خالد بيومي
(مصر)

علي حربيثير المفكر اللبناني علي حرب إشكاليات فكرية وثقافية ومعرفية على الساحة العربية، ودائماً ما تصطدم أفكاره وقناعاته بقضايا الفكر والثقافة حين تلامس مفهوم الهوية والحرية والحداثة. قدم حرب للمكتبة العربية أكثر من عشرين كتابا، درّس منها كتاب “نقد النص” في جامعة باريس، جاء إلى القاهرة لتسلم جائزة باشراحيل التي تزامنت مع الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان مما حبسه عن العودة لمدة أربعين يوما، والتقيناه فكان هذا الحوار.

****

* كيف تقرأ الأحداث على الساحة اللبنانية حاليا؟

الصراع الدائر في لبنان وعليه من العدو والصديق، هو في النهاية صراع عربي عالمي، شأن كل الأحداث الكبيرة والخطيرة في هذا العالم المتعولم والقائم على الاعتماد المتبادل، الأمر الذي يحمل من يقرأ لكي يفهم أو يشخص ويتدبر على فتح الأسئلة وطرح كل القضايا على طاولة المناقشة، من غير مسبقات أو مصادرات باسم الثوابت المقدسة، فثوابتنا ومقدساتنا، عربا وبشرا، هي التي تصنع كل هذه المآزق والحرائق في هذا العصر، حيث يتواطأ العدو مع عدوه لكي ينتهك كل ما يدعيه، من هنا فالنصر والانكسار سيان بالنسبة لجميع الأطراف المتصارعة، من حيث الأثر البشع والمفزع، وبالطبع المدمر على الحياة والعقول والنفوس ومكتسبات الحضارة.

* متى يصبح العرب قوة فاعلة لها ثقلها على المستوى العالمي؟

المشكلة في كون هذه المجتمعات بنظمها وسياساتها ومؤسساتها ونخبها ضعيفة عاجزة غير فاعلة على مسرح الأمم، بقدر ما هي ميتة سياسيا كسولة ثقافيا، متخلفة حضاريا، غير منتجة لما تسهم به في ورشة الحضارة العالمية القائمة من المعارف والعلوم أو القيم والمعايير أو النماذج أو الأدوات والسلع، ولا توجد مجتمعات على سطح الأرض غير العرب قرر أهلها الاستقالة من التفكير الروحي والخلاق للاشتغال بعبادة النماذج والمذاهب القديمة والحديثة، والنتيجة أننا نؤمن بالأشياء حتى أضدادها، كما تشهد الوقائع الصارخة.

* صدر لك حديثا كتاب “نظرية العقل التداولي” ما مضمون هذه النظرية؟

العقل التداولي مفرداته التواضع الوجودي والاعتراف المتبادل، البعد المتعدد، الفكر المركب، الهوية المنفتحة، لغة الحوار والتعايش والتسوية، المسؤولية المتبادلة عن مصير الإنسان والأرض والحياة.

* ما الذي تضيفه على نظيرة الفعل التواصلي لدى هابر ماس؟

هابر ماس بقي حتى طور متأخر يقف سلبيا من المنجزات القارية لما بعد الحداثة، مع أنه تأثر بها بشكل أو بآخر، ولهذا فالفاعلية التواصلية ظلت عنده محصورة في نطاق المشروع الحداثي بعناوينه وعدته، أي هي بنت عقلانية القرن الثامن عشر، بمعنى أن هابر ماس يعتبر أن مشكلة التنوير تقع خارجه، وهذا ما اعترضت عليه، لأني اعتبر أن مشكلته هي مشكلة بنيوية في مفهوم الذات، أي في طابعه النخبوي، وفي منطقه المتعالي ومفاهيمه المحضة، بينما العقل التداولي يستبطن المنهج التأويلي والنقد العقلاني ويستثمر المعرفة والفاعلية والتفكيكية وفلسفة الاختلاف لصوغ وجهة جديدة من مفرداتها نقد النص، نقد الحقيقة، نهاية المثقف، الهوية الهجينة، والإنسان الأدنى.

