التقاه: محمد عيد إبراهيم
حاتم الصكر واحد من نقاد العراق الذين يتعاملون بلغة نقدية حديثة مع الأدب، وقد تقلد عددا من المراكز الأدبية داخل العراق وخارجها، وهو الآن يعمل مدرسا جامعيا في الجمهورية العربية اليمنية. وفيما يلي حوار معه دار حول رؤيته للشعر خاصة لقصيدة النثر، وما المحددات المرجعية والجمالية والإيقاعية لها. كما قام بعملية رصد آنية لحركة الشعر العراقي، وغير ذلك من قضايا إبداعية تخص نقد الشعر وعالمه الجمالي:
هل يمكن أن نعيد تقييم حركة الشعر الحر بعد ما يزيد عن نصف قرن، حتى لا نبالغ فيما أنجزوه؟
بعد ما يزيد عن نصف قرن من انطلاق شرارة التجديد الشعري، يمكننا إعادة تقييم الموجة الأولي في حركة الحداثة الشعرية. ولكن بشرط استذكار الإطار العام لها، والسياق الذي جاءت فيه كي لا نبالغ في حجمها أو نعمل علي تقزيمها بسبب إسقاطات عارضة.
إنني أعد المنجز الشعري لجيل الحداثة الأول ضربا من الاستدارة في مسار الشعر العربي، وتغييرا في مسار الشعرية العربية ذاتها. لأن المحاولات التي سبقت تلك الحركة لم توجه للجسم الشعري العربي سوي رضّات عابرة، ظلت أسيرة نظامه وآلياته. لأن الظروف التي تهيأت لما عُرف بحركة الشعر الحر ـ رغم ما لنا علي المصطلح من احتراز ـ لم تتهيأ للمحاولات السابقة عليها. ومن أبرزها الصلة الصحية بالشعر الغربي الحديث وتأثير التبدلات الاجتماعية والحضارية في الحياة العربية.
وأعتقد أن فحص منجز حركة الشعر يتعدى النصوص إلي ما رافقها من حِجاج ومنافحة وتمرد، أسهمت كلها في خلق ملامح (خطاب) حداثي شامل، ومشروع تجديدي واسع.
هل يمكن تحديد مرجعيات جمالية لقصيدة النثر العربية ضمن التراث؟ وبم تتميز في التعبير عن نص الوجود؟ وماذا يستدعي السرد فيها؟
لقصيدة النثر مرجعيات جمالية وفنية واضحة. بعضها يتضح عبر معاينة الأنواع الشعرية التي تتنزل منها هذه القصيدة، وانفتاحها علي الأجناس الأدبية، هذا علي المستوي الفني أو النصي. أما علي المستوي الجمالي والمتعلق بتقبلها واندراجها ضمن الشعرية العربية وسيرورتها فله حكاية أخري طبعا.
لقد شُغل المدافعون الأوائل عن قصيدة النثر، لا سيما أدونيس، باقتراح سلالة تحدرت عنها قصيدة النثر لمنحها شرعية الوجود، وهوية الشعر. فوجدوا ذلك في النثر، في مناطق النثر المتوهجة، وفي الإشراقات الصوفية تحديدا، والنثر العربي الناصع الذي تمثّل في (كتابة) حرة، ذات طابع جوانيّ وفيض وجداني تأملي. والتمثيل هنا يعيد أسماء الخراز والنفري والتوحيدي والحلاج وأعلام الصوفية، وأدب المهمشين والشطّار وحتى رسائل الفلاسفة وكتب الحب العربي.
لكنني لا أجد في هذه الكتابات رسّا أو جذرا نوعيا. بمعني أنها تشتغل في حقل آخر، فهي تنطلق من النثر نفسه، وتلبي أعرافه وتقاليده، ضمن إطار حاد، تتعين علي أساسه، وتتحدد شعريتها.
