حاوره: حسين بن حمزة
تنبع أهمية تجربة الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين, من إخلاصها لعالمها الأول الذي نشأت عليه ودرجت وتطورت, لتصل الى حساسية خاصة في الاقتراب من اللغة والكتابة والشكل والصورة. قصيدته متدفقة, ولغته سيّالة, ومعجمه خصب. يكتب قصيدة يحتل الفرد الشعري مساحة واسعة فيها, حيث الأداء العالي ممنوح للشاعر كي يعلن رؤياه, ويوزع حضوره في العالم على كلمات, تكاد من شفافية إيقاعها ان تتساوى مع معنى القصيدة كلها. وهو اليوم يعتبر أن (القاعدة هي الاتجاه نحو (شعرية) فوق تقنياتها وأشكالها, باعتبارها حرية... وليس في الحرية مصادرة). (الوسط) التقت شمس الدين في مناسبة صدور مجموعته العاشرة (ممالك عالية) (دار الآداب)) التي كانت الأكثر مبيعاً في (معرض بيروت العربي والدولي للكتاب), واكتشفت أنّه يخاف من قرّائه, ويتعامل مع (شهرته) بوصفها (استثناء... تكثف أزمة الشعر ولا تنفيها).
نشرت مجموعتك الأولى (قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا) العام 1975, هل كان فيها بيان أول لشاعر?
- صدرت هذه عن (دار الآداب) مطلع العام 1975, وضمت ما اخترته من قصائد تعود لخمسة عشر عاماً سابقة. بالامكان اعتبار هذا الديوان كذؤابة جبل الجليد الغارق جسمه في البحر, والارتطام به يشكل خطر الموت. عدد قصائد هذا الديوان هو بحدود عشرين قصيدة, ولكن نسبتها الى مجمل ما كتبته قبل الديوان هو واحد من عشرين. وما تبقى أحرقته لكي لا يشكل لي مربط حنين. وحتى (قصائد مهربة) بذاتها حاولت نسيانها بعد صدورها, لكنني لم أنجح تماماً. فقد بقيت كمولود أول مصنوع في الفتوة والفجاجة, في المغامرة البعيدة عن حسابات الحكمة, وهي قصائد ذات غريزة لغوية كاسرة وذات انتباه صارم للإيقاع والموسيقى المركبة. كما إنها تسيِّر حشودها على أحصنة من صور. ولأعترف ان المعاني فيها مهاترة, أي تنطوي على تناقضات حادة تميل بكل شيء, في اتجاه نفيه ببيانات شعرية طويلة. فمن يُخدع بالمعنى قد يخدع به, وهو احتمال جعل الكثيرون يعتبرونني شاعراً من شعراء الجنوب. وأنا لست كذلك فأنا شاعر العدم الشعري, ومهما توافدت الرموز المتعلقة تارة بالأرض وتارة بكربلاء وبالدم وبالأقنعة التاريخية, وغيرها. أنا في الأساس شاعر عدم شعري. لم أكن مسكوناً بهواجس رومانسية وغنائية في اتجاه أي أمر من أمور الشعر والحياة, لا في الأصل ولا في الشكل.
لم تبدأ تجربتك من بيان شعري إذاً.
- ليس لدي بيان بل أحوال, وهي أحوال متحركة ومتضاربة. ولكنها تنبثق انبثاقات على أسس من لغة وصور وإيقاع.
دعني أشبه ذلك ببركان. ليس للبركان بيان.
ما الذي كان يحدث من مجموعة الى أخرى على صعيد التعبير الشعري?
- بالنسبة الى الشعر هو انبثاق, وليس تدبيراًَ يدخل فيه العدم والجنون والنزوة. وكل ذلك مغامرة في اللغة. هذا الشعر رافقني حقيقة حتى الآن, مع تعديلات أريد ان أذكرها. تولّدت من خلال العمر, وتدخلات كثيرة من جهة الثقافة وإحساسي بالزمن, ما يجعلني أحيانا في ديوان (ممالك عالية) على وجه الخصوص أميل لقطف الحكمة. بالطبع لا أتقصد ذلك, ولكن طبيعة النصوص في هذا الديوان فيها حكمة, حكمة مُرّة, وليست تعليمية. حكمة الخسارات الكثيرة, وحكمة الألم المتراكم, ثم ديناميكية الفتوة أو الصخب المتمثل باللغة وعصفها في كل اتجاه عبر التجارب الأخيرة.
