ترجمة: باسل أبوحمده

جرى هذا الحوار على سطح شقة بيدرو خوان جوتييريز الواقعة مقابل شاطئ (الملكون) الهافاني. وجو تييريز حائز على الجائزة الوطنية للصحافة, كتب طوال سنوات كثيرة في مجلة (بوهيميا) وكان مقدم برامج فنية في الإذاعة والتلفزيون. وبعد الانتصارات التي حققتها إصداراته وتحديداً (الثلاثية القذرة لهافانا) (دار نشر اناجراما 1998) و(ملك هافانا) (دار نشر اناجراما, 1998) أصبح جوتييريز ينظر إليه على انه قريب إحدى الثورات الأكثر صدامية في الأدب الكوبي الحديث. اذ ان نصوصه تمثل رؤية غير منشورة للحياة اليومية في هافانا المعاصرة, المغايرة جدا لما تقدمه لنا الكتيبات السياحية والدعاية الحكومية. فشخصيات بيدرو خوان جو تييريز تعيش دائما على حافة الموت الذي تكافح للنجاة منه, متخبطة بين التسول والسكر والتشرد.
وجميع شخصيات هذه النصوص تمر بأحداث وأشخاص واقعيين وهي مكتوبة في إطار أفضل تقاليد ما يسمى بــ (الواقعية القذرة) بدون زخرفات ولا زينات. وهذان النصان (الثلاثية القذرة لهافانا) و(ملك هافانا) تمت ترجمتهما الى عدة لغات, وفي يناير 2001 نشرت (الثلاثية القذرة لهافانا) في الولايات المتحدة وبريطانيا.
وحول عالمه الإبداعي تواصلت محطات هذا الحوار الممتد معه:

