الطاهر وطار يسعى للسيطرة الروائية على الزمن وكتابة رواية لا زمنية

قال الروائي الطاهر وطار إن مجازر الثامن من مايو 1945 التي ارتكبها الجيش الفرنسي بحق الجزائريين «جرح لا تزال أصداء وقائعه تنعكس في كتاباتنا ومواقفنا ». مبديا أسفه من الأصوات التي تلوم مبدعين جزائريين على استلهامهم تاريخ الأجداد في أعمالهم الفنية والأدبية «في وقت لا يزال الأميركان يكتبون عن تاريخهم، والفرنسيون يستلهمون من ثورتهم ومغامرات بونابرت في الكثير من إبداعاتهم المختلفة.

8 مايو 1945 الجرح النازف على الدوام اختار وطار بداية لقائه مع أساتذة وطلبة قسم الآداب واللغة العربية بجامعة الجزائر بالعودة إلى ذكريات الطفولة وبالتحديد إلى وقائع مجازر 8 مايو 1945 في مدن سطيف وخراطة وقالمة وغيرها من المدن الجزائرية قائلا:
كان عمري آنذاك تسع سنوات، كنا في البادية، كان الفصل ربيعاً جميلاً، والحصائد من قمح وشعير على وشك النضوج... كانت الطائرات تمطرنا رصاصاً دون تمييز، إذ لا تزال تتزاحم بين عينيّ صور كثيرة عن الأحداث، أذكر منها صورة حمار قسمه رشاش الطائرة إلى قسمين سقط أحدهما جهة اليمين والقسم الآخر جهة الشمال.
وقد كتبته في روايتي اللاز.. لاتزال بين عيني صورة شيخ معمّم أجلسه ضابط أمام منزلنا، نزع عن رأسه العمامة ثم انهال عليه ضربا بمفتاح حديدي فشج رأسه.. لاتزال بين عيني صورة نساء نصف عاريات يجرين مبتورات الأثداء أو مقطوعات الألسن يولولن مستجديات قطرة ماء...

* الخوف من جبل الكتابة المقدس

الحديث عن تجربة الكتابة لدى صاحب «اللاز» ابتدأه بالاعتراف بخوفه من الكتابة. معتبراً ذلك مما يميزه عن زملائه في الجزائر خاصة، وعلى امتداد الرقعة العربية على العموم.
«الإبداع الإنساني من شعر وقصة ورواية وحكم وأمثال وتشكيل ونحت وغيرها، جبل مقدس ومحترم جدا، وإذا رغبنا في أن نضيف إليه شيئا، ومهما كان صغيرا، فينبغي أن نقرأ حساب قبوله لما نضيفه إليه أو رفضه له في حالة ما إذا كان ذلك غير جدير بمكانه فيه. »
وبهذا الخصوص يشير وطار إلى أنه نشر في الصحافة التونسية ما يقارب 120 أقصوصة ومسرحيتين في مجلة «الفكر»، غير أنه رأى ألاّ تتضمن مجموعته القصصية «دخان من قلبي» سوى 11 أو 12 نصا قصصيا.

ذلك أنه قدر «أن الباقي ليس في مستوى «الجبل»... «ولذلك فلا داعي لأن أزعج الإنسانية والعبقرية بهذه التفاهات...»، ليضيف:«ومن المسرحيتين لم أختر إلاّ نشر مسرحية «الهارب»، والأخرى «على الضفة الأخرى» لم ترق لي ولم أرض عنها، فصرت أكتفي بها على سبيل الإخبار بوجودها فقط، أو كجهد لا كإبداع أو شيء أعتز به.» .
« كما كتبت أيضا، يقول مبدع شخصية «بولرواح» رواية في سن شبه المراهقة في خمسينات القرن الماضي، وحينما عدت لقراءتها وجدتني من بضع صفحاتها الأولى ألغيها كونها لا تليق بمن سأقدمها لهم.
وأكتفي بالقول لسائليّ عنها إنني أحرقتها، ولكنها كجهد يعز علي ذلك. فهي لاتزال في مكان ما بمكتبتي، غير أنني لا أدري إن كانت صفحاتها لاتزال سليمة أم ضاعت سطورها وكلماتها. ومن هنا فالكتابة عندي عملية فنية. وهي معايشة ومعاناة وحب واهتزازات وأخيلة وأوهام وليست صنعة ينتج عنها كتابة رواية كل شهر مثلا.»