هل تحولت من فرد درامي وصاخب الى شخص عادي وضعيف داخل القصيدة?
- لست مقسوماً قسمين قوي ثم ضعيف, بل أنا القوي الضعيف. الشعر كله هو كلمات. الكلمة التي تقول كل شيء ولا شيء. لعل من الأحصنة الأولى سوى حصان واحد هو أنا, وحده على جبل ويصهل في انتظار الصاعقة. صحيح أنني بدأت وحدي أصرخ عالياً, ولكن كما يقول شيلر: (حين انتهيت انتهيت).
كلامك عن الحكمة يأخذنا الى حضور الفلسفة في الشعر. تمثل ذلك قديماً في شعر طرفة وزهير والمتنبي. لماذا يغيب هذا الهاجس في الشعر العربي الراهن?
- عندنا اليوم صلاح عبدالصبور وأنا. خليل حاوي أدخل الأسطورة وليس الفلسفة في نصوصه. وفي رأيي ان عدم تدخل الحدس الفلسفي, وليس الفلسفة كأنظمة, في نصوص شعراء الحداثة العربية, سببه انعدام الفكر الفلسفي العربي المعاصر. بعض شعرائنا لهذه الناحية سابقون على الفكر الراهن بذاته. من باب أولى هم سابقون للنقاد. وهو بخلاف ما أسست عليه الفلسفة الألمانية الحديثة والمعاصرة بكاملها, من كانت وهيدغر وهيغل وحتى نيتشه. لقد أسس هؤلاء رؤاهم الفلسفية على أشعار تنطلق من غوته وشيلر وهلدرلين ونوفاليس. وهي ظاهرة تلفت الانتباه. فالأبنية الفلسفية المثالية أو الجدلية أو التدميرية عند نيتشه كلها مؤسسة على الشعر الألماني, حتى هناك من يعتبر ان غوته هو مؤسس الفلسفة الألمانية الحديثة والمعاصرة. هذا الأمر مهم جداً في نظري ونفتقده في شعرنا المعاصر ما خلا الاستثناءين المذكورين, وهما كما قلت استثناءان يمتّان بصلة الى العدم. صلاح عبدالصبور عدمي في شعره, والنكهة الصوفية عنده مثلما هي عندي, ليست إثباتا بمقدار ما هي محو, أقول: (يأتي من جهة البحر ومن جهة الصحراء / طفل بدم أبيض / بقنابل ضوء فوسفورية / بحمام أو بطباشير / ويدون فوق اللاشيء / هواجسه: لا شيء لا شيء).
لماذا تحصر الأمر بعبدالصبور وبك. ألا يوجد شعراء آخرون لديهم حدس فلسفي أدونيس, السياب, البياتي.
- أنا أفرق بين الحدس الفلسفي في الشعر والحدس الفكري. ان لدى أدونيس حدساً فكرياً وحوارياً رافضاً وقابلاً مع التراث, لكنه لا يطرح في شعره أسئلة في الحدس الفلسفي. هذا الهاجس الفكري والجدالي يغيّب معنى أشعار السياب التي هي أشبه بانبثاقات ألم صارخ, وغير مفكر به. البياتي هو شاعر أقبية ودهاليز أحياناً وثنية وأحياناً صوفية وربما جزء من الحدس الفلسفي لدى أدونيس والبياتي من خلال التماس مع الثقافة الصوفية. لكنهما على غير تماس مع العبثية والوجودية والعدمية, وهي التي تؤسس للهاجس الفلسفي في الشعر, والهاجس الفلسفي يطرح أسئلة أبعد وأكثر تعقيداً من الأسئلة الفكرية, وأكثر عمقاً والتباساً. يقول عبدالصبور: (هل ماء النهر هو النهر) ويقول أيضاً: (كيف أجن كي ألمس نبض الكون المختل). ان خلف هذه الأشعار وأمثالها حرفة الفلاسفة وليس المفكرين لأن فيها أيضاً العدمية الضرورية للفلسفة, أقول مثلاً: (نمشي في الموت ولا نتعداه / فالموت هو الأحلام الموصولة).
