عزالدين المناصرة
(فلسطين/الأردن)

وصلت الى القاهرة يوم 5/10/1964 قادما من القدس للدراسة في جامعتها. ركبت طائرة من مطار قلنديا، حيث مرت بعمان متوقفة في مطار ماركا، ثم واصلت رحلتها الى القاهرة حيث وصلت الى القاهرة في الثانية ليلاً من صباح اليوم التالي. وكانت هذه الطائرة هي أول طائرة أركبها في حياتي. قبل ذلك بشهرين كنت قد زرت مكتب (مجلة الأفق الجديد) الأدبية في شارع صلاح الدين بالقدس، حيث استقبلني أمين شنار رئيس التحرير، وطلب مني ان أكون مراسلا صحافيا لهذه المجلة في القاهرة. وهكذا بدأت عملي الصحافي من غرفتي في شقة مشتركة مع زميلين، وكانت بعض رسائلي الى الأفق الجديد توقع باسم (مكتب الأفق الجديد بالقاهرة)، ولم يكن ذلك المكتب سوي غرفتي الشخصية. في تلك الفترة أي النصف الثاني من الستينيات كنت أيضاً مراسلاً صحافياً لمجلات ثقافية عدة في بيروت هي:

  1.  فلسطين ملحق المحرر التي يرأس تحريرها غسان كنفاني.
  2.  مجلة الهدف ويرأس تحريرها كنفاني أيضاً.
  3.  مجلة مواقف ويرأس تحريرها الشاعر أدونيس.

وقد كتب لي غسان وأدونيس رسائل تطلب ذلك قبل صدور هذه المجلات أي في مرحلة التأسيس. وكنت أيضاً مراسلا لمجلة الشباب الأردنية. ولاحقاً في السبعينيات (1974ــ1977)، كنت المحرر الثقافي لمجلة فلسطين الثورة في بيروت، الناطقة بلسان منظمة التحرير الفلسطينية. ثم عملت سكرتيرا لتحرير مجلة شؤون فلسطينية الصادرة عن مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت (1982ــ1983). مثلما كنت مديرا لتحرير (جريدة المعركة) التي أصدرها المثقفون العرب خلال حصار بيروت 1982. كما كنت (كاتب مقال أسبوعي) في مجلة الكفاح العربي في بيروت 1982. وكنت سكرتير تحرير تنفيذيا لمجلة الثقافة العربية التي كانت تصدر في بيروت في مرحلة التأسيس أي عام 1974. كل ذلك قبل ان أتحول من مهنة الصحافة الى مهنة التدريس الجامعي.
ــ أقول كل ذلك لأقدم لأربعة حوارات تاريخية أجريت في حينها وأثارت نقاشاً. وتكمن أهميتها في المقارنة بين الماضي والحاضر وأهمية الأشخاص الذين حاورتهم.

وهذه الحوارات جرت في سنوات متباعدة:

أولاً: حوار مع الشاعر المصري أحمد رامي ــ مجلة الأفق الجديد ــ العدد الثاني عشر، كانون الاول (ديسمبر) سنة 1965ــ القدس.
ثانياً: حوار مع نجيب محفوظ ــ مجلة الشباب الأردنية ــ العدد الثالث والعشرون ــ تموز (يوليو) 1970 ــ عمان.
ثالثاً: حوار مع حنا مينة ــ مجلة فلسطين الثورة ــ بيروت 1/1/1976.
رابعاً: حوار مع القاص السوري سعيد حورانية ــ مجلة فلسطين الثورة ــ بيروت 1/1/1976.

1- حوار مع الشاعر المصري أحمد رامي (1965):

أقدم مخطوط للخيام منسوخ بعد 350 سنة من موته

زرت الشاعر المصري احمد رامي عدة مرات في منزله بالقاهرة وأصبحنا أصدقاء رغم فارق السن بين شاعر شاب في سن التاسعة عشرة وشيخ عجوز في الثالثة والسبعين. فقد كان يأنس لزيارتي مع بعض أصدقائي المصريين، لأنني كنت أنبش ذاكرته باستمرار. وكان دائماً يقحم اسم أم كلثوم في أي حوار. ذهبت إليه شاعرا معجبا بترجمته لرباعيات الخيام التي غنت بعضها أم كلثوم. وأتذكر أيضا انه كان شاعرا كارها للحديث في السياسة. وعندما شاهدت (مسلسل أم كلثوم) الذي عرض عام 2000، لم أجد تقاربا في الشكل بين احمد رامي وبين الممثل الذي أدى دوره. فالرجل الذي قابلته عام 1965 يلثغ قليلاً، وكان وجهه مليئاً بحفر بقايا الجدري. تشع الطيبة من وجهه. لبق وسطي في آرائه. شاعر غنائي ذو ثقافة تقليدية واسعة. لم يكن يؤمن بشعر التفعيلة لكنه لا يعلن عن عداء له، بل يكتفي بالقول (أنا رجل كلاسيكي من جيل آخر). وفي ما يلي نص الحوار معه عام 1965، كما نشرته مجلة الأفق الجديد المقدسة.

