حاوره: عزمي عبدالوهاب

عبدالهادي سعدون‏فور تخرجه في الجامعة من قسم اللغة الأسبانية‏,‏ خرج القاص والمترجم عبدالهادي سعدون من العراق‏,‏ نهاية عام‏1993,‏ مستغلا وجود بعثة للتنقيب عن الآثار في بلاد الرافدين‏,‏ فتحصل علي منحة دراسية بإحدى الجامعات الأسبانية‏,‏ كانت طوق نجاة للخروج من الحصار الذي يأكل الروح‏.‏ وفي أسبانيا كانت تلازمه هواجس المغترب‏,‏ ويطارده الماضي‏,‏ فكتب مجموعتين‏:‏ انتحالات هائلة‏,‏ واليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر‏,‏ وأشرف علي إصدار مجلة ألواح وترجم الكثير من قصائد الشعر الأسباني إلي العربية‏,‏ إضافة إلي أنطولوجيا للشعر العراقي‏.‏عبدالهادي سعدون كان ضيفا علي القاهرة لمناقشة مختاراته المترجمة للشاعر بيثنته ألكساندر‏,‏ التي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر‏,‏ ودار معه هذا الحوار فإلي التفاصيل‏.‏

‏*‏ في مجموعتك القصصية انتحالات عائلة تكتب‏:‏ منذ أن وضعت قدمي في مدريد وأنا أشعر في كل لحظة ثمة ثور سيباغتني وينبت قرنين في خاصرتي‏,‏ لماذا هذا التوجس؟ هل مازالت لديك تلك الهواجس بعد عشر سنوات من الإقامة هناك؟

الإنسان يشعر بالاغتراب بشكل دائم‏,‏ حين يمضي إلي بلد مختلف‏,‏ يحاول أن يوطن نفسه فيه‏,‏ لكنه في كل الأحوال يجد الوطن مغيبا‏,‏ حتى لو عاد إلي وطنه الأصلي يصبح ممزقا بين عالمين‏,‏ فوطنه الوحيد وهو ما يريد أن يصبح عليه‏,‏ وليس هناك وطن مجسد بأرض معينة‏,‏ بطل النص الذي أشرت إليه نموذج للمغترب المتوجة الخائف‏,‏ فالماضي يطارده‏,‏ حتى لو وصل إلي أرض جديدة‏,‏ أو عاش حياة أخري مختلفة‏,‏ وهو في نهاية النص‏,‏ بعد أن زال عنه الخوف‏,‏ يتصادف وجوده مع الثور من جديد‏,‏ ما يعني أن الخوف متجذر في نفسه‏,‏ قد ينساه قليلا‏,‏ لكنه موجود‏,‏ ومن الممكن أن يخرج في أية لحظة‏.‏

‏*‏ تبدو في المجموعة ذاتها وكأنك أحرقت كل المراكب التي تربطك بالعراق‏..‏ لماذا؟

البطل لديه إحساس قوي بالتخلص من الوطن‏,‏ بسبب التركة الثقيلة لهذا المسمي الوطن لذلك هو يهرب دائما من ماضيه‏,‏ لكن الماضي يتبعه أينما سار‏,‏ وفي كل الأحوال فإن الحرق هنا غير حقيقي‏,‏ إنما فكري‏,‏ لأن الراوي بشكل أو بآخر يصادف أشياء تذكره بذلك الوطن‏,‏ لذلك يتحدث عن الـ هنا والـ هناك‏,‏ وقد يكون هذا الشئ له علاقة بالوطن متمثلا في ذكري حكاية معينة‏:‏
في قصص هذه المجموعة حاولت أن أرسم شخصية العراقي المعاصر‏,‏ الرافض لما يحدث في بلاده‏,‏ إنه غير متكيف مع الوضع الجديد‏,‏ الذي يعيشه في المنفي أو الدولة الجديدة‏.‏