أما قصيدة النثر فيمكن البحث عن جذورها في مدارج الشعر ومراقيه، وفي الكلام الأدبي نفسه. في السرد المضمن داخل الشعر. وفي الأنواع القصصية المحيلة إليه. ولا ضير ألا نجد لها سلالة واضحة. ولكن قد نجد لها مبررات أو مستندات تقوّي حضورها الآني، وتمنح كتابتها دفقا وجوديا لا عونا نصيا أو فنيا.
لماذا تعادي الأصولية الثقافية قصيدة النثر، مع أن النثر في الحضارة العربية أهم من الشعر، رغم شيوع العكس؟
قصيدة النثر جاءت أصلا لتهدئة الهيجان اللغوي والعاطفي والإيقاعي الذي طبع إيقاع القصائد الموزونة بأقدار متفاوتة (عمودية أو حرة). وقدمت، كمبرر لحياتها، اتهاما واضحا لحضور الوجدان الطاغي وأنا الشاعر ولوازمهما. وهي تريد في برنامجها غير المعلن ـ أي المسكوت عنه ـ أن تقلل كمية الشعر في القصيدة... هذا الذي يملؤها حتى تفيض به أو تختنق.
وهي بذلك تهدم وتبني معا. وتلك إحدي عللها وأبرز مآزقها. ولا أظن أن نصا آخر ـ سواها ـ توجهت إليه هذه الأسئلة أو مر بهذا الاختبار القاسي، عبر حياة الشعرية العربية كلها.
إن الشعر الحر مثلا (والمنثور) قد أعفي من سؤال الإيقاع وموقع الأنا في النص الشعري، أو سؤال المرجع وحضوره أو غيابه. لكن تلك الأسئلة وسواها لا تزال معلنة علي لائحة قصيدة النثر التي صاحب ظهورها سؤال يمسّ مصير الشعر نفسه: وجوده وكيفيته معا. فهي (قصيدة) تضاف إلي النثر، كما يضاف هو إليها. وذلك تلازم أو تضايف عسير، أحس به الأوروبيون أيضا وتنبهوا لجملة مفارقات في فنيتها بدءا من اسمها المحير والملتبس والمشوش...
ألا تري أن تلك الأمور تحتم اختلافا وتقترح مغايرة؟
ولهذا كان تفرد قصيدة النثر أحد أسرار عُسرها وسهولتها (تصوُّر سهولتها) في الوقت نفسه.
هل يمكنك رصد بعض المحددات الإيقاعية لقصيدة النثر؟
الإيقاع نفسه كمصطلح مُرحَّل من الموسيقي يعاني من الضبابية واللاتعيُّن. فكيف إذا أردناه وصفا لقصيدة هاربة من النمط الموسيقي المتخلق في الشعر بتلازم التفعيلات والقوافي ونظامك الأبيات؟
إن وجود الإيقاع في نص شعري مموسق، هو أمر غير متعين أو محدد، فكيف نراه في رتبة موسيقية أدني تقف فيها قصيدة النثر المتنازلة عن تلك الموسيقي التقليدية؟
هذه معضلة في نقد قصيدة النثر. ولا أدري إذا كان كتّابها أنفسهم قد عانوا قلقها؟ هم مستمرون في تجريبها وكتابتها دون التفات إلي هذا القلق النقدي القرائي المتصل بوجودها.
لقد أخرج بعض نقاد الغرب قصيدة النثر من الأنواع الشعرية ذات المستوي الإيقاعي، واعتبروها قصيدة دلالية أي يمكن لنا فحص مستوي الدلالة فيها، وأنا أشير هنا إلي رأي جان كوهين في كتابه بنية الشعر الذي كان يفحص مستويات البنية قواعديا وإيقاعيا وصوتيا، فلم يجد ميدانه في تجارب قصيدة النثر.