* استاذ رامي.. نبدأ بتعريف قرّاء الأفق الجديد بنشأتك وتطورك أي مسار الحياة: البيئة ــ الثقافة ــ تجارب الحياة فما
الذي حدث معك؟

- ولدت في القاهرة سنة 1892م. وتخرجت بعد دراستي الثانوية في مدرسة المعلمين العليا بالقاهرة. وعملت ستة أعوام في التعليم، ثم ذهبت في بعثة الى باريس ودرست بمدرسة اللغات الشرقية وتخصصت في اللغة الفارسية ثم درست في جامعة السوربون ونلت شهادة دبلوم في فن المكتبات. ثم عدت لأعمل وكيلا لدار الكتب المصرية بالقاهرة عام 1924 وبقيت موظفاً حتى إحالتي علي التقاعد سنة 1954. ومنذ ذلك الوقت حتى الآن (1965)، اعمل بدار الإذاعة (صوت العرب) مستشاراً، اشرف علي الفنون الأدبية.

* ومتي بدأت رحلتك مع الشعر؟

- كتبت الشعر في السنة الاولى الثانوية (15 سنة). وكانت اول قصيدة نظمتها بعنوان (يا مصر) ومطلعها: (يا مصر انت كنانة الرحمن / في أرضه من سالف الأزمان).

* وماذا كانت حصيلة الرحلة مع الحياة أدبياً؟

- أصدرت دواوين شعرية تحت عنوان (ديوان رامي) في السنوات (1918 ــ1920 ــ 1925 ــ 1932 ــ 1947ــ 1952ــ 1964ــ 1965). وأصدرت رواية شعرية اسمها (غرام الشعراء) عن ولادة ابن زيدون. ثم كتبت للسينما روايات الأفلام: (وداد ــ دنانير) للسيدة أم كلثوم. وقمت بتعريب رباعيات الخيام بعد عودتي من باريس. كما قمت بترجمة خمس عشرة رواية ومسرحية لكتاب أوروبيين منها أربع مسرحيات لشكسبير. واشتركت في تأليف أغان وحوارات لخمسة وثلاثين فيلماً، أهمها من وجهة نظري (الأمل ــ عابدة ــ فاطمة) للسيدة أم كلثوم و(الوردة البيضاء ــ دموع الحب ــ يحيا الحب ــ رصاصة في القلب) لمحمد عبد الوهاب. وقمت بتأليف مائتي أغنية منها (150 أغنية لام كلثوم) والباقي اشترك فيها عبد الوهاب وأسمهان وليلي مراد، تلك هي حصيلة الرحلة.

* والآن (1965).. ماذا تعد أدبياً؟

- اعمل علي إعداد مسرحية روميو وجوليت للمسرح العالمي بالقاهرة.

* لمن قرأت في مطلع حياتك من الشعراء وبمَن تأثرت في تجربتك الشعرية؟ ما مصادرك الثقافية؟

- قرأت الكتب الجامعة للمختارات الشعرية لشعراء كثيرين. ثم انقطعت لقراءة احمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران من المعاصرين. كذلك قرأت من القدامى: الشريف الرضي ــ أبا نواس ــ المتنبي ــ أبا تمام.

* أنت أقرب الى الشريف الرضي.. هل هو المؤثر الأقوى؟

- لا أظن ان هناك أثراً خاصاً من احد لأنني اعتدت منذ بدايات اشتغالي بالشعر، ان اقرأ كثيراً واحفظ قليلاً، فأصبحت شخصيتي الشعرية مستقلة في نتاجاتي. أما التأثير الأهم فهو قادم من تجارب الحياة. فقد قضيت طفولتي في إحدي جزر الأرخبيل اليوناني بصحبة والدي الطبيب الذي أوفدته الحكومة المصرية ليكون طبيباً خاصاً في جزيرة (طاش يوز) وكانت هذه الجزيرة من أملاك مصر في ذلك العهد.

