هي الخصوبة، هي روح العالم وصوت الإنسان

حاورته: نوّارة لحرش
(الجزائر)

عبدالناصر خلافعبدالناصر خلاف كتب كثير من النصوص الشعرية لكنه فجأة تسرب من الشعر وبالشعر إلى المسرح ، لم يجد عالمه الجميل الذي تخيله في الشعر ففر إلى الركح وإلى مساحات ركحية شاسعة، قال ذات يوم وما زال يقول اليوم: "إنه خان الشعراء لكنه لم يخن الشعر". قال أن القصيدة أجمل وهي فراشة ترفرف في الفضاء الممكن والمتاح من المسرح، و بأنه يريد إيصالها إلى الآخر بالرشوة الجمالية .
قال و قال فصدقنا أن الخشبة الآن هي مسافاته واتجاهاته . كان يمكن أن يكون شاعرا ويستمر شاعرا لكنه صار مسعاشقا.تحه الخشبة بسحرها بشغبها بدموعها فانزوى في ركنها عاشقا ..وفي سره ما زال وفيا للشعر .. ولهذا يسربه للخشبة كورود علنية لتكتمل حدائقه الركحية ..

أنجز عدة تراكيب شعرية للمسرح منها "ورد أقل" لدرويش و"الكابو أكثر.حمد الماغوط و" تداعيات عاشور " المقتبسة عن نص واسيني الأعرج ،و"الفراشات السوداء" المقتبسة عن نص للشاعر المغربي عبدالله رزيقة وهي تكريما لبعض الشعراء ولبختي بن عودة. في هذا الحوار يتحدث الشاعرالشاعر، عبدالناصر خلاف عن كل هذا وأكثر .

****

* النصر: عبدالناصر خلاف الشاعر ،أين هو الآن ؟هل التهمته أضواء المسرح؟

عبدالناصر خلاف:أخرى.لناصر خلاف هو الآن قريب من نفسه، يحاول أن يمتد بصفاء إلى الداخل حأخرى.عالم يأخذ صورة أخرى . ها أنا ابتوبينهم.ا عن لعنة الشعراءوبينهم.هوة بيني وبينأحيانا، الكائنات التي كانت فعلا تشبه الفراشات والأزهار تشوهت وامتلأت بالخواء لذا تركت دمي ودمعي على الأعشاب ومضيتُ حيث استمع إلى صوت الداخلي .
القصيدة تسكنني ولعنة الشعر مازالت تحاصرني ..
إنني ههنا،سم أحيانا ، وأبكي كثيرا للعطب الذي جعلنا نتشوه بسرعة ولم نعد كالأمس أطفالا.
إنني هنا ،لا أحد يراني سوى من يملك حساسية زائدة،إنني هنا حيث الشعر.الشعراء، لكثير من الأصدقاء عاتبني لأنني قلت بلغة قاسية إننواللون،الشعراء، لكنها الحقيقة.
لقالنصر:ت في خشبة المسرح حياة ثانية ولغة مدهشة التشكيل واللون ،تعاملت بتحيز لمسرحة القصيدة كي ينتصر الشعر في زمن الموت ،إنني هنا غيرتُ مكاني لكنني اقتربت أكثر والتحمت بالقصيدة. ينكرني الشعراء ولا تنكرني القصيدة.

* النصر : تقول بأنك خنت الشعراء ،هذا يعني أنك أيضا خنت الأصدقاء ؟

عبدالناصر خلاف : خيانتي للشعراء لم تكن اعتباطية بل هناك وقائع دفعتني لهذا التصريح الذي يعتبره الأغلبية جارح.. هو هذا التحول العميق اتجاه مجموعة أخرى، وجدت فيها جوانب يفتقد إليها عالم الشعراء ، لا أتحدث عن الاستثناء ولكنني أتحدث بصفة عامة، وفي كل هذا الذي يهمني هو الإنسان، فأغلب أصدقائي هم من البسطاء و لا ينتمون إلى عالم الإبداع وأنا من النوع الذي يحافظ على الود ، فأنا مخلص لهم. وقد أطلقت هذه الصرخة بعد تحدثت في من الصديقين عبدالله شاكري و محمد طالب البوسطجي، فالذين وقفوا معنا هم أناس لا علاقة لهم بالشعر ولم يقرؤوا لهما حرفا واحدا بينما الجمع الكريم من أصدقائنا الشعراء اختفوا والتزموا الصمت الكامل.. لقد سبق في هذا المنبر أن تحدثت في يوم الشعر عن حلمي وهو أن اشتري قطعة ارض وأقيم في أرجاء مهملة، وأغير اسمي.. فعلا إن عالم الأدب عالم موبوء... يكتبون عن قيم لا يؤمنون بها نهائيا.. لذا أجد ني أشكك في مقولة الشاعر الألماني هولدرين:" الذي الجمالية، الشعراء".

