إيف بونفوا.. متعقّب الفوري

ترجمة: بنعيسى بوحمالة
(المغرب)

إيف بونفواأفردت شهرية "الماغازين ليتيرير" الفرنسية أحد أعدادها الأخيرة للشاعر الفرنسي إيف بونفوا، إحدى القامات السامقة في المشهد الشعري الفرنسي المعاصر، و ذلك بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، ضم دراسات و مقالات و حوارات تناولت سيرته الكتابية كشاعر و ناقد و مترجم أغنى الشعرية الفرنسية بالكثير من الاجتراحات القوية و المنتجة مثلما أرخى بظلاله على العديد من الشعريات العالمية الراهنة و في مقدمتها الشعرية العربية؛ و قد قدمت المجلة لهذا الملف الهام بالكلمة التالية: "شاعر، ناقد و مترجم، بهذه الصفات ثلاثتها سيقتدر إيف بونفوا، على الغرار من بودلير، على الدفع قدما، و إلى أعلى درجة ممكنة، بشعيرة الصورة الشعرية التي شكلت مناط تعلّق عدد غير قليل من الشعراء و الكتّاب: مالارمي، بروست، فاليري. فهو شاعر الحضور و متعقّب "الفوري" سيان في موجودات "النقاوة" أو في نسيج المفردات، بل و يا ما غبط الرسامين، بّوسان، جياكوميتي أو موراندي، لامتلاكهم مؤهل الإبانة عن "هذا الفوري.. هذا الامتلاء المحسوس" في تضاعيف أعمالهم الفنية، متشبهين بهذا الصنيع بزمرة الأنبياء. و هو يطفئ شمعته الثمانين ما فتئ إيف بونفوا متشامخا، موطدا مكانته كأحد الوجوه الكبرى في الآداب الفرنسية. و إذ استهل مشواره الإبداعي بالانضواء إلى حوزة السرياليين فما هي إلاّ فترة حتى تنصل من عقيدتهم لسلك مساره الخاص الذي سيقوده من "حركة الخندق و سكونه" (1953) إلى "ألواح مقوّسة" (2001).. من "رسامي الحيطان في فرنسا القوطية" (1954) إلى أعمال حول بيكاسو، بالتوس، موندريان أو أليشينسكي، مرورا بمقالات لا تحصى عن بودلير، مالارمي أو بّيير جان جوف، بترجمات خاصة بالآثار المائزة لكل من شكسبير، ييتس، و ليوباردي، و بمناسبة إعادة طبع "البلد الخلفي"، النص السير - ذاتي الحافل بتأملات في قدرات الشعر و تخومه أردنا إسداء تحية لحضور إيف بونفوا و تمدية السفوح المختلفة، المتراحبة، لمنجزه الإبداعي".
و نجتزئ من هذا الملف المتنوع، لكن المتكامل، الذي تولته ثلة من الأسماء الأدبية و النقدية الرصينة، بحوارين اثنين أساسيين يتمحوران حول عالم إيف بونفوا الشعري مثلما يتحريان عن اعتناقاته الروحية و الفكرية و الجمالية، أجري أولهما مع الشاعر نفسه بينما تمّ الثاني، الذي انصب على نص "البلد الخلفي" بوجه أخص، مع الناقد المبرّز، جان ستاروبنسكي، صديق الشاعر الملمّ، من موقعه هذا، بكليات تجربة إيف بونفوا الشعرية إلمامه بمستدقات فكره الخبيئة.

***

إيف بونفوا: الحقيقة الوحيدة هي حقيقة الكائن المأسور إلى نهائيته

حاوره: روبير كوبّ

س: في غضون السنوات الأخيرة أجريت العديد من الحوارات، هل يمكن ردّ هذه الغزارة إلى نوع من الاسترخاء أم إلى رغبة مكينة في التفسير ؟

ج: لأقل بغاية أن أفهم على نحو أفضل بصفة خاصة، فأنا غالبا ما أتحاشى عروضا في شأن حوارات متعجلة أو محادثات شفوية يحصل أن تدوّن، في معظم الأحوال، بطريقة سيئة إن لم تكن مختزلة، و ذلك لأن مناسبات كهاته لا تفضي سوى إلى تكرار جملة أفكار تغدو، فضلا عن هذا، فقيرة و هي تتخذ صيغا مبسطة من هذا القبيل، لهذا لمّا أحسّني قادرا على التعبير كتابة، نظير ما أفعله الآن، عادة ما أجد فائدة قصوى في أسئلة تتوخى إجابات في الحال من غير ما انشغال، مثلا، بهاجس الشمولية أو الاستنفاد. أمّا لماذا هذا الاختيار فذلك أن عدم الإيغال قصيا، و بقدر ما يستطاع، في اللب من قضية من القضايا، و لتكن قضية الشعر على سبيل الاستئناس، لممّا يدعو إلى الحسرة و لو أنه يسمح، في المقابل، بالمجازفة على أصعدة لم ينحسم التفكير فيها بعد و تقتضينا إرجاءها إلى حين. فالسؤال، في المحصّلة، ليس أكثر من فاعلية تحريضية على التموضع هناك، بعيدا عمّا تعودنا، سليقة، الركون إليه، فاعلية مثيرة و منعشة في آن معا.

