل أنت أدونيس، فعلا؟
فأجبته:
- نعم، أنا هو .
ومن ذلك الوقت غلبني اسم أدونيس.
أذكر لهذه المناسبة أن هناك أشخاصا كثيرين رأوا في اتخاذي اسم أدونيس موقفا عدائيا من العروبة والإسلام. وحولوه إلى وثيقة تؤكد اتهامهم لي بعداء كل ما هو عربي وإسلامي. وكان مواطن دمشقي سمى دار السينما التي يملكها قرب مقهى الهافانا الشهير، باسم سينما أدونيس، فأمرته السلطات المسؤولة آنذاك، بتغيير الاسم، وسميت سينما بلقيس. كأن بلقيس اسم عربي الأصل! ومؤخرا أرسل لي الصديق الشاعر حسين القهواجـي من تونس قصاصة من جريدة "الصريح" بتاريخ 998/7 /8 تحمل الخبر التالي نصه: "ذهب أحد المواطنين قبل أيام قليلة إلى إحدى بلديات الضواحي القريبة من العاصمة تونس لتسجيل ابنه الذي ولد أخيرا. ولكن قابض الحالة المدنية رفض تسجيل المولود الجديد بدعوى أن الاسم فيه بعض الشذوذ، وليس من الأسماء العادية المألوفة. ولما قال له هذا المواطن: إن اسم أدونيس من الأسماء العربية التي دخلت لغتنا العربية، وإنه اسم أحد كبار الشعراء العرب المعاصرين، تمسك قابض الحالة المدنية بموقفه، وقال له: إن هذا الاسم لا يحمله أي تونسي ولذلك، سامحني عاد !". ولم يقتنع المواطن وأصر على تسمية ابنه بأدونيس، وقرر الذهاب إلى المحكمة، وعدم استخراج بطاقة ولادة لابنه إلى أن تبت المحكمة في الموضوع".
في دمشق يمنع الاسم باسم العروبة والإسلام، وفي تونس يمنع بحجة أنه غير مألوف. هكذا يحارب بعضنا حتى الألفاظ حتى الكلمات. والحق أنني لم أكن اعرف حين اخترت هذا الاسم، أنه ينطوي على رمز الخروج من الانتماء الديني، القومي، إلى الانتماء الإنساني، الكوني، وأنه سيثير مثل هذا العداء في الأوساط الدينية، القومية. ولئن كان الأمر كذلك، فإن على هذه الأوساط أن تحذف آلاف الكلمات من معجم اللغة العربية، ومن لغة الحياة العربية اليومية، وأن تحذف كذلك عشرات الكلمات التي وردت في القرآن الكريم، والتي ليست من أصل عربية لكن بالمقابل هناك اليوم عشرات العرب الذي يسمون أبناءهم باسم أدونيس، من عدن حتى بيروت. لم أر المدينة. لم أعرفها بتفاصيلها، شوارع، وآثارا قديمة، ومعمارا. لم أزر المتحف. لم أزر الجامع الأموي، ولا القلعة. كانت دمشق بالنسبة إلي مجرد غرفة ضيقة يعيش فيها طالب قروي يريد أن يتعلم. وكانت الكتب، وبعض القاعات قي الجامعة، ومكاتب جريدة "الجيل الجديد"، ا وبعدها جريدة "البناء" حيث عملت محررا أدبيا، وبعض بيوت الأصدقاء، وهم أقل عددا من أصابع اليد الواحدة. كانت دمشق قريتي الثانية. لم تبهرني، بوصفي قرويا يجيء من قرية فقيرة نائية، ليعيش فيها، هي العاصمة. لذلك لم تؤثر قي، بوصفها مدينة. أمضيت فيها حوالي ست سنوات، 1950، 1956 والآن، وبعد مرور أكثر من أربعين عاما، أعرفها بالتذكر. أستعيد حياتي فيها، وأتعرف عليها، عبر هذه الاستعادة. كانت دمشق، بالنسبة إلي، تاريخا، كانت زمانا، لا مكانا.
دخلت أولا كلية الحقوق. أمضيت قرابة السنة، ثم رأيت أنني لا أستطيع أن أتابع فيها. فانتقلت إلى كلية الآداب، قسم الفلسفة. كنت أشعر أن قسم اللغة العربية لن يفيدني شيئا، لأنني كنت أعرف مسبقا، لغة وشعرا، ما سأدرسه فيها. لذلك اخترت الفلسفة، قائلا في ذات نفسي، ربما أفيد من الفلسفة، فتفتح لي آفاقا فكرية غريبة علي. ولم أتابع في هذا القسم دراستي بانتظام. كان عملي اليومي يحول دون ذلك. لذلك لم أتعرف على الحياة الطلابية في الجامعة. وكان أصدقائي من الطلاب قلة ونادرين جدا. لكن نشأت بيني وبين بعض الأساتذة صداقة لا تزال قائمة حتى الآن. والحقيقة أنني لم أكن طالبا، بالمعنى الحصري لهذه الكلمة. أما قصة الحب التي عشتها، فكانت مع طالبة، من خارج الجامعة، تدرس في "دار المعلمات " في دمشق نفسها، وهي رفيقة حياتي حتى الآن: خالدة سعيد.
لم أكن أقرأ الشعر العربي الراهن، آنذاك، باستثناء يعض القصائد لبدوي الجبل وعمر أبي ريشة وسعيد عقل. إضافة إلى بعض القصائد التي تنشر في الصحف والمجلات آنذاك لبعض الشعراء العرب الآخرين، وبخاصة نزار قباني، لم تكن لدي متابعة خاصة ودقيقة للشعر العربي آنذاك. كنت أقرأ من عزلتي، في أوقات فراغي، شعراء آخرين باللغة الفرنسية: بودلير، ريلكه (مترجما)، هنري ميشو، رينيه شار، مع أن لغتي الفرنسية كانت ضعيفة آنذاك. فأنا لم أدرس الفرنسية في المدرسة، وإنما درستها بنفسي، وحدي، اعتمادا على القاموس. وكنت أشتري هذه الكتب من مكتباب في دمشق وفي حلب، عندما أمضيت فيها قرابة السنة في كلية ضباط الاحتياط وكنت أقوم بما يسمى "خدمة العلم". غير أنني، استطرادا، لم أنجـح في هذه الكلية. جميع زملائي تخرجوا برتبة ضابط، إلا أنا: تخرجت برتبة رقيب أول! لم يكن لي تأثير في الحركة الشعرية آنذاك. ومع أنني كنت معروفا، ونشرت لي بعض القصائد في مجلة "القيثارة" أولى المجلات العربية الخاصة بالشعر في سورية، وكانت تصدر في اللاذقية، فلم تكن الأوساط الشعرية العربية ترى في إلا الموهبة الشعرية. وقد أخذت تعترف بي، بدءا من سنة 1954 حيث نشرت قصيدتي الطويلة "الفراغ" وكانت بمثابة حدث شعري، على صعيد الشكل التفعيلي، وعلى صعيد الرؤية. وهذه القصيدة هي التي كانت نقطة الوصل بيني وبين يوسف الخال، وكان قد قرأها وهو في نيويورك، في الأمم المتحدة، وأعجب بها كثيرا. وبعضهم رأى في هذه القصيدة "الأرض الخراب" (العربية) لأليوت. وطبعا لم أكن أعرف شعر إليوت، ولم أكن أعرف حتى اسمه. غمر أنني، مقابل ذلك، أقمت علاقات وثيقة مع الحركة الفنية التشكيلية في دمشق، ومع ممثليها الأكثر أهمية آنذاك: نصير شورى، ومحمود حماد، وناظم الجعفري، وأدهم إسماعيل، تمثيلا لا حصرا. وكنت أتابع نشاطهم، وأكتب عنه، ونشأت بيني وبين معظمهم صداقة ومودة. كذلك نشأت صداقة عميقة بيني وبين أورخان ميسر. وهو أول من حدثني عن السوريالية وعن أهميتها. وكنا نلتقي باستمرار في بيته، ونتبادل الآراء، وقراءة ما نكتبه. وبعد أن مات، طلب إلي أن أكتب مقدمة لشعره الذي طبعته وزارة الثقافة السورية، بوصفي خير من يعرفه ويعرف شعره، وقد كتبت مقدمة لمجموعته التي صدرت بعنوان "سوريال". لكن بدءا من السنة 1954، السنة التي اختتمت بها دراستي الجامعية، بدأت أهتم بقراءة الشعر السوري بخاصة، وهذه السنة هي نفسها التي أسلمتني إلى "خدمة العلم" (هذه المرحلة دامت سنتين، وهي حاسمة في تأثيرها على حساسيتي الشعرية ونظرتي إلى الأشياء والناس. ويتعذر علي الآن أن أكتب عنها).