‏*‏ هل تتابع الحركة الأدبية في العراق؟

منذ أن أصدرنا العدد الأول من مجلة ألواح سنة‏1997,‏ كنا حريصين علي متابعة الوضع الثقافي داخل العراق‏,‏ فأصدرنا أعدادا خاصة عن أدب التسعينيات‏:‏ شعرا وقصة ونقدا‏,‏ من أجل فهم وضعية المثقف العراقي في تلك الفترة‏.‏
رغم أن المجلة لم تكن تصل إلي العراق إلا بشكل سري‏,‏ لكن هذا الوضع أتاح لنا فرصة قراءة الأدب العراقي منذ أن فرض الحصار علي أدبائه إلي اليوم الآن‏,‏ هناك نوع من الحرية في طرح أية فكرة‏,‏ لذلك تعددت الموجات والأصوات الأدبية‏,‏ فهناك أكثر من نمط كتابة يصور فترة الرئاسة والموت في زمن الديكتاتورية‏,‏ ولاتزال هذه الموجة مستمرة إلي الآن‏,‏ وما يصلنا من كتب يصور المأساة والوضع في العراق في زمنه الأمريكي الجديد‏.‏
علي أية حال الكاتب العراقي يحاول في هذه الفترة كتابة نص توثيقي لما يحدث‏,‏ أي نص مهجن بعيد عن التصنيف الأدبي‏,‏ والغرض منه تجميع كل ما يجري في العراق حتى لا تضيع فرصة أرشفته‏.‏

‏*‏ وهل تختلف الصورة في أدب الخارج‏,‏ حيث شهد العراق أكبر هجرة أدبية في تاريخه علي مدي السنوات الأخيرة؟

هناك أدب جديد في المنفي يتناول موضوعات العراق‏,‏ ربما أصبح المكان أمكنة متعددة‏,‏ بمعني آخر فالموضوعات والشخصيات عراقية‏,‏ لكنها تتحرك في مكان غير العراق أغلب القصص تدور في مدريد‏,‏ وهناك نماذج كتبها آخرون في بلدان عربية أو أوروبية أو أمريكية‏,‏ لم نكتب نصا ليس له علاقة بالعراق‏.‏
إضافة إلي ذلك لايزال الخط الكلاسيكي ممتدا في روايات فاضل العزاوي وجنان جاسم جلاوي وعلي بدر‏,‏ هذه الأسماء مستمرة في كتابة روايات تدور أحداثها في العراق‏,‏ لكن المنفي منحهم حرية تناول ما يجري هناك‏.‏
ولدينا نماذج تناولت الوضع في المنفي من خلال حكايات عراقية‏,‏ ويمثل هذا الاتجاه نجم والي‏,‏ ومحسن الرملي‏,‏ وتبول الخضيري‏,‏ بعض الروايات تدور في مناخ عراقي‏,‏ والأخرى خارجه‏,‏ لكنه لا تغفل انعكاسات ما يدور في العراق‏.‏

‏*‏ وأين موقع محمد خضير من هذه التقسيمات؟

خضير حافظ خط جيل الستينيات الكلاسيكي‏,‏ ففي بصرياشا يتناول تاريخ البصرة قديما وحديثا‏,‏ من خلال تقنية التشظي‏,‏ أي أن الرواية ليس لها موضوع مركزي‏,‏ ولم يحدث الاختلاف لديه إلا عبر روايته الأخيرة دفاتر كانون‏,‏ فقد كتبها أثناء أيام الحصار‏,‏ قبل الحرب الأخيرة‏,‏ ويتناول فيها ضمن متخيل ذهني ما يحدث في العراق من خلال لوحة جرنيكا لبيكاسو‏,‏ وفي هذه الرواية لم يخرج خضير عن الإطار الكلاسيكي لأدب الداخل‏,‏ كان الخروج فقط في استلهام لوحة بيكاسو عن الحرب الأهلية الأسبانية‏,‏ يبقي أن خضير علامة من علامات القصة في العالم العربي‏,‏ وليس العراق فقط‏.‏

