حوار: حكيم عنكر

عبدالعزيز جاسمفي تجربة الشاعر الإماراتي عبدالعزيز جاسم ضفاف كثيرة، إنه ليس بالشاعر السهل الذي يكتب قصيدة سهلة في متناول اليد، وقصيدته مثل حياته، متشابكة الأغصان ومشجرة، في "لا لزوم لي" الصادر في منتصف التسعينات والذي تعود نصوصه إلى سنوات الثمانينات، إعلان صريح عن شاعر إماراتي وعربي، له صوته وفرادته وجملته الشعرية الخارجة من أعماقه ومن حياته وقراءاته و"تجواله" المعرفي في العلوم والفلسفات والأفكار. هنا مدارات هذا الحوار الذي كان محوره الأساسي الأسئلة الحقيقية للثقافة الإماراتية، بين خاصها وعامها، وبين خاصتها وعامة كتابها ومثقفيها.

*تعرف إليك قارئ الشعر في "لا لزوم لي" ومنذ ذلك التاريخ لم نعد نراك إلا في نصوص متناثرة هنا أو هناك، وكأن المتأمل لتجربتك يخرج بنوع من الإنطباع مفاده، أنك مرتهن أكثر إلى قيمة الصمت، وأنت تراجع تجربتك بين الآونة والأخرى، هل ترى أن هذه البياضات الزمنية كفيلة بتكريسك كشاعر؟ أتكلم هنا تحديدا عن إصرار الشاعر على الحضور المتواتر في المشهد الشعري والثقافي العام.

- في ما يتعلق بتيمة الصمت، أعتقد أن كل شاعر حينما لا يكون داخلا ضمن سباق ماراثوني مع العالم أو مع الكتابة أو مع الآخرين، أو في إطار أي منافسة خارج الشعر، فإن هذا الشاعر حينها يكون في حاجة إلى الكثير من الصمت ومن العزلة ومن العمل الدؤوب وكثير من المراجعة، لكن هذا لا يعني أني منكفئ ولا أعمل وفي محصلتي الآن العديد من المخطوطات التي ستنشر تباعا في القريب.
وإذا جاز أن أتأمل تجربتي فإني أقول عليها التالي: أنا مقل في النشر لكن مكثر في الكتابة ومكثر في القراءة ولا أجدني مقصرا في شيء، أشعر أني أمشي بهدوء وببطء، ولكن بثقة أيضا.
وفوق هذا وذاك ما الذي يمنحك إياه الصمت؟ إن الصمت بالنسبة للشاعر ملاذ، وهو يجعل الشاعر يجود في كتابته ويراجع نفسه كثيرا.
قد أكون أعيش حالة وسواسية في الكتابة، أنا وسواسي في الكتابة ومتطلب، وفي حصيلتي الكثير من النصوص التي لم أنشرها، ولم تخرج في كتاب، ولكني قريبا سأصدر مجموعتين على التوالي.

*هذا الإصدار الموعود، هل هو استمرارية ل "لا لزوم لي" أم هو قطيعة مع تجربتك السابقة؟ ثم كيف تفهم معنى القطيعة الشعرية في التجربة المتصلة للواحد؟

- لا أستطيع أن أقول إنها قطيعة، ليس لدي الجزم بذلك، ثم ماذا تعني القطيعة؟ ربما أكون في تجربتي الجديدة أحفر في تيمات أخرى لكنها في النهاية متقاطعة مع التيمات السابقة التي اشتغلت عليها ولا تدشن معها قطيعة بالمعنى الباشلاري، لكن هناك نفس آخر ورؤية أخرى ولغة لها خصوصيتها، ولذلك لا أجد أدنى حرج في القول إنها تجربة مختلفة عن تجربة "لا لزوم لي".
إن ديواني الأول هذا أعتبره مرحلة من مراحلي الشعرية الضرورية، وأسمي هذه المرحلة بمرحلة "الكتاب الأسود"، أو المرحلة السوداء في حياتي، إنما المرحلة الجديدة التي أكتب فيها ومن خلالها، هي مرحلة تأمل وهدوء، الهدوء النسبي. ونصوص هذه التجربة مختلفة تماما عن "لا لزوم لي"، وهذا متروك فيما بعد لمن يقرأ هذه التجربة ويقيمها من النقاد والمتابعين لشأن القصيدة، غير أني أقول "لا لزوم لي" تجربة مرة ومجنونة وفيها الكثير من الألم والسوداوية، وأعتقد أنه تصعب علي الآن إعادة كتابتها بنفس الروح.
تجربتي الشعرية مرت بمراحل، من تجربة النص السوريالي إلى النص الحكاية المكثفة، إلى النص المفتوح، النص الطويل، النص الرواية.