* هل هذه اللائحة كافية لكي يكتسب مصطلح “العقل التداولي” مصداقية؟

مصداقيته في ضوء ما يتغير، إنه يحمل على إعادة النظر في مفهوم المصداقية أو المشروعية بالتخلي عن أقانيم المطلق والأعلى والأقصى أو الأحادي والشمولي والنهائي، للاشتغال بلغة التعدد والتوسط أو التحول والخلق أو التركيب والتجاوز.
فالمشروعية السياسية هي ثمرة المحاورة والمناقشة والمشاركة، كما أن المصداقية المعرفية هي ثمرة التوليف الخلاق بين تعدد القراءات والمقاربات والاتهامات، أما الأصولي والأحادي والنهائي فمآله الإقصاء والمصادرة والاحتكار.
وليس لأحد أن يدعي احتكار المشروعية تحت أي شعار كان، إذ ليس بوسع أحد القبض على حقيقة الواقع أو هوية الأصل أو معنى النص أو أن يستشرف ما يمكن أن يؤسس كما ينبغي أن يكون، فالواقع هو في غاية التنوع والتعدد والتشابك والتعقيد والحراك.

* أراك تبالغ في قتامة الصورة؟

من كان يصدق قبل عقود أن يتحول العراق إلى برك للدماء أو إلى ركام من الحرائق والأنقاض، من كان يحسب أن رجال الدين سوف يتصدرون الواجهة، بل من كان يتصور أن تنتعش الأصولية في الولايات المتحدة أكثر المجتمعات حداثة وغنى؟ من كان يتوقع أن نشهد كل هذا الإرهاب؟

* أعرف أنك ناقد للحقيقة منذ صدور كتابك “نقد الحقيقة” عام 1993 لكن أين أصبح نقدك للحقيقة وهي الآن مطلب وشعار فيما يتعلق بالجرائم والإرهاب؟

الحقيقة بحسب مفهومي هي ما نقدر على خلقه أو تغييره من الواقع والأوضاع، وكل خلق هو عمل خارق له مفاعيله التوليدية أو التحويلية، طبعا الحقيقة على المستوى المعرفي أو التنويري هي ما ندركه أو نقدر على كشفه وإظهاره، وهى على المستوى الايديولوجي ما نشهد له أو ندافع عنه حتى الشهادة.
ولكن الحقيقة على المستوى الوجودي تتجلى في القدرة على الخلق والابتكار أو على ممارسة الحضور والتأثير، من هنا قولي مؤولا قول ديكارت: “أنا أخلق إذن أنا أكون”، الآن فعل الخلق يشوش فإننا به نتغير عما نحن عليه بنسيج علاقات جديدة مع أنفسنا أو مع الغير أو مع العالم وبصورة تتغير معها مفردات وجودنا بوجه من الوجوه.

* في كتابك “خطاب الهوية” أعلنت عن انتماءاتك المختلفة والمتعددة، ألا تبسط المسألة كثيرا في هذا التفكيك للهوية؟

لا مهرب من التفكيك إذا شئنا فهم الأزمة التي هي بوجهها الأبرز حصيلة إدارتنا السيئة لهوياتنا، وسياستنا الفاشلة لذواتنا، وأنا عندما أفكك هويتي أجد أني كائن هجين، هو مجرد خليط أو كوكتيل من الأطوار والميول والعقائد، وقد ترعرعت في مجتمع زراعي بأدواته البدائية وكائناته الطبيعية، وأعيش الآن في عالم حضاري مصنع تكاد تفرقه السلع والأدوات والتجهيزات المعقدة الفائقة، ولا أنسى بالطبع أني نشأت في بيئة محافظة جسد المرأة فيها عورة، وهكذا فأنا قارئ القرآن وربيب حضارة الحجاب والعصر الزراعي، بقدر ما أقرأ نتشه وأعايش حضارة العصر الالكتروني.

* ولكن هناك ثوابت تسهم في تكوين هوية المرء وتطبع شخصيته، وإلا ما معنى الكلام عن الهوية؟

من المؤكد أن هناك ثوابت ومسبقات كالاسم والمنشأ أو الجنسية والإقامة أو المهنة والوظيفة وسواها من الانتماءات التي تسبق المرء وتسهم في تعيين أطر تفكيره ومعايير سلوكه، ولكن ذلك لا يعني أولا: الصفاء والتجانس والتطابق، ولا يلغي ثانيا التراكم والتنوع أو التقلب والتغيير، صحيح أن الإنسان هو شروطه وأقداره وقوانينه ككل كائن، ولكن ميزته انه عالم من الإمكانات ومساحة من الحرية، بما يمتلكه من القدرة على الفهم والتخيل أو الخلق والابتكار أو التدخل والتدبر، ولأنه كذلك فإن علاقته مع ذاته وفكره هي دوما متحركة ومتغيرة بهذه الصورة أو بتلك، أما المماهاة التامة مع النفس فإنها وهم خادع بقدر ما هي دعوة مستحيلة وربما مدمرة.