* يقول النقاد انك في ترجمتك لرباعيات الخيام، حذفت الكثير منها، وحاولت ان تظهر الخيام بصورة المؤمن التقي الصوفي. ويقولون انك اختصرت رباعيات الخيام الى (175 رباعية) مع ان المراجع تقول أنها تتجاوز الـ(450 رباعية) وقد تصل عند البعض الى (800 رباعية). ما تعليقك؟

- كانت ترجمتي لرباعيات الخيام بعد دراسة لها، فقد رجعت الى كل المخطوطات المنسوبة للخيام لاختيار الصادق والصالح منها. وكان اعتمادي الأساسي علي مجموعة صغيرة نشرت عن حياة الخيام، وعلي ضوء هذه المجموعة الصغيرة، اخترت 175 رباعية من حوالي ألف رباعية نسبت الى الخيام أو دست عليه ولا يمكن القطع بصحة نسبتها للخيام، لان أقدم مخطوط له كان منسوخاً بعد 350 سنة من موته، ولذلك احتار الدارسون في معرفة الرباعيات الصحيحة.

* بدأت تكتب شعرك فصيحاً ثم تحولت الى الشعر اللهجي.. لماذا؟

- نشرت ثلاثة دواوين وترجمت رباعيات الخيام عن الفارسية ولم أكن قد نظمت بيتاً واحداً من الزجل، وإنما دفعني الى النظم باللغة الدارجة رغبتي في النهضة بالأغاني الشائعة علي يد سيدة الغناء أم كلثوم، علي أني أراوح في نظم هذه ألاغاني بين عربية فصيحة ودارجة، ولي قصائد بالفصحى أطبعها في دواويني من وقت لآخر واشترك بها في المهرجانات وإنما كثرة الإنتاج العلمي ناتجة عن انه يأتي عفو الخاطر.

* ان للموسيقي قدراً كبيراً عندك فالموسيقي هي قصائدك..

- الأصل في الشعر ان يكون موسيقياً لأبعد الحدود فإذا كان هذا الشعر منظوماً لقصد الغناء كان ادعي الى تلمس الموسيقية في ألفاظه وأبحره وقوافيه وان حبي للموسيقي يدفعني دائماً الى وضع الأغاني التي يرتاح لها قلب الملحن والمغني وأذن السامع.

* الشعر العاطفي له النصيب الأوفر من شعرك؟

- الشعر عاطفة في كل نواحيه لان الدافع إليه هو العاطفة وقد اشتهرت بين الأدباء بأنني انقطعت لكتابة الغزليات وهذا غير صحيح لأني انظم وأذيع في شتي الإغراض الشعرية وقد يكون مبعث تلك الشهرة ما يذيعه المغنون والراديو والتلفزيون والسينما وكل هذا أوسع من الشعر المطبوع في كتاب يضم شتي الإغراض.

* ما هو الطقس الذي تكتب فيه أشعارك؟

- انظم شعري في كل زمان ومكان ويساعدني علي ذلك اني لا اكتب ما انظم وإنما أتغنى به خالياً وفي وسط الناس حتى إذا تم سجلته علي الورق معتمدا في كل ذلك علي الخاطر والدافع الى النظم وهذا وحي لا يمكن تحديد الوقت الذي يهبط عليّ فيه. علي ان أحب الأوقات إليّ هو وقت الغسق حين يختلط النور بالظلام وأثناء الليل تحت نور منعكس.

* هل يمكن أن يصل الأدب العربي لمستوي العالمية؟

- يصبح الأدب العربي عالمياً إذا توفر غير العرب علي دراسة لغتنا الى الدرجة التي يستطيعون فيها ان يقرأوا أدبنا بلغته الأصلية إما ان يترجم الشعر الى لغات اخرى ويستطيع ان يحافظ علي ما فيه من إبداع في النظم والخيال والإجادة في الأسلوب، فهذا أمر عسير علي أدبنا في الشعر إما ترجمة الروايات والقصص التمثيلية والأبحاث فهي الآن في طريقها الى القارئ الغربي.

* هل يمكن للأديب العربي ان يعيش من أدبه؟

- الأدب هواية قبل ان يكون وسيلة ارتزاق، وعلي الأديب ان يبدع فينبه الناس إليه ويقبل الناشرون علي إذاعة ما يكتب وعندها يكسب رزقه من الأدب ويقبل الناشرون علي إذاعة ما يكتب إما إذا كتب الأديب للرزق كغاية فانه يحار بعد ذلك بين الفن والمال وهذه الحيرة تؤذيه في ما ينتج.

6/19/2005