* هل لك أن تحدثنا قليلاً عن سنوات تشكلك وعن الكتاب الذين اثروا بك؟

ـ إذا أردت فأنا أقص عليك, بطريقة موجزة جداً, شيئا عن تطوري الخاص وكيفية ولوجي الى عالم الأدب. لقد عشت في مدينة ماتانزاس, حيث كانت توجد مكتبة تعود ملكيتها لأحد الوطنيين في سنوات الثلاثينيات, أيام ما يسمى في كوبا بـ (ثورة الثلاثين).
لكن عائلته لأمه كانت شمال ـ أمريكية وثرية. إذن, مع بدايات سنوات الخمسينيات, قاموا بعمل مكتبة شبابية جميلة جداً في مدينة ماتانزاس. كانت جميلة جداً بمعنى إنها كانت مبنى مكيفا بهواء بارد, ومعطر برائحة زكية جدا, وكانت الكتب رائعة. عندما أصبح عمري سبعة أو ثمانية أعوام ـ أنا مازلت أحدثك عن فترة باتيستا ـ اكتشفت تلك المكتبة, التي كانت بالنسبة لي كالخلاص لأني كنت أعيش في بيت حيث لا أحد يقرأ وحيث لم تكن هناك كتب ولا توجد صحف ولا مجلات, لم يكن هناك شيء. كانت حياة تافهة. إذن, أنا حشرت نفسي هناك وكان ذلك لطيفاً جداً حيث الكثير من الصمت وذلك الهواء المكيف العذب للغاية, ورائحة النظافة تلك, وتلك الكتب الرائعة من كل صنف.
وشعرت براحة كبرى هناك, اذ أني قضيت ساعات وساعات. بعدها بدأت بجمع طوابع في ناد خاص بهواة جمع الطوابع وكان هذا النادي في المكتبة ذاتها. كما اني حققت الكثير من وجهة نظر ثقافية في الــ (هملس) في ماتانزاس.
وبشكل مواز لذلك في محافظة (بينار ديل ريو), في قرية صغيرة اسمها (سان لويس) حيث كانت لي خالة وكانت تملك وكالة صحفية مع مجلات وجرائد وتستلم بالأطنان صحيفة (كوميكس) باللغة الإسبانية من المكسيك, وعندما أقول لك بالأطنان فأنا اعني ذلك, فلقد كان إنتاج (كوميكس) لا يصدق في الخمسينيات. إذن, أنا قرأتها جميعها وبدأت بالمتاجرة, وكنت اشتريها بخمسة سنتافو (قروش) وأبيعها بسبعة. كسبت سنتافوين في كل مجلة (كوميكس). وأحياناً يقول لي احد الجيران: (انظر, بيدرو خوان, أهديك كل هذا, اذهب وبعه). وكانوا يهدونني 300 أو 400 (كوميكس) فأذهب وأبيعها. وكانت أول تجارة لي وكسبت مالاً كثيراً. بعدها بعت المثلجات في حظيرة مناقرة الديوك وفي ميناء ماتانزاس كذلك حيث الجو قاس جدا. كذلك عملت في الريف لسنوات طوال في قطع عيدان قصب السكر.
أي اني سعيت دائما وراء المال هنا وهناك. أليس كذلك؟ لذلك أعتقد ان ميولي الكبرى هي الرسم والأدب وصحيفة (كوميكس) هي خليط بين الاثنين, مرئية وأدبية. أظن انه المسألة ربما تبدأ قليلا من هناك. وأخذت تتقدم وتتطور.
وعندما أصبح عمري ثمانية عشر عاماً, اتخذت قراراً حاسماً جدا وجذريا جدا, وقلت لنفسي:(حسناً, بالنسبة لي, الشيء الوحيد الذي يروق لي بشكل نهائي في الحياة هي الكتابة, ان أكون كاتباً. في الواقع انه الشيء الوحيد الذي يهمني, ان أكون كاتباً قوياً جداً). فلقد كنت قد اكتشفت, على سبيل المثال, ترومان كابوت, وبالتحديد في مكتبة الــ (هامس) وفي مكتبة هائلة أخرى بالجوار, كانت واحدة من أفضل مكتبات كوبا وهي في (ماتانزاس). ماعدا المكتبة الوطنية, فان أفضل مكتبتين هما في (ماتانزاس) وفي (كمجويه) (محافظة في كوبا).