- المشكلة في الشعراء وقصائدهم, لا في الأوزان سواء كانت خليلية تامة أو ناقصة, أو كانت مؤسسة على التفعيلة المفردة. هنا أريد ان أدخل في مسألة أكثر حرجاً, هي مسألة علاقة الموسيقى بأداتها. والسؤال مثلاً: هل من الضروري ان تكون القطعة الموسيقية المعزوفة على الكمان حزينة. وعلى العود فرحة وعلى البيانو تأملية? الجواب هو لا, ليس بالمطلق. فربما استنطق مثلاً عازف الربابة حزناً تكوينياً في أوتار الربابة, لكنّه ليس ملزماً بذلك, تبعاً لقدرته على فصل الآلة عن ذاكرتها. على صعيد الشعر الأمر نفسه, الشعراء الكبار هم أسياد جميع الأوزان والتوازنات, ويخضعون عناصر القصيدة لنارهم التكوينية التي تصهر كل شيء في سبيكة النص.
لكن يبدو الشغل الأساسي لشاعر التفعيلة, هو جعل المعنى ملائماً للوزن, كمعطى أولي لا يمكن التنازل عنه.
- أولاً ليس ثمة من معنى. في قصائدي المعنى يهرب من ذاته, يحكم تركيبي الداخلي, وحدسي الفلسفي الأول الذي هو أصل الشعر. أضف إلى ذلك أن أي شعر يقحم قارئه في هاجس المعنى هو شعر ضعيف. كأن الشعر هو سيلانه بلا روية, عبث ولعب. وفي العبث واللعب تجد القواعد الميكانيكية مؤمنة, لكن هناك انقلاب عليها أيضاً. علاقة الشاعر بالأوزان والتوازنات هي تماماً كطفل يلعب. الطفل سيد ألعابه, والشاعر سيد الإيقاع. هو حر في ان يستخدم كل المعطى الإيقاعي للقصيدة العربية, من امرئ القيس حتى آخر صعاليك الشعر المعاصرين. وأن يستفيد من تجارب اللغات الأخرى كما له ان يهملها. فليس استعمال الوزن ولا كسره بحد ذاتهما دلالة ودمغة. المهم حضور عناصر القصيدة في ذاتها, وكيف اختلفت أو ائتلفت. محمد الماغوط لم يستعمل الأوزان وهو شاعر استثنائي, والسياب استعملها وتصرف بها وكان شاعراً كبيراً.
لماذا ينظر الى نصوصكم كشعراء قصيدة التفعيلة, كتجارب فردية مقارنة بالتحقيب أو الأجيال التي تدرس على أساسها قصيدة النثر?
- لا يؤمن الجسور الشعرية بين الأزمنة سوى الكبار من الشعراء, وهم قلائل. وقد يأتي زمن ما تسيطر عليه لكنة شعرية, وربما تعممت من دون تأصيل نقدي واجتماعي, ومن خلال الإعلام والعلاقات الخاصة. وأخشى في مثل هذه الحالة ان تكون المسألة موجة تعبر, وتذوب في البحر. أنا لا انزلق إلى الجدالات النظريّة التي يستدرجنا إليها بعض شعراء قصيدة النثر, لاعتقادي بأن الشعر هو الحرية كما أسلفت. الحرية في الاختيار, والحرية في الترك والإهمال. لذا أحتكم للنصوص. أخاف ان يكون ضجيج قصيدة النثر أكبر من جوهرها, ومعطاها المتحقق في العربية المعاصرة. ألاحظ ان حدة الانفعالات تجاه قصيدة التفعيلة, قد تراجعت الآن والعكس صحيح. إن الزمن يغربل النصوص والنظريات, ويمشي باتجاه تسويات حقيقية للشعر. فلم أعد أسمع مثلاً ما كنا نسمعه من ان المستقبل هو لقصيدة النثر, كما لم أعد أسمع من يرفض رفضاً مطلقاً قصيدة النثر. هناك استثناءات ولكنها لا تشكل القاعدة. القاعدة هي الاتجاه نحو (شعرية) فوق تقنياتها وأشكالها, باعتبارها حرية. وليس في الحرية مصادرة.
الانطولوجيات التي نشرت أخيراً للشعر العربي في لغات عدّة, كانت حصة قصائد الإيقاع فيها أقل بكثير من قصيدة النثر.