س: قلت هناك، أتقصد حيث تثوي، كمثال، فكرة الحدث ما دام الحدث ينبلج في شعرك قادما من جهة نائية، هذا رغما من كونك عشت، على شاكلتنا، راهن الأحداث المريعة لزمننا ؟

ج: ها هو سؤال من بين أسئلة أخرى تنطلق ممّا نحن عليه الآن متوسلة، عمقيا، إلى ما لم تتح لنا فرصة الإفصاح عنه بعد. إن سؤالك ليثلج صدري حقيقة لأنه يستثير شاغلا يكاد يكون يوميا لدي بل و يمس صلب مشروعي الكتابي، أحد شقّيه بالأحرى. فأنا نادرا ما أقتطع حيزا ما للحدث أو الواقعة التاريخية في قصائدي علما بأن هذا الاحتراز من قبلي على ما يمكن اعتباره إثارة مباشرة لا يفيد إطلاقا أني لست معنيا، كالآخرين، بالوضع الراهن للعالم، بل العكس لأني قلق، في الحقيقة، أشد القلق على حاضر العالم و مآله لدرجة الحنق، الشنآن، و إسبال الدموع أحيانا. و بما أنني على اقتناع بتعالق هذا الوضع الكارثي مع وضعية الشعر تعالقا مباشرا و وثيقا الظاهر ألاّ فائدة من وجودي، أصلا، إن أنا لم أعرب عن الإحساس بمسؤولية نوعية، يستحب أن تكون محصورة، تجاه، بالأقل، التأويل الذي يمكن بلورته في هذا الإطار، حيال إعادة التنظيم الجارية حاليا إن لم يكن حيال أحداث و وقائع بعينها. إن ما هو ناجع، فيما أرجح، هو استيعاب الأشياء، سواء من حيث تفاعلها مع الشعر أو فيما يخص المنحى الذي يجب أن تسلكه مناوءة الشعر للكوارث و الطامات الكبرى و هذا ما يفسر انحيازي، إن شئنا، إلى هذا الأفق الفكري، أي التدبّر البطيء لصنوف الارتعابات المرينة على عالمنا، و إشاحتي عن اصطناع ردود فعل مرتبكة تجاه الأحداث و المجريات، قد تتخذ إيقاعا يوميا، زد على ذلك اعتناقي لفكرة مؤداها أنه إذا ما صح أن الشعر غير عاجز بالمرة عن تدشين الطريق صوب تعاسة أقل فما من مخرج له، أي الشعر، لتحقيق هذه المأمورية سوى بابتعاث نبعه الأصيل، بحيث إن مطاوعة هذا النبع و الولاء له لمن المفاتيح الحاسمة في هذا المضمار لكونه سيسمح لنا بطيّ مراقي أخرى من سلّم التسامي، سينتشلنا أكثر من درك الكلام العادي و سفوله، هذا الكلام الذي ما من وظيفة له سوى تكريس الغرائز المرذولة و الاستيهامات.

س: في إطار الحدث دائما، هل لك أن تضعنا في صورته التي عشتها، أن تعيّن، مثلا، الذكرى التي تحتفظ بها عنه.. دعك تروي لنا عن باريس ساعة التحرير، عن معنى الفورية غداة الحرب..

