إعداد: خالد البسام
(البحرين)

الصحافي صالح الخريبي وآخر حديث مع الشاعر بدر شاكر السياب وهو يصارع الموت في الكويت
السياب : قبل المرض كنت من أشد دعاة الالتزام والآن أعيش على هامش الحياة

***

بدر شاكر السيابلم يكن في بال الصحافي الكويتي الشاب صالح الخريبي، أنّ لقاءه مع الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب على سرير المرض اللعين في المستشفى الأميري بالكويت في صيف عام 1964م، سيكون الأخير مع الصحافة .

كان اللقاء الصحافي النادر مع السياب الذي نشر في مجلة " أضواء المدينة " بتاريخ 21 يوليو/تموز عام 1946م بمثابة تنبيه لكلّ محبي السياب والشعر بأنّ هذا الشاعر العظيم يحتضر، ويصارع الموت بكل جسارة وشجاعة . ولكن كالعادة لم يسمع أحد !.

لستُ أدري لماذا كلّما التقيت به .. أحس بشيء من التحفظ يحتويني ... يغلف وجودي .. يدفعني إلى مراقبة انفعالاته .. ودراسة إيماءات وجهه، إزاء كل بادرة تصدر عني .. ربما لأنني أشعر فيه بعظمة الإنسان وجبروته .. الإنسان الذي في مقدوره أن يتجاوز قمتي سعادته وتعاسته .. ليستجمع قواه ويكافح من جديد .. يناضل ولا يستسلم .. إنّه الشاعر .. بدر شاكر السياب .. كان موعدي معه ... في المستشفى الأميري ... حيث يصارع المرض ... في معركة متكافئة ... سلاحه فيها الابتسامة الدائمة المشرقة .. كان في زيارته الأخ علي السبتي الشاعر الكويتي المعروف ...

انزلق السؤال على لساني دون تفكير .. وكأنني أرجوه أن يساعدني على الاهتداء إلى طرف الخيط .

- من الصعب تحديد مفهوم الشعر، لأن هنالك مدارس واتجاهات كثيرة فيه .. يعرفه كلّ واحد منا بتعريف .. لكن، لعل أقرب مفهوم إلي ما في نفسي عنه .. هو أن الشعر إعادة خلق لحظات مشعة سابقة .. وأعني بالسابقة التي تسبق كتابة الشعر ..

- حتى ما يسمى فورة، لا يحدث بصورة عفوية .. وإنما لابد له من مبررات .. ولنسأل أنفسنا .. كيف بدأت حركة الشعر الحديث؟ لقد مرت بتاريخ طويل عبر شوقي، وخليل مطران، وعلي محمود طه .. والأخطل الصغير، وعمر أبو ريشة ثم فوزي المعلوف وشعراء المهجر، حتى تلقفها جيل الشعر الحرّ .. جيل بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، وأدونيس، وخليل حاوي وسلمى الخضراء الجيوسي، وفدوى طوقان، وفؤاد الخشن، وخليل الخوري وسواهم من الشعراء المجيدين الذين يضيق بهم الحصر ... وأنت ترى بالطبع ... أن هنالك ضرورات تاريخية واجتماعية وحتى سياسية، جعلت ما يكتبه علي محمود طه مثلاً يختلف عما كتبه البحتري أو أبو تمام، وجعلت نازك الملائكة مثلاً تكتب شعراً يختلف عما كتبه خليل مطران ... لقد أراد الشعر الحرّ أن يكون بالحياة ألصق من الشعر الكلاسيكي، وأن يعالج من المشاكل والعواطف ما كان الشعر من قبل يستنكر معالجته ...

وقد أدى هذا التجديد بالموضوع، بالضرورة، إلى تجديد في الشكل ... لأن الشكل الجديد للشعر أطوع لمعالجة هذه المشاكل، التي كانت معالجتها قاصرة على النثر ..

- ليس من الضروري أن يرافق الغموض الشعر الحرّ .. ووجود مثل هذا الإبهام في شعر البعض راجع إلى أن تجربة الشاعر نفسه لم تكن قد اتضحت تماماً في نفسه أو لضعف في ملكة التعبير عنده أو لمجاراته لبعض الشعراء الغربيين فيما يكتبون من شعر غامض ... وفي أحيان نادرة جداً يكون الأسلوب الغامض هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن التجربة التي لا يمكن أن تأتي بأي صورة أخرى وإن كنت لا أريد أن أذكر مثل هذه الحالة ... فلكي لا يتخذها الكثيرون من المزيفين من كاتبي الشعر الغامض، متكأ وتبريراً لغموضهم ...