الحديث عن (محددات) إيقاعية، أجده أكثر واقعية من البحث عن (إيقاع) شامل لقصيدة النثر. فالمحددات تنبثق من النصوص نفسها، وتهب للقارئ ما يرشده إلي دخول عالمها، لا للبحث عن تجسدات معنوية صغري، ومحاور دلالية كبري، ولا لتأشير صور تقليدية يعضدها المجاز المنمط بلاغيا، بل لكشف (انتظام) الأبنية الشعرية وتتبع ذلك الانتظام من خلال الأدلة اللسانية وتنضيد القصيدة خطيا، والاستعانة بالسرد مما يستدعي ترتيب ضمائر التلفظ بعدا وقربا من مركز النص، ومعاينة الانضباط السردي علي هذا الأساس. وهو الأمر الذي لا يراعيه كثير من كتّاب قصيدة النثر، لا سيما القادمين إليها من أجواء القصيدة الغنائية بحضور الذات حضورا قويا وطاغيا.
لقد جربت شخصيا في أحد كتبي أن أحتك نقديا بقصيدة لأنسي الحاج. وجدتها تتمتع، رغم فوضاها الظاهرية، بانضباط سردي مدهش، فيها ألفة سهلت مهمة إجراء تحليل نصي لها، يستفيد حتى من محور الصوت والتركيب والجملة الشعرية، ومن تنامي عضوية القصيدة ودلالتها طبعا.
وإذا كان هذا الأمر ممكنا في نص لشاعر من شعراء قصيدة النثر في مرحلتها الأولي ـ مرحلة مجلة شعر تحديدا ـ وكما في شعر أدونيس والحاج خاصة، فأحرى بشعراء الجيل الثاني أن ينتبهوا إليه في نصوصهم.
حدد لنا بعض الأسماء الشعرية التي تروق لك في السنين الأخيرة؟
التسميات تخذل المسميات غالبا. والتمثيل مهما اتسعت رقعة الممثَّل بهم، سيظل ناقصا لأنه يحتكم إلى الذاكرة لا إلي الدراسة والفرز. لكنك تريد أسماء. وسأذكر لك أسماء. لكنها ستكون (أسمائي) أي التعبير الذوقي الآني في لحظتي الراهنة. وهي ليست لحظة نقدية قطعا لأنها مرتجلة. فهي لا تعطي إجابة جامعة أو مانعة. هل ستسمي ذلك اعتذارا مسبقا عمن سيفوتني ذكر أسمائهم. لك أن تعد ذلك كذلك.
وسأذكر هنا سركون بولص، صلاح فائق، عباس بيضون، أمجد ناصر، حلمي سالم، سيف الرحبي، زكريا محمد، خالد المعالي، طالب عبد العزيز، قاسم حداد. وسأذكر محمد بنيس في بعض كتاباته النثرية القليلة، والجيل الشاب كله في العراق ومصر ولبنان والمغرب. ومن اليمن عبد الكريم الرازحي الذي أود لو قـُرئ بشكل واسع. وسأذكر من الشاعرات ميسون صقر وسهام جبار ولينا الطيبي...
هؤلاء وسواهم يمنحون تجربة قصيدة النثر، وهي تجربة قصيرة زمنيا بالمعيار الإنجازي الفني لا الإرهاصات والمقدمات، ما يؤكد توسعها وانفتاحها على معطيات جديدة سواء في الموضوعات أو الأساليب وينطلقون من الإيمان بها والإحساس بطاقتها وإمكاناتها. وهذا شيء مهم عندي.
كيف تري الشعر العراقي الراهن، ومن يمثل أفضل التجارب الشبابية؟
الشعر العراقي الآن، يواصل جهوده رغم وجود العراقيين أنفسهم كشعب مستهدف. ورغم أنهم يواجهون ما يمكن استعارة رواية ماركيز لوصفه: الموت المعلن والمسكوت عنه أيضا.
ولعل أحد أسرار وجود العراقي العنقائي، يتهرب إلي الشعر أيضا. ففي مطحنة الألم التي صنعها الحصار مع سبق الإصرار، لا يكف الجسم الشعري العراقي عن الحياة بفاعلية لافتة. وهاك بعض مظاهر هذه الحياة الفعالة: وجود الأجيال إلي جانب بعضها البعض، ومواصلة مغادرة الشعر إلي أقصي تخومه حرية وتجديدا، وحوار الأساليب بعنف ومسؤولية، وتعدد الأسماء لدرجة الجنون... واستمرار الإصدارات الشعرية داخل العراق وخارجه.