* النصر: قلت بأنك تريد إيصال القصيدة إلى الآخر بالرشوة الجمالية ، كيف هذا ؟

عبدالناصر خلاف : فعلا .. لقد تحدثت في كثير من المنابر الثقافية والإعلامية عن هذه "الرشوة " التي تشبه حبات الدواء المغلفة بمادة سكرية، تجعل الطفل عندما يتناوله لا ينتبه إلى مرارته..
أعتقد جازما أن القصيدة المعاصرة في الجزائر، فقدت أغلب جمهورها لأسباب عدة منها، هيمنة التكنولوجيا على الوسائط الإعلامية السمعية والبصرية.. كما يتحمل الشاعر جانبا كبيرا من المسؤولية حيث اغترب كثيرا وغرب وهرب جمهوره بقصف مفاهيمي ولغوي، بدعوة الحداثة وما بعدها، والتصوف .. هذا "التشكيل" اللغوي النخبوي الذي تعجز القواميس عن تفسيره، هذا بالنسبة للمتلقي المختص، فما بالك للقارئ العادي؟؟
إن الشعر في جوهره ليس مجموعة من الشيفرات والرموزهي:ما " هو ما يحرك الشعور " .
وانطلاقا من تجاربي الكثيرة في رئاسة لجان التنظيم العليا لعدة مهرجانات وملتقيات أدبية وطنية، وصلت إلى نتيجة مفادها أن هناك وسائل أخرى لم يوظفها الشاعر الجزائري المعاصر، منها لغات العرض المسرحي.. وقد حاولت أن أستفيد من هذه التقنية التي أعتبرها "رشوة" لأوصل– بتجربة متواضعة- إلى جمهور فقد علاقته بالقصيدة، وعندما أتحدث عن هذا "الجمهور" فإنني لا أقصد ذلك الجمهور الحاضر" بالقوة" بحكم أنه يتشكل من المنظمين والشعراء المشاركين والإعلاميين والإداريين..
أتحدث هنا عن جمهور مختلف تحركه القصيدة فقط.
فكان التركيب الشعري .. "رشوتي" الجميلة ..

*النصر: تجربتك المسرحية تعتمد على التركيب الشعري ،إذن أنت تلقح المسرح بالشعر ،هذا يعني أنك شاعر بالأساس .

عبدالناصر خلاف: جميل جدا هذا الوصف "التلقيح" وهي فعلا هذه العملية التي تضخ في جسد القصيدة دما جديدا..
لقد استفدت من المسرح، هذا الفن المدهش والحي الذي يرتبط أساسا بالجمهور، فلا مسرح بدون جمهور، إنه يجعله يعيش " الآنية "، في بداية تجربتي تساءلت لم لا نستفيد من دهشة المسرح؟ فإذا كان المسرح هو "أب الفنون" فأعتقد أن القصيدة هي : "أم الفنون"، هي الأنثى، هي الخصوبة، هي روح العالم وصوت الإنسان..
بدأت أوظف تقنيات الخشبة " رغم غضب أهل الحرفة علي" واعتبروا ما أقوم به هو" نزوة شاعر " وهناك من جعلها مصدر سخرية.. وبعض زملائي الشعراء من اعتبر هذا التوجه هو عجز لي كشاعر، وبالتالي هو تعويض عن هذا العجز "الشعري" بعمل استعراضي، هذا الذي كان يحدث، شخصيا لم أعط للأمر أية أهمية، بل استفدت منه، وكان دافعا قويا لأعمق تجربتي، فالتحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية- ببرج الكيفان- وتحصلت على ديبلوم الدراسات العليا في الفنون المسرحية..
البدايات الأولى كان العمل يأخذ صفة "الكولاج" وكنت فعلا أعيش روح القصيدة وكانت تجربة متناهية الرقة ومذهلة، كان لا بد للشاعر والمسرحي في داخلي أن يتحالفا للقبض على وهج القصيدة الحية والشهية والعصية أحيانا ومد أطرافها وجعلها مرئية، تضخ بالحياة.. كنت أكتب قصائد ركحية..
وعلى الخشبة كنت غارقا في الذهول والبكاء والفرح..
كنت أجعل المتلقي الذي لا يعرفني، يعيش معي هذا الطقس الشعري، أشعل له ومن أجله الشموع..أذكر أن في التركيب الشعري " ورد أقل " أشعلنا أكثر من 400 شمعة..
كما كنت أحرك داخله بالعنبر والبخور وأطعمه الحلوى والتمر كما حدث في "الكابوس" كانت للقصيدة على الخشبة رائحة ولون وطعم.. كانت مصيدة !!
أي التي تشبه تلك العلاقة بين النحلة والزهرة، أي كما قلتِ سابقا " تلقيح" وكان فعلا التركيب الشعري مصيدة يقع فيها المتلقي، ويطلب مني بعد نهاية العرض أن أعطيه ديوان الشعر..