*وأنت تكتب نصوصك الطويلة في هذا النفس التالي من تجربتك الشعرية، ألا ترى أنك تناقض ما هو سائد الآن شعريا وبالتحديد في تجربة قصيدة النثر عربيا والتي أصبحت تميل إلى الصمت أكثر من الإسهاب، نصوص قصيرة تلغرافية عبارة عن "رسائل" شعرية، في هذا المناخ العام، نجدك تمضي في الاتجاه المعكوس بكتابة النص السردي الطويل ذي البنية الحكائية، النص المشجر، لمن تكتب هذا النص الطويل؟ وهل يوجد متلقيه الافتراضي؟

- لا أكتب لقارئ محدد، وليست لي مشكلة مع القارئ أصلا، وهذا لا يقتصر فقط على النص والكتابة، بل ينسحب أيضا على حياتي، لقد كنت دوما ضد أي تيار وخارج أي تصنيف ضيق.
أما في ما يتعلق بتجربة القصيدة الومضة والنص المكثف فأرى أنها تتقاطع مع الزمن الأمريكي السريع، هناك زمن أمريكي يطغى على العالم، زمن السرعة في كل شيء، لم تعد للشاعر القدرة على كتابة نصوص طويلة، يصطاد اللحظة كي يكتب قصيدة اليوم، واللحظة والشيء، في ما يتعلق بي، أعتقد أن هذا النوع من الكتابة هو مرحلة من المراحل، ووجودنا كشعراء يكمن في ضرورة مقاومة هذا الزمن الأمريكي السريع، وهذا العصر الدامي والمأساوي الكبير، إننا في حاجة إلى مراجعة وظيفة الكتابة نفسها، وأن لا نكون مرتهنين إلى الشيء واليومي، هناك عصور وتواريخ وكائنات وبشر وأساطير، نحن بحاجة إلى قصيدة ملحمية تلم شتات كل هذه المأساة الإنسانية التي نعيشها اليوم.
القصيدة الطويلة تحتاج إلى عشرة ومصاحبة وإلى رؤيا شعرية مختلفة مفتوحة، ومن خلال تجربتي لم تقنعني أبدا القصيدة القصيرة والقصيدة الومضة رغم أني كتبتها في مرحلة سابقة.
إن القصيدة الطويلة أو القصيدة الرواية كانت دوما بالنسبة لي مصدر إغراء وإغواء، لقوتها ونفاديتها وقدرتها على الدخول والتسرب إلى التاريخي والدرامي والشخصي وتداخلها في الزمان والمكان.
ولذلك أقول إن القصيدة بإمكانها أن تتسع وأن تتوسع وأن تكبر وتتضخم زيادة على قدرة الشاعر على الصوغ الشعري والتحكم والسيطرة على قصيدته بحيث لا تغادر هذه الكتابة منطقة الشعر.

*لكن ألا ترى أن هذه القصيدة المحلوم بها والتي تتكلم عنها بحماس قد تواجه مشكلة المعيار، أي تلك الحدود الفاصلة بين الشعر واللاشعر وذلك النظام الذي يؤلف هوية شيء اسمه الشعر؟ كيف للشاعر الحداثي الذي *يكتب قصيدة نثر أن يدعي اليوم أنه يكتب قصيدة ملحمية، دون الاحتكام إلى الهوية الأجناسية للنص الملحمي؟

- أنا لا أدعي أني أكتب قصيدة ملحمية، ولكني أقول: إن هناك نفسا ملحميا في قصيدتي.