أليس هذا كافيا لوصف مشهد الشعر في العراق بأنه كفاحي وعصامي وفريد؟ هناك مدرسة للجواهري، تلاميذ للبياتي، وسعدي، وأنا حريص علي الفواصل بين الأسماء لأنها تعبر عن رواية وأسلوب وذائقة مختلفة. هناك حسب الشيخ جعفر، وسامي مهدي، وحميد سعيد، ومحمود البريكان، وعلي جعفر العلاق، خزعل الماجدي وزاهر الجيزاني، الصائغ ونصار وعبد الزهرة زكي، رعد عبد القادر وطالب عبد العزيز، حسين عبد اللطيف وعلي الطائي، نصيف الناصري، وعبد الرزاق الربيعي، وعشرات الأسماء الآخرين حتى ممن يسمي اليوم جيل التسعينيات.
كيف يمكن الاستفادة من وسائط الميديا في عرض الشعر، حيث يمكن أن تقدم مشحونة بطاقة تفوق المجاز القديم أحيانا؟
أنا أري أن إخضاع الشعر لاشتراطات الاتصال السمعي أو المنظور (إذاعة وتليفزيون وقنوات بصرية مشابهة) فيه إرغام للشعر على أن يتكيف على وفق هذه القنوات التي تتمحور أساسيات عملها (آلياتها) علي المباشرة من جهة، والاستعانة بوسائل غير شعرية تحمل معها اشتراطات خطيرة، بعضها يعمل علي تسطيح الشعر وفقدان هويته اللغوية لصالح متع البصر والحيل المصنوعة المجتلبة من سياق آخر تماما...
ولا أظن أن المباراة قائمة بين (مجازات) تصنعها وسائل الاتصال الحديثة، ومجازات اللغة وفضاءاتها. فالأمر أبعد من ذلك وأخطر وأكثر ضررا. لأنه يمس بؤرة القصيدة وتمددها في أنحاء المعني والبنية عبر القراءة.
لكن ذلك لا يعني معاداة التطور التقني بصورة عفوية أو فطرية أو رفض التكنولوجيا رفضا شاملا بدافع التخلف. إننا نريد لوسائط الاتصال الجماهيرية أن تساعد القصيدة علي أن تصل بوجودها الافتراضي الذي تكوّن وتشكّل شعريا وليس بدافع تكييف الملفوظ الشعري نفسه ليشف ويسهل، ويدخل في سياق لعبة الإبهام والمتعة البصرية العابرة.
القدس العربي - 11/11/2001
تحدث عن الأجيال الشعرية في اليمن
حاتم الصكر: نحن أمّة في حالة هذيان
حاوره
نوري الجراح
حاتم الصكر شاعر وناقد من العراق وأكاديمي يدرس في جامعة صنعاء، وفي مركز الدراسات النسوية في العاصمة اليمنية. وقبل إقامته في اليمن عمل الصكر محرراً في مجلة الأقلام الأدبية العراقية المعروفة.
في هذا الحوار معه يكشف الصكر عن رؤيته الراهنة لجوانب من المشهد الشعري العربي، بدءاً من الحياة الشعرية في اليمن.
* ما الذي تفعله، على مستوى النقد الأدبي، من موقعك في اليمن السعيد البعيد... كيف تحصل على المراجع، وكيف يقيّض لك أن تتابع التطورات الأدبية العربية؟
- أنت تعرف أنني أشتغل، نقدياً، على مشروع شعري عربي، وتربيتي الشعرية والنقدية عربية، ليس على مستوى النشر، وحده، إذ نشرت في الموقف الأدبي في سوريا، وفي الآداب اللبنانية، وغيرها، إضافة إلى نشاطي في الدوريات العراقية كالأقلام وغيرها من صحافة بلادي. لكن على مستويات أبعد، وأعني بها مستويات التحديث الذي أتبنى قضيّته وأدافع عنها، فإن هذه القضية تنتمي، في أساسها، إلى غير بلد عربي.