ج: أيّ ذكرى هذه التي تريدني تعيينها ؟ أهي ذكرى الانذهال الغائر، الذي تلا الغبطة الساذجة التي سادت عام 1945، و نحن نقف على ما اقترف في معسكرات الإبادة، و إن كان هذا يمت بصلة، بصرف النظر عن طبيعته، إلى انطباع عن ضرب من اللاواقعية تمّ تمريرها، ساعة الحقيقة تلك، رفقة جملة الأفكار التي بسطت هيمنتها، و لا تزال، على المجتمع الغربي لقاء تغيير نسبي، طفيف. بعد أوشفيتز لن يصير الشعر صنوا للمستحيل كما كان يردّد أحد الفلاسفة بل الفلسفة في المقام الأول ! أي "الأوهام المجيدة" و اقتراحات الميتافيزيقا أو اللاهوت الذي لم يأل مالارمي جهدا في فضح استمساكه بإقامة الوجود بينما هو غائص، في واقع الأمر، في إقامة الأساطير لا أقل و لا أكثر. فسواء على صعيد ما ندعوه، حاليا، الواقع، في كثافته اليومية أو في خضم العلائق الأوفر حميمية بين الأشخاص سوف لن تسفر هذه الحقول سوى عن إخفاق ذريع في الفهم أو، بالأدق، في مجرد السعي إلى الفهم و ذلك جرّاء انغلاقها في قوقعة من المسبقات ذات الطبيعة المجتمعية أو الدينية.
و بتعبير رديف فبسبب من قصور الفكر التصوري، لا محالة، عن وضع لا معكوسية الزمن موضع تقليب و تمحيص، و تهيّبه من أجرأة ملحاحية الاختيار، واقعية المصادفة، و في الجملة مقاربة معطى نهائية الحياة، بما هو معطى قائم وجوبا، لم يقو الخطاب الغربي، ما في ذلك ريب، على اكتساب فضيلة التحسّس باكرا، على صدّ غير المرغوب فيه، و لم يفقه، بالتالي، السبيل إلى منظومة القيم و المقولات التي لن يرجى أيّ تبادل إنساني عند انتفائها. لقد تخلى، طوال قرون، عن عقول كبيرة تاركا إياها تحت رحمة تناقضات متعذرة الحلّ أو رازحة تحت ضربات الإيديولوجيات الأقل وسواسا بمن هو خليق فعلا بأن يستأثر بالسلطة و يحتكر النفوذ. كان الخراب مطبقا و عيوننا تحدق في صروف عنفوانه و استفحاله بعد الحرب: مدن مدمرة، تطهير عرقي، مع استئصال و لو درة أمل متوثب نتيجة سيطرة التجارة الرأسمالية أو الاستبداد الستاليني. علة هذه الأهوال و الخطوب كانت تخفق، سافرة، فوق رأس الجميع، كانت بمثابة غيمة جشاء، و هو ما كان يفاقم اندهاشي بل و يحثني على الانفراد بهذه الذاكرة.
بصدد فكرة الشعر فقد كان جدّ طبيعي أن تتقوى، في كنف تلك الوضعية، و حيث أمسى التفكير يمثل، يوما بعد آخر، جزءا لا يتجزأ من فاعلية تقصي علة الآلام و الفداحات المجتمعية، فالشعر يعني، من بين ما يعنيه، التطلع إلى التواصل مع الحياة في فوريتها، إلى التواشج مع كينونات منسلة من رحم المطلق، و هذه الخبرة لا يمكن مباشرتها سوى بإطلاق سراح لغة الأنساق التصورية التي تنوب مناب الامتلاء الوجودي الممكن و تعتقله في تمثلاتها التجريدية الخانقة، و فوق هذا، بل و بأثر منه كذلك، تحشره في تمثلاتها التجزيئية، أي المتناقضة، التي ستشكل، كمثال حي على إفرازاتها السالبة، مرتعا خصيبا لقوى مضادة، مختبرا لدافعية الاحتراب، أي للعوامل و الأسباب التي أدت إلى نشوب الحرب. إن الشعر ليس أبدا عدوا للفكر، بل على العكس إنه يتحلى بفضيلة توقّع أو انتظار حلول العقل الجليل الذي تكنزه الروح حتى يباشر تنظيم عالمنا هذا و تنضيد خلقته المبعثرة، عالمنا الذي بوسعه أن يكون بديعا و مرونقا و الدليل هو ذلك النزر اليسير من إيحاءات الامتلاء الحقيقي الذي نلتقطه بين الفينة و الأخرى، إنه، أي الشعر، ليس أيضا خصما لأحلام اليقظة الأكثر طوباوية ما دام يقدّر الأحلام حق قدرها برهاني على هذا التقدير كونه لا يعمد إلى طمسها و تحريف طبيعتها. لكنه ينفرد، في مقابل هذا الانفتاح، بامتلاكه زاوية نظر تسعفه على وضع الفكر موضع نقد جذري مستهدفا، عمقيا، تسفيه الروح المدبرة للنسق إن لم أقل تجريمها، و من هنا لم يكن واردا لردّ فعلي، داخل وضعية ما بعد الحرب، أن يستهين، مثلا، بإلزامية الشعر الفائقة و المحتدة و اتخاذ هذا التحليل أولوية الأولويات. على أيّ إن هذا يمثل ذكرى ثانية لا يمكنني، إطلاقا، تصور نفسي متنصلا من تبعاتها.

س: و ماذا تقول في سارتر و أوفاقه ؟ إذ بمجرد ما فارقت السرياليين سيلجأ سارتر إلى اعتبار الأمر ارتدادا بيّنا، نريد أن نقف على طبيعة إدراكك للوجودية و موقفك من التحديد الذي سطره الفيلسوف للأدب..

ج: من المؤكد أن فكرتي عن الشعر لا تسقط من حسابها رفع أسهم الفكر الموسوم، في الحقل الفلسفي، بالوجودية التي ترى، بما يتفق مع الحدس الشعري، بأن الواقع الأوحد هو واقع الكائن الإنساني المنذور إلى نهائيته، بمعنى إلى إكراه الصدفة و الزمن، و لعل هذا ما يفسر انغوائي القوي بشكاوى شيستوف و تضرعاته التي ما كان لها سوى أن تلذّ لي بل و أن تقوّي من عضدي و تعاطفي الكبير مع كييركيغارد، بعد اكتشافي له توسطا بالمصنف الفذ لجان واهل، الذي سيتجرع مرارة تناقضات أليمة، لكني، و ربما لهذا الاعتبار بالذات، لم أستشعر و لو أدنى تعاطف مع خطاب سارتر الذي لا يتورع، ضمن انتشاء ثقافي فاحش، عن إغلاق الاطّراح التصوري على ذاته، و بخاصة خلال تلك السنوات.
و إذن لم يعد هناك شيء من الوجودية في فكر من هذا الصنف منزوع من القلق و يشكل، كذلك، نوعا من الاستبلاد التام للشعر بل و يزرع فيه الحيطة من نفسه بمقدار ما يحفزه على التكالب و الضغينة ممّا سيتردد صداه، تحت مظلة الوجودية، في الأوساط الثقافية و الأدبية الفرنسية و ذلك لفترة مديدة. فمع سارتر سوف لن تتأخر الإيديولوجيا عن استعادة عافيتها، عبر كتابات روائية أكثر منها فلسفية، على ما في هذه الاستعادة من مضرة لقضية الوجود - في - العالم و إيذاء لجوهرها، و لهذا السبب لم أكن على استعداد للانضواء إلى فلسفة هايدغر التي تؤول إلى ما يمكن اعتباره حقبة ثانية في تاريخ الفلسفة، و عن خطأ أو صواب، لست أدري، سوف أخرج بانطباع عن كون ظاهراتية الشعر التي مسعاها إلى اتخاذ اللغة متخذ اقتراض و الاكتفاء بسحبها من صعيد التقريرية الحميمة إلى مرقى الحقيقة المتعالية تنتهي إلى أحد أشكال تخمين جوهر الشعر ليس إلاّ بينما هو، أي الجوهر، لا يليق به، بوصفه لغة أولا و قبل كل شيء، سوى وضع الوسائل التي توفرها هذه اللغة، موضع مساءلة و استكناه. إن الشعر لا تصح مماثلته بحقيقة قابلة للتقولب لأنه، أصلا، المحراث الذي يقلب التربة التي يستنبت من مسامّها الفكر ذاته كمضارع لحقائق ليس في حوزتها سوى أن تخلد نسبية ضمن أوضاع الحياة المجتمعية.