‏*‏ ما المعايير التي حكمت اختياراتك لأنطولوجيا الشعر العراقي المترجم إلي الأسبانية والكاتلانية التي قمت بإعدادها ؟

اخترت نصوصا لثلاثين شاعرا عراقيا‏,‏ وكان يحكم اختياري لهم العثور علي قصائد لها نفس محلي وتتحدث عن تفاصيل عراقية‏,‏ حتى لا تكون نمطا شعريا مشابها لأي شعر في أسبانيا‏,‏ وهذه الانطولوجيا الشعرية هي الأولي في اللغة الأسبانية‏,‏ وحاولت بها تمثيل الأصوات الشعرية منذ الستينيات حتى أواخر الثمانينات‏,‏ لتبيان التطور والفرق بين جيل وآخر‏,‏ وقد راعيت التنوع العرقي بقدر كبير‏.‏

‏*‏ وهل تلقي مثل هذه الترجمات رواجا شعبيا بعيدا عن مراكز الدراسات والمعاهد البحثية؟

أغلب الترجمات العربية تصدر في طبعات محدودة‏,‏ باستثناء الأسماء المعروفة مثل نجيب محفوظ أو أمين معلوف‏,‏ فأعمالهما تطبع في كبريات دور النشر‏,‏ ولهما قراؤهما‏,‏ يبقي أن هناك ترجمات حتى وإن صدرت في دور نشر معروفة فإن جمهورها محدود‏,‏ وينحصر في دارسي اللغة العربية‏,‏ ومحبي الآداب المشرقية عموما‏,‏ لكن الأدب العربي لا يزال متوقفا عند عتبة دور النشر الأسبانية ولا يلقي الرواج المطلوب‏.‏

‏*‏ وأين المراكز الثقافية العربية في هذا الإطار؟

دورها ضعيف في مجمله‏,‏ بسبب تبعية هذه المراكز للحكومات العربية‏,‏ ما يجعل منها مراكز غير مستقلة‏,‏ وبالتالي تصبح نشاطاتها تابعة لسياسة الحكومات‏,‏ حتى لو أقدمت هذه المراكز علي نشاطات معينة‏,‏ فهي تدخل ضمن دائرة الحلقة الأكاديمية للجامعات الأسبانية وحركة الاستعراب‏,‏ أي لا جمهور لها من خارج هاتين الحلقتين‏,‏ وهذه الآفة موجودة في كل المراكز العربية‏,‏ حتى ما يقع ضمن المركز المصري العريق‏,‏ ففي الفترة الأخيرة أغلقت مكتبته وتقلصت أنشطته‏,‏ فعلي مدي سنتين لم يقدم نشاطا ثقافيا حقيقيا‏.‏
المشكلة أن أغلب الأشخاص الذين يديرون هذه الأماكن يؤسسون لأدوارهم الشخصية أكثر من الاهتمام بدور ثقافي يخص بلدانهم أو ثقافتهم العربية‏.‏

‏*‏ ألم تؤثر أعمال العنف في مدريد وفرنسا علي أوضاع العرب في أسبانيا؟

منذ وجود المسلمين هناك حتى اندلاع حروب أسبانيا مع الريف المغربي‏,‏ تشكلت رؤية فانتازية سلبية للشخصية العربية‏,‏ كانت الصورة النمطية للعربي أنه القبيح‏,‏ الدموي‏,‏ غير الوفي‏,‏ ومع تطور الحياة والمعرفة المباشرة بالبلدان العربية‏,‏ تغيرت الصورة بشكل جزئي وبعد تفجيرات مدريد أصبح الوضع أسوا‏,‏ وينظر إلي العرب نظرة ريبة وشك وتساؤل‏,‏ رغم أن الشعب الأسباني ليس عنصريا‏,‏ لكن الاتجاهات اليمينية استغلت هذه الأوضاع لترويج الكثير من الصور النمطية واستعادتها حول العربي المسلم‏.‏