* إذا كنت تقصد المأساة فالشعر العربي الحديث جملة وتفصيلا هو شعر مأساة.

- لم اقصد المأساة في القصيدة، ولكن قصدي كان، ان هناك عصورا مأساوية يحكمها الركود ويحكمها المحو والدمار والعدم المطلق، أما المأساة فهي موجودة في كل العصور وليست مأساوية قصيدة، العذابات موجودة في كل مكان وليس في القصيدة وحدها بل في كل الاشياء من حولنا، ما أقصده، وما أشرت إليه أنت بالقواعد، من موزون ومقفى، هذا نمط لا يناسب العصر ودراميته المأساوية، نحن الآن لا نعيش في عصر هوميروس والآلهة وحروب طروادة، إننا في معمعان زمن مختلف، إيقاعه مختلف ورؤيته مختلفة ودماره مختلف، وألمه مختلف، مكوناته مختلفة، ورؤيته مختلفة.
وأسأل: لماذا نوقف قصيدة النثر عند حد معين ونقول هذه هي قصيدة النثر؟ إن هذه القصيدة مطالبة بأن تتطور وإلا فإنها ستدفع بنفسها خارج السياق وسنصبح بالتالي نكتب قصيدة واحدة، علينا أن نطور وأن ندفع بهذه التجارب إلى أقصاها وإلا بقينا في الحدود وإشارات المرور وأن نضع القوانين وكل العثراث للشاعرالجديد حتى يخاف.
وعندما أقول قصيدة النثر أعني القصيدة الجديدة بمعناها الواسع، وهي مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالخروج من حفرها ومن نمطيتها ومن السياق الواحد والكتابة الواحدة وأيضا الاستنساخ، والشاعر ليس أمامه إلا أن يصارع باتجاه رؤيا كونية وأفقا واسعا ليخرج من محليته وإقليميته. إنني ابن العالم وهم قصيدتي أن تنشغل بقضايا هذا العالم وطبقات ألمه.

*دعني أنتقل معك إلى موضوع ذي صلة، أنت من التجارب الأساسية في القصيدة الإماراتية الحديثة الذي يملك خاصية المراجعة النقدية لتجربته ومراقبتها نظريا وتأطيرها فكريا، وكأنك تسعى بشكل ما إلى الإيحاء بأن أفقك الشعري ليس هو الأفق المحلي بل هو الأفق العربي والمخاطب الكوني، بالمقابل نجد قصيدتك تعيش غربة المكان، لا توجد في هذه القصيدة ملامح المكان المحلي، هل هذا المكان غير مغر لك؟

- أنا لا أوافقك على أن المكان المحلي أو مسقط رأسي غائب عن قصيدتي، لكن ليس كما يفهمه بعض النقاد أو بعض الشعراء، المكان ليس هو ذكر الأسماء، المكان مناخ وفضاءات والأماكن شخوص ورموز ودلالات، أنا لست في النهاية شاعرا سياحيا، أكتب قصيدة سياحية، أنا اكتب ما يتعلق بصراعي الكوني مع العالم والوجود، لست مفصولا عن العالم، أنا بالعكس في قلب العالم، وإذا كنت في الجزيرة العربية فأنا في قلب العالم، وكل تيارات الكون تمر من فوق رأسي وتمر من مكاني، العالم في بيتي وفي زاويتي وعلى سريري.
أما القصيدة التي أكتبها فإنها تعيش غربتها بالفعل، فأنا شخصيا كشاعر أعيش منفاي وليس غربتي.

*ألا ينطوي هذا التحليل على نوع من المبالغة؟ كيف يمكنك ان تعيش كل هذه الغربة المضاعفة؟ ثم ما مفرداتها؟

- ليس في الأمر أدنى مبالغة، إن غربتي هي خارج كل تصنيف رسمي، وليست بحال من الأحوال غربة متوهمة أو مدعاة، فأنا مهما يكن ابن تربتي ومكاني لكني أراه بشكل مختلف عن الآخرين.