هجرتي إلى اليمن كانت اختيارية، في جانب منها، وإجبارية في جوانب أخرى. مشهد الثقافة العربية ليس غريباً عليَّ، بصرف النظر عن الجزء الذي سأتمكّن من الحضور فيه من هذا المشهد، لسبب أو آخر. الشيء الثاني أن وجودي حيث أنا اليوم لن يضرّ بمشروعي الشعري والنقدي، وأنت تعلم مسبقاً، في ظلّ الشروط الحياتية غير الإنسانية التي يمرُّ بها العراق وتمرّ بها المنطقة أن عليك أن تكيّف وضعك وتندمج في سياق الحياة الثقافية المتاحة، وذلك بناء على مشروعك الشخصي في الثقافة، مهما كان متواضعاً.
والواقع أنني لم أكن بعيداً عن مجمل الحياة الثقافية العربية خلال عملي في مجلة الأقلام وعلاقتي بالحياة الثقافية في اليمن أسبق هجرتي إليها، وكنت قدمتُ عدداً من الملفات عن الأدب اليمني، لا سيما عن الأصوات الأدبية الجديدة، الشعرية منها خصوصاً، وكانت في بالي وضمن مجال اهتمامي وعملي الكتابي.
* على رغم ما تصوره، فإن اليمن يبدو لنا قصياً جداً. كيف تحصل على المراجع الضرورية لعملك؟
- عندما كنت في العراق كنت أحصل عليها عن طريق المراسلة، ومن خلال المطبوعات التي تدخل إلى البلاد. واليوم، في اليمن، أحصل على المراجع والنصوص عن طريق المطبوعات العراقية المتقشفة التي تخرج إلى العالم العربي ويعكس تقشّفها الوضع الاقتصادي الصعب بسبب الحصار المفروض على العراق. فظروف الطباعة هناك غاية في السوء، لكنني كشاعر وناقد وأكاديمي في حاجة مستمرة للحصول على ما يصدر في بلادي.
* ما أكثر ما تتابعه في العراق أدبياً؟
- أتابع الأصوات الشعرية الجديدة، خصوصاً تلك التي تتاح لها فرص النشر في الصحافة العربية، وتتوفّر نصوصها في المتناول العربي. وهذه الأصوات بدأت تأخذ نصيبها من الحضور العربي بصورة أفضل من ذي قبل. هناك أسباب عدة لذلك، منها أن كثيراً من الشعراء العراقيين اختاروا الهجرة، وبالتالي فإن أصواتهم حاضرة، من هنا فإن معظم الأصوات الشعرية التي تعنيني لدي صلة ما بتطوراتها الشعرية.
من جهة أخرى، وبما أن عملي النقدي الأكاديمي يتميّز بتقصي المسائل المعرفية من نوع: أين وصل الشعر؟ وما الذي يحتوي عليه؟ وما أسئلته الجديدة؟ فإن هذه الأسئلة وغيرها مطروحة عليَّ في كل وقت ومع غير ساحة شعرية، ويمكنني أن ألمس القضايا المتعلقة بهذه الأسئلة وغيرها من خلال موقعي في اليمن بيسر، لا سيما أن نصوص الأصوات الشعرية العربية متوفّرة وتصل إلى اليمن، وأنت تعرف أن العمل في التدريس يعطيك فاعلية اضطرارية خاصة لكونك تمارس مع الطلاب تحدياً يومياً في استكشاف الشعر وقراءته، والبحث في أشكاله وخصوصياته ومستجداته.
تجربتي في اليمن أكسبتني خبرات مهمة، فمنذ أن كنت في العراق كانت لدي كما تعرف اهتمامات بالأدب النسوي انعكس جانب منها، في مطلع التسعينات، عربيا،ً في مجلة الكاتبة التي نشرت لي أبحاثاً تتعلق بالكتابة النسوية. في اليمن تمكنت من خلال مركز الدراسات النسوية من تطوير متابعتي الأدب النسوي، وذلك عن طريق التعامل مع الطلاب، وعن طريق البحث، وهذا جعلني أتأمّل في صورة المرأة قديماً وحديثاً، وفي نشاط الكاتبة العربية ومقدار وعيها الواقع، وتمثلها له، والتعبير عن ذاتها من خلاله. وقد أتاح لي هذا الانفتاح على تجارب كاتبات عربيات جديدات، إضافة إلى أن السنوات الثلاث الأخيرة حصلت فيها زحزحة في موضوع النقد. فقد توصلنا إلى أننا مادمنا نقرأ النص الجديد، علينا، كنقاد، أن نحتك بالأساطير القديمة والأيديولوجيات المختلفة سائدة ومضادة، وبالتالي فإن الذي يكتب عن الشعر هو قارئ من نوع خاص وفعّال، وليس شخصاً منفعلاً بالنصوص وحسب. بهذا المعنى، فإن الكتابة عن الشعر تتطلب منا أسلحة معرفية إن لم تكن تضاهي النص، فإنها توازيه، على الأقل. وهذا ما أسمّيه النص المعرفي عن النص الإبداعي، وإن كانت هناك نبرة في دعاوى النقد الثقافي تحمل شيئاً من الاستعلاء. أنا لا أريد أن أغادر موقعي التطبيقي كناقد، وستظلُّ النصوص أدلتي ومستنداتي في ما سأطرحه من أفكار نقدية.
* أسأل عن بعض أفضل الأصوات الشعرية الجديدة في اليمن؟
- الشعر في اليمن حاله كمثل حال الشعر العربي في مختلف أقطاره. هناك تجايل غير معلن، القارئ يمكنه أن يرصده، أما الشاعر، ولأنه داخل الحالة، فليس بالضرورة أن يرى هذا التجايل. يستطيع القارئ الخاص أن يرصد التراتب الجيلي أيضاً. بمعنى أن هناك ريادة، هناك جيل رائد على مستوى عربي، سواء على صعيد تحديث القصيدة، كأن تقول، مثلاً، أن الشاعر عبدالعزيز المقالح هو أوّل من كتب القصيدة الحديثة في اليمن، وهو مستمرّ في الكتابة، حتى كتابه صنعاء الذي صدر قبل أيام، ثم هناك قصيدة كلاسيكية محدثة فيها شيء من الرومانسية، يتزعّمها الشاعر عبدالله البردوني وجيل من مقلديه.
ثم بعد ذلك تأتي الأصوات الشعرية الجديدة التي تلي المقالح، مثل عبدالكريم الرازحي، وشوقي شفيق، واسماعيل الوريث، وغيرهم. وهذا الجيل الأخير ينقسم إلى قسمين، منهم من يجد في المنجز الجمالي لنازك الملائكة وبدر شاكر السياب منتهى أمله ونهاية قدراته، ومنهم من يجد أن هذه الريادة المبكرة لثورة الشعر الحرّ راكمت خبرة انطلق منها إلى كتابة قصيدة أحدث.
وهناك على هذا الميل الرازحي في تجاربه النثرية، مثلاً، وشوقي شفيق، ومحمد حسين هيثم، لا سيما تجاربه الأخيرة التي اطّلعتُ عليها في القدس العربي، ونزوى، وغيرها من الدوريات العربية.
وشهدت السنوات الأخيرة خلال وجودي في اليمن شيئاً جديداً، فهناك موجة شعرية ثالثة، لو صحّ التعبير، كالشعراء أحمد الشيباني، وهدى أبلان ونبيلة الزبيري، وابتسام المتوكّل وناديا مرعي وأحمد الزراعي. والملاحظ أن غالبية أعضاء هذه الموجة من الفتيات. فالشاعرات يبدأن من النثر، والقليل منهن يبدأن بالتجارب الشعرية الموزونة.