* في ضوء ذلك كيف ترتب علاقتك مع الماضي والتراث؟

لا شيء مما يحدث يمكن إلغاؤه، بل إن ما نفكر في إلغائه يعود على النحو الأسوأ والأخطر، فالممكن هو إعادة تشغيله أو توظيفه أو صوغه على سبيل الصرف والتحويل، ولهذا فالماضي لا يمضي وإنما يحضر بصورة أو بأخرى، بدمجه وإعادة تركيبه في أنساق وصيغ ومحاولات أكثر سعة وتركيبا، بهذا المسمى أنا ما كنته ولكني أيضا ما لم أكنه بعد، أي أني ثمرة ما راكمته وصنعته بقدر ما أنا حصيلة ما فقدته أو ما أخفقت فيه أو ما أواجهه من التحديات وما أنخرط فيه من المشروعات، كذلك أنا حصيلة آلامي وجروحي وانكساراتي وتناقضاتي بقدر ما أنا ثمرة نجاحي وتقدمي وازدهاري.

* بماذا تميز نقدك عن نيتشه؟

نيتشه مؤمن أكثر مما نحسب، سواء بالله أم بالإنسان، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، كما يشهد عليه كتابه “هكذا تكلم زرادشت” الذي قدمه للبشرية على أنه إنجيل جديد سوف تجد فيه خلاصها، فكيف يكون عدميا من يقول هذا هو طريق الخلصاء أو كيف لا يكون مؤمنا من ينادي بإنجيل جديد؟
هذا شأن أكثر الدعاة والمثقفين الذين نصنفهم تحت خانة العلمانية، إنهم مؤمنون أكثر مما يحسبون ربما يعينه الإيمان والتقديس والتعبد والتسليم والاصطفاء والاعتقاد بامتلاك الحقيقة، أو تجسيد أعلى القيم على ما نجد لدى تشومسكي أو أركون أو أدونيس أو نصر حامد أبو زيد، إنهم مؤمنون بالإنسان والتقدم والاستنارة والحداثة والعقلانية والديمقراطية، حتى البربرية والتخلف والصحة والتقليد واللامعقول والاستبداد، كما هم مؤمنون بالحقيقة والحق والعدالة حتى الكذب، بهذا المعنى أنا اقرب إلى المعري من حيث عدم الإيمان بالإنسان والافتقار إلى اليقين واعتبار الحياة بمثابة أفخاخ، لنتعرف: ليس الإنسان الكائن الأسمى والأفضل، لعله الأشرس والأكثر وحشية وضررا على بني نوعه وعلى بقية الأنواع، ها هي نفاياته تكاد تلوث الأرض والسماء.

* أصدرت كتاب “الحب عند العرب” ما مفهومك للحب؟

الحب أقصد به العشق، كما يقول العرب، هو حالة استثنائية تجتاح العاشق أيا كانت ظروفه وأزمته وإيقاعاته أو الأطياف التي تصنعه، وهذه الحالة أشبه بكيمياء تحيل كل ما عند المعشوق إلى حسنات وجمالات في عين العاشق، الأمر الذي يحيل كل ما يتصل بمن نحبه ونعشقه إلى عالم ساحر وجذاب وآسر، بقدر ما يجعلنا نذهل عما سواه أو نجن به، ومن هنا سمى العرب العاشق “المجنون” وهذا من أجمل ابتكاراتهم، غير أن الحب لأنه حالة استثنائية لا يدوم، خاصة عندما ينخرط العاشقان في حياتهما اليومية الاعتيادية، بل يأخذ بالتآكل والتصدع وهذا مأزقه ورعبه.

* انقلابات مرعبة

مصطلح الإنسان الأدنى منشأه ما يحدث على المسرح الكوني من فوضى واضطراب وعنف وإرهاب، إنه محاولة لفهم وتشخيص الواقع البشري المعاصر حيث تتراجع الأحلام والقضايا والمشاريع وتتفاقم المشكلات والأزمات الأمنية والبيئية والصحية والمجتمعية والسياسية، كيف نفهم أن تجتاحنا البربرية بعد كل هذه الوعود والدعوات والبيانات المتعلقة بكرامة الإنسان وحريته وحقوقه، كيف نفهم أن يتحول الضحية إلى جلاد والمظلوم إلى مستبد والمصلح إلى مفسد والداعية إلى إرهابي والمحتج على الإساءة إلى مسيء؟ كيف نفهم أن يرتد الواحد على شعاراته أو أن يتواطأ مع أعدائه؟ باختصار كيف نعقل كل هذا التردي والإفلاس؟

القدس العربي
2006-09-04