* الشخصية الروائية بين المرجع الواقع والضبط الفني

وبخصوص مراجع شخصياته يشير وطار إلى أن معظم شخوص أعماله الأدبية من الحياة. «ففي رواية «اللاز» هناك شخصية زيدان التي لها مرجعية حقيقية في الثورة التحريرية.
ومع ذلك ركبت عليها شخصية «عمي السعيد صيفي» الذي عرفته في تونس وكان معلمي في الاقتصاد السياسي. وفي رواية الزلزال هناك «الشيخ بولرواح» وهو أحد أساتذتي، رحمه الله. هذه الشخصية (بولرواح) يقول البعض إنني ظلمته.
وفي تقديري أنني أنصفته هو ومن يحمل أفكاره من منطلق أنني عرضت جميع أفكاره التي لا أؤمن بها، ومع ذلك كنت وفيا لها. والواقع أن تلك الأفكار موجودة في الساحة ومطروحة سياسيا ولها فعالية كبيرة في حياتنا العامة.
وفي الحوات والقصر هناك طبعا الإخوة سعد ومسعود وجابر وهم بالنسبة إليّ قيادة فاعلة في مجلس الثورة، وربما علي الحوات هو بن بلا بشكل من الأشكال، وربما يكون أنا أيضا. لأنني حرمت من التعبير، إذ كنت مسؤولا عن «الشعب الثقافي»، هذا المنبر الذي كان يستقطب زبدة النخبة المثقفة، ومع ذلك كنت أتقاضى أجرا رمزيا جدا.
حيث كنت أتلقى 700 دينار دون حساب الرسوم، بينما كنت أدفع لمن يكتب في هذا المنبر مثل دودو، رحمه الله، والميلي ولمدني صالح ولجعفر بوزيدة ولكثيرين غير هؤلاء 800 دينار جزائري عن المقال الواحد...
وفجأة يوقف «الشعب الثقافي» بزعم أنه لا يباع، بينما كان يباع حتى في السوق الموازية، وكان يمثل مدرسة في الصحافة الثقافية ومنبرا للنقاش الفكري والسياسي لنخبة يسارية حاولت أن تحرج السلطة وأن تعلن عن وجودها، ولفت الانتباه إلى معاناتها.
وأذكر أنه عندما صرح الراحل هواري بومدين محتجا على ما جرى في السودان من قتل لمجموعة عبد الخالق محجوب ورفاقه، إن الجزائر ضد حمامات الدم التي تجري في السودان، فكتبت افتتاحية أقول فيها:

«..ونحن ضد حمامات الدم وضد حمامات البخار التي نتفسح في وسطها...» كنت أريد أن أطرح على جبهة التحرير وعلى قيادة الثورة أن هناك قوة أخرى لا تشارك هؤلاء الناس الرأي، فأوقف «الشعب الثقافي» تعسفا.
وقد جاءت شخصية علي الحوات كما لو أنها لتعكسني...« إذ إنه حاول أن يصطاد سمكة في الوادي بيده اليمنى فقطعت، حاول بيده اليسرى فقطعت، حاول أن يشكو فقطع لسانه، حاول أن يبكي ففقئت عيناه، ومع ذلك ظل قلبه متابعا المسيرة... ». أما في رواية عرس بغل التي تبدأ أحداثها مع انقلاب 19 يونيو1965.
وكان يوم سبت، فيشير وطار بأن «شخصية بومدين واضحة فيها. وذلك من خلال تلك الشخصية التي تنظر إلى الجدران الأربعة للغرفة التي تتواجد فيها في وقت واحد. وهكذا بالنسبة إلى باقي الأعمال مثل شخصية وطار وجميلة بريك في «العشق والموت في الزمن الحراشي» أو مصطفى كاتب في «تجربة في العشق.»
حيث تحيل هذه الأخيرة مباشرة على المرحوم مصطفى كاتب. «وهذا الفنان المسرحي المعني الكبير كان على علم بذلك. بل وكنا نجلس معا فأحدثه في الموضوع.»
ليفصل «هذا الشخص كان مديرا للمسرح الوطني وقبل ذلك مديرا للفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني يقصى من المسرح بتهمة أنه شيوعي، ثم رأت السلطة أن تعينه في منصب مستشار ثقافي بوزارة التعليم العالي مكلف بالتنشيط. وبما أنه لا يحمل شهادات عليا ظل مرتبه زهيدا إلى أن التحق بالرفيق الأعلى.»
ومن هنا، يقول وطار، «طرحت السؤال على نفسي: هل يمكن لهذا الرجل الذي لا ينام إلا على تصفيقات المعجبين والمعجبات، وعلى رائحة باقة زهور تقدم له من أياد لطيفة، وعلى أضواء المسرح وصدى وقع أقدامه على الركح أن يحيا حياته وهو يجد نفسه جامدا في مكتب وسط شلة من أمثال عبد العالي رزاقي وجمال العيادي ومحمد الصالح حرز الله؟ ثم كيف؟» ليضيف:
« إن مصطفى كاتب بالنسبة إليّ هو وضعنا جميعا، إننا في غير مواقعنا وإن وضع المثقف في الثورة التحريرية، وفي التهيئة لها، وفي المعارك التي جرت في السلطة...
وضع المثقف هو وضع مفدي زكرياء كذلك، الذي ظل يشتغل كموظف بسيط في الإذاعة.. ورغم وزنه ذاك الذي نعرف جميعا، لم يكلف لا بمكتبة وطنية ولا بوزارة ولا استشارة في وزارة الثقافة، حتى إنه اضطر لهجرة البلد. ولا لوم عليه، فمكره أخاك لا بطل، كما يقال. بعد هذه التجربة جاءت «رمانة.»
وشخصية خالي فيها، يقول وطار، فيها «هو بوعلام المحكوم عليه بالإعدام... وهو في حالته تلك كان يتسمع لكل حركة وحشرجة وكل انفتاح باب معتقدا أنه موعد حمله إلى حبل المشنقة، وتعود ذكرياتي معه إلى أننا كنا نلتقي في الستينات ونناضل ضد الانقلاب العسكري وندعو إلى الديمقراطية والحريات العامة.»
ويضيف وطار بشيء من التدقيق في هذا الموضوع «إن حكاية رمانة حكاية فعلا... فالواقع أنني لم أكن أعرف رمانة بالتحديد، لكنني ظللت أبحث عنها ما يقرب من خمس عشرة سنة في المطارات الدولية وفي الجامعة وفي كل مكان...
وذات يوم حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث وأنا متوجه إلى الأبيار بسيارتي ال«تروا شوفو» أشارت لي إحدى الفتيات أن توقف وخذني معك إلى ابن عكنون..