س: كان اكتشافك للسريالية خلال الحرب، ثم ما هي إلاّ فترة حتى أخذت مسافتك من أندري بروتون، من غير أن تتخلى عن التعاطف معه، أو لم تقل في كتاب صغير صدر مؤخرا: "لم أكن أمقته"، بل و ستستشيط غضبا، إلى جانب آخرين، و أنت تشهد على تبديد تراث الرجل، لوحات و مقتنيات و كتب، التي كانت تأويها زنقة فونطين، ما الأهمية التي تكتسبها في نظرك السريالية اليوم ؟

ج: ما من شك في أن السريالية التي انخرطت فيها على مدى سنوات ثم ازوررت عنها، لكن دونما جحود أو تنكر، لتستدعي مستويات عدة للإجابة عن هذا السؤال، أحدها يتموقع، إن جاز لي التعبير، لصق الكتابة التي لا تتوانى عن تلمّس طريقها - و صوتها بطبيعة الحال - داخل الكلام العادي ممّا يعني التفكير في إمكانات ما سيسميه أندري بروتون صورة شعرية، أي في صميم القطيعة التي انشطرت على إثرها الشبكة التي سوف تعمّدها البلاغة بتسمية الوجوه أساسا و ذلك بحسبانها وسائل للنباهة الفكرية أو رجحان الذهن، و لشدّما ستحلم السريالية بقدرات صورة شعرية من هذا القبيل، واقعية ما في هذا ريب، و بصور أخرى غيرها أصبحت، ياللحسرة، نسيا منسيّا، و تركبها من أجل استنصات اللاوعي الذي لا يمكن للشعر الاستغناء عنه بأيّ حال من الأحوال.
و مهما يكن فإني أفضل أن أحصر نفسي في النطاق الذي يتحقق معه التزامي، أقصد في نطاق العلاقة بين الشعر من جهة و المجتمع و التاريخ من جهة ثانية. فأنا أشعر، و بشكل مطّرد، بأن الديمقراطية يغشاها خطر جسيم في العالم برمته و حسبنا أن نستحضر ما لحقها من إهانة، بلغت حد الزراية بروحها، في القرن العشرين، على نحو كارثي، أحيانا، في مجتمعات معينة و من المؤلم أن هذه المصيبة لا تزال قائمة إن لم تكن مرشحة للاستفحال. قد نغدق عليها، أي الديمقراطية، صفات حسنة لكن إن نحن التفتنا إلى مجرى الروابط بين الأمم راهنا فسنقف، لا محالة، على أحد مصادر التهديد الذي يتربص بعض مكتسباتها الإيجابية، هذا في وقت أصبحت فيه العولمة، مثلما ننعتها، تتيح لمختلف الأمم أخذ الكلمة، ليس بغاية الرفع من شأو ثقافات مخصوصة - علما بكون هذا اللون من التبادل يعد قضية مغايرة - و إنما بهدف طرح رأيها حول كبريات المعضلات و صياغة مطالب لا غبار على أحقيتها.
و إذن فبقدر ما يسعى الشعر إلى تغوّر تجربته تامة غير منقوصة يتراءى، كذلك، أفقا ملائما للديمقراطية كي تستعيد روحها و تضحي شفيفة ملاءمة حتمية تجد مسوغها في أن الصنيع الضارب لفاعلية كالشعر، و هو ما سبق و أن نصصت عليه، لا يحيد عن تنسيب أنساق القراءة و أنظمتها التي قنّنها الفكر التصوري، أي الأنساق و الأنظمة التي ترادف، بناء على الحال التي هي عليه، نسيان ما هو خصوصي، نسيان النهائية، بحيث يتأتى للكينونات الأخرى، عند تعطيل الشعر لهذا التقنين، أن تمارس حضورها الكامل على هيئة لا صلة لها بالقوامية المتضائلة التي تتبرع بها عليها التمثلات التجريدية المتحصّلة. و في هذا المساق، دائما، يلزمنا أن نقرّ بحق الآخر، هذه الكلمة التي غالبا ما نتلفظها بشيء من التصنع و الارتباك، و مثلما هو بلا زيادة أو انتقاص، في أن يتمتع بكرامة الوجود، أن يرفع رأسه بأنفة و اعتزاز، و الشعر هو ما يهيئ له الحق في أن يمتلك سمة، أن يباشر حضوره و ينطوي على رغائبه الخالصة. في هذا المقام يكمن بالضبط أساس أيّ نظام ديمقراطي في حين ينهض الشعر، من فوره، بتعيين هذا الأساس، و بتعبير آخر بعملية الاستذكار و طرد النسيان، فهو بمثابة أداة سياسية و فوق ذلك الفضاء المبسط لأيّما حاضرة بما هي محك الإقرار بالآخر و ما يؤشر على حضوره في كياننا في تعال عن الأنا، التي ليست أكثر من ثمرة للتمثل التصوري، تنفتح بدلا عنها طريق أنا كونية أفقها هو العالم الطبيعي، بله الكون.
إن الشعر ليفيد تغيير الحياة أكثر من تجديد العلائق المجتمعية و تنميقها، و لو أنه لا يفتر عن التشديد على الحاجة إلى التبادل الإنساني و تعزيز أقنيته، و جائز ألاّ تكون له، أي الشعر، دراية بهذه الإفادة لكن سجلات الكلمات التي يوظفها، و هي مستقاة من معجم الكلام العادي، تسفر عن جدواه و مردوديته. لهذا السبب أبديت سواء عشية الحرب أو حتى في اللحظة الراهنة، رغما من المآل الملتبس الذي صار إليه هذا الأمر حاليا، اهتماما بالغا بالمؤسسة السريالية. فأندري بروتون نفسه لطالما ارتأى بأن الشعر هو المجال الوحيد الذي لا مناص له عن الاعتياش على العلائق المجتمعية ليس فقط من أجل اجتلاب أوفى قدر من العدالة و إنما أيضا بهدف السيطرة على مقدرات الحياة النازعة، في وقتنا الحالي، أكثر فأكثر نحو الضحالة و الكفاف. لقد أمكنه الدفاع عن وجهة نظره كشاعر انطلاقا من تحليلاته للحدث التاريخي و لم يفتني أن أكتب عن هذا الجانب الذي لا أضجر من معاودة تناوله، أمّا دليل صدقية وجهة نظره فيتمثل في أنه كان الوحيد، تقريبا، من بين أولئك الذين أمّموا مسامعنا في تلك الفترة التي كانت تضج بالفخاخ و الأحابيل، الذي سوف يتجرأ، في آن واحد و بأكثر ما يمكن من الصرامة و التفاؤل، النظامين الشموليين لعصرنا، لكن رغم ما تحلى به موقفه من جسارة نادرة فإنه سيقع في مطبّ إيجاد الأعذار لخطايا الاشتراكية و جرائمها و من بينها ضرورة مجابهة النازية.