- أنظر يا صديقي, أكثر الشعراء العرب المعاصرين انتشاراً على المستوى العالمي, من خلال الترجمات والأنطولوجيات, هو أدونيس. وأقول لك إن أدونيس بلغات العالم جميعاً غير معروف أو غير حقيقي. الشاعر ليس حقيقياً إلا في لغته, وبالتالي فهذا الشاعر هو ما أنتجه بالعربية. والأنطولوجيات تقدم أفكاراً أولية حول أسماء شعرية, وأنا لا أؤمن بترجمات الشعر إلا من حيث تقريب المعنى. وكون الشعر الفرنسي والألماني والعالمي على العموم اليوم هو شعر قصيدة النثر, فما ينقل من خلال والأنطولوجيات يركز على هذه القصيدة. لكن ليس بالامكان تلافي الحاضرين خارج إطار قصيدة النثر, وإلا أساء الأمر إلى الانطولوجيا نفسها, وإلى صدقيّتها.
ما الذي يؤمن للقصيدة الإيقاعية احتياطها اللغوي والشعري? ألا تعتقد ان جزءاً كبيراً من هذا الاحتياطي يعود الى تجاورها وتداخلها مع قصيدة النثر?
- ان تطوير الشعرية العربية بدأ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, عن طريق تطوير النثر العربي وإنزاله عن زخرفه, الى لغة الجرائد وترجمات العهدين القديم والجديد. وهذه مسألة أشارت إليها سلمى الخضراء الجيوسي في كتابها الأخير حول (مدارس الحداثة الشعرية العربية). أي ان النثر كان الطريق إلى تطوير الشعر. والتطوير لا يقتصر على قصيدة النثر, بل يتجاوزها إلى تقنيات الكتابة بكاملها, من سردية وقصصية وتراثية وسير وعلوم ونصوص وقصائد. أنا أولي أهمية كبرى للنص السردي النثري العربي الذي تجده في التاريخ, مثلما تجده في الصحافة, وحتى في كلام الناس اليومي وأحياناً في قصيدة النثر.
هل كانت قصيدة النثر أقرب الى هذا النثر!
- التخلص من البلاغة, ومن سطوة التواريخ, والتركة اللغوية, صعب على شاعر التفعيلة. والشاعر يدخل في ما يشبه مصارعة ثيران. هناك ثيران كثيرة ولا بد من أي يسيل دم الشاعر. لا بد من كسر سطوة الإيقاع, لكن كيف? هذا هم كل شاعر على حدة. تعجبني تجارب صلاح عبدالصبور وأمل دنقل وعبدالمعطي حجازي, كنماذج لهذا التزاوج بين الإيقاع وبين النثر. وهذا يتطلب معركة مع نفسك الشعري, خصوصاً إذا كان ميالاً الى الإيقاع.
مجموعتك الأخيرة (ممالك عالية) كانت بين الكتب الأكثر مبيعاً في الدورة الأخيرة من (معرض بيروت العربي والدولي للكتاب). هل يعني هذا شيئاً على صعيد أزمة الشعر?
- إن تصدر ديواني قائمة الكتب الأكثر مبيعاً, كان بالنسبة إليّ دافعاً للخوف. أخاف ممن يقرأني, لأنني لا أثق بوصول التباساتي وأحوالي الى القارئ. صحيح أني ألبي الدعوة لأمسيات ومهرجانات كثيرة, لكنني لم أكن مرّة مرتاحاً ومطمئنّاً. وصول الشاعر إلى رأس قائم المبيعات, يعود غالباً لشهرته, لكنّني لم أفعل شيئاً للترويج للكتاب. حين صدر (منازل النرد), خلال معرض الكتاب الأسبق, كنت في القاهرة وجاء مبيعه عالياً جداً. على العموم كتبي تطبع طبعات عدة. فهذه حالات فردية مرتبطة بالشهرة, واذا كان ذلك استثناء فهو يكثف أزمة الشعر ولا ينفيها. الشعر اليوم أقلّوي وهذا لحسن حظه.
هل تظن ان الإنسان يولد شاعراً. هل هناك سيرة ما تجعله شاعراً فيما بعد?
- إذا رغبت في ان تعرف أسرار قدري الشعري تتعب, لأنك ستجد نفسك أمام مفارقات كثيرة. أقصد السيرة السابقة على كتابة الشعر. فمنذ الصغر حواسي مهيّأة لأن ترتعش أمام المشاهد والعناصر. الريح في صغري تشكل لي مسألة مثيرة ومهمة جداً. عندي شغف بالرياح في الجبال. أستسلم لجمالية وحشية منذ الصغر. الرمال القاحلة مثلاً ومسافات الصحراء أحلم بها. البحر في هياجه. كما ان جسدي ونفسي شغوفان بمفاصل الفصول. المطر. الصخور.
الوسط - 4 مارس 2002 الموافق 21/12/1422هـ / العدد 527