- استعملنا الأسطورة أول ما استعملناها في العراق، لغرض سياسي محض، ولسبب سياسي محض أيضاً ... كان حكم نوري السعيد البوليسي لا يسمح للأديب بأن يتنفس بملء رئتيه ... فيهاجم النظام أو ينتقده ... ولذلك لجأنا إلى الأسطورة ... ثم انتقل استعمال الأسطورة من العراق إلى لبنان وسواه من الأقطار العربية، فاتخذت الأسطورة رمزاً لبعض المطامح والأشواق الدينية أو الفلسفية، بل لقد طرأ على استعمالها تغير حتى في العراق ذاته ... مثال ذلك ... قصيدتي ( سربرو س في بابل) وإن كتبت في عهد متأخر، أي إبان طغيان الشيوعيين وعبدالكريم قاسم، ( فسربروس ) كلب الجحيم المكلف بحراسة أرواح الموتى يمثل قاسماً نفسه، وهو ينهش لحم ( عشتار ) آلهة الخصب، التي ترمز للانبعاث والتحرر .. فما كان باستطاعتي أن أنتقد نظام الطاغية عبدالكريم قاسم بغير هذا الأسلوب، ولا أن أصور ضياع الشعب ورعبه وجوعه وتوقه إلى التخلص منه بأسلوب سواه ...

- لو أمعنت النظر في الشعر الحديث، لرأيت الأساطير التي استعملت رموزاً محدودة، وهي من الأساطير التي تناولها الأدب كثيراً بحيث لم تعد خافية على أحد ... كأسطورة تموز، الذي هو رمز للانبعاث عن طريق الموت ... وقد استعملها كل الشعراء الحديثين تقريباً ...

- لقد ابتدأ تأثرنا بشعر اليوت قبل تأثرنا باستعماله الأسطورة أيضاً فشاعت طريق التكرار، وطريق التحدث عن مواضيع نثرية، وغير ذلك، ثم استعملت الأسطورة استعمالاً يختلف عن استعمال اليوت لها ويخالفه ... لقد استعملها اليوت مثلاً لأغراض دينية، واستعملناها نحن لأغراض سياسية ...

بدر شاكر السياب- صحيح أن هنالك الكثير من الأساطير العربية .. لكنها شأن كل الأساطير الأخرى، ذات علاقة وثيقة بالوثنية، وقد جاء الإسلام لكي يحطم اللات والعزى وكل ما يتعلق بهما من أساطير .. وإحياء هذا التراث الآن يعتبر تحدياً منا للرسالة الإسلامية ... وتحدينا الإسلام يعني تحدينا العروبة كلّها ... فعن طريق الإسلام ازدهرت الحضارة العربية، وأصبح العرب معلمي العالم وأساتذته ..

- في شعرنا القديم، كان عندنا أدباء نستطيع أن نضعهم في مصاف شعراء العالم الكبار .. وإذا اعتبرت مثلاً شكسبير مجرد شاعر، لا شاعراً مسرحياً امتاز بخلق الشخصيات وتحليل النفوس، فإنّ شعر المتنبي لا يقل بحال من حيث عظمته، وعمقه، وصدقه، عن شعر شكسبير ... أمّا في العصر الحديث ... فإنّ الشعراء العرب الحديثين " شعراء الشعر الحرّ " هم أحسن مستوى من مجايليهم ( أي الذي يساوونهم عمراً ) من شعراء الغرب ...

- السبب في ذلك، أننا ننتمي إلى دول صغيرة، وإلى قومية يكنّ لها الغرب العداء الشديد، منذ الحروب الصليبية وحتى قبلها ...
وهنا، استأذن الأخ علي السبتي بالتعليق، وأشار إلى أنّ ناظم حكمت ينتمي إلى دولة صغيرة .. ومع ذلك أطبقت شهرته الآفاق فأجاب الأستاذ السياب :
- ناظم حكمت شيوعي، والشيوعيون هم الذين عملوا على إحداث هذه الشهرة العالمية له ...

- طاغور كان يترجم شعره وينشره ...

- أنا لم أحاول أن أنظم باللغة الإنجليزية ولن أحاول ... أما عن الترجمة ... فهذه قصائدي أمام أعين المترجمين ...

- كنتُ قبل مرضي، أي منذ أكثر من ثلاث سنوات من أشد دعاة الإلتزام حماساً ... أما الآن ... وبعد أن أصبحت أعيش على هامش الحياة ... على هامش ضئيل من هوامشها ... فقد أصبحت عاجزاً عن الإلتزام ... لأنني لم أعد أحيا الحياة ... بل أصبحت " أمرضها " إن جاز هذا التعبير ... فصار شعري قاصرا على التعبير عن عواطفي الخاصة ... وما كنت أريد له ذلك ... أدعُ لي بالشفاء ... إن كان يهمك أن أكتب شعراً يتخذ سلاحاً في المعركة ...
وشددت على يده بحرارة وأنا أودعه ... متمنياً له الشفاء العاجل ...

الوطن- البحرين
الثلاثاء, 17 يناير 2006 - العدد (0038)