كان نزار قباني يملا دمشق، وكان يرج ماءها الآسن. بينبوع سلسله فيها ومن تاريخها، وقبل كل شيء، من الحياة اليومية في أقرب تفاصيلها إلى أشياء الإنسان. كان يعلم هذه الحياة كيف تتحول هي نفسها إلى قصيدة. وكان بدوي الجبل الصدر الذي يحتضن جسد الشعر العربي، ويعيد تكوينه في اللغة وبها، أنيقا، مترفا، بهيا. عرفت في شعره كيف تكون الذاكرة ذكرا، وكيف تتداخل فيها أصوات الشعراء القدامى وتتآلف قريبة بعيدة في صوت واحد. وعرف فيه كيف يصير الماضي حاضرا، دون أن يلبس الثاني ثوب الأول، ودون أن يدير الأول ظهره للثاني. وعرفت كيف يكون الشعر سلكا ينتظم فيه العقل والقلب، الغضب والحب، المرارة والطمأنينة. كان بدوي الجبل جبلا، لكنه كان في الوقت نفسه موجا. وكان عمر أبو ريشة يستدرج الواقع، بقسوة حينا وبلين حشا، لكي يصير على مثال صوته: نفير حرية وتحرر. كان يغني كأنه الصوت المكلف بصياغة إيقاع آخر لحياة العرب. وكان يبدو كمثل غاضب يشعر أن بلاده ضيقة عليه. كان شاعر أخر هو نديم محمد لا يزال حتى الآن شبه مجهول، على الصعيد العربي، يقيم داخل نفسه، ويكتب "آلامه". وهي مجموعة شعرية أعدها بين أهم المجموعات الشعرية العربية في النصف الأول من هذا القرن. بين الأصوات الشعرية اللي كانت تجيئنا من خارج دمشق، كان صوت سعيد عقل، الأكثر حضورا بالنسبة الي. صانع بارع، كأنه ينحـدر مباشرة من أبي تمام. وفي صناعته ثقافة لم أعهد مثلها لدى الشعراء الذين يجايلونه. أنشأ بنية جديدة للقصيدة، وأسس لصياغة جملة شعرية جديدة، وأعطى للكلمة سياقا جديدا. كان شعره إنشاء ذهنيا يكاد، للطف تجريده ولعذوبته، أن يكون لعبا. لم أكن قد قرأت شوقي. ولم أكن أعرف شعر الجواهري. وكنت بعيدا عن جبران.
كانت دمشق ملتقى تطلعات متناقضة، ومتنوعة. كانت مناخا غريبا تستطيع فيه أن ترى الغيم يسبح كثيفا على سجادة من خيوط الشمس، وأن تسمع الرعد ينبجس من فضاء ليس فيه أفي أثر لأية غيمة. "ماذا أقرأ؟ " سؤال كان شاغلي الأول، فيما كنت أتتلمذ، وأنمو. الشعر العربي القديم؟ أعرفه، وبه انجبلت طفولتي الأولى في القرية، وذلك بتوجيه أبي وسهره على تربيتي. كانت الحياة شعره الأول والأساس، أما شعره بالكلمات فكان عنده هامشيا. غير أنه كان قارئا محبا للشعر، وبصيرا باللغة العربية وأسرارها. على يديه، قرأت، بشكل خاص، المتنبي وأبا تمام، والشريف الرضي والبحتري، والمعري، وعشرات آخرين، في دواوينهم، أو في مجاميع شعرية، وبخاصة "الحماسة" لأبي تمام. إلى ذلك، علمني القرآن وتجويده.
لم أكن أعرف في نفسي أية رغبة لكي أقرأ من جديد ما كنت قرأته. وكانت دراستي الجامعية بمثابة الهاوية التي انفتحت بيني وبين الماضي. كانت الجامعة يقتل الشعر، ولقتل الذائقة الشعرية في أن. وكان التراث يبدو فيها، عبر طرق التدريس والرؤية والفهم، نقيضا، لا للحياة وحدها، وإنما للإنسان وللتقدم، كذلك وفي الجامعة نفسها، جامعة دمشق، بدأت الهوة تنحفر أيضا بيني وبين الواقع وما يحيط بي. بدأت أرى الحاضر امتدادا لهذا الماضي الذي تقدمه الجامعة. وأخذ ينمو في نفسي الشعور بأنني أعيش على شفا المكان، أتأرجـح، وأكاد أن أهوي. وفي هذا الإطار، بدأت أتنبه إلى أنه لا يكني، وبخـاصة في الشعر، أن يرج الكلام الجسد لكي يستيقظ ويتجدد، بل ينبغي أيضا أن يرج الجسد الكلام، لكي يستيقظ هو أيضا، ويتجدد. وبدأت ألاحظ أن اللغة كالإنسان، لها هي كذلك، فواجعها، وأن الفاجعة الكبرى التي تنزل بها هي الكتاب الذي يولد جثة، لا يكون إلا كومة من الكلمات.
وخيل الي أحيانا أنني أصرخ قي أروقة الجامعة : ما أكثر الكتب، الخرائب. لا يزال ضوء يتوهج في حياتي الجامعية، يتمثل في ثلاثة أساتذة أصبحوا أصدقاء أعتز بصداقتهم: عبد الكريم اليافي، وبديع الكسم، وأنطون مقدسي. ماذا أقرأ، إذن؟ لم أكن أعرف لغة أجنبية. أمضيت سنة ونصف السنة في مدرسة البعثة العلمانية الفرنسية في طرطوس (اللاييك)، في منتصف الأربعينات، ثم أغلقت المدرسة، بعد أن تم جلاء القوات الفرنسية. كنت لا أزال أحفظ بعض الكلمات الفرنسية، ولا أزال قادرا، بصعوبة، على القراءة، قراءة بعض النصوص، غير الصعبة. إذن، سأقرأ بالفرنسية. وسأقرأ الشعراء الأكثر شهرة. هكذا بدأت بديوان "أزهار الشر"، لبودلير. ليتني احتفظت بالنسخة التي استخدمتها، لأرى فيها العناء الذي كابدته. استخرجت معاني كلماته، كلها تقريبا، من المعجم، كانت كل صفحة من هذا الديوان شبكة من الكلمات الفرنسية والعربية، ومن الخطوط والأسهم والدوائر. ومع ذلك لم أكن أفهم من القصيدة، إلا قليلا: صورة من هنا، فكرة من هنالك. لم أتراجع. على العكس، ازددت إصرارا على المتابعة. واخترت أن أقرأ بعد بودلير، ريلكه، في ترجمته الفرنسية. قرأته بيسر أكثر، مما يعني أنني أفدت من قراءة بودلير. بعد ذلك لم أفارق الكتب الفرنسية. (أشير هنا إلى ما قد يبدو الآن أمرا مستغربا: في سنة1955، أخذت من إحدى المكتبات في حلب، حيث أمضيت جزءا من فترة خدمة العلم، مجموعات شعرية لشعراء فرنسيين بينهم رينيه شار، وهنري ميشو، وماكس جاكوب).