*هل سافرت قصيدتك في المكان وفي اللغات الأخرى؟ وكيف تلقاها القارئ الكوني الذي تتكلم عنه؟

- نعم سافرت قصيدتي في الأمكنة الكونية وعبرها وسافرت أيضا إلى اللغات الأخرى، تمت ترجمة ديوان "لا لزوم لي" إلى اللغة الفرنسية وكتاب "مجهول البحر" ترجم أيضا إلى الفرنسية، وهو كتاب تأملي كما ترجمت لي عدة نصوص إلى اللغة الإنجليزية.
أما انطباعات القارئ الآخر فلا أعرفها بالتحديد. إنها متروكة له ولغيره، أينما كان وكيفما كان.

*في شبه لازمة متكررة، أنت من بين الشعراء والكتاب الإماراتيين الذين أصدروا كتبهم إما من القاهرة أو من بيروت، هل هذا بسبب عقدة المركز وهيمنته على الأطراف؟ ولماذا لا تصدر كتبك في الإمارات؟

- أولا، دعني أتحدث عن المراكز، إن المراكز الثقافية سواء بيروت أو القاهرة أو دمشق وحتى بغداد ظهرت بظهور الأيديولوجيات التي كانت تسندها، هناك المد الماركسي والمد القومي العربي وجدت بوجود الأنظمة السياسية الحاملة لها وانطفأت بانطفائها، أما الآن فلم تعد لا بيروت ولا القاهرة ولا دمشق مراكز ثقافية، الآن المركز هو المغرب مثلا، لم تعد هناك نظرة خوف اتجاه المركز، أصبحت الأطراف هي مراكز أصلا.
عندما نشرت كتابي في بيروت لم يكن الأمر يتعلق بتكريس نوع من الهيمنة لمصلحة المركز، بل لأن بنيات النشر المحلية المتاحة في ذلك الوقت لم تكن في المستوى المطلوب، وكان نشر كتاب في المطابع المحلية نوع من إقبار التجربة وإعدام لكتاب له الحق في أن يقرأ ويوزع ويطلع عليه أكبر عدد من القراء. وإلى الآن لا تزال بنية النشر في الدولة مهلهلة، لا توجد دار نشر وطنية ولا دار توزيع قوية قادرة على إيصال الكتاب الإماراتي إلى القارئ العربي في مصر والشام وبلدان الخليج وبلدان المغرب العربي، إنه لأمر يدعو للحسرة والأسف أن يحكم على الكتاب الإماراتي الإبداعي والفكري بنوع من الإقامة الجبرية، وأعتقد أنه آن الأوان لفك هذه العزلة على الثقافة الإماراتية التي لا نعرف إلى الآن كيف نوصلها إلى المحيط العربي بل المحيط العالمي.

*تبعا لذلك كيف ترى إلى المشهد الثقافي الإماراتي؟ هل يتأسس على الدينامية أم على الركود؟ وكيف يمكن إرفاده بأجنحة طيران؟

- من منطلق تقييم شخصي أرى ان المشهد الثقافي الإماراتي مايزال قاصرا، ويبدو أن هناك حملا كاذبا يسم الكثير من التجارب الموجودة في البلد، إن مقدار الثرثرة والإدعاء فيه أكبر بكثير من كم الفعل الإيجابي والنوعي، وهو إجمالا بعيد كل البعد عن القضايا الأساسية التي ينبغي يطرحها، وبالأخص في الجانب المتعلق بدورنا في العالم وفي ظل الحصار المتعدد الذي نعيشه جميعا. الأسئلة الثقافية غائبة تماما في المشهد الثقافي الإماراتي لمليون سبب وسبب، إن أقل توصيف له هو أنه مشهد شللي تكتلاتي مايزال يعيش بمنظومة النميمة والتصنيفات القاصرة تماما عن إدراك أهمية الفعل الثقافي، لندرة المنابر الثقافية الأساسية، خاصة في الصحافة الثقافية، ولولا ملحق "الخليج الثقافي" والذي يستمر اليوم ويشكل النافذة الوحيدة للمشهد الثقافي في الإمارات لما كان هناك شيء، أين هي المنابر الأخرى وأين هو الثقافي من اهتماماتها؟ ولماذا تطلع تجربة وتتوقف أو يتم إيقافها؟ أين هي المؤسسات الثقافية واين هي برامجها؟ عدا دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة والمجمع الثقافي في أبوظبي اللذين يقومان بجهود مضاعفة من أجل الارتقاء بالشأن الثقافي ولديهما استراتيجية كاملة اتجاه الثقافة في الإمارات.
أين اتحاد الكتاب الذي أصبح في نهاية المطاف مجرد "حانوت" لا أقل ولا أكثر؟ وإذا استمر بهذه الطريقة عليه أن يقفل أبوابه.
الكاتب الإمارتي مثله مثل أي كاتب عربي لا أحد يدافع عنه، ويعاني من مشكلات غياب حرية التعبير المكفولة، ليبقى مرهونا لعزلته ولهامشه ولدماراته الشخصية، في المرض وفي الموت. لا أحد يدافع عن هذا الكاتب، هل الكاتب مجرد مسح يقدم لهذا المجتمع دون هوادة؟ كيف يمكن لكاتب أن يبدع وهو مايزال رهنا للقمة العيش والسعي للحياة الكريمة؟ هل هذا الاتحاد قادر على أن يتبنى مطالب كتابه وحقهم في الكتابة وفي الحياة الكريمة؟ لا أعتقد ذلك، إنه مشغول بالكراسي والتطاحنات.