هذا الجيل الجديد الذي أتمنى أن يقيّض لمجلة عربية أن تتعامل نصوصه بصورة كريمة خلاقة يضم شعراء وشاعرات يحاولون معاً أن يختلفوا حتى مع النخبة الجديدة من الشعراء التي كتبت قصيدة نثر مختلفة من أمثال عباس بيضون وسليم بركات وسركون بولص ونوري الجرّاح وأمجد ناصر وبسام حجار، وعبده وازن ووديع سعادة، وهو جيل لديه اطلاعه الكبير على نصوص هؤلاء الشعراء ولدى شعرائه دعاواهم للاختلاف عنهم، أيضاً، ولديهم مرجعياتهم وأفكارهم، وأتمنى أن أتمكن يوماً من تقديم دراسة نقدية تقرأ نصوص هؤلاء الشعراء عربياً على صفحات منبر خاص بالشعر، فهم ينتمون إلى جيل يستحق أن يقدّم وأن يُنظر في تجربته.
وفي اعتقادي أن هؤلاء، على قدراتهم كشباب، يطوّرون تجربة شعرية مهمة. وهذا المشهد الشعري فيه تنوّعٌ وتجديد لكنه نخبوي. ونحن لو شئنا أن نكون صريحين أمّة يقول عنها كتابا الأغاني وطبقات الشعراء وغيرهما من الكتب التراثية أن العرب كانوا يقولون كلامهم شعراً. والمفارقة اليوم أن شعراء كباراً في العربية يطبعون من دواوينهم بضعة آلاف من النسخ فقط، على رغم أنهم ينتمون إلى أمة تعد بمئات الملايين. لعل دخول الشعر العربي في مناطق وعرة، وبحث وجودي معمّق، وتأمّل في القضايا الكبرى للإنسان يجعله اليوم يبدو نخبوياً. القارئ، أيضاً، فقد حماسته للشعر البسيط العادي الذي شاع لعهود كثيرة. وكلامي لا يطاول، الأساليب، فقط، وإنما الرؤى المختلفة، أيضاً.
الوضع النخبوي للشعراء اليمنيين، إذن، ليس استثناء بين زملائهم العرب، هناك حالة نخبوية عربية في الشعر، وما أرجوه هو أن نكسر هذا الغيتو في يوم من الأيام، حتى لا يقال أن العزلة أغرتنا، ولكي نصل، إلى شيء من الانفتاح بين النص الشعري والقارئ الأعرض، وإن كنتُ أشكُّ في إمكان أن يتم هذا في وقت قريب.
* إذا كانت هذه هي حال الشعر في اليمن، وهذه هي صورته التي لا تبتعد عن عموم الحالة الشعرية العربية، فكيف هو الحال بالنسبة إلى الفنون الكتابية الأخرى؟
على مستوى الكتابة القصصية، مثلاً، هناك بعض الأسماء المهمة، فبعد تجربة محمد عبده ولي الرائدة في كتابة الرواية والقصة، هناك حالياً أسماء جديدة كأحمد الزين، وأروى عثمان، وغيرهما ممن يكتبون قصة تتواصل مع النسق التحديثي في الكتابة، مع فروق تتعلق بالواقع اليمني، على اعتبار أن القصة تحتاج إلى مجريات تتعلق بالواقع، لذلك فهي أعطت أشكالاً حلمية وتجريبية وشعرية يبقى محرّكها ومشغّلها هو الواقع، والواقع في اليمن كثيف وثقيل وتفاصيله ليست سهلة، حتى جمالياته خاصة.
وبالتالي من الصعوبة أن يفلت القاص من الواقع وما يمنحه، مع ملاحظة غياب المسرح تماماً، سواء مشهدياً أو كتابياً. هناك تجارب طيبة لمحمد الشرفي على صعيد المسرح الشعري، لكنها أملت مسرحاً أدبياً، وهذا ما ينطبق على البنية الاجتماعية ونظرة المجتمع إلى المسرح.
وكدارس معنيٍّ في حقله الأكاديمي بالشعرية العربية.