‏*‏ ما الذي يجعل من رواية دون كيخوته لثربانتس الأكثر مقروئية في العالم بعد الكتاب المقدس؟

ثربانتس صنع في دون كيخوته ما يسمي بالرواية المعاصرة‏,‏ لأنه كتب روايته في فترة كانت تكتب فيها روايات تقليدية مثل الروايات الرعوية والتاريخية وروايات الفروسية‏,‏ وهو في دون كيخوته خلق رواية واقعية‏,‏ دخل في صلب المجتمع الأسباني بجميع شرائحه‏,‏ إضافة إلي أنها رواية دينامكية متعددة الشخصيات والأمكنة‏,‏ مليئة بالمتعة الحكائية‏,‏ وتكاد تتبني كل الأنماط القصصية آنذاك بمزيج قل نظيره في زمنه وإلي الآن‏.‏

‏*‏ هل كان متعصبا ضد العرب كما يتضح من روايته‏.‏

دون كيخوته رواية تكشف خلفية المجتمع الأسباني في ذلك الوقت‏,‏ بمعني أن ثربانتس كان ممثلا حقيقيا لصوت الشعب‏,‏ لذلك حاول في روايته تصوير المجتمع وأبنيته الداخلية‏,‏ ومنها ما كان متداولا عن العدو المسلم المتربص بأسبانيا‏,‏ لكن من يقرأ الرواية كاملة سيجد أكثر من نمط لمعالجة الشخصية العربية‏,‏ فهناك النمط التقليدي لأدب تلك الفترة من سب وتحقير شخصية المسلم والعربي‏,‏ وهذا في رأيي لم يكن إيمانا من ثربانتس بذلك‏,‏ بل إنه كان خاضعا لمحاكم التفتيش آنذاك‏,‏ ولتجربته الشخصية حين وقع أسيرا في أيدي قراصنة من الجزائر‏.‏
وفي مواضع أخري يطري ثربانتس إطراء كبيرا علي العرب‏,‏ الشئ بسيط وهو أنه لم يكن ليستطيع متابعة التفاصيل والأحداث والوقائع التي تعرض لها بطله دون كيخوته إلا بفضل الشخصية الخيالية التي ابتكرها كمؤلف حقيقي للرواية‏,‏ وهو ما يصفه بالعالم الفاضل العربي سيدي حامد‏,‏ لذا فإن الرواية متعددة القراءات‏,‏ وبها أكثر من نموذج ورأي حول العربي المسلم‏.‏

‏*‏ تري أن أعمال باولو كويلهو مونتاج ذكي للحكاية مع معالجة هابطة علي أي أساس بنيت رأيك هذا؟

كويلهو يستغل حكايات موجودة ويطورها بحشو حكائي‏,‏ قد يقضي علي الحكاية الأصلية نفسها‏,‏ يضاف إلي ذلك أنه ليس لديه خيال واسع‏,‏ بديل أنه لم يبتكر حكاية خاصة به‏,‏ بل يبني علي أنقاض نصوص عالمية معروفة‏,‏ ثم إنه ينجح بذكاء في صبغ حكاياته بصبغة فلسفية أو تأملية أو تصوفية‏,‏ حسب نمط الرواية التي يكتبها‏,‏ و هو ما يجعلها من روايات الرواج‏,‏ بدلا من البحث عن جماليات أدبية حقيقية‏,‏ لذا فإن نصوصه تباع بالملايين‏,‏ لكنها لا ترقي إلي مستوي روائع الأدب العالمي المعروفة والتي لا تبيع إلا آلاف النسخ بالكاد‏*‏
تصوير‏-‏ محمد محرم

الأهرام العربي
السبت 14 / 1 / 2006