*ولكن أين كنت طوال هذا الوقت؟ لماذا فضلت الإنزواء والجلوس في مقاعد الصامتين؟ هل عشت حالة يأس؟ ولماذا نفضت يديك من كل هذا؟

- نعم عشت حالة يأس، ونفضت يدي لعدة أسباب، لقد وجدت أن قضايا أساسية مغيبة وان قضايا وطنية في خبر كان، علينا أن نتحدث بجدية في معضلة العمل الثقافي، ونطرح السؤال الصريح: ما الذي يتطلبه العمل الثقافي؟ولعل الجواب الأولي هو أن نفتح المجال أمام الكاتب ليكتب ويعبر بكل حرية وذلك لمصلحة البلد ولمصلحة الثقافة التي ينتمي إليها، لماذا نمنح هذا الكاتب الضوء الأخضر حين يتحدث عن التراث؟ لقد ابحث الثقافة مجرد تراثيات وليست ثقافة أسئلة فكرية ونقدية عميقة مرتبطة بالجدوى وقضايا العالم، أكاد أقول: إننا خارج المناخ الثقافي العالمي. إن المدخل الأساسي هو بلورة استراتيجية ثقافية وطنية وأعتقد ان دور وزارة الثقافة والإعلام أساسي وهي قطب الرحى في هذا الباب، من حيث صياغة برنامج متكامل للثقافة الإماراتية لتقديمها في الداخل وفي الخارج،زيادة على بلورة نوع من آليات التنسيق بين كل المؤسسات الثقافية التي تعمل في المجال الثقافي حتى يصار إلى استراتيجية متكاملة وفعالة.

*إضافة إلى اهتمامك الصميمي بالقصيدة وكتابة الشعر، لك فسحاتك الأخرى أيضا، الكتابة والتفكير في الموضوع التراثي انطلاقا من زوايا نظر جديدة، وبالأخص كتابك عن ابن ماجد وعن ثقافة البحر، بصدد البحث التراثي، هل التراث الإماراتي مقدم بشكل جيد؟ وأين أهل الاختصاص؟ وما هي المداخل الممكنة لإعادة قراءة هذا التراث؟