وكان لي حظ العيش هناك على بعد حارتين من المكتبة وكانوا يعرفونني هناك وشاهدت كل شيء, كل أصناف الكتب. كان ذلك شيئا فاتناً, وأنا اكتشف على سبيل المثال (إفطار في تيفاني) لترومان, التي كانت قد نشرت للتو باللغة الأسبانية, وعندما أقرأ (إفطار في تيفاني) أقول: (يا للروعة, هذا يعجبني!). وقرأت كثيرا لتشارلز دكينز ولمارك توين لكن ذلك كان شيئا مختلفا. أليس كذلك؟ وبدأت بكتابة الأشعار وعمري ثلاثة عشر عاماً أو أربعة عشر, لكني فكرت انه من اجل ان أكون كاتباً, الوحيد الذي ما استطعت تعلمه كان الأدب حيث كان بإمكاني دراسة أي شيء. أعجبتني كثيراً دراسة الهندسة المعمارية). سوف ادرس هندسة معمارية, قلت لنفسي (لكن الأدب لا لأنه يبدو لي اني لو عرفت أدبا كثيرا, فان المعرفة يمكنها سحق إبداعي). لكن ذلك لا, لم يهمني دراسة الأدب.
وقلت لنفسي: (سوف أحيا وأحظى بالكثير من النساء واعرف جميع أنواع الناس). وفعلاً, فلقد كانت لديّ دوما نساء كثيرات. أحيانا كانت لديّ سبع نساء أو ثماني في الوقت ذاته. وفي الوقت نفسه عملت في أشياء كثيرة جدا بسبب الضرورات, وقرأت كثيرا على طريقتي.
وكانت لأبي تجارة, وتدخلت الثورة بها, وبقينا نحن فقراء جدا دفعة واحدة. هبطنا من طبقة جيدة, بانقلاب, ووضعنا في وضع سيء. واضطررت للعمل دائماً وكثيرا وفي أي شيء بسبب الحاجة. لكن, بالتزامن مع ذلك, درست والتحقت بدورة تقنية وعملت في البناء, فعلت أشياء كثيرة. والتحقت بالجيش زمناً طويلاً. وبعمر 22 عاماً عرضوا عليّ العمل في الإذاعة كمحرر. أقل ما فكرت به هو أن أصبح محررا.
اتصلوا بي وقالوا لي: (لديك عمل تحريري, مع أفضل مرتب وتعمل ست ساعات باليوم فحسب, ويمكن ان يكون ذلك برنامجك الخاص. يمكن ان يكون لك برنامج من الليل الى الفجر ونحن نسهّل لك جميع الدراسات في الجامعة).
وهكذا أصبحت مجازاً في الصحافة من جامعة هافانا وأنا أعمل. أعطوني يوما واحدا مدفوعا في الأسبوع. أمضيت ست سنوات في الكلية, وأنا أدرس وأعمل في الوقت نفسه. فكل شيء في حياتي كلفني عملاً كثيرا دائماً. ولم أملك شيئاً بسهولة. ربما لأني اطرح أهدافا قوية. لكن في الوقت نفسه كتبت كثيرا, الى جانب كل هذا التاريخ الذي أقصه عليك. النتيجة هي اني كتبت الشعر مذ كان عمري 13 أو 14 عاماً.
وعندما بدأت أعمل بالصحافة, باشرت بالكتابة بطريقة مختلفة. بالنسبة لتشكلي لم يقتصر الأمر على القراءة كثيرا منذ نعومة أظافري وحسب, وإنما مرد هذا الى ذلك التناغم بين الشعر والصحافة. لأن الشعر يعلمك العمل كلمة بكلمة مع كثير من الحذر حيث يمكنك ان تبقى أياماً وأنت تكتب مقطوعة شعرية هجائية من أربعة اسطر فقط وتعود للنظر إليها وتشطب وتبدأ باكتساب نوع من الانضباط, وأنا كنت لأقول انه حب للكلمة. وحتى أني اكتب باليد. لا يهم إذا لم يكن هناك حاسوب. أنا اكتب بخط يدي, اكتب بالحبر الأسود, ان ذلك مثل طقس تقريباً. أليس كذلك؟ أنا ارسم الكلمات تقريباً, كلمة بكلمة. إما الصحافة فتعطيك معنى براجماتيا جدا للعمل.
فأنت تعرف ان عليك القيام ببحث ما ويجب ان يكون كل شيء لديك ميسراً وعندما تبدأ الكتابة, فذلك اخر ما تقوم به, لان لديك كل شيء مصمماً بالكامل. وهكذا أنا اصمم قصصي. وعندما تكون عندي قصة مع عناصرها كاملة, أقول: (هذا لا بأس به وهكذا سوف تكون القصة. بعدها ابدأ بالتصحيح لان الحرفية تكون قد بدأت إذن وذلك بعد كتابة أولى وبصحبة ملاك, إذا أنت أردت, طبعاً. ذلك انك تصمم أحيانا وبعدها تغير كل شيء وأنت تكتب وذلك هو الملاك الذي يغير لك كل شيء. اكتسبت ذلك من الصحافة ومع الشعر. فالصحافة كانت فائقة الأهمية. عملت بالصحافة كثيرا, في وكالات أنباء وفي الإذاعة والتلفزيون وأخيراً في مجلة.

