تكاثرت الجثث لا بدّ من قيامة

أموري الرماحي
(العراق)

عقيل علييقول الأديب ناظم السعود: إن الذي يغامر بإجراء حوار مع الشاعر عقيل علي كأنه وقع مختارا في حقل ألغام، لا يعلم متى ينفجر تحت أقدامه، أم في قلبه، أم في ضميره، ولعل شاعرا مثل عقيل علي هو ابرز مثال للشاعر/الظاهرة، الذي يجلب الصواعق والصخب والاتهامات متى حل، أو في سيرته، أو حتى في حركته اليومية أو أحاديثه التي تمتلئ بالسخط والجهر والاختلاف! لذلك قررت أن أجازف وأن أحاور هذا الشاعر العراقي!! وقد التقيته لثلاث مرات، الأولى في المكتب والثانية داخل المخبز والثالثة في فندق ميرديان أثناء انعقاد مهرجان المربد الشعري الثامن عشر في بغداد. وعقيل علي منذ بروزه إلى سطح الشعرية العراقية في أوائل العقد السبعيني من القرن المنصرم، كما يقول السعود نفسه، وهو محط خلاف ظاهر، وانقسام بالغ بين من معه ومن ضده. فهو في الخارج نجم من نجوم القصيدة الجديدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، فدواوينه تطبع وتنشر وتستنسخ في كبريات دور النشر العربية والمغتربة، وتفرد له الدوريات الأدبية البارزة مساحات واسعة لشعره ودواوينه. أما في الداخل فهو محط تساؤلات لا تنتهي حول مرجعية شعره وغرابة شخصيته ومفارقات سلوكه، وسوى ذلك مما حوليات طمست الجزء الأهم منه، وهو منجزه الشعري الذي لم يُقرأ بإنصاف وجدية في العراق حتى هذه اللحظة، وهذا أمر يحتاج إلى شروحات وتفسيرات قد يعطيها علماء الاجتماع وأطباء التحليل النفسي قبل أن يفعل ذلك مؤرخو ونقاد الأدب وكل الذي فعلته: هو أنني أوصلت بعضا من المسكوت عنه الذي يتردد حول هذا الشاعر وشعره وما يثار ضده بمناسبة وبدونها، كما سلطت الضوء على جوانب خفية من حوارياته وأقواله التي لا يكاد يعرفها الآخرون إلا من جالسه مجالسة خاصة!!

* في رأيك ما هو دور الشاعر في مرحلة عصيبة كهذه؟

بناء الأمل.. الأمل الذي يطمح إليه كل البسطاء والمساكين.

* ألهذا أردت أن تكون شاعرا؟

لم أكن أنا شاعرا، بل اكتب أفكارا ورؤى فقط!

* إذاً، هل يمكن للشعر أن يعيد التوازن لعالمنا المضطرب؟

ليس الشعر، وإنما كل الفنون لا تستطيع ذلك لشدة غباء هذا العالم.

* كيف انطلقت تجربتك مع الشعر؟

كتبت أولى قصائدي وكنت جريح حرب أوائل السبعينيات، وقد زارني كثير من الأصدقاء في شمال العراق حيث كنت جنديا. كان همي أن أملأ الورقة البيضاء النظيفة، ومع شدة رغبة الأصدقاء في أن أريهم شعري، شعرت بالضجر من الشعر ولا زلت ضجرا منه، بل عندي قطيعة مع الشعر، وأفضل عليه هموم السينما والرسم لأنني أرى أن عمر شعري قصير! وقد أحرقت الكثير من شعري ودفعت الباقي إلى أحد الشعراء المسافرين إلى باريس وقلت له: خلصني من هذا الشعر، وقد أصدر هذا الصديق مجموعتي الأولى عن إحدى دور النشر الباريسية، وكانت البداية لمجموعة أخرى تصدر عن دار أخرى في الخارج وتوزع وتطبع مرات ومرات!

* تقول انك تفضل السينما والرسم، فهل أنجزت شيئا فيهما؟

لدي سيناريو كامل عن الشهيد، ولكن من يعينني على إنتاجه وإخراجه وعرضه على الجمهور.

* يقال انك عملت خبازا، فكيف تحولت من الخبز إلى الشعر؟

هذا ما يشهد به الكثيرون، ولدي قصيدة بعنوان (الخباز) نشرتها في جريدة (الجمهورية) البغدادية، وفي جريدة (القدس العربي)

خباز

* هذا يعني انك اشتغلت خبازا وكتبت شعرا؟!

نعم حتى احترقت عيناي من نار التنانير(1)، فأنا من الناس الحرفيين! ولدت مع هذه الحرفة ولم أولد وفي فمي ملعقة الشعر الذهبية!