س: لديّ سؤال آخر يتصل بتلك السنوات و يخص بول فاليري بالذات، ذلك أنك بقدر ما كنت، إبّانها، مقربا من أندري بروتون كنت لا تتوانى أيضا عن متابعة محاضرات بول فاليري التي كان يلقيها في حرم الكوليج دو فرانس، هل في الإمكان تفسير تلك المواظبة التي تبدو و كأنها ضرب من التخفف من ثقل الفعالية السريالية ؟

ج: لا خلاف في هذا، على أن رغبتي تلك لم تكن، في الحقيقة، ذات بال إن هي قيست بالفائدة التي سيتاح لي أن أغنمها من قصائد فاليري. من المحقق أني شغفت بالكثير من قصائده التي كانت تلبي لي حاجات لم يستطع الشعر السريالي إخمادها، و في هذا السبيل فحتى و نحن نعاين، عن قرب، العديد من أبيات "المقبرة البحرية" مجردة، مثلا، من أبهة الكتابة و فخامتها، على نحو ما يوحي به صاحبها فستتبدى لنا، في مجملها، و بغض الطرف عن هيئتها المبهرجة، بمثابة عيد غطاس، بليغ الأثر، للعالم الطبيعي في إحدى برهاته الأقوى فورية من الناحية المادية، عيد يصير فيه الفكر إلى احتجاج قحّ على ما هو قائم.
و عليه فأن أتموضع وجها لوجه أمام فائق الشفافية، حيال ميراث اليونان العتيقة، الذي يا ما ازدراه لاهوتيو الخطيئة و السقوط و حطّوا من قيمته، سيكون شيئا مثمرا بالنسبة لي و ذلك على الهامش من كتابة سريالية تزخر بالأحلام و تثقلها الاستيهامات. مع هذا فإن كانت شعرية فاليري لا تروق لي، أصلا، بسبب من نبرتها التي تجعلها من صميم الصنعة و ليس من فائض القريحة، من موضوعها، أضف إلى هذا تقنية الكتابة، فهو سينجح، حتى أكون منصفا، في بلورة تلك القسمات المبهرة لجدّافه الرائع الشيء الذي لا يترك للمرء سوى الاندهاش و، بالتالي، امتداح العمل الذي أنجزه هذا الشعري و هو يطلق العنان لكدره الملغّز.
غير أن سر جاذبية بول فاليري، بالنسبة لي دائما، قد ينجلي أكثر إن نحن استحضرنا أن السريالية و هي تستمسك بالكتابة الأوتوماتيكية كانت تنقاد، على نحو معقول في معظم الأحيان، صوب ردود فعل مباشرة، أكثر منها جمعية، تجاه الأحداث الجارية. بإزاء هذا، و فيما يخصني، سأصدر عن قناعة ترى بأنه من الخطورة تجاهل الدور الذي يجب على المبدع أداؤه لأنه غير قادر على أن يظل أبدا تلك الشخصية المتفردة، يتأمل و يشتغل وفقا لمزاجه في محله الخاص مستعينا بكافة وسائل التفكير، إذ عليه أن يردف إلى هذه الخصال خصلة أخرى و هي تكثيف المشكلات التي قد يبتلي بها زمنه ضمن وجهة نظر ممّا سيسمح له بالمزاوجة بين تمرين الكتابة، المفتوح في الشعر على أعماق لا يفقهها، و تمرين مثقف في مكنته النظر يمنة و يسرة، مزودا بإحساسه بمسؤوليته المستدقة في هذه الرقعة الخصيبة، الخلاقة، و السحيقة الغور دفعة واحدة، و حيث تغدو المفاهيم على درجة من التسامي و يتم تخصيبها بواسطة تموجات القصيدة. فصيلة من المبدعين كهذه كان بروتون مهيأ، بقوة الأشياء، للانتماء إليها، هو من سيعجب، علاوة على هذا، بفاليري و إن كان سينظر إليه من زاوية مغالية في اختلافها إن لم تكن استخبارية.
هذا و إذا ما كان يبدو، في أحايين كثيرة، و هو يعاني، باعتباره شاعرا، من خصاص ذريع فما من شك في أن هذا الملمح قد يسعف في الانتباه، بكيفية حاسمة، إلى أنه بمقدار ما يتوجب على المطمح الشعري أن ينتصر، دائما و أبدا، على جماع من المقاومات فإنه، أي المطمح، قد لا تتوافر له إمكانية الانتصار إن لم يكن عامل الإعاقة و التثبيط واقعيا، أقول واقعيا، و إلاّ فإن هذا الانتصار لن يتحقق سوى في دائرة الحلم. و إذن فالشاعر المنتظر الذي كنته، ميقاتها، لربما يكون وجد في ذاته قبسا من شعلة فاليري ينير له، فعلا، سبيل الولوج إلى عالم الشعر و الاندراج إلى رحاباته، إنما سيحل يوم، و الحالة هذه، ستنعتق فيه إرادتي، بشكل أفضل، من تبعات فصول مبهمة من عمله، يوم انوجدت فيه مدفوعا إلى الاحتجاج، ملء عقيرتي، على ما كان من اختيارات فاليري الوجودية.