* النصر : إذن هل يجب أن نمسرح الشعر إن صحت التسمية حتى نرغب فيه المتلقي أو حتى نصطاده بتوابل ركحية ؟

عبدالناصر خلاف: الصحيح هو كل هذا مسرحة الشعر ( جعل القصيدة درامية) ومنها اصطياد المتلقي كما قلتِ بتوابل ركحية ، الغاية منها إيصال القصيدة والاحتفاء بها..

* النصر: قلت أيضا بأنّ الشعر ابتعد عن الجمهور تماما، هل يمكن أن نقول أيضا بأنّ الجمهور ابتعد عن الشعر والشاعر ؟

عبدالناصر خلاف: للأسباب السابقة الذكر ابتعد الجمهور عن الشعر والشاعر. أي ممكن نسم، ! عملية " نفور "..فالشاعر المعاصر سجن نفسه داخل متاهات لغوية وهو شخصيا عاجز عن فهمها وفك طلاسمها..إنه يكتب القصيدة بتعالي مطلق، " إني في الأعلى على المتلقي أن يصعد إلي، !! ".

* النصر: بعد " ورد أقل " لدرويش و"الكابوس " لمحمد الماغوط و" تداعيات عاشور" المقتبسة عن نص واسيني الأعرج ،و" الفراشات السوداء " المقتبسة عن نص للشاعر المغربي عبدالله رزيقة وهي تكريما لبعض الشعراء ولبختي بن عودة،ماذا ننتظر بعد وهل هناك تراكيب أخرى قادمة ولمن تحديدا ؟

عبدالناصر خلاف : عندما انتقلت إلى العاصمة، أنجزت بعض الأعمال منها تركيب شعري عن نصوص " محمد الماغوط " يحمل عنوان " اسمي" وقدمته رفقة طلبة المعهد الوطني العالي للفنون المسرحية، بالمكتبة الوطنية الجزائرية، وهو في الحقيقة أنجز تكريما لصديقه الشاعر المرحوم ممدوح عدوان الذي كان من المفروض أن يكون ضيف الجزائر، لكنه غاب لظروف صحية..
كما قدمت عملا آخر، وأعتبره عملا متميزا لأنني اشتغلت على نص قصصي مترجم عن الألمانية لأبي العيد دودو ، وقدمته أيضا في المكتبة الوطنية الجزائرية – قبل التحاقي للعمل فيها – وقد وجدت في مديرها الدكتور أمين الزاوي كل الاهتمام والتقدير والتنويه..
وهو الوحيد في العاصمة الذي احتفى بأعمالي..
لدي حاليا مشاريع أعمال منها تركيب شعري لقصائد الشاعر العراقي محمد طالب البوسطجي، حيث سأقدمه- إن شاء الله- بعد عرض الكتاب الذي سيصدر ضمن منشورات المكتبة الوطنية الجزائرية..
كما لدي أيضا تركيب أدبي/ تشكيلي بين الفنان المرحوم بشير بلونيس والأديب جبران خليل جبران..
أتمنى أن أوفق فيهما..

* النصر: هل يخدم المسرح الشعر وكيف ؟ ، وهل يخدم الشعر المسرح وكيف ؟ ، ومن منهما يخدم الآخر أكثر وأجمل ؟