* ما يثير الفضول, ان أحد الكتاب الذين أشرت إليهم هو ترومان كابوت, ولقد كان واحداً من مؤسسي ما يسمى بالصحافة الحديثة التي تجمع بين ما هو أدبي مع الخطاب الخاص بالخبر الصحافي, أليس كذلك؟

ـ حسناً, بعد ان أخبرتك كل ذلك, سأحدثك الآن قليلا عن التأثيرات. فبالنسبة لي كان مهما أمر اكتشاف الصحافة الجديدة هذه وعلى وجه الدقة حصل ذلك عندما كنت في المكسيك عام 1990. وأنا اكتشفت ذلك في مجموعة مختارات لتوم وولف, وهي بعنوان (الصحافة الجديدة) وكنت قد قرأتها وأنا أتمشى على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك وشغفت بها لأنها خليط أدبي, فيها قليل من الخيال وآخر من الصحافة. ولقد أثرت فيّ كثيرا الى حد اني عندما عدت الى كوبا كتبت ثماني مقالات حول الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة. والحدود كما تعرف قوية جدا وهذا لا يعود لا للولايات المتحدة ولا للمكسيك, انه شيء اخر. لكن المقالات كانت قوية لدرجة أرعبت مديرة مجلة (بوهيميا) ونشرت لي أربعا منها لا أكثر.
قالت لي حينها ان السفارة المكسيكية ستقدم شكوى وأننا كنا نغوص بمشاكل حكومية. لكني كتبت مجموعة من المقالات القوية الى حد أنها أكسبتني جائزة الصحافة الوطنية عام 1991. ولقد سميتها مقالات المكسيك التي جاءت نتيجة تأثير مجموعة مختارات توم وولف هذه الى جانب المادة التي جلبتها معي والتي كانت قوية جداً, قوية بشكل واقعي ـ أطفال الشوارع في المكسيك وكل ذلك. وبالنسبة للكتاب الكوبيين فلم أتأثر بأي منهم عملياً. وكان يلفت انتباهي دائماً دانييل ديفوي أو تشارلز ديكنز ومارك توين وذلك في المرحلة الأولى.
وبعدها, في المرحلة الثانية, يدخل تورمان ميللر, يدخل ترومان كابوت وحراسي بيلي وسالينجر, طبعاً. بالنسبة لي فان فن الرواية الشمال ـ أمريكي في القرن العشرين كان مقرراً بشكل حاسم. وهناك كاتبان يخضعاني: واحد هو خوليو كورتازار والآخر هو فرانز كافكا. كافكا وكورتازار اخضعاني لسبب اخر.
فمن وجهة نظري فان هذان الكاتبان يفهمان الأدب كعالم مغلق بلا مخرج. وسواء كافكا أو كورتازار فكلاهما يصنعان أدبا في سبيل الأدب, في سبيل الأدب, في سبيل الأدب. وهما قادران على أخذ أي موضوع, كوب الماء ذاك على سبيل المثال, ويشرعان بإنشاء عالم متكامل انطلاقاً من أي شيء, من هذه الساعة, من السلم. هل تدرك ما أقصده؟ انهما يسحراني بسبب ذلك, بسبب تلك السهولة الرائعة جدا في اللعب مع القارئ وفي شق الطرق المتقنة له ونصب الشراك جاعلين كل شيء متشابكاً ومعقداً.
هذا ما يفعلانه, كافكا وكورتازار, وهما ساحران. الآخر هو ارنست هيمنجواى. بالنسبة لي, يمتلك هيمنجواى أشياء فاتنة. وتبدو لي قصته (العجوز والبحر) العمل الأكثر صدقا من بين كل ما كتب. إما على المستوى التقني فان هؤلاء الكتاب الشمال ــ أمريكيين متألقون دوما وبشكل نهائي.


* الآن بالانتقال الى نصوصك, يعجبني ان أسألك, الى أي نقطة ينبغي اعتبار (الثلاثية القذرة لهافانا) كتاب سيرة ذاتية؟

ـ بعد نشر (الثلاثية القذرة لهافانا) لأول مرة في شهر أكتوبر 1998, ندمت تقريباً. وعندما شاهدتها مطبوعة في مكتب وكيلي الأدبي في مدريد, تأثرت الى أبعد الحدود لأنها كانت قطعة من حياتي. وذهبت حيث كنت انزل وبدأت بمراجعتها وأدركت ان نسبة تقدر بخوالي الــ 85 وربما الــ 90 بالمئة مما هو مكتوب في الثلاثية هو سيرة ذاتية بشكل كامل. وأظن أحياناً اني تعريت زيادة عن اللازم إمام الجمهور.
ولقد كتبتها بين عامي 1994 و1997, في لحظة كنت اخرج فيها من طلاق مرضي, اجبرني على الانفصال عن ولديّ الاثنين, الى جانب حالة البلاد وكل المشروع السياسي الذي يمر بأزمة. وهو مشروع سياسي نشأت فيه ودافعت عنه, ودخل في أزمة وبدأ يتحول الى ماء وملح. وحياتي كانت مصاغة على شكل كارثة اقتصادياً وأخلاقياً. وكنت قد فقدت والدي وامرأة صديقي انتحرت. وذهبت الى أسبانيا, باحثاً عن حياة أفضل, ولو قليلاً, لكني لم استطع. كان عليّ العودة الى هافانا بعد شهرين فقط. وفي النهاية, جاء كل شيء مجتمعاً في ثلاث أو أربع سنوات: تقع البلاد في أزمة رهيبة جدا, ويبدأ المتسولون بالظهور في الشوارع, أطفال يطلبون حسنة من الصياح في الشوارع.
أي ان ألازمة كانت عنيفة جدا. لكن البلاد استعادت عافيتها الى حد ما. ليس كثيرا ولكن قليلا من استعادة العافية. غير انه بين عامي 1991 و1997 كانت أعواماً مذهلة. فلقد ثبطت همة المرء. إذن عندما بدأت بكتابة الثلاثية, قمت بذلك مع حقد كبير, مع كثير من الاندفاع بداخلي. فهي قصص قاسية وهائجة جداً. لقد كتبت هذه الثلاثية كعلاج لي. اذ كان عليّ انتزاع كل تلك الشياطين التي كانت بداخلي, ذلك اني ما عدت احتمل المزيد.
ولم يكن هناك فرق عندي, سواء نجحت أم فشلت, أو إذا كانت لطيفة أم جلبت الحقد عليّ أو إذا كانت ستدخلني السجن, فكل شيء كان متساويا عندي. ولم يكن يهمني أية وجهة نظر لأي احد. أنا كتبت الثلاثية بتلك الطريقة, لم يهمني إعجاب احد بها. ولو إنهم طردوني من اتحاد الكتاب لما شعرت بالفرق.

* لكن الفكرة كانت دوما, نشرها انطلاقا من أنها كتبت كيوميات, نصاً حيث تكشف الأكثر حميمية فيك؟

ــ نعم تمثلت الفكرة دائما بنشرها. وخذ بالاعتبار ايضا ان لدي ميولا صحفية أصلا. فأنا لا أستطيع مقاومة شيء ولا انشره. وان تكتب شيئا وبعدها تقول: (هذا لا ينفع) وترميه جانباً, هذا يزعجني كثيرا. لذلك أفكر جيدا جدا بما سوف اكتبه وذلك كي أقدم أفضل ما يمكن وبالتالي نشره طبعاً. الثلاثية كتبتها خلال ثلاث سنوات. وهي تعبر عن كل الأشياء التي كانت تحدث لي وكنت أشاهدها في هذا الحي. وبعض الأشياء لم تحدث لي ولكنها حدثت للجيران, لجارتي في الجوار, ورحت اجمع كل ذلك يومياً وأقيمه وأعيد تقييمه. أحيانا كنت اعمل في قصة واحدة طوال أسبوعين أو 20 يوماً, قصة لم تشغل سوى ثلاث صفحات من الكتاب. لكن المادة الخام بدأت تبرعم دون البحث عن ذلك تقريباً. هذا يشبه تماماً, عندما تجمع محصولا ما وتستمر الفواكه تنبت وتقول: (الى متى ستستمر هذه الشجرة بالولادة)؟ ولا ترضى ويكون عليك الذهاب في كل الصباحات لجمع الثمار.
أنا عشت وحيدا وعندما تعيش وحيداً يكون ذلك حسنا جدا لأنك تملك كل الوقت والمكان كله لك. وكنت مفلساً ولم أكن املك شيئاً ولا عندي التزامات. وعملت في (بوهيميا) لكن هذه بدأت فجأة تصدر كل 15 يوماً وطلبوا مني عملا واحداً صغيراً كل شهر. وكنت أنجز ذلك في وقت يسير. وهكذا بدأت اكتب الكتب الثلاثة بواقع سنة لكل كتاب. وجميع شخصياتها حقيقية, والشيء الوحيد الذي افعله هو تغيير أسماء الناس, وفي (ملك هافانا) يحدث الأمر نفسه كذلك.