س: لكن سيحل كذلك يوم سنجدك فيه، أنت لا أحد غيرك، تدرّس بالكوليج دو فرانس و لن يقتصر درسك على "الشعرية" و إنما سيتعداه إلى "دراسات مقارنة للوظيفة الشعرية" جاعلا من أعمال بودلير، مالارمي، شكسبير، و الشعراء المسرحيين الإغريق، إضافة إلى دي لاكروا و جياكوميتي مادة درسك. فأنت لم تمانع في تحمل أعباء التدريس لمرات عديدة، سواء في فرنسا أو خارجها و كلما قرأنا أعمالك إلاّ و تثيرنا الأهمية التي توليها للنقد، ممّا يجسده مجلد قائم الذات، نقد الشعراء أو الرسامين أو النحاتين، بل و حتى المهندسين المعماريين، ما طبيعة التواشجات التي تربط، من منظورك، بين الشعر و التدريس و البحث ؟

ج: الواقع أن هذا السؤال من شأنه العودة بي إلى من حيث انطلقنا، أعني نهاية الحرب. فقد كانت الفترة تأخذ طعم خراب كاسح يضاهي خرابا آخر يرين على الأرواح، بيد أن شيئا ما سيفضل، رغما من هول الخراب، ناهضا في لجة ذلك السديم البارز الملامح، في عيني على الأقل، و هو جملة الأعمال التي أنجزها بعض الباحثين، بعضهم تحديدا، أولئك الذين تبقّوا من بين كثرة كاثرة عرفتها مطالع القرن العشرين، ممّن لم تسترق ألبابهم الإيديولوجيا بفضل تعلقهم بالتحري عن المعنى الأصيل لهذا المقطع أو ذاك من ماضي البشرية. و لعلي أنوّه، في هذا المقام، إلى علماء إناسة، إلى لسانيين، و إلى مؤرخي الأفكار أو الإبداع الفني، بحّاثة و منقبون من هذا المعدن سيكون شغلهم الشاغل مادة لطالما اعتبرت، في فترة أخرى، مجرد وهم لا طائل من ورائه و لو أنها، أي المادة، ستأخذ صبغة قالبية لأوهامها المتراكبة. إن شغلهم، بالكيفية التي تمّ عليها، يعكس رغبة عارمة في معرفة الحقيقة و إن في هيئتها المتشذرة، لكن بأية حقيقة يتعلق الأمر ؟ لا مراء في أن مجلى هذه الحقيقة هو فعل تقويض القراءات السالفة، المشحونة بما لا يحصى من الافتراضات الميتافيزيقية، أحلام اليقظة ذات الخلفية الروحانية، الأفكار السياسية المسبقة، ثم إزاحة الدلالات المنسية أو المرفوضة، و ذلك مهما كانت طبيعتها، من خلال إعمال العقل في صفائه و بساطته. ففي الوقت الذي كانت أنماط أخرى من التفكير، أي في عام 1944، عرضة للإهمال لن تتأخر هذه الأعمال عن انتزاع ما يليق بها من قبول و حظوة، و فيما يعنيني لأقل بأني تفاعلت معها و لمّا أزل أنظر إليها، حتى هذه الآونة، في ارتباطها العميق و المتين بالشعر، أفليس يتصل الشعر، في الوضعيتين كلتيهما، بحضور، بحياة، أو، بالحريّ، بتمثلات لا منتظمة تسيّجهما ؟
لذا سوف لن يتباطأ في الانبلاج قدامي منعطف أقامه مؤرخون و فقهاء لغة لن يتركوا لي خيارا في الانحياز إليهم. فانطلاقا من عام 1945 سيبادر امرؤ رائع، هو لوسيان بيطون، بإدنائي من مكتبته الضخمة، بينما سيثبت لي جان واهل، عبر مصنفاته، لكم يستطيع تاريخ الفلسفة تأمل الانعطافات و تقرّي التزحزحات، أمّا أندري شاستيل فسيبدي رغبته في استضافتي ضمن المنتدى الذي افتتحه في معهد الدراسات العليا. كذا و موازاة مع احتياطي من الوقوع في شرك زخم من أحلام اليقظة انكببت على قراءة بعض المؤلفين، منهم من درّس في المدرسة التطبيقية أو في الكوليج دو فرانس، و على هذا المنوال أمكنني استرجاع إيماني إن جاز القول.