عبدالناصر خلاف : منذ عهد الإغريق كان الشعر هو الذي يخدم المسرح مرورا بالمسرح الإليزاباتي إلى غاية موليير و ديدرو..فقد كانت النصوص المسرحية، هي في الأصل نصوصا شعرية، ومع ظهور تيارات جديدة في المسرح منها: العبث والطبيعي، والسيكولوجي.. تحولت النصوص الشعرية إلى نصوص نثرية، وتحول المسرح من مسرح الكاتب إلى مسرح المخرج..
والآن يمكننا أن نحكم أن المسرح هو الذي يخدم الشعر، وإن أردنا تبسيط القضية أكثر، فالشعر هو الذي كان يحمل على ظهره المسرح، وبمجيء النثر أسقط الشعر أرضا، لذا علينا أن نتحايل عليه أحيانا كي نجعل المسرح يحمل قليلا الشعر كي نراه ونسمعه.. وإن كان حقلت:المسرح هو أيضا أصبح يعتمد على اللغة البصرية مما أعطى السيادة للسينوغرافيا بدل النص المسرحي كما هيمن أيضا العنصر الكوربغرافي، وبالتالي حدث اقتصاد كبير في النص..لكن ما أراه شخصيا أن جمالية العرض يعتمد على هذا العناق الجميل بين القصيدة والخشبة..

*النصر: قلت :" الشعر الملحون أصدق وأعمق من الشعر المكتوب باللغتين العربية والفرنسية لأنه قريب من المجتمع " ، لكن ألا ترى بأنّ الجمالية ربما غير متوافرة بكثافة في الشعر الملحون ؟

عبدالناصر خلاف : لقد صرحت فعلا بهذا، وأنا مازلت مقتنعا بذلك، فالشاعر "الشعبي" هو الشاعر الحقيقي الذي اقترب بنصوصه وهمومه إلى مختلف شرائح المجتمع، حيث يكتب لهم ويعبر عن أحاسيسهم وعذاباتهم، ورغم هذا فأنا أعتبر " محمود درويش"، "نزار قباني"، "عيسى لحيلح"، "أحمد مطر" " شعراء شعبيين"..
إن الشاعر المعرب أو المفرنس في الجزائر يكتب وهو منغمس في دواخله وغارق في رموزه، وشطحاته اللغوية..إنه متعالي .. عندما نتحدث عن جماليات القصيدة، لو أخذنا مثلا قصيدة " ?مر الليل" لكريو، و "حيزية" لبن قيطون هل تخلو منهما العناصر الجمالية؟ هل هي مجرد حشو لغوي؟ وتلاعب بالألفاظ وسجع !؟! فقط أشير أن هناك الكثير من شعراء اللغة العربية من يكتبون سرا وعلنا قصائد شعبية لن أقول لك وللقارئ من هم؟؟لكن أسألك لماذا هذا التحول؟!

*النصر: وأنا أرد لك نفس السؤال وأسألك لماذا برأيك هذا التحول الذي تعتقد فيه ؟

عبدالناصر خلاف: إنكِ تحاولين دفعي للهوة والتصريح بأن القصيدة الجزائرية المعاصر فقدت بريقها..هذا يقودنا إلى الحديث عن موت الشعر ربما هذا الذي تريدينه.. لكنني لن أتورط أكثر في التشريح..أقول إن القصيدة الجزائرية والعربية عموما وصلت إلى طور الاحتضار..لذا جرب بعض شعراء الفصحى كتابة الشعر الشعبي لأنه غنائي وثانيا إن الجزائري يتواصل معه ببساطة ويصل إليه بدون واسطة (الكتاب).. ربما هي وسيلة لصيد الجمهور ..مثلا أكتب الشعر الملحون لينتبه الجمهور إلى قصائدي الأخرى..

* النصر: شعرنة المسرح ومسرحة الشعر أيهما أسهل وأيهميجد بهجتها أقرب إلى نفسيتك الفنية ؟

عبدالناصر خلاف: الأقرب إلي بحكم تكويني المسرحي ، هي عبارة أو مصطلح " شعرية المسرح" ، لأن المسرح في السنوات الأخيرة خاصة المسرح الغربي، هو أيضا يعيش أزمة، حيث أصبح –وهذا بحكم الكثير من المختصين- أكثر ميكانيكية، وتحول الممثل، هذا الكائن المدهش إلى آلة داخل مصنع كبير..لذا أجدني أكثر اقترابا من هذه الرؤية لأن الجمهور الجزائري يحب السحر والحلم والدهشة واللون والكلمة..
أنه أكثر حساسية للأشياء الجميلة..
أما عن مسرحة الشعر، فهي تجربة أقوم بها دفاعا عن القصيدة، وحمايتها، وتقريبها إلى الجمهور، هي هذه " الرشوة"..إن جيلنا والأجيال التي سبقتنا تربى على الكتاب وكان يجد بهجته في ديوان شعري مطبوع..
أما الأجيال القادمة، أعتقد أنها لا تحتمل هذه المتعة أكثر..
إنها أجيال مختلفة
وعلينا أن نفكر في الأمر ببراغماتية..

جريدة النصر الجزائرية
28 نوفمبر 2006