* ولكن من أين يأتي الشعر؟

أولا، الموهبة تأتي من الله، والشعر يأتيني هكذا. وأنا خريج الدراسة الابتدائية فقط، وهناك الكثير مثلي من الشعراء العراقيين أمثال الراحل قيس لفتة مراد وغيره، لأنني كنت كادحا وأعيل عائلة مكونة من أب مريض وأخوة ثلاثة استشهدوا جميعا في الحرب، وحتى أنا جريح حرب، ولدي قرار طبي ولا زالت شظايا الحرب في رأسي، ولا أحلق شعري لكي لا تظهر الشظايا، وهناك علامات أخرى في وجهي تنطق بآثار الحرب!!

* ولكن ماذا عن الكلام الذي يقال أن شعر عقيل علي ليس له؟!

لهم الحق في أن يثبتوا ذلك، وأتحدى الجميع أن يثبتوا: طيب إذا كان هذا الشعر ليس لي، فإني أتساءل هنا عن جديد عقيل علي الذي ينشر هنا وفي الخارج، لمن إذن؟ وأتذكر حادثة لوركا الذي كان يغار منه شاعر آخر لكنه لم يعبأ بأحد. أنا سمعت هذا الافتراء حولي، وحول شعري كثيرا، ولا أريد الرد عليه، ولكن، أتمنى أن ألاقي من يثبت لي أن هذا ليس شعر عقيل علي، وأقول: أن القادم اخطر.. فسيظهر ما هو اخطر لي في المستقبل، وفي القريب العاجل!

* ما رأيك بمجموعة الشعراء الصعاليك وأنت منهم، كما يقال؟

أنا شخصيا لم أكن صعلوكا، أما البقية التي تعنيهم فهم مجموعة سكارى ولصوص وشحاذون!

* هل قلت انك تهرب من الشعر؟

نعم، لأن عمر الشعر قصير!

* وهل أن الشاعر أطول منه؟

الشعر أكثر بقاء من الشاعر، وأقول لك شيئا لا يعرفه الجميع عن كتابتي للشعر، فهناك رجل مثل الملاك يأتي إلى رأسي وينهضني من النوم يأمرني أمرا: اكتب. وكل قصائدي جاءت هكذا، فلم أكتب قصيدة في النهار مطلقا، بل كلها جاءت في الليل، وعند الأذان حيث يأتي الملاك ويأمرني بالكتابة!!

* وإذا لم يأت الملاك، ألا تكتب؟

نعم.. إذا لم يأت لا أكتب!!

* ما الصلة التي تربطك بهذا الملاك؟

أرى أن الصلة التي بيني وبينه انه مليء بالبياض!

* ولماذا لا تشارك في مسابقات الإبداع لدار الشؤون الثقافية، مثلا؟

لأن ما اكتبه هو جراح لا تخاط!!

* إذن لا تهمك المنافسة مع بقية الشعراء؟

أبدا، هناك أسماء شعرية أمر عليها ولا أغض النظر عنها، وهناك أسماء عابرة، أنا أريد أن أتعلم حتى لو مت، أبقى أتعلم!! تعنيني الإنسانية أكثر من الانطولوجيات. لو تعطيني يدك أهم عندي من القصيدة.

* لماذا تعيش في الفنادق وليس في بيت عائلي كبقية خلق الله؟

انفصلت عن عائلتي لأننا، أنا وزوجتي، وصلنا إلى طريق مسدود لا يمكن اجتيازه، ولدي أربعة أطفال.

لم أتأثر بأحد

* ولماذا لم تجرب الزواج ثانية؟

لم أعد أثق بأية امرأة!

* ماذا تقول لمن يرى أنكم (جيل السبعينيات) تتلمذتم على أيدي الستينيين؟

أنا بعيد عن هذه الحالة، اقرأ فقط بعض المصادر

*هل تأثرت بهم؟

لم أتأثر بشعراء الستينيات مطلقا.

* وهل تأثرت بشاعر عربي؟

لم أتأثر بأحد، وليثبتوا عكس ذلك!

* صرحت مرارا أن بعض الأدباء الشباب قد سرق منك مجاميع شعرية؟

لدي إثباتات على بعض سرقاتهم.. سرقوها وكرهوني، فتحولوا من أصدقاء إلى أعداء!

* هل تحب قصيدة النثر؟

لم أكتب قصيدة نثر في حياتي ولم يكتبها غيري.

* وما رأيك بشعراء العمود الجدد؟

نحن يا صديقي في زمن الانترنت والأقمار الصناعية وكفى!

* وما رأيك بالشعراء الشباب؟

قرأت للكثيرين منهم ولم أجد شعرا.