وقد كانت جرت العادة أن آخذ معي بعض الناس لأتلصص على أفكارهم وحديثهم وطريقة لبسهم وكل ما فيهم.. نظرت إليها نظرة تمل وقلت لها أنت رمانة..
وفي الطريق إلى حي البنات قصصت عليها حكاية رمانة. أوصلتها إلى الحي الجامعي ثم عدت أدراجي إلى وجهتي. وفي يوم من الأيام وأنا مار من أمام الحي الجامعي أشارت لي فتاة أن توقف...، توقف.. فتوقفت وإذا بموقفتي من عين البيضاء، بنت بلدي، ودمها من نفس دمي وملامحها هي تقريبا ملامحي ومن نفس العرش.
وبالتالي فكما كان دافنشي يرسم الجوكوندا، فأنا كذلك ربما كنت أبحث عن وجهي في مرآة ما.. قالت لي رفيقتي الجديدة أرجو أن توصلني إلى مستشفى مايو فلي موعد لإجراء عملية جراحية، فكما ترى لم أجد المواصلات... وبعد حوالي 500 متر، التفتت رفيقتي إليّ وقالت: ألم تعرفني بعد؟ قلت نعم، ومعذرة... لم أعرفك.
قالت أنا رمانة.. لا لست رمانة، قلت. لتردف الواقع أنني تغيرت بعض الشيء، فقد زاد وزني قليلا و، و..، وأنا حزينة لهذا الأمر.. ومن تلك المناسبة عرفت رمانة.. أما تجربة «الشمعة والدهاليز»، فالواضح أن شخصية الشاعر فيها هو المرحوم يوسف سبتي.
وأما زهيرة فكانت موظفة بالجاحظية. وأما بالنسبة إلى الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي» فلا يحيل على أشخاص بأعيانهم، أو شخوص أعرفهم. وذلك بسبب هيمنة الإحالة على التجريد، ولو أن في ذلك امتدادا ل«الشمعة والدهاليز.»
وأما بالنسبة إلى «الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء»، (رواية وطار الأخيرة) فهناك عبد الرحيم فقراء مراسل الجزيرة وبعض الرؤساء العرب كزين العابدين بن علي وغيره من الأسماء الواردة في الرواية، وكل هؤلاء موجودون في الواقع.»
وهنا ينبغي أن أشير، يقول وطار، «إلى أنني آخذ 5 % من الشخص، من هيكله العام، ولكن أعطيه أبعادا بعضها موجود فيه أصالة وبعضها الآخر من اصطناعي، مع الاحتفاظ للشخصية بحرية التصرف والاستقلال عن إرادتي. فالشيخ بولرواح في رواية «الزلزال»، على سبيل المثال، لا أتفق معه ايديولوجيا، بل وتمنيت له الموت.
ولكنني لم أستطع أن أقتله أو أجعله ينتحر بإلقاء نفسه من على الجسر سيدي مسيد المعلق في قسنطينة. وذلك رضوخا لشخصيته وللمناخ العام الذي سارت فيه الرواية.
وفي هذا السياق أبى الطاهر وطار إلا أن يفتح قوسا ضمنه القول«عندما نضبط أبعاد شخصية بدقة، وهي عملية كلاسيكية يعترض عليها كتاب الرواية الحديثة ومنهم إدوار الخراط الذي استضفناه منذ أيام فقط، وكما أكتب به أنا، مع بعض التحديث الذي أدخلته في ممارستي للإبداع الأدبي.
وأعني بذلك أبعاد الشخصية النفسية والاجتماعية والفيزيولوجية وخلفياتها الحضارية، فبإمكان ذلك أن يعطينا نتائج لم تكن لتخطر لنا على بال سلفا في تصرفها و، و... فشخصية «بولرواح» في رواية «الزلزال» لم أكن أعرف أنه لم يكن له أولاد، ولم أكن أعرف أنه تزوج كذا مرة، إلى درجة أن كثيرين من أقاربه صاروا يسألونني: هل زرت بيته؟ وهل عرفته عن قرب؟
وهل، وهل..؟ لأن الكثير من الحقائق انبثقت من هذا الضبط الدقيق لأبعاد الشخصية». ليختم الموضوع بالقول «أعتقد أننا مهما كنا على دراية ومراس، لا نستطيع أن نخرج عما هو موجود حولنا وفي حواسنا.»

* رواية لا زمنية

لم يغادر الطاهر وطار مدرج الشهيد بن بعطوش بجامعة الجزائر دون الكشف عن نوع من النسق الفكري يصدر عنه في رؤيته للعالم والحياة.
حيث أوضح بهذا الخصوص بأن الجدير بالإشارة بخصوص موضوع اصطناع الشخصيات والكتابة بصفة عامة «أننا عندما نقوم باستنساخ خروف أو إنسان ففي الحقيقة أننا لم نخترع شيئا، بل اكتشفنا بعض آليات الخلق بالمعنى البشري.
وأعتبر أن البشرية من خلال فتوحاتها العلمية والتقنية المتناسبة مع تطورها الفكري، إنما تقوم في كل مرحلة باكتشاف أشياء لم يكن من الممكن أن تكتشف في غير محلها المناسب». ليكشف وطار أنه يسعى «للسيطرة روائيا على زمن الحلم.
وزمن الحلم أن تكون هنا وتكون هناك وتكون في الماضي وقبله. وقد بدأت مشروعي هذا من خلال رقصة يوسف السبتي (في الشمعة والدهاليز) في بيته في الوقت نفسه في الحراش وفي قسنطينة، قدم في الحراش وأخرى في قسنطينة. وفي الولي الطاهر أحاول أن ألغي الزمن العادي.
وهذا ليس لي أي فضل فيه بقدر ما هو مجرد اكتشاف. فبواسطة جهاز هاتف صغير أو وسيلة إعلامية نستطيع أن نتصل بأي شخص وفي أي مكان في العالم بالصوت والصورة وفي آن واحد.
هذا الزمن مهم جدا بالنسبة إليّ في بحثي عن رواية لا زمنية. وهي عملية أقرب ما تكون إلى صورة بهلوان يلعب بعدة كور يقذف بها ويمسك في الوقت الواحد دون أن تفلت من قبضته أي منها» ختم وطار مداخلته.

الجزائر ـ مراد الطرابلسي
البيان – 22 /6/2006


إقرأ أيضاً:-