* الأكاديميون العرب يعزلون بسلوكهم اليومي الحرم الجامعي عن التطورات الأدبية والثقافية الجارية، بدورك ما هي النماذج الشعرية التي تتناولها مع طلابك، وهل تتعامل، مثلاً، مع الشعر المنتج خلال السنوات العشرين المنصرمة؟
- أنا من النقاد الذين يرون أنه آن الآوان لتدخل نصوص الشعراء الجدد جداً إلى حقل تدريس الأدب في الجامعة، وأعني بهؤلاء الشعراء الذين جاؤوا بعد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وأنسي الحاج ويوسف الخال وعلي أحمد سعيد (أدونيس) ومحمد الماغوط. المطلوب، في نظري، بعد خمسين سنة من ثورة الشعر الحديث أن يلتفت الأكاديميون إلى سيرورة الشعر العربي وصيرورته. ما أظنه أن القصيدة العربية اليوم بات تفرض علينا تنوعاً كبيراً، ما يعني أن هناك أطيافاً متعددة، وتنوعاً في الأساليب الشعرية يفرض عليك بالمعنى الأكاديمي أن تتعامل معها. لكن، بصراحة، من دون أن يسعى الناقد الأستاذ الأكاديمي، إلى فكرة التكريس. لا حاجة بنا إلى تكريس ما بات مكرساً فعلاً لكن المطلوب هو الدروس الحرّة للنصوص الأدبية، وتحليلها هو ما ينقص طلابنا الذين قدمت لهم الآداب بصورة أبوية، وفُرضت عليهم الرؤى بصورة قسرية، حتى عندما تكون جديدة.
علينا، إذن، أن نتمكن من تقديم كل الأطياف الشعرية للطلاب، وهم عليهم أن يقيّموا ما نقدم لهم، وما يتذوّقون. ولعل في أولوياتي الخاصة كمدرس جامعي هو تلقين الطلاب فكرة الإعجاب بالتنوع، لا بالواحدية والأحادية في التفكير والتذوق الجمالي، بحيث يمكن خلق أجيال لا يداخلها التعصب لأسلوب شاعر ضد أسلوب شاعر آخر، فالذائقة الجمالية لا ينبغي لها أن تتعصب للأساليب والأفكار، بمقدار ما تكون قادرة على استقبال التنوع.
أنا مثلاً، يمنياً وعربياً، أُدَرِّسُ طلابي شعر شعراء الموجة الثالثة، لو صح التعبير، وبالتالي فهم يقرأوون أبحاثاً حول الشعر الجديد هذا. ونحن عملياً اعتدنا أن نبدأ حركة التجديد الشعري بشوقي، كجسر بين الكلاسيكية والجديد، ثم ننتقل من بعد إلى الشابي وبعض شعراء المهجر، ثم من بعد إلى السياب والملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش وأمل دنقل وأدونيس وعبدالعزيز المقالح، ثم نصل إلى شعر اللحظة الراهنة، فنذكر شعراء ما بعد جماعة شعر ممن ذكرت أسماء بعضهم قبل قليل.
وأزعم أنني من الذين يتحركون من داخل المؤسسة الأكاديمية للانفتاح قليلاً على الأصوات الشعرية التي ذكرت أسماء بعضها قبلاً، والتعرف على الأعمال والأمزجة الشعرية الجديدة، أي إلقاء ضوء على الطريق وصولاً إليهم، ثم على الطلاب، من بعد، أن يواصلوا بأنفسهم، من خلال أبحاثهم أو عن طريق الدراسات العلمية التي يحضّرونها. في هذا السياق، علينا أن نعترف أننا نعاني من مشكلة أساسية اسمها الكتاب الجامعي فهو كتاب محافظ، لكن هناك بداية خجولة للتجديد على صعيد التعامل مع المناهج والمقررات. هناك، بطبيعة الحال، ضرورة للبحث في الموروث الجمالي الجديد وقراءته أكاديمياً، ومع الطلاب.