* بالحديث عن (ملك هافانا), ما الذي دفعك لكتابة ذلك النص؟ هل تقصد هدم أساطير الثورة, من تعليم وصحة وإنجازات أخرى مفترضة للثورة؟

ــ ان (ملك هافانا) رواية, وليست دراسة اجتماعية ولا انثروبولوجية, لكنها تمر في أوضاع كنت أراقبها طوال تلك السنوات. إما الشخصيتان الرئيسيتان للرواية فهما حقيقيتان تماماً: مازالت الفتاة تبيع الفول السوداني على بعد أربع حارات منا وتستطيع مشاهدتها, الآن نطل عبر النافذة ويمكن ان أقول لك: (انظر, تلك هي بطلة (ملك هافانا). وهاتان الشخصيتان اميتان, تركتا مقاعد الدراسة عندما كان عمراهما خمس أو ست سنوات, إما الام فهي منغولية. هي أشياء عملية جدا, مثلما سنشاهد ذلك بوضوح, وأنا لا أتحدث بأية طريقة عن كل الشباب الكوبي ولا أنوي القيام بتحليل اجتماعي للشباب الكوبي. إنها مجرد رواية بشخصيات جدية معينة, مثلها مثل (احدب نوتردام).
فبالرغم انه وجد أحدب عاش في باريس, إلا انه لا يعني ان كل الباريسيين كانوا حدبا. وهذا ينطبق تماماً على (ملك هافانا), فهي رواية مرت بأشخاص حقيقيين وفي أوضاع حقيقية. لكن في الوقت نفسه وفي الحديث عن التعليم والشباب الكوبي, فلقد شهدت السنوات العشر الأخيرة تدهوراً ملحوظاً على هذا الصعيد وتراجع النظام التعليمي لأسباب مادية في المقام الأول. ويجب الأخذ بعين الاعتبار انه منذ عام 1990 ــ كما شرح لي وزير التعليم العالي في مقابلة أجريتها معه للنشر في (بوهيميا) ــ دخل في الجامعات الكوبية نحو 50.000 من الطلاب الجدد وذلك كل دورة دراسية. إما في هذه اللحظات فالذين يدخلون حوالي 15000 فقط, بين 15000 و20000 أي اقل من نصف الذين دخلوا حتى عام 1990. أنا أعتقد ان ذلك مقرر. ويقولون لك: (لا تغلق أية جامعة), لكن أدخل أقل من نصف أعداد الطلاب سابقاً. وأنا أحدثك عن معطيات وزارة التعليم العالي, المنشورة هناك في (بوهيميا). وأنا لا أخترع شيئاً. وأضف الى ذلك أنه في كوبا لا تدخل كتب من الأرجنتين وأسبانيا والمكسيك كما كان يحدث في السابق.
كذلك الأمر بالنسبة للصحافة الأجنبية, ولا توجد عندنا محطات تلفزيونية من أي بقعة من العالم. واذا وضعت هوائيا هناك, فذلك ممنوع. فأي شرطي يمكنه ان يعطل لك الهوائي ويجعلك تدفع مخالفة. كذلك الانترنت, فهي محاصرة, هذا إذا افترضنا انك تملك حاسوبا. باختصار, إذا كان التعليم الجامعي بتلك الطريقة, واذا كانت الانترنت محاصرة ولا توجد صحافة أجنبية ولا كتب أجنبية والشعب الكوبي غير قادر على السفر. حسناً, عن أي تعليم نحن نتحدث إذا؟

* حققت روايتا (الثلاثية القذرة لهافانا) و(ملك هافانا) نجاحاً باهراً. فالثلاثية تطبع لخامس مرة في أسبانيا, وحسب ما فهمت ان كتبك ترجمت الى الكثير من اللغات. لكن الى أي حد يعترف بهذه النصوص في كوبا؟

ــ أستطيع القول أنها معروفة, لان بعض الأصدقاء الأسبان, حسناً أصدقاء وليس أصدقاء.. بما في ذلك أناس لا أعرفهم, يحضرون كتابين أو ثلاثة ويقومون بإهدائها الى أصدقائهم هنا في هافانا. وأنا أقدر انه في هذه اللحظات يتم تداول نحو 300 أو 400 نسخة من آخر كتابين لي, هنا في كوبا. انه أمر لا يصدق فالناس تقول لي: (نعم, لقد قرأته). وأحياناً ألتقي بشخص أسباني يقول لي: (اسمع, حضرتك يجب ان تدفع لي عمولة لأني جلبت سبع نسخ من الــ (ثلاثية) و(ملك هافانا), ذلك ان أصدقائي يطلبونها مني). ولقد ظلا أول كتابين من الثلاثية حوالي عام ونيف في (دار نشر الشرق في سانتياجو دي كوبا), لكن لم يكن هناك رد أبداً.
إذن طلبتهما منهم وأعادوهما لي بدون أي رد. وما قالوا لي أبداً لماذا لم يتم نشرهما. ويبدو لي أنه ليست هناك إمكانيات لان ينشرا ولا لتوزيعهما الآن, حتى ان دار نشر كوبية, لن أقول لك ما هي, انتهت للتو من قراءة (ملك هافانا) من وراء ظهري وبدون الاعتماد عليّ. إما الثلاثية فلا, لان الثلاثية غير لائقة بشكل مفرط, لكن هذه الدار قررت في نهاية المطاف, ومن وراء ظهري, ايضا انه لا يمكن نشرها.

* لكنك تقول في (الثلاثية) انك تكتب لــ (تنخز قليلاً, من اجل إجبار الآخرين على ان يشموا رائحة الفساد وإرهاب الجبناء وإزعاج الذين يريدون تكميم أفواهنا نحن الذين نستطيع الكلام). كيف تفترض القيام بذلك عندما لا تنشر النصوص وهي قطعاً ليست مقروءة على المستوى الجماهيري في البلاد, ربما تشير الى أناس في بلدان أخرى؟

ـ هذا يحدث في العالم قاطبة. على سبيل المثال, كيف يسمى هذا الألماني؟ وولراف, لست أدري إذا كنت قد سمعت بوولراف, الصحفي الألماني, لديه كتابان هما عندي هناك: (رأس تركي) و(الصحافي غير المرغوب فيه). وولراف رجل حوكم في ألمانيا لان ما ينشره مرير قليلاً ومترع بالنقد. وهنا يوجد كاتب أجنبي, كارلوس مونتينيجرو, الذي هاجر الى هناك. وكتب كتاباً عنيفاً حول (قصر الأمير) الذي هو عبارة عن سجن, كتابه عنوانه (رجال بلا نساء) وتم نشره أولا في المكسيك. إما هنا فكان عليه الانتظار طويلا جدا, لان الكتاب لم يرق للبرجوازية ولسادة الطباعة الذين اعتبروا العمل غير لائق للمرحلة, اني أكلمك عن سنوات الثلاثينيات. أذن تم نشره في المكسيك حيث لاقى نجاحاً منقطع النظير, وبعد سنوات طوال طبعت منه طبعة محدودة في كوبا.
وأنا اعرف هذا الكتاب لأنه أعيدت طباعته قبل حوالي أربع أو خمس سنوات. هذا يحدث بشكل متكرر وثابت وذلك لا يضايقني. انه لمن المنتظر عندما تكتب كتاباً قوياً ان يحدث هذا. ولا يوجد كوبيون منزعجون من كتبي فقط. ففي ألمانيا هناك خمس دور نشر كانت قد رفضت الثلاثية لان فيها جنسا كثيرا وهي قاسية جدا. والشيء نفسه حدث مع ثلاث دور نشر سويدية في استوكهولم بالإضافة الى دار نشر فنلندية أخرى.