إنني لم أعتبر نفسي قط باحثا، و لولا ما توخيته، مثل آخرين غيري، من فائدة للشعر لما انسقت إلى هذه الضفة. فيا ما اعتراني الإحساس بأن متطلب إدراك كنه الشعر هو ما قد يحسم في مسائل من قبيل ما الذي يراد منه ؟ و ما هي الكيفية التي يكتشف بها ما يراد، إحساس موصول باقتضاء حداثة لا محل فيها للاعتقادات الراسخة و الأصوليات مهما كان تلوينها، حداثة تستلزم مزيدا من الانطباق مع مفاهيمها التجريدية، و في كافة الأحوال لم يكن هذا الهاجس يشغل سوى أقلية كنت محسوبا عليها. غير أن قضية الإدراك هاته تستدعي، حتما، التساؤل حول السبيل إلى هذا الإدراك و هو ما قد يستتبع نوعا من التحفظ على ما يمكن احتسابه غلوا نظريا و الميل، في المقابل، إلى إطلاق سراح الحلم و إلاّ سنكون جازفنا، ببساطة، باعتقال وسائل فهمنا المحدودة في محبس شذوذات العصر و انحرافاته. إن الشعر كان، و سيبقى، ملكا الأزمنة، منذورا، على الدوام، لترميم ترهل المفاهيم و إشفائها من سقمها، هذا كان قدره منذ ولادته، أي منذ فجر اللغة، من نفس الرحم التي انسلت منها المفاهيم، و سيظل على هذا النحو ناهضا، كل مرة، بوظيفة مستجدة يقترحها عليه سياق مغاير، و في هذا الإطار، و لمن يشاء إثارة تساؤل يتسم بأوفى ما يمكن من الدقة، فلا مانع عندي، البتة، من أن أبسطه نيابة عنه، كمخرج من هذا الاستشكال، على المنوال التالي: ما الذي سنخسره إن نحن طلبنا، في مرمى تجذير الفكر أو، ببساطة، لأجل اختباره، من الشعراء و المفكرين المنتمين إلى فترات أخرى تنويرنا بخصوص ما أدركوه هم و عاشوه من خلال الشعر، و أيضا بمدى براعتهم في تبليغنا إياه ؟
لا غرو في أن جدوى البحث العلمي في مجال الشعر ترتد إلى هذه النقطة على وجه التحديد، ذلك أن كل من يريد الخوض في عالم فيرجيليوس أو دانتي أو شكسبير بهدف استخلاص دلالته إلاّ و يجد نفسه مرغما على التسلح بهذا المقتضى الحتمي، أقصد استيعاب كيف انحرف ذلك الشيء الذي أزمعوا على قوله ؟ كيف توارى، إن لم نقل أمسى شائها، سيان في لغاتهم الوطنية أو في مرجعيات لحظتهم التاريخية ؟ و بعبارة موازية فلا مفر له من تقصد أعمال مختلف الباحثين، مؤرخي التلفظات، مؤرخي الأفكار و العقائد، و مؤرخي الفن و الإذعان لإملاءاتها، و بدون ترجمان المعرفة أو لسان حالها فلا أمل في استحصال شيء معقول في هذا المضمار، إذ أن افتقاد هذا السند معناه اعتبار ما نتلفع به من سراب كما لو كان شيئا بديهيا، و باختصار فمن أجل التفكير في الشعر، في الذي يمكنه تحقيقه بأكثر ما يكون من الفورية، الفظاظة، بل البدئية لا مناص لنا من إرهاف السمع لما ينصح به الناشر الحذر و المتواضع لنص "قصائد رعوية" من ضرورة الاسترشاد بمعاجم اللغة الإليزابيثية.
يا له من كارثي ذلك التفكير المبتذل الذي تولد عند شعراء مزيفين، ظهروا على هامش الحركة الرومنتيكية، اعتقدوا معه أن الذهاب إلى المدرسة أو الأخذ بأسباب المعرفة من شأنه إلحاق الضرر بالشعر الذي يجب عليه صيانة تلقائيته، طاقته الفطرية. إن حرية مزعومة كهاته لا تعني شيئا من غير إسلام القياد لتهيؤات تبسيطية، لتخريجات مشاعة لا ندري كيف نمحصها، و هو ما يدل على فراغ كان ينذر بثورة عميقة عظمى لن تلبث أن تتحول إلى متوالية من النصوص الهابطة، الغوغائية تثلج، بالتأكيد، صدر مناوئي الشعر، و ما أكثرهم. إن الشعراء الكبار هم من يجسم الاحتقان اللانهائي و ثورة الباطن المستعرة و في الآن عينه لامحدودية الصبر ابتغاء إدراك كنه الشعر ناهيك عن كونهم لا يسقطون من بالهم آفة الأمية التي يزداد اجتياحها و أثرها في التعاطي مع القصيدة قراءة و تأوّلا.