- أولا، في ما يتعلق بكتابي "مجهول البحر" ليس كتابا عن التراث بقدر ما هو عودة لاكتشاف ثقافة منسية ومهمشة ومغلوبة على أمرها، رغم وجود بعض الكتابات التعريفية هنا وهناك والتي لا تشتغل بشكل نقدي ولا تحلل الرموز السيميولوجية والأنتروبولوجية، ونعلم جيدا ما فعله المستشرقون والنظرة الدونية عن الصحراوي وعن البدوي، لقد كتبوا الكثير من أجل تأطير هذا الإنسان في مناخ واحد ودائرة واحدة، بينما الأساسي والحضاري والغني هو الجانب البحري الذي لم يكتشف بعد ولم يكتب عنه.
والحاجة هنا ليست إلى أكاديميين فقط، بل إلى مبدعين، هناك من التشكيليين من يتحدث عن التراث ويرسم لوحات تراثية، لكن قل لي من هذا الذي قرأ الرموز القديمة للإنسان القديم في منطقة الخليج أو في الإمارات منذ عصور أم النار وعصر الحديد، من اشتغل على هذه الرموز وقرأها، الرموز غائبة لأن القراءة لا تتعدى هذا التراث المحدد في بدايات القرن العشرين، ولكن قبل ذلك أين العمق التاريخي والأركيولوجي والانتربولوجي؟ من قرأ هذا؟ هل التراث الإماراتي هو نفسه قبل ألف سنة؟علينا أن نكتشف ماهي سلالتنا الأولى ومن قطن هذه البلاد، وأن نفهم المكان بخصوصيته التاريخية .

*لكن كتابة هذا التراث تحتاج إلى مجهود لتحويل الشفوي أو بقاياه إلى مكتوب، ثم إن أقدم شاعر شعبي هو ابن ظاهر الذي عاش قبل أربعمائة سنة على وجه التقريب.

- لا بد ان نعيد النظر في الكثير من المسلمات ونحن بصدد الحديث عن التراث، من قال ان ابن ظاهر هو أول شاعر إماراتي؟ هل يعقل أن تكون هذه المنطقة قد ظهرت في القرن السابع عشر فقط؟ إن هذه المنطقة تعود أركيولوجيا إلى حوالي سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، هل يعقل أن تكون هذه المسيرة الطويلة من الزمن لم تنجب شعراء في هذا المكان؟ هذا مستحيل.

هل يتعلق الأمر بقصور علمي ومعرفي؟

- بالتأكيد أن هناك قصورا معرفيا وعلميا كبيرا وجهلا في تناول قضايا المنطقة التراثية والتاريخية ونحن في الإمارات نحتاج إلى جيش من الباحثين في علم التاريخ وفي البحث التراثي وإلى مركز وطني كبير للبحث العلمي كما هو موجود في الدول التي تضع تاريخها الثقافي والعلمي ضمن أولوياتها الرئيسية.
ثم لا بد من تفريغ الكتاب والباحثين الإماراتيين للاعتكاف على الكتابة والبحث العلمي، كم لدينا من كاتب إماراتي؟ وكم من باحث؟ وماذا سيكلفون إذا تم تفريغهم؟ إن من شأن التفريغ أن يساهم في بلورة عطاء جيد بالنسبة لهذا الفاعل الثقافي، وأن ينهض بالبحث الثقافي والتراثي والتاريخي في الدولة.

* في الكتابة الإبداعية الإماراتية أشكال من الغيابات، ومنها تحديدا غياب اليومي والآني من هذه الكتابة، لماذا يغيب الحاضر ويحضر الماضي؟ ثم لما العودة باستمرار إلى النوخذة حتى من الكتاب الشباب الذين لا يعرفون بالملموس شيئا عن هذا العالم؟

- في تجربتي الجديدة وخاصة في "أوبرا لمدينة في الطنجرة" حاولت أن أخرج من هذا الماضوي، وكل كتاباتي الجديدة خرجت عن هذا الحنين. نعم هناك سيطرة للماضي، ومن عاش المرحلتين من الكتاب، مرحلة ما قبل الاتحاد ومرحلة ما بعد الاتحاد، يعلم جيدا أن هناك إحساسا بنوع من الفردوس المفقود، وهذا وهم لكنه حقيقة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية. لكن العودة لهذا الماضوي هو نوع من الهرب وإسقاط على الحاضر، إن الحاضر بحاجة إلى متابعة، علينا أن نقفز وان نصل إلى كتابة حاضرنا في اليومي، وماذا يحدث في هذا الشارع وفي هذا المكان وفي هذا الركن من العالم وفي هذه الشخصية الدرامية.

*لماذا لا يفعل الكاتب الإماراتي ذلك؟

هذا شأنه، وهذه رؤيته.

الخليج الثقافي
2006-01-23