* في هذين النصين (الثلاثية) و(ملك هافانا), تدور حياة الشخصيات في محيط إشباع الرغبات الأساسية للكائن البشري: (الجوع, الجنس, البقاء أي ان هذا الكائن يبقى محصوراً في وضع حيواني تقريباً, مكافحاً في سبيل النجاة, داخل غابة مدنية حيث يسود قانون الأقوى. هل تعتقد ان غالبية الناس في هذه المنطقة من العاصمة ــ وسط هافانا ــ تدرك الحياة بهذا الشكل؟

ــ إذا أنت أردت, نعم, بخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة حيث انطلقت فكرة أنج بنفسك إذا استطعت, وهذه الفكرة تجعل الناس يفعلون أشياء رهيبة مع نقص رهيب لما هو جمالي وأخلاقي. حتى ان مدرسة علم الاجتماع في جامعة هافانا لديها برنامج للبحث مشوش جدا, وأنا كنت لأسميه تغييرات في فلسفة الجمال والأخلاق عند الشباب الكوبي. وهذه الدراسة يجرونها منذ مطلع سنوات التسعينيات, إما النتائج فلم تنشر بعد على حد علمي. ولا أعرف إذا كان من يقودها يتحلى بمستوى أكاديمي أم لا, لكن ذلك يجعلك تدرك اني لا أتحدث عن شيء جديد, ذلك أنه موضوع دراسة لمدرسة علم الاجتماع في هافانا ولمركز دراسة الشباب, وهذا الأخير هو مؤسسة جدية جدا وتنتمي الى اتحاد الشباب الشيوعي. كما أنهم يدرسون هذا النوع من المواضيع في علاقة مع فلسفة الجمال اليومية لحياة الناس حيث يدخلون في نوع من التوحش في سبيل المال.

* حسنا, كي لا ننهي هذا اللقاء على إيقاع محزن. أيمكنك التحدث عن روايتك الأخيرة (حيوان استوائي), الصادرة في أسبانيا؟

ــ حسناً, انه بيدرو خوان نفسه في الثلاثية الذي يعود ليظهر وعمره خمسون عاماً ويبدأ بدخول علاقة غرامية مع فتاة في الثلاثين من عمرها, وهي بغي من وسط هافانا, وشعلة متقدة. وشيئاً فشيئاً, وبدون إدراك منه, يبدأ بعشقها. إما الرواية فتبدأ عندما كان لا يزال في بداية حبه لها, وفي غمار ذلك, مدعواً من قبل معهد للصحافة, يذهب الى السويد ويبني صرح علاقة غرامية أخرى مع فتاة سويدية مختلفة بالكامل عن هذه اللاتينية الشعلة التي تعيش في وسط هافانا. إنها سويدية باردة جدا وحسابية. ويقضي ثلاثة اشهر في استوكهولم ـ ذلك هو مركز الرواية ـ ويعود بعدها.
وأنا اعتقد أن هذا الكتاب يندرج في إطار خط قوي جدا من الواقعية القذرة في فهمها كطريقة للوصول الى حدود الأدب دائماً, الى حدود الشخصيات, وفي عدم إخفاء أي شيء له علاقة بهذه الشخصيات. هذا ما أفهمه من الواقعية القذرة. هناك من يعتقد ان الواقعية القذرة هي في الحديث عن المجتمع المادي الذي يمكن ان يكون موجوداً في وسط هافانا أو وصف مشاهد جنسية. لكن بالنسبة لي, الكتابة بهذه الطريقة هي الوصول الى حدود كل شخصية, وليس التستر عليها.
وذلك بكل ميولها وانحرافاتها. وأنا اعتقد بوجود شيء جوهري في الأدب الذي أفهمه على أنه نشاط تأملي وتحليلي ويكتشف الحياة وأنه واضح وصريح. اني أبدع أدباً, وليس صحافة ولا شهادة, لكن بصراحة كبيرة, محاولاً قول ما لم يجرؤ احد على قوله. ودار النشر التي لا يعجبها, ما عليها سوى عدم نشر كتابي.

المصدر: بيان الثقافة