س: هل انتساب بعض الأعمال الإبداعية إلى الماضي هو ما يفسر اهتمامك بالترجمة، كمثال سنجدك تفرد نصيبا كبيرا من وقتك لترجمة شكسبير و نقل إضمامة من مسرحياته، علما بأنه أكثر الشعراء المسرحيين حظوة في الترجمة، و ها أنت ذا منكب، لمرة أخرى، على ترجمة عمل مسرحي آخر له، إلى هذا الحد أنت معجب به ؟

ج: في مكنتي إجابتك بأني أميل ما أكون إلى الاعتقاد بأن إعادة إحياء شكسبير لم تتم بطريقة صائبة في فرنسا و السبب هو أن مختلف مترجميه لم يمتلكوا، جميعهم، كما يقتضي الأمر ذلك، إيقاعا منسجما أو يكاد يحمل على كاهله عبء البيت الشعري و يغير، كنتيجة، النظرة التي من خلالها يرى، حينها، المنطق الخالص النص و يرى معه، بالمثل، منطق الوجود، لهذا أراني أقول بأن همّ تغوّر فكر شكسبير، فكره حول الشعر، سيشكل أحد الدوافع التي ستحدو بي إلى إنجاز الترجمات المذكورة، التي سوف تستغرق قرابة خمسة عقود. إن كل مسرحية من مسرحياته، هذا دون نسيان السونيتات، لهي بمثابة مرحلة في مشوار بحث شكسبير المضني عن ذاته الذي تخللته، أحيانا، لحظات استراحة يشفع لها وعي كامل و متماسك. هل أنا في مسيس الحاجة إلى التذكير بأن أفضل السبل لملاقاة مؤلف ما هي الترجمة، فالمترجم يكون مجبرا على الوقوف ليس ما عدا على المعنى و إنما كذلك على وظيفة كل مفردة على حدة، كل فكرة، كل صورة، ممّا لا يرقى إليه استعداد القارئ العادي، و اطرادا، إن توافرت لديه القدرة، على الإيقاع الناظم، الذي أومأت إليه قبل هنيهة، ضمن محايثته المكرورة في سائر منتسج مفرداته و عباراته و في كامل مخططات جمله و توليفاته. فهو، أي المترجم، من له أهلية اقتفاء أثر الشاعر في ثنايا تجريب على درجة من الجوانية، إنه، بكلمة أخرى، القارئ المطلق الذي بإمكانه اختراق العمل الإبداعي، قيد الترجمة، و استدراجه إلى لحظته التاريخية المخصوصة.
و عليه كيف لي، بناء على الحيثيات التي ذكرت، أن أصادر، مثلا، حقي في استنصات شكسبير، خصوصا إذا أدركنا بأن تراجيدياته و مسرحياته الكوميدية مرفقة، حتى أخلص من هذه النقطة، بأشعاره العاطفية، تأخذ مظهر تأمل جدّ متقدم في الشعر و منزلقاته، في علاقة الشعر بالمسرح، في الشكل المنغلق و الآخر المنفتح..

س: ممّا يلاحظ، بالمناسبة، كون المقطع الأول في عملك الموسوم ب "حركة الخندق و سكونه" يحمل عنوان "مسرح"، هل الأمر توكيد على علاقة ما بين الشعر و التعبير المسرحي في كتابتك ؟

ج: صحيح، "المسرح" هذا ما يعلنه المقطع الأول من هذا العمل، لكن سواء في هذا النص ذاته من الكتاب أو في رحاب كتب أخرى لاحقة سوف نلفي صفحات جمة تنتظمها عناوين من مثال "صوت" أو "صوت آخر" أو "نفس الصوت دائما"، و لو أنها تنبجس من ذهني يخيّل إليّ أنها كلمات برّانية، سمعتها هناك، و صنوها كلمات أخرى غالبا ما أدرجها ضمن نعت "حجرة"، ما دامت تقوم مقام شاهدة جدث زائفة، في عمقها أسعى إلى استبصار مدارك الكينونات عن النهائية و الفناء، و لم لا و هي التي سيضعها الموت وجها لوجه أمام صنيعه. هناك أصوات تؤثث لحظات شتى و فضاءات متعدد يتضمنها ما كتبت، أصوات لكنها، في العمق، مشهديات تمر منها أو تلتقي فيها كينونات تلهج بمكنونها و لا تفتر عن مخاطبتي، و أظن بأن هذا اللون من المسرح يتخلّق خياله، أساسا، في دبيب التطور و السيرورة، في جوهر الكتابة ذاته الذي يقتاد إلى الشعر لا إلى أفق غيره، و لعلها الفكرة التي تؤرقني في الكتاب الذي أحرره حاليا و إن كنت نشرت جزءه الأول في الفترة الأخيرة (*)

***

جان ستاروبنسكي: أوهام البلد الخلفي

حاوره: روبير كوبّ

ترجمة: بنعيسى بوحمالة
(المغرب)

حتى و هو يسائل الوظيفة في حد ذاتها التي تنهض بها الصورة فإن "البلد الخلفي"، النص - المفتاح في منجز إيف بونفوا، يستعرض تمرحلات فكر بعينه في حاضر الكتابة و يستنفر الذكريات مصحوبة بالأمكنة التي ارتهنت بها..

يحتل جان ستاروبنسكي، الأستاذ المحنك في جامعة جنيف و مؤلف أعمال ذائعة عن مونتسكيو، روسو، بودلير (أنظر الملف المنشور في "الماغازين ليتيرير"، ع 280، شتنبر 1990)، مكانة متميزة ضمن أصدقاء إيف بونفوا، "لعلك واحد - من بين أربعة أو خمسة لا أكثر - ممّن انغمسوا في فاعلية الكتابة و افترستهم مشاقها، ممّن اخترقتهم مباهجