قصيدته سارت سيرا طبيعيا
وأفلتت من اسر السياب وادونيس

عدنان الأحمدي
(العراق/ كولونيا)

فوزي كريم
(ت: جهة الشعر)

مرة أخرى التقي شاعرا عراقيا من جيل الستينات، هو فوزي كريم. وحين تجبرني قصيدة ما، للعودة بفرح، راضيا مرضيا، الى أجواء ومناخات تلك المرحلة لابد وان تكون جزءا مني وأنا منها كذلك. قد لا تكون القصيدة كلها، بل بيت منها، يبعث في الشرر الستيني متطايرا ثانية، فتغمرني الفرحة الكبيرة القديمة والمرح الممزوج بالسخط والعتب، وتحشرني في مركبة الكآبة والأحلام القديمة المغتالة، فيرفع رأسه ثانية فيّ وحش الغربتين، الروحية والجغرافية. ولأن الغربة الروحية نسيج معقد وشائك من المشاعر والأحاسيس الراقية التي تتحول بمرور الزمن عند صاحب الحسّ المرهف الى حالة مرضية مزمنة، نراها تنتج نمطا من الشخصية النفسية المزدوجة. فهي خليط من عواطف متناقضة كالحب والكره للوطن أو المحيط الذي تحيا فيه، وذلك حين تنقطع كل أواصر الشعور بالانتماء إليه. وبقدر ما تكون هذه الحالة أحد شروط الإبداع لدي الفنان هي في نفس الوقت كارثة منغصة عليه حياته، خالقة منه كتلة من العصاب والقلق. من هنا يبدو عنوان المقالة مثيرا بعض الشيء لاسيما والكلام يدور علي شاعر مثل فوزي كريم، قطع مسافة أربعة عقود وأزيد من الشعر الذي ولج عالمه موهوبا ومطبوعا. ثم برز في أهم مرحلة مر بها الشعر والأدب والفن العراقي وهي مرحلة الستينات. فكان أحد الموقعين علي (البيان الشعري عام 1969) الى جانب فاضل العزاوي وخالد علي مصطفي وسامي مهدي وقد برز بين أقرانه من هذا الجيل متميزا في شكل القصيدة ومضمونها، في شاعرية طيبة واضحة الفكرة والانطلاق من الذاتي الى الشمولي. كما واتصفت كتابته بقوة العبارة وجودة بناء الصورة الشعرية لغويا.

فهو من القلة الذي تقوم علاقته بالشعر واللغة المفردة علي الحب والشغف مثلما صرح أحيانا وعبّر عن رأيه في هذا الخصوص وذلك علي صفحات الجرائد والمجلات كما في (ثياب الإمبراطور اللحظة الشعرية) في الوقت الذي سادت موجات وصرخات تهديمية وتحطيمية للغة أطلقها ادونيس وأسيء فهمها من قبل الكثير من الشعراء العراقيين والعرب كما وظهرت حالة تعددية المدارس الشعرية بكثرة وبسرعة خلال العقود الأربعة الأخيرة. ففي هذا الجو الساخن والمملوء بالأسماء من الرواد الخمسينيين ثم الستينيين، وفي خضم هذه الأمواج من الأسماء الشعرية بدا صوت فوزي يعلو ويعلن عن وجوده عراقيا وعربيا حتى أكد نضجه في ديوانه حيث تبدأ الأشياء (1969) حيث بدت قصائده كاملة من الناحية الفنية والشاعرية. وهذا أمر يدعو للتأمل. إذ انه استطاع الإفلات من أسر القصيدة السيابية والروادية (نسبة للرواد) وكذلك الادونيسية التي لم يفلت من أسرها أحد من هذا الجيل، عراقيا وعربيا، فكان من الصعب تجاوز هذه الأشكال الشعرية بالنسبة للشباب الجدد الذي جاء معظمهم للشعر دون تجربة شعرية كلاسيكية عمودية. لكن فوزي استطاع التوفيق بين التراثي والريادي والستيني الجديد. وأرد ذلك الى أمرين: الأول هو الخلفية الثقافية التي يستند إليها من تراث ودراسة أكاديمية للغة العربية وآدابها أثرت في هويته الشعرية من الناحية الفنية والشاعرية. والأمر الثاني هو بداياته العمودية، ألمسها وأحسها من خلال قصائده التي تعطي للوزن والإيقاع والتفعيلات أهمية كبري علما انه ناثر جيد ومتمكن في هذا اللون.

أما أثر الحركة الستينية التجديدية فيه فيكمن في إضافته سمة معاناة هذا الجيل الى هذه الهوية. هذه المعاناة التي تنشأ نتيجة للرؤية الجديدة للتكوين السائد اجتماعيا والتي تقود بالضرورة الى حالة الاغتراب أو الشعور بالغربة المؤدية الى الهامشية الكاملة. والي قطيعة وموقف مضاد لهذا التكوين. وفوزي كريم عاني من هذه الغربة في وطنه ثم من غربة جغرافية روحية خارج هذا الوطن. فهو نموذج لهذه الشريحة البشرية من العراقيين الذين كونت الغربة ملامح وأطر هويتهم الشخصية. وهو كأي عراقي يكون الوطن بالنسبة له يوما ما أمه وأباه، وفي اليوم التالي عدوه اللدود وقاتله ومدمره، ذلك وفقا للعلاقة بالنظام السياسي القائم والقادم علي أثر انقلاب عسكري يلغي ما قبله وينسف التراكم القائم. ورغم أن شاعرنا اقل أقرانه من شعراء هذا الجيل راديكالية في مواقف الضد إلا أن النار مسّته، فكانت نتيجة هذا الكيّ ديوان حيث تبدأ الأشياء وديوان ارفع يدي احتجاجا (1979). حيث جاءت قصائدهما حاملة خصائص شعر المرحلة، من رفض وتمرد وغربة واضحة، تشم رائحتها من خلال الرمز والإيحاء دون اللجوء الى المباشرة والخطاب المباشر. فلقد بدا صاحبها حريصا علي الانطلاق من الموهبة، متخذا من المعاناة الفردية الذاتية منطلقا الى العالم الشمولي. تسير قصيدته بهدوء، بلا صخب مفتعل تزينها رمزية غير متكلفة، مصحوبة بروحانية الكشف عن خوالج النفس الشاعرة. فلنسافر في رحلة شيقة مع الشاعر ومقطع من قصيدة (وطن الأسرار من ديوان ارفع يدي احتجاجا) لنعش جوا من الغربة الروحية التي عاشها داخل وطنه!

كنا نتأهب للسحر المخبوء وراء الساعة /وصرير عقاربها/ كنا كالطير المثقل بالأفراح/ كالطير المخبول/ يشقُّ مضيقاً بين جناح وجناح/ لكني وحدي/ كنت أري وجه الثعبان يتلصصُ بين وريقات الكتب الملقاة بخوفٍ فوق رصيف الأحزان/ وحدي/ يتكشف وجه المحضور/ ووجه العاثر في طرقات النور/ وحدي النفسُ الساهرُ بين الخطوة والأخرى/ لا يجهل أن المقبلَ والعابرَ غصنٌ والجسدَ النائم في دفء لذاذته غصنٌ والأرض وصبوتها غصنٌ من أغصان الموت/ كم هو شقيٌّ هذا العالم/ كم هو شقيّ. ومما لاشك فيه أن العواطف والمشاعر والحالات النفسية تنضج بمرور الزمن أو قد تموت. فلو مضينا في رحلتنا مع الشاعر وهو يعيش خارج وطنه غربة جغرافية في لندن، للمسنا بوضوح نضج وكبر حجم هذه المشاعر الغربوية واتخاذها طابع الحالة المزمنة. فالكتابة عن الذكريات الموجعة والحنين إليها بهذا العنف المهيّج لآلام النفس هي حنين واضح الى غربة مزمنة تلاحق الشاعر وهو في مدينة أوروبية لم تستطع إنقاذه وإسعافه بالنسيان. ففي قصيدة (فردوس الحمقى 1985 ديوان لا نرث الأرض منشورات رياض الريس: نهاية الثمانينات) يعاني الشاعر من حالة غربوية عنيفة ممزوجة بشعور الفقد والخسران:

عبثاً يكترثُ التيارْ/ لعظام الغرقى/ وتعيد الشمسُ الدورة فوق خراب الدارْ/ ولذا لا أنكر أن الأسفار/ فرودس الحمقى/ والبيت مضيقٌ يوصل بين هاويتين/ والعابرَ بحراً بحثاً عن ضفة أخرى/ قد يفقد ضفتين.ف وهكذا، عندما تعجز مدينة لندن بأضوائها وجمال نهر التيمس في التعويض عن بغداد ودجلة وشارع أبي نواس، بحاناته ومقاهيه اللاتي هن مع بعض مقاهي بغداد معمل تصنيع الثقافة العراقية منذ عقود عديدة. لذا نري الحنين لهذه الأماكن يطفح في عالم شاعرنا النفسي والخيالي ليكتب قصيدة (العودة الى كاردينيا 1985 ديوان لا نرث الأرض لندن) هي من قصائده الناضجات عن الحنين والغربة. ففي المقطع الثالث من هذه القصيدة (الشباب. ذُيلتْ بعبارة: أغنية الى شارع أبي نواس) غايتها المقهى/ يا منحدر الرمل! أرائك ومحبيّن/ أيتها الحانة/ يا منحدر الأملِ! بقايا منسيين/ في ركنكِ بين الأقداح! هدأت أضواؤك فاستمعي/ للشاعر: نصفاً مخموراً/ يتأمل ليلاً منسيّاً/ في النصف الصباحي/ لا يغفلُ قافيةً سقطتْ/ سهواً من رائحة الدفلي/ أو وزناً مضطرباً في (القدّاح).
وإذا ما واصلنا الرحيل مع المقطع الرابع المنفي 1985 من نفس القصيدة والديوان، سنحيا جوا ومناخا ستينيين بمعني الكلمة، وخصوصا لمن يعرف حانة كاردينيا وشارع أبي نواس وبغداد ساعة تتوفر فيها كل مسببات الكآبة وهطولها، علي محتسي الخمر في هذا الجزء من العالم (الذي يذكرني بلقطة انتحار كيم نوفاك غرقا قرب الجسر المرعب وذلك في فيلمها الرائع الدوّامة حيث ينقذها من الغرق جيمس ستيورات)
سيبدو المشهد حيا كجزء من الروح والذاكرة، خصوصا وان الشاعر استطاع أن يختزل العراق كله بهذا الوصف البارع واللغة الشاعرية الرقيقة، غير المقعرة التي تطرب الروح وتنعش الخيال وتأزمه فترتاح النفس:

كاردينيا أكبر حجما مني/ الأشجار تعود لكاردينيا جرداء/ ورفاق الليل/ جسرٌ مهجورْ.
ومصابيحُ الجسرِ نداء/ والمطرُ حجابٌ باكٍ/ بين مياه النهر وبين زجاجة كاردينيا/ وأنا في الركن عراقي/ لا يسأل بطرس عمّا أشربهُ/ أو اكتبهُ/ لا أعرف أحدا/ لا يعرفني أحدٌ/ أرسمُ فوق زجاج المقهى وجهي مبتسماً/ وأغادرْ.فيطلق ابتسامة اليأس ويغادر.. هذا هو فوزي كريم، تدعوك قصيدته هذه لرفقتها وكأنك جزء منها، أو بطلها الشبح. ثم تشعر بالأسف لانتهائها. وهذا في رأيي هو سر السحر الشعري كما أقول دائما. لقد وفي هذا المقطع بالغرض. فالصورة الشعرية مكثفة تعكس حالة اكتئاب ناجمة عن الشعور بالغربة والتوحش، يجسّدها هذا الشطر المشحون بكل مظهر سلبي حياتي.

والمطرُ حجابْ باكٍ بين مياه النهر وزجاجة كاردينيا.

إنني أجد في هذه الصورة الغريبة جمالية تشبه جمالية علاقة السيّاب الكآبية بالمطر. أما تشبيه المطر بالحجاب الباكي فهو عندي خلق وإبداع رفيع المستوي. فهذه الصورة مدهشة حقا وهي اقرب الى الطبيعة منها الى التكلف والمبالغة. إذ أن علاقة ابن المدينة بالمطر تكون أحيانا علاقة ازعاجية كآبية (ولقد قلت هذا في كلامي علي السيّاب سابقا).
إن ما يثير فيّ الدهشة أيضا هو زمن ومكان كتابة هذه القصيدة اعتمادا علي ذكريات ذات أبعاد نفسية وعاطفية تضرب جذورها في الوطن. هذا أمر، والأمر الثاني هو كارثية هذا المشهد لإنسان حسّاس تضيق به بغداد ويضيق هو بها. فالمطر الباكي مع موقع الحانة المجاور لجسر الجمهورية موحش، إضافة لشارع أبي نواس الكارثي هو الآخر ودجلة حاملة هموم البشر ومخمور مأزوم هو بحد ذاته جزء مكمل لعملية الكارثة. كل هذه المكونات تمنح المشهد حيوية وحياة وديناميكية الاتجاه المعاكس. فكما قلت أن الشعور بالغربة ينضج ويكبر حجمه بمرور الزمن وقد يقود صاحبه الى اتخاذ الموقف المضاد لما هو سائد ولكن بعنف أكبر وتشنج وصراخ حادين حين يسقط الحنين في الحنين، حين تسقط الذاكرة في الذاكرة فيقول شاعرنا في قصيدة عنوانها (شتاء 1978 من ديوان لا نرث الأرض كتبت عام 1985 لندن) مخلوقٌ لا يلقي ظلاً/ للأرض. ويحملُ حيث يحلُّ هلالاً مبتلاً/ بنزيفِ الليل/ توحشهُ الشمسُ. ويشعره لونُ الأشجار/ بالوحدة، ومياه التيار/ بالعمر الهالك/ هو آخرُ مفتون بالشعر الملعون/ ننشرُ الشائعةُ. يقول القوّالون/ اهرب سعد فقد هلك سعيد. فيما تسكنه من بستانِ الصيف الجمرهْ/ ومخالبُ قطِّ يأكل لحمَ بنيه/ وغبارُ أناشيد الثورة/ وبلادٌ معتقلٌ وسجينُ تلغُ كلابُ القائد فيهّ.فأظن أنني أصبت في إطلاق صفة الصوت المتميز علي الشاعر. والميز واضح في شكل القصيدة أيضا وفي الموهبة، وصفة الميز عندي لا تلغي أصوات الشعراء الآخرين من هذا الجيل العراقي، بل أن كل واحد منهم ساهم في الكتابة حسب طاقته الفنية وامكاناته الموهبية. فمنهم من استمر ليؤكد هذا الصوت وليمتاز ويتفرد في مشروعه الشعري كسركون بولص (لقد تكلمت عليه وعلي خصائص الحركة الستينية عالميا وعراقيا في القدس العربي) ومنهم من توقف وترك الشعر وآخر توّجه الى القصة والرواية.

إلا أنهم ساهموا بإشراق القصيدة العراقية. إلا أن قصيدتي سركون وفوزي سارتا سيرا طبيعيا في نضجهما وتطورهما، ولم يعتمدا أسلوبا قفزيا مفاجئا. فهما خير نموذج لدراسة القصيدة العراقية وتطورها خلال العقود الأربعة الأخيرة. وهكذا يتم الإبداع والخلق علي أيدي الهامشيين الذين يفلتون من حصار معادلات المنطق الارسطي وقوانينه، الذي قامت علي أسسه حضارتنا العالمية وما زالت لحد اليوم.

القدس العربي
2002/12/18