عملت هذه القراءة على تعميق الهوة، وتوسيعها بيني وبين الثقافة التي كانت تسود حياتنا. وكثيرا ما كان يخيل إلي أنني أسمع في داخلي صوتا يقول لي: استمسك، اعتصم، وحاذر أن تسقط في أي شيء، إلا في نفسك، وعليك هنا أن تسقط عموديا، وأن تسلك الطريق الأكثر رحابة: ما لا قرار له، وما لا ينتهي. إذ بدءا من ذلك، تستطيع أن تهبط في أعماق الأشياء.
تركت سوريا لأسباب سياسية، أولا. لم تكن تعجبني أفكار النظام آنذاك ولا ممارساته. وكنت مناوئا، فكريا، لنظريات "القومية العربية" و الوحدة العربية، كما كان يطرحها كتاب هذا النظام ومفكروه. وقد أمضيت قرابة السنة في سجن المزة بدمشق، وفي السجن العسكري بالقنيطرة، دون أن أحاكم. وخرجت، بعد هذه السنة، بريئا! وتركتها ثانيا، لكي ألتقي بيوسف الخال. لأنه كتب لي من نيويورك أنه عائد إلى بيروت، وأن في نيته إصدار مجلة تعنى بالشعر العربي، وبالحداثة الشعرية خصوصا، وأنه سيكون سعيدا بالتعاون معي في إصدار هذه المجلة. وتركتها ثالثا، شغفا ببيروت، ورجاء بحياة لا طغيان فيها.
إنها لحظة يتعذر علي تقديرها، تلك التي كانت الجسر الذي حملني، ناقلا حياتي من ضفة إلى ضفة، إذ بهذه اللحظة أيضا، يمكن أن تؤرخ حياتي. كانت بداية لأحلاف وعهود كثيرة عقدتها مع المستقبل، واثقا أنه خير لي أن أحتضن صحرائي وأتابع الهواء الذي يحمل رائحة البحر. ولم أندم. ولم آسف على شيء.
قبل أن ألتقي بيوسف الخال، تعرفت على بيروت شارعا شارعا، من الجهات كلها، خصوصا من جهة البحر. هذا البحر نفسه الذي قلما رأيته، أعني قلما عرفت أن أراه في جبلة و اللاذقية وطرطوس، حيث ولدت ونشأت، اخذ يبدو لي كأنه يتموج بين أطرافي، وكان نبض أمواجه يمتزج بنبض أعضائي. كنا مختلفين فتآلفنا. وكنا منفصلين فتواصلنا. وكثيرا ما تساءلت في ذات نفسي، فيما كنت أطوف شوارع بيروت وأزقتها: لم كانت دمشق، وهي العريقة وواحدة بين الأمهات الأوائل، لم كانت تبدو لي كأنها لم تولد بعد، أو كأنها خرجت لتوها من رحم زمان لا يزال يحبو؟ وما السر الذي كان يكمن وراء ما ينور خطواتي في بيروت، فيما تكتسي قدماي بالغبار؟ ومن أين كانت تجيئني تلك الشهوة لكي أتماهى مع الأفق، وألبس الهواء؟ في الأسبوع الأول من وصولي إلى بيروت، أواخر أكتوبر 1956، التقيت بيوسف الخال.
ومنذ لقائنا نشأت بيننا صداقة قوية، شعريا، وإنسانيا. وكنا معا دائما، في بيته. كان واعيا وواثقا أنه سيفتح بهذه المجلة، مجلة "شعر" أفقا جديدا للشعر العربي. وكان قد تحدث عنها مع أصدقاء وشعراء آخرين. كان هذا اللقاء الأول بيوسف الخال لقاء عمل. كنا كمثل شخصين أقاما عهدا بينهما، دون أن يعرف أحدهما الآخر، ودون أن يلتقيا.
ولم يكن لقاؤهما إلا لكى يضعا هذا العهد موضع الممارسة. هكذا بدونا، في لقائنا، كمثل شخصين تربط بينهما صداقة قديمة، قدم الشعر. كمثل شخصين يسكنهما هاجس واحد من أجل قضية واحدة: التأسيس لكتابة شعرية عربية جديدة. كمثل شخصين لا سلاح لهما غير الشعر والصداقة والحرية، لكتهما يشعران قي الوقت نفسه، أنهما القويان اللذان لا تغلبهما أية قوة. تحدثنا طويلا في هذا اللقاء الأول، وحول قضايا كثيرة، لكن في إطار القضية الأساسية: إصدار مجلة خاصة بالشعر، باسم (شعر)، (الاسم الذي كان قد استقر عليه، بعد مداولات مع بعض أصدقائه، بينهم خصوصا، فؤاد رفقه، ونديم نعمه، وخليل حاوي).
أعجبني الاسم وأعجبت في حديثه، بنبرته المتآلفة مع أفكاره. كانت نبرة شخص مأخوذ حتى الهيام، بعمل شيء للشعر العربي واللغة العربية: شيء يطمح به إلى وضع هذا الشعر، من جديد، على خريطة الشعر في العالم، كما عبر، وكما كان يحب أن يكرر. كان أن يدعو إلى قيام حركة، إلى نشر فكرة، عبر المجلة، وعبر الشعر، من أجل الشعر، والإبداع الشعري. وتكمن هذه الدعوة وراء آرائه جميعا، وهي التي قادته إلى الانشغال بالمسألة اللغوية، وبخلق أشكال جديدة للتعبير. أقول: دعوة، لكن دون أي ادعاء رسالي، ودون أي انغلاق أيديولوجي. لم يكن الأمر سهلا. كان، على العكس، صعبا جدا من جميع النواحـي، وعلى جميع المستويات.
كان المناخ الشعري العربي أشبه بحوض ضخم يطفح بماء يتدفق من ثلاثة مجار: الموروث، لكن الذي يفهم خطأ، والذي يدرس في المدارس والجامعات، باختمار غير بصير، وبمعايير تقليدية، وبطرق لا تطمس الشعر وحده، وإنما تقضي كذلك على الحس الشعري، والذائقة الشعرية.
المجرى الثاني يتمثل في الشعر الذي استكمل "عصر النهضة"، شعر شوقي ومطران وحافظ إبراهيم، يضاف إليهم أحيانا بدوي الجبل والجواهري اللذان كان لهما وضع خاص يجعل منهما حلقة وصلي بالجيل الذي تلا جيل شوقي: الأخطل الصغير، أمين نخله، إبراهيم ناجي، محمود حسن إسماعيل، عمر أبو ريشه وسعيد عقل، تمثيلا لا حصرا (الغاية هنا هي إعطاء فكرة عامة، لا تعداد الأسماء).
المجرى الثالث هو الشعر الناشىء، باسم "الشعر الحر". وما كان يفاجئنا، بشكل خاص، هو هذا المجرى الأخير. فقد كان في معظمه، وبخاصة ذلك الذي اتسم ب "التقدم"، و "اليسارية"... الخ، أشبه بأثقال من الحديد على الألسنة وفي الحناجر: كان شعرا يكتب باسم التحرر، باسم قضايا إنسانية عظيمة أكاد أن أسمعها تئن حتى الآن، تحت وطأة تلك الأثقال. كان في معظمه بليدا، عقيما. وكنت أشعر، فيما أقرؤه، أن كل كلمة من كلماته خنجر في جسد هذه الأم العظيمة الجميلة: اللغة العربية. كان هذا كله يدور في ذهني، فيما نتحاور. وكنت بين وقت وآخر، فيما أصغي إليه، أتساءل صامتا: ماذا يقدر يوسف الخال (الذي اتهم، قبل أن يبدأ بارتكاب "جريمته"، بأنه "مخرب" و "عميل" اتهمت معه طبعا، إضافة إلى بعض من أصدقائنا)، ماذا يقدر أن يفعل في هذا المناخ، وكيف سيجابهه؟ شربنا احتفاء بلقائنا، وسألني بما يشبه الصمت:
-ما رأيك؟
قلت:
- أنا معك.
وفي مطلع 1957، صدر العدد الأول من مجلة "شعر". العدد الأول: كان صدوره فاتحة هجوم صاعق، ومن جميع الجهات. كان المهاجمون كثرا ومتنوعين: مزيجا غريبا من الأشخاص: متشاعرين، شعراء، متحزبين، متعهدي وطنيات وأيديولوجيات، متسكعين حول شرفات ينحصر طموحهم في أن يقال عنهم إنهم قذفوا الشتائم في اتجاهها. كانت لغة الهجوم مليئة بكلمات تخرج من أفواههم، كأنها قطع من الوحل. لم نحزن على حالنا من هذا الهجوم)، وإنما حزنا على الثقافة والوسط الثقافي. حزنا على العقلية الكامنة وراءهما.
حزنا على مستوى التفكير، ومستوى الأخلاق: فلم تبق شتيمة أو تهمة إلا وجهت إلينا. كنا ننتظر معارضة لمشروعنا، معارضة في مستوى الشعر، تنتقد آراءنا، تنبه إلى أخطائنا، تقترح علينا ما تراه الأفضل والأعمق. معارضة توجهنا نحو ما يفيدنا في متابعة عملنا من أجل الشعر العربي. ولم يخطر ببالنا أن تكون ردة الفعل ضد المجلة، شرسة وغبية إلى ذلك الحد. شرسة: لأن التهم التي وجهت إلينا كانت نوعا من القتل المعنوي (رجعية، مؤامرة، تبعية للاستعمار، خيانة.. الخ) مما يحرض على القتل ا لمادي. وغبية: لان معظم المهاجمين لم يبحثوا المسألة الشعرية.
وقد بدا لنا، مما قالوه وكتبوه، أنهم لم يقرأونا. وأنهم، على افتراض أنهم قرأوا، لا يعرفون أن يقرأوا، ولا يعرفون أن يفكروا. ولا يعرفون أن يكئبوا. وليست لهم، فوق ذلك، أية علاقة بالشعر، سواء من حيث التذوق، أو من حيث المعرفة. بدا لنا أن الشعر، بالنسبة إليهم، ليس إلا "مدحا" أو هجاء، وأنهم لا ينتظرون من الشاعر إلا أن يكون إما فراشا أوسجانا: يوزع المدائح، أو يوزع السلاسل.
والحق أن هذا الهجوم لم يكن انتصارا للشعر، أو دفاعا عنه، إذ لا يستطيع الإنسان أن يخدم قضية يجهلها، وإنما كان انتصارا لسياسات معينة وأيديولوجيات معينة، ولم يكن الشعر زهرة اللغة، لغة اللغة، والتعبير الأعمق عن الإنسان العربي، لم يكن، بالنسبة إلى هؤلاء المهاجمين، إلا تكاة وحجة.
وكانوا في هجومهم يعملون من أجل ثقافة لا تعرف من اللغة والثقافة إلا شيئا واحدا: أن تزوج الكلمة للسجن. كنا ننتظر أن يكون النقد الذي يتناول مشروع المجلة عملا: أن ينشئ الناقدون مجلة أخرى أفضل وأكمل، وأن يكتبوا شعرا أجمل مما نكتب.
وكئا نظن أن العالم أعطي لنا لكي نتنافس في بنائه، لا لكي يهدم بعضنا بعضا. كنا نظن أن هذه الفترة القصيرة من بقاء الفرد البشري على الأرض، والتي أعطيت له مرة واحدة والى الأبد، فترة فريدة وغالية، لا يجوز أن نملأها بالأحقاد والصغائر، بل يجب أن نملأها بما يزيد الأرض والإنسان بهاء ووحدة وقوة. وكئا نعتقد أن الخلاقين، خصوصا الشعراء والفنانين والمفكرين، موكب واحد متآلف في ليل العالم، مهما تنوعت آراؤهم واتجاهاتهم، ومهما تعددت، وتباينت. أقول كنا نظن، وهكذا كان علينا أن نتحمل "إثم الظن".
وكان صدور العدد الأول، وقد أشرفنا على إنجازه معآ في مطبعة الريحاني، اذ لم يكن للمجلة مكتب، كان كما أشرت كمثل حد فاصل: بعضهم من العروبيين واليساريين الذين كانوا ملتفين حول مجلة "الآداب" التي قامت، بدون شك، بدور مهم في حركة الشعر العربي الحديث، أعلن مباشرة حربا شعواء محلى مجلة "شعر" ولم يوفروا تهمة إلا أسندوها إليهما، بدءا من هدم التراث، ومناوأة العروبة، مرورا، بالإقليمية الضيقة، وبالانتماء إلى أفكار انعزالية همها الأول العداء للقومية العربية، ولحركة التحرر العربي إجمالا، وانتهاء ب، "العمالة" لأميركا. وبعضهم الآخر من اللبنانيين، وعلى رأسهم سعيد عقل، صمتوا استخفافا بالمجلة، واستهانة بما تطمح إلى تحقيقه. وبعضهم، وكانوا قلة، أعجبوا بها والتفوا حولها. أنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وجورج غانم، انضموا إلى المجلة لاحقا، بعد فترة قصيرة من صدورها.
غير أن العدد الأول منع في جميع البلدان العربية، وكانت الحملة عليها في سورية، بخاصة، عنيفة جدا. كان يوسف الخال واثقا من عمله، وكنت أشاركه هذه الثقة. ولم نفاجأ كثيرا بردود الفعل المعادية، وكان يرى فيها بعدا سياسيا، على الأخص. شعريا ومنذ العدد الأول، قدمت المجلة نفسها على أنها مختبر منفتح، أو ملتقى للأصوات الشعرية العالية، أيا كانت اتجاهاتها، الأيديولوجية أو الشعرية.
ضم العدد الأول، على سبيل المثال، قصيدة تفعيلية (حديثة) لشاعر شيوعي، سعدي يوسف، وضمت، بالمقابل، قصيدة لشاعر، على الطرف النقيض، فكرا وشعرا، هو بدوي الجبل، وهي قصيدة كلاسيكية من طراز نادر ورفيع. هكذا لكي تؤكد أنها ليست "قطيعة"، مع التراث، وليست "هدما" له، وإنما هي أفق آخر في شعرية اللغة العربية، وهو أفق يتآخى مع الآفاق الأخرى، ومن ضمنها أفق الفترة التأسيسية، فترة ما قبل الإسلام.
وكل ما ركزت عليه هو أن هذا الأفق الذي تفتتحه، يوسع حدود الشعر، التي وضعها أسلافنا، ومن ثم يطرح مفهوما آخر للشعر، يتسع للكتابة الشعرية خارج الوزن، أو لكتابة الشعر، نثرا، شريطة أن يخرج النثر من نثريته. ولهذا ركزت في هذا المفهوم، لا على الوزن، بل على طبيعة اللغة الشعرية، وعلى جماليتها. وكانت المجلة مكانا يلتقي فيه الشعر العربي بشعر الآخر غير العربي، مما يمكن أن يعذ استمرارا لما قام به الفلاسفة العرب، في علاقتهم بالفلسفة اليونانية.
فقد جعلوا من الآخر اليوناني عنصرا تكوينيا في نظرهم الفلسفي. ومن هنا كانت تمثل انفتاحا فنيا وثقافيا، يذكر باللحظات العليا من تاريخ العرب في انفتاحهم على ثقافات الشعوب الأخرى. وكانت المجلة إلى ذلك مناخا لمسلكية شعرية جديدة.
فقد أنشأت ندوة أسبوعية باسم "خميس شعر"، كان الشعراء المقيمون والضيوف العابرون يلتقون فيها، ويقرأ من يشاء منهم آخر ما كتبه، أو بعض ما كتبه، ثم يتناقش الجميع في ما سمعوه، بحرية كاملة، ومحبة كاملة. وكشفت المجلة عن مواهب كثيرة، واحتضنت شعراء، وأطلقت آخرين. إن شعراء مثل أنسي الحاج، وسركون بولص، وفؤاد رفقه، وشوقي أبي شقرا، تمثيلا لا حصرا، شأوا في أحضان مجلة "شعر".
وساعدت الكثيرين في نشر نتاجهم الشعري. وصدرت عنها أهم المجموعات الشعرية العربية التي لا تزال تهيمن على اللغة الشعرية العربية، بشكل أو بآخر، قليلا أو كثيرا. بدءا من، (أنشودة المطر)2، ومرورا ب "أغاني مهيار الدمشقي " و" النهر والرماد"، و" البئر المهجورة" وانتهاء ب "لن"، تمثيلا لا حصرا. وكانت المجلة في هذا كله المنارة، والطريق الملكية إلى حداثة الشعر العربي.
ربما أخالف الكثيرين في الرأي. فأنا أعتقد أن المشهد الشعري العربي غني، على الرغم من أنه قليل التنوع. وليست المسألة في الكم العددي. بل في النوعية. وأظن أن ثمة نوعية شعرية عالية، غير أنها قليلة. وأنا هنا أتحدث، بخاصة، عن الشعراء الذين تلوا حركة مجلة "شعر"، ويملأون الساحة الشعرية اليوم. وأعتقد أنه سيكون أمرا غير تاريخي، وغير حقيقي، كل حديث عن الشعر العربي اليوم لا يرى أن التأثير الأول في هذا الشعر نابغ من هذه المجلة. وهو تأثير لا يتصل بطرق التعبير وحدها، وإنما يشمل كذلك قضايا النظر إلى الشعر، والى المشكلات التي يطرحها الإبداع الشعري، بعامة.
لا أعرف شاعرا عربيا قديما ابتكر شخصية رمزية لكي يتحدث، باسمها وعبرها، عن شواغله وأفكاره ورؤاه. نجد ذلك، على العكس، في تراثنا النثري: كليلة ودمنة لابن المقفع، على سبيل المثال. هكذا، لا شك في أن وراء ابتكاري لشخصية "مهيار الدمشقي"، تأثر بنماذج غربية: زرادشت نيتشه، فاوست غوته، مالدورور لوتريامون.
وهناك بعض النقاد العرب خلطوا بين شخصية لأمهيار الدمشقي، والشاعر مهيار الديلمي، وليس ما يجمع بينهما غير الاسم "مهيار". ما عدا ذلك، لا صلة بينهما، إطلاقا، على أي مستوى. وقد أردت من ابتكار هذه الشخصية أن أخرج من الخطاب الذاتي الشعري المباشر، وأن أقول عالمنا بلغة غير ذاتية، لغة رمزية تاريخية، موضوعية، ينطق بها شخص، رمز وأسطورة في آن.
وهو، في ذلك أكثر من قناع. إنه بؤرة تتلاقى فيها أبعاد الثقافة العربية، في شاغل رئيسي محوري: تجاوز العالم العربي القديم، إلى عالم عربي جديد، كتاب "أغاني مهيار الدمشقي" هو، في ذلك، مرحلة فاصلة في الكتابة الشعرية العربية الحديثة. ونعرف كيف تكاثر، بعده اللجوء في كتابة الشعر لاحقا، إلى الرموز والأقنعة التاريخية. وكان لإقامتي في باريس دور كبير في هذا الكتاب. فهذه الإقامة أتاحت لي أن أقيم مسافة بيني وبين المكان الذي جئت منه وأنتمي أليه.
أتاحت لي، بتعبير آخر، أن أحسن فهمه، وأحسن الإصغاء إليه. وهذا مما أتاح لي، بدوره، أن أزداد تعلقا به، وأن يتعمق انتمائي إليه. فالبعد عن هذا المكان هو الذي قربني إليه. وساعدتني هذه الإقامة على رؤية مكان آخر مختلف على جميع الأصعدة، وعلى الاتصال الحي بشعرائه، وتراثه، وأجوائه، و مناخاته وإبداعاته. وهذا كله كان بالنسبة الي كمثل مرآة ابتكرها الآخر، وأرى، فيما أنظر إليها، إلى تاريخي وثقافتي، والى نفسي أولا، مما وئد تأثيرات متنوعة.
هذا التحول الذي تشير إليه بدأ في "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل "، وكانت القصائد الثلاث اللاحقة التي صدرت في مجموعة خاصة بعنوان "وقت بين الرماد والورد" ذروة هذا التحول. والقصائد الثلاث هي: "هذا هو اسمي "،، "مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف "، و"قبر من أجل نيويورك ا،. ففي هذه القصائد نرى، عدا البنية التشكيلية الشبكية، المسرحية، تخطيا للنوع، أي مزجا بين الشعر والنثر، مما لم يكن معهودا ولا مقبولا في الكتابة الشعرية. فهذه القصائد هي أيضا تحول حاسم في هذه الكتابة نفسها.
ويمكن بسهولة أن نرى تأثيرها البالغ، في الكتابات العربية اللاحقة. وليس "الكتاب: أمس، المكان، الآن " إلا إيغالا في هذا التحول. حيث أصبحت القصيدة الغنائية القصيرة، المفردة، ضيقة على الشعر. ولم تعد تتسع له إلا مساحة بحجم التاريخ. هكذا يتمسرح التاريخ العربي في هذا الكتاب، كأنه شريط سينمائي جامع، ترى في كل منظر منه، أي على كل صفحة من هذا الكتاب، كيف تتقاطع الأزمنة الثلاثة، وكيف يتلاقى الذاتي والموضوعي، وكيف يتصارع القديم والجديد.
فليس هذا الكلاب مجرد "حفر أركيولوجي في الجانب المظلم من التاريخ العربي" كما تعبر، وإنما هو حفر شامل في هذا التاريخ، بوصفه كلا يتجزأ، بجوانبه المظلمة وجوانبه المضيئة على السواء. إضافة إلى ا ذلك الصوت الخافت، تحت التاريخ أو على هامشه، أو ما وراء، والذي أصفه بأنه صوت من لا أحد، لأنه صوت الكل. وهو ما يتمثل، على نحو خاص، في القسم الأسفل من متن كل صفحة في الكتاب. لا أريد أن أكرر ما قلته في هذا الكتاب. وأشير أولا إلى أن الصوفية التي أتحدث عنها إنما هي صوفية المنهج، لا صوفية الإيمان الديني. فأنا أتحدث عنها بوصفها طريقة، لا بوصفها تدينا أو مضمونا دينيا.
كما يمكن الحديث، مثلا، عن الأفلاطونية أو عن الهيغلية، أو عن الماركسية، بوصفها طريقة في مقاربة العالم، وبصرف النظر عما يقوله أو يؤمن به أفلاطون أو هيغل أو ماركس: هكذا أوجز أسس الطريقة الصوفية في مقاربة العالم: أولا: "الظاهر"، ظاهر العالم والأشياء، ليس مكانا للحقيقة، أو للمعرفة الحقيقية، ولا مصدرا. هذا المكان وهذا المصدر نجدهما في "الباطن"، باطن العالم والأشياء. و"الباطن" هنا يقابل، في السوريالية، ما يسمى ب"ما وراء الواقع".
ثانيا: "الظاهر" متغير عابر، منته.أما "الباطن" فحركة لا نهائية وتبعا لذلك، ليست "الحقيقة" نقطة ثانية، نصل إليها ونقبض عليها. وإنما هي انبثاق لا نهائي، في تجليات لا نهائية. وهي، إذن، ليست جاهزة، وإنما هي اكتشاف دائم. وتأسيسا على ذلك، فإن المعرفة لا نهائية.
ثالثا: اكتشاف الحقيقة يحتم على الإنسان أن يتجرد من "الظاهر"، وأن يتعالى على جسده، أو أن "يقتله"، لكي يتحول إلى شفافية خالصة تمكنه من الوصول إلى شفافية، "لباطن "، حيث تكمن الحقيقة. ويصل الصوفي إلى هذه الحـالة من التطابق بين الشفافيتين: شفافية الذات، وشفافية المادة، بأنواع من التدرب والرياضة "تميت" الجسد و"الظاهر".
(ويصل إليها السوريالي، اصطناعا، بأنواع من التخدير). رابعا : في نقطة التطابق هذه بين الشفافيتين (ويسميها أندريه بريتون: النقطة العليا) تزول الفروقات والتناقضات بين الأدنى والأعلى، بين الظاهر والباطن، وتتم "الوحدة" بين الإنسان والله عند الصوفي (تتم المعرفة الحقيقية، عند السوريالي، أو يتم الكشف).
خامسا: هذه النقطة هي مكان الانخطاف، مكان لا سيطرة فيه للعقل، أو للجسد، أو للظاهر، وهي التي تتيح للصوفي أن يكتب شطحاته، بوصفها إملاء من فم الغيب الكوني. (و"الكتابة الآلية" عند السورياليين هي ما يقابل "الشطح " عند الصوفيين). (استطرادا: سقطت جميع الكتابات الآلية السوريالية، وليست لها أية قيمة شعرية. أما الشطح الصوفي فلا يزال إشعاعه الشعري متوهجا كأنه كتب اليوم). سادسا: ليس للكون حد. ليس للحقيقة ولا للمعرفة حد. والكون في ولادة دائمة، وتجدد دائم. والإنسان في هذا كله المركز والمحور. إنه الكون مصغرا. وفيه "ينطوي العالم الأكبر".
أكتفي بهذا القدر. ومن أراد أن يتوسع فما عليه إلا أن يرجـع إلى كتاب "الصوفية والسوريالية"، ليرى أيضا مكان المرأة، الأنوثة ودورها في الوصول لا إلى المعرفة والحقيقة، وحدهما، وإنما أيضا إلى "الألوهة"، خصوصا أن "كل مكان لا يؤنث لايعول عليه"، كما يقول ابن عربي.
كانت باريس الصدمة الأولى في زياراتي لمدن العالم. قروي فقير لم يكن يحلم حتى برؤية دمشق أو بيروت، وها هو في باريس. كان الواقع كمثل الحلم. وقد بقيت مني باريس فترة لا أعيشها إلا بوصفها حلما- مرة، سرت منتشيا من برج أيفل إلى مقهى الدوماغو، تحت رذاذ مطر خفيف. تبللت طبعا، ثيابي وجسدي. واخترقت الماء والحصى تعل حذائي. وما كان أسعدني. ربما، بسبب من سيطرة هذا السحر، لم أقدر أن أتابع دراسة الفرنسية في مدرسة "الأليانس"، فبعد أسبوع من دخولي إليها، قررت أن أهجر الدراسة نهائيا .
وغرقت في التعرف على المدينة، حيا حيا، وشارعا شارعا. غرقت كذلك في التعرف على شعرائها وكتابها، وعلى نشاطها الثقافي بقدر ما كنت أستطيع. وفي فترة قصيرة، نسبيا، أقل من سنة، تعرفت على عدد من أهم الشعراء: هنري ميشو، بيار جان جوف، ايف بونفوا، ميشال ليرشى، أندريه دوبوشيه، جاك بريفير، جان فولان، بيار ايمانويل، ألان بوسكيه، ألان جوفروا، جان، جاك لوبيل، هنري توماس، غابرييل أوديزيو وآخرين .
ونشأت بيني وبين بعضهم صداقة لا تزال قائمة حتى الآن غيللفيك، وشعراء وكتاب آخرون كثيرون تعرفت عليهم، فيما بعد، في السنوات اللاحقة بعد 1960، 1961. ولا أنسى لقائي في1961 بالشاعر باول تسيلان، وببعض الشعراء الأميركيين: غينسبرغ، وغريغوري غورسو. ولا أنسى لقائي، خصوصا بالشاعر أوكتافيو باث.
من هذا كله، تعلمت كثيرا، واختزنت كثيرا. وفي زياراتي لمدن أخرى، كنت أشعر أن باريس تهيمن علي. أنها تحول دون أن تدخل إلى نفسي أية مدينة أخرى غيرها. وكنت أشبهها بين المدن، بالنسبة إلي، باللغة العربية بين اللغات: فاللغة العربية مقيمة في كل خلية من خلاياي، وهي تحول بغيرة عنيفة، لون أن تدخل إلى نفسي أية لغة أخرى. كأني ملك خاص لها. في طوكيو، أخذت بالأسواق الشعبية. بعلب الكبريت في مقاهيها وفنادقها. كل علبة تحفة.
جمعت عددا منها، لا أزال أحتفظ به حتى الآن. أعجبت كذلك بدماها. وتحتفظ ابنتي أرواد بمجموعة متنوعة منها، أهديتها إياها. في بكين وشنغهاي، يلزمني وقت آخر أذكر أنني لم أر سياره خصوصية واحدة في بكين حين زرتها. وتلك السيارات الرسمية، القليلة جدا، والتي لا تراها في الشارع إلا نادرا، حين تقل ضيفا، سيارات بائسة سوداء، كأنها توابيت تتحرك على الأرض. لا ترى إلا أفواج الدراجات، غادية رائحة، كان ذلك مؤثرا جدا. وكان رائعا.
الملك حقا للشعب. (يقال: تغير اليوم كل شيء). أذكر أيضا أنه رافقني في رحلتي داخل بكين وشنغهاي وما حولهما، كاتب منتدب من اتحاد الكتاب، ومترجم. وأينما ذهبنا كنت أكل وحدي، وكانا هما يأكلان مع آخرين. استغربت، وحزنت. قررت أن أسألهما عن السبب. وكان الجواب هو أنني ضيف الصين. وبوصفي ضيفا يقدم له طعام خاص. أما هما فلا يحق لهما إلا الأكل من طعام الصينيين اليومي ومعهم، فلا فرق بين الكاتب والفلاح والعامل. الكل سواء: (يقال أيضا: تغير اليوم كل شيء) .
وكان ذلك جميلا، ومؤثرا جدا. غير أنني، في قرارة نفسي حزنت لسبب يتعلق بي: أشعرني بامتياز كنت أحب ألا أخص به. كنت أحب، على العكس، أن آكل معهم، غير أنني لم اكن قادرا على المطالبة بذلك. أذكر كذلك أن اتحاد الكتاب دعاني إلى العشاء في مطعم في بكين. جلسنا حول مائدة مستديرة، ومتحركة. وأخذت أطباق الطعام تتوالى، تشمع أو عشر مرات، على ما أذكر. وكنت شبعت تقريبا من الطبق الأول. كان عشاء، عيدا، لم أكن رأيت قبله عشاء في مثل هذا البذخ، لكن الأنيق، البسيط، ا لمدهش، اللطيف. ولا أريد هنا أن أتحدث عن الحوارات التي دارت بيني وبين بعض الشعراء والكتاب والنقاد في بكين وشنغهاي، حول الكتابة والسياسة والأيديولوجيا، والحاضر والمستقبل، والغرب والشرق، والإسلام فذ لك أمر آخر .
وأختم بأمرين: زرت المركز الإسلامي ومسجده في بكين، فاستقبلتني امرأة جميلة اسمها فاطمة، كانت، فيما قيل لي هي التي تشرف على شؤونه. وزرت السور المشهور ووقفت في الطواف عند نقطة لم أشأ أن أمضي إلى أبعد منها. فعلق المترجم، ضاحكا إلى هذه النقطة بالضبط، وصل نيكسون، ولم يشأ هو أيضا أن يمضي إلى أبعد. أتمنى، برغبة عارمة، لو يتاح لي أن أزور الصين، أو بكين وشنغهاي، مرة ثانية. ولقد كتبت عن زيارتي الأولى، وسوف أضم ما كتبته إلى مذكراتي وأنشره في وقت لاحق نيويورك هي المدينة الثانية التي أحدثت في انقلابا نفسيا وفكريا، بعد باريس حبهنم الفكر، جنة الحواس، في جسد واحد.
لا أستطيع أن أتحدث الآن عنها. أكتفي بالقول: لو أستطيع أن أزورها كل شهر، لما ترددت. وأدعو قارئي إلى قراءة القصيدة التي كتبتها عنها: "قبر من أجل نيويورك ". موسكو؟ قرية. لذلك لم يهمني فيها المكان.
همني البشر. عرفت فيها عددا من شعرائها الأكثر شهرة: يفتوشنكو، فوزنيسكي، بيلا أحمدولينا: أمرأة ساحرة، سهرنا معا مرة، سكرت، صعدت إلى البيانو وأخذت ترقص. امرأة ساحرة. ألما آتا، عاصمة كازخستان: مدينة إسلامية، داخله في جوقة المدن الشيوعية التي تريد أن تغير العالم، لا في اتجاه الإسلام، بل في اتجاه الشيوعية. وعندما زرت مسجدها، أخذ الناس يلمسون ثيابي ويتبركون لأنني آت من جهة المدينة المنورة! ما ذا أيضا؟ يكفي .
الشرق والغرب، بالنسبة إلي، مصطلحان جغرافيان. ففي الشرق أنواع كثيرة من الشرق. وفي الغرب أنواع كثيرة من الغرب. حضاريا، الكون واحد، والفرق في هذه البقعة أو تلك، فرق في الدرجة لا في النوع. غير أن السياسة الغربية، الأميركية على الخصوص لا تحب هذا النوع من الكلام الشعري البسيط، لكن الحقيقي. تريد، على العكس، أن "تعولم" الكون في سوق واحدة تهيمن عليها. تريد أن تذوب "الشرق" في " الغرب"، غربها. لا تريد أندادا، أو مشاركين، أو محاورين، و إنما تريد تابعين، سامعين، طائعين. وهي آخذة في تحقيق ما تشاء. إلا….
أنفر كثيرا من المثقفين العرب الذين يأخذون الغرب بوصفه كتلة واحدة، ينتقدونها ويدعون إلى نبذها. والغريب أنهم لا ينتبهون إلى أنهم ينتقدون بلغة صاغها الغرب الثقافي نفسه، وبمفهومات وضعها مفكروه وفلاسفته. إن النقد العميق الجذري للغرب التقني، الاقتصادي العسكري لم يجيء من المفكرين العرب، و انما جاء من مفكري الغرب وفلاسفته وشعرائه. وأنا شخصيا أجد نفسي أقرب إلى نيتشه وهيدغر، إلى رامبو وبودلير، إلى غوته وريلكه، مني إلى كثير من الكتاب والشعراء والمفكرين .العرب. أن وطن الإبداع الثقافي لا يتطابق، بالنسبة الي مع الوطن الجغرافي .
وأنا، في التحليل الأخير، مع الوطن الأول. ونضالي كله يتمحور حول هذا الهدف: أن يصبح وطني الجغرافي جزءا عضويا من هذا الوطن الكوني الإبداعي. لا شرق، لا غرب: بل الانسان الواحد والكون الواحد .
شعريا، لا أعد نفسي معروفا باللغة الإنكليزية. يبدو أن بين لغتي الشعرية واللغة الإنكليزية برزخا لا يمكن عبوره. مع ذلك آمل، ذات يوم، ذات معجزة... في ما يتعلق بالترجمات إلى اللغات الأخرى الفرنسية، والأسبانية، والإيطالية والسويدية والألماني، إضافة إلى اليونانية والتركية، يبدو أنها ناجحة. خصوصا .الفرنسية والأسبانية والألمانية .
هناك ترجمات أخرى في لغات أخرى: الدانمركية (مجموعة شعرية)، والإيرانية، والصينية، واليابانية (قصائد متفرقة) والفيتنامية (مجموعة شعرية)، لكن، لا أعرف ماذا أقول عنها، كل ما أعرف أن شعراء كانوا يقومون بهذه الترجمات، إلا في .اليابانية والصينية، فالمستعربون هم الذين يترجمون .
وأعرف جيدا الشاعر الدانمركي الذي ترجم "أغاني مهيار الدمشقي"، وهو من أهم الشعراء في بلاده. لا أقول إن الشعر، لا يترجم، بل أقول انه يخسر كثيرا في الترجمة التي لا بد منها. يخسر، على الأقل، الخصوصية الموسيقية في لغته الأصلية، وهذا ليس قليلا. يخسر أيضا نوعية العلاقة في لغته الأصلية بين الكلمة .والكلمة، وبين الكلمة والشيء أو الفكرة: وهذا أيضا ليس قليلا لهذا يجب التعويض. وشروطه لا تتوفر إلا في مترجم هو نفسه خلاق، يتقن لغته اتقانا شعريا كاملا، ويعرف لغة الشاعر الذي يترجمه، وعالمه الشعري معرفة عالية. بحيث يقدر أن يقدم في لغته نصا عاليا يوازي النص الذي يترجمه. واعتقد أن هذا موجود. .