* أريد رأيك الصريح بالشاعر عبد الرزاق عبد الواحد؟

لا أقرأ له، ولا أسمعه، ولا أطيقه!!

* وراضي مهدي السعيد؟

يا للكارثة.

* والمتنبي؟

لدى المتنبي قصائد قمة، ولديه هراء أيضا!

* ومحمد راضي جعفر؟

لا أعرفه!!

* حسب علمي انك تلقيت أكثر من دعوة للسفر فكيف تنظر لهذا الأمر؟

هنا ناري، أما الآخرون فكلهم (يتحممون) من تنورنا، أنا لن أغادر العراق!

* وهل تؤمن بالغد، أو تراهن عليه؟

كلا، عش لحظتك!

* هل تكره الشعر العمودي؟

قد لا يصدق احد إنني بدأت كتابة القصيدة العمودية، ونشرت قصيدة واحدة في مجلة (الطليعة الأدبية)!!

* أنت تصنف ضمن الجيل السبعيني في الشعر، فهل أنت موافق على هذه التسميات؟

لا أوافق على هذه التسميات لأنها كذبة، أجيال الأدب في العراق كذبة!

* دواوينك تُطبع خارج العراق، فلماذا؟

الأصدقاء يطبعون كتبي، ولم أعرف، أو احصل منهم على شيء، فقد قيل لي أن مجموعتي الأولى (جنائن آدم) صدرت بأربع عشرة طبعة في المغرب، ثم صدرت مجموعتي الثانية (طائر آخر يتوارى) عن دار الشتات في باريس، ودار نيقوسيا في قبرص، ودار الجمل في ألمانيا، ولا أجد هنا من يعتني بي أو بشعري، فأنتقل من خربة إلى خربة، وقد علمت أن مجموعتي الثالثة (كلام الغياب) صدرت عن دار قرطبة في لندن ولم تصلني نسخة واحدة لحد الآن.

* وهنا ألم يطلب منك احد أن ينشر مجاميعك؟

طلب مني الشاعر خالد علي مصطفى مجموعة في المربد الماضي فرفضت لأنه قال لي: من أين أنت، من (...)؟ فقلت له: أنا عراقي ولدي ثلاثة شهداء، وأنا جريح حرب، حتى في دعوة المربد قال لي: إنها موجودة لكي اقرأ فقط، ولكن (بدون إقامة في الفندق أو أية مصاريف أخرى)، فقلت له لن اشترك في مربدك أيها (...)، وتركته غاضبا!

* ما هو رأيك بمهرجان المربد في دوراته الأخيرة؟

الآن هو أفشل مهرجان، وقد قاطعته قبل ثلاث سنوات حين فرض الشاعر جواد الحطاب على صحافي أن يضع اسمي بين المدعوين كوني من المحافظات، ولم اشترك أيضا بسبب حادثة تعرضت لها لا أستطيع ذكرها لك الآن!.

تكاثرت الجثث

* وما هي علاقتك باتحاد الأدباء؟

أمر مرورا عابرا به، ولم اشترك بالانتخابات، ولم أجدد هويتي لحد الآن، ولم ادفع رسوم تجديد الهوية لحد الآن أيضا!

* لماذا هذا الموقف من الاتحاد؟

من أثق به، يجب أن يضمن كرامتي!

* وهل الاتحاد لا يضمن كرامة الأدباء؟

لا أظن!

* وهل يطبع الكتب؟

وعود فقط!

* وهل وفر لك رحلة إلى الخارج لقراءة شعرك؟

أبدا!! يكفيني شرفا أن الذين في الخارج يعرفون اسم عقيل علي، ولكن قاتل الله الضغينة والحسد، وهنا أقول أن خمس دعوات جاءتني للسفر ورُفضت جميعا!

* هل تستطيع الآن أن تطبع مجموعة شعرية على نفقتك الخاصة؟

ليست لدي إمكانية مادية!

* وهل قدمت مجموعة شعرية لدار الشؤون الثقافية؟

طلب مني الشاعر خالد علي مصطفى مجموعة لدار الشؤون الثقافية لغرض طبعها ورفضت.

* ولماذا؟

لأني لا اقتنع بوعوده، مع أن لدي أطنانا من الكتابات الشعرية في غرفتي في الفندق البائس.

* هل تقدم نفسك في الشارع على أنك شاعر؟!

لم أقدم نفسي لأحد إلا بكوني (خبازا) أو (حمالا)

* وأخيرا: ماذا تقول؟

لقد تكاثرت الجثث، فلا بد من قيامة!

(بغداد قبل الحرب)
المصدر جريدة السفير- لبنان