فهناك ترجمات شعرية في مستوى الأصول المترجمة. غير أنها نادرة جدا. السينما، بوصفها فنا، أو أسلوبا فنيا في مقاربة العالم، يمكن أن تكون الفن الشامل، أي الفن الأكثر شمولا وكمالا، بحيث تذوب فيها وتنصهر جميع الأشكال الفنية الأخرى، ومن ضمنها الشعر نفسه. وعلى هذا المستوى، هي فن المستقبل. يبقى التطبيق، الممارسة. وهذا عائد إلى (الموهبة) من جهة، والى الإمكانات المالية والاقتصادية من جهة ثانية.
غير أن الطابع الغالب، اليوم، على النتاج السينمائي، هو، مع الأسف، طابع الرداءة: الابتذال الجنسي والعنف، و"سكريات" الأنوثة. مع ذلك، تظهر بين وقت وآخر، بعض الأفلام المدهشة. "تايتانيك" مثل راهن. ومن بين الأعمال السينمائية الكبرى أذكر أعمالا يابانية، وإيطالية وأميركية وروسية. نسيت أسماءها بالتفصيل، لكنها إنجازات فنية كبرى .
فن القص بالصورة الحية، جسدا وحركة وحياة يومية، وأشياء البيوت والشوارع والمدن والأرياف والبحار والجبال والسماء والأرض، مشحونا بالفنون الأخرى، فن المسرحة، وفن التصوير الفوتوغرافي، وفن الشعرية، نظرا وإخراجا ونصا، وفن الموسيقى، إضافة إلى فنون أخرى، كالرقص، مجتمعا كله، في مكان واحد على الشاشة الواحدة، هذا الفن، أكرر، هو فن المستقبل. لأنه هو وحده الفن الذي يمكن أن يكون محيطا. يبقى النفاذ إلى أعماق الإنسان ومشكلاته، وهذا، كما قلت، تابع لعبقرية المؤلف والمخرج والممثل .
أعشق السينما. وأعتقد أن بنية الصفحة في كتابي الأخير: "الكتاب: أمس المكان الآن"، مستفادة من الفن السينمائي. أسعدني كثيرا أن أكتب عن بعض الفنانين العرب، الأكثر أهمية في الوقت الحاضر، أو أن أقدم لمعارضهم. وأسعدني كثيرا أيضا أن أعمل مع بعضهم على كتب مشتركة شعرية، تشكيلية، بطباعة فاخرة، ونسخ محدودة ومرقمة. و يؤسفني أن الصلة، إبداعيا، بين الشعر والرسم تكاد أن تكون شبه منعدمة في البلاد العربية إجمالا، لا تفاعل ولا تآخـي بين الفنون عندنا .
وهذا دليل على نقص في المعرفة، ونقص في الخبرة. لست رساما. وإنما أقوم، بين وقت وآخر، ولكي أعطي لأصابعي حقوقها في اللعب الحر، بتخطيط تكوينات من مواد مختلفة، وغير لونية. والمعرض الذي تشير إليه أقامه صديقي زياد دلول، في الغاليري التي يديرها، غصبا عنى، تقريبا. غير أنني أتابع، صامتا، هذه التكوينات أو الملصقات أو المركبات .
لا أعرف كيف نترجم هذه الكلمة collage، وعندي الآن مجموعة كبيرة. غير أنني لست ميالا إلى اقامة معرض أبدا. سأنتظر. هذه مناسبة لأختم هذا الحديث بتحية إلى يوسف الخال الذي عني بالحركة الفنية التشكيلية العربية عنايته بالحركة الشعرية. وكلنا نعرف الغاليري التي فتحها لهذه الغاية باسم غاليري ألف. أحييه متذكرا أيامه الأخيرة في باريس حيث كان يحارب الداء، وقبيل رحيله الأخير. كنا نحب في جلساتنا أن نتذكر البدايات: بدايات لقائنا في بيروت، في أواخر أكتوبر 1956، في مطعم نصر، الروشة، وبدايات عملنا لإصدار العدد الأول من مجلة "شعر" في المطبعة بمحلة الزيتونة، في ديسمبر من السنة نفسها .
كنا نستعيد حواراتنا وأفكارنا وآراءنا. كنا نستعيد كذلك لحظات الفرح، ثالثنا، في التساؤل: بأية قصيدة نفتتح العدد الأول، ما المادة النقدية التي يحسن أن نبدأ بها، ما الترجمات الشعرية، ما لون الغلاف؟ كنا نستعيد أيضا لحظات الدخول إلى المطبعة، ورؤية عمالها، خصوصا المعلم جورج، والحديث معهم حول شكل تنضيد القصائد و إخراجها، و اختيار الحروف الخاصة بالعناوين، واختيار الورق للعدد الأول، وتصحيح ملزمته الأولى. كنا كمثل طفلين لا يصدقان أن ما بين أيديهما تتكون كرة تمتلئ بأشياء تضج بالرغبة والرهبة في آن .
وكنا في الوقت نفسه كمثل بالغين يعيان أن ما يقومان به سيشكل حدا فاصلا يكون بداية لمفهوم آخر للشعر، وبداية لتاريخ شعري آخر. اليوم، بعد أربعين سنة على صدور العدد الأول، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على رحيله، أنظر، أقرأ، أتأمل مطعم نصر لا يزال "وفيا"، حيث هو. المطبعة التي شهدت ولادة المجلة في عددها الأول، زالت. وهو، يوسف الخال، لا يزال كما كان في وفائه و، "غربته " على الرغم من أنه "خلق ألوفا" لا يفهمه إلا قلة .
ولا يزال الشعر العربي زيا "قوميا"، "وطنيا"، أو مجرد "زي". ولا يزال الكلام عليه يجري، غالبا، لا بالشعر و أدواته، بل بالعلاقة والجوار والقرابة والوظيفة والوطنية والسياسة والأيديولوجيا والمنفعة والحزب والمصلحة والانتماء والنضال والادعاء وخذ وهات... .
الكياني، الكوني، الإنساني: ما لا قوام للشعر إلا به، تسدل عليه الحجب، في جميع الأبحاث التي تتناول مجلة "شعر"، قصيدته الكبرى، فتجزأ قضيتها وهي الكل الذي لا يتجزأ، ويشوه بذلك معناها، وتشوه أطروحتها. قضية الشعر العربي، هذا الجسم البديع، الفريد، المدهش الذي يختزن ألفي سنة من التجارب، مندرجا بين أعظم ما أنتجته البشرية من شعر في تاريخها كله: هذه القضية كلها تختزل، عبر اختزال أطروحات مجلة "شعر"، في ثوب هذا الجسم، في مجرد الثوب: هل الخيوط التي نسج بها موزونة أم منثورة؟ هل هو "غامض" أم "واضح". هل هو "وطني"، "نضالي" أم لا؟
هكذا، على الشعر هو أيضا، كما يبدو، أن يزول في أرض لم يكد يبقى لها، حضاريا، إلا الشعر .
عن مجلة (عيون) فصلية ثقافية تصدر عن منشورات الجمل
السنة الثالثة - عدد6 السنة الثالثة 1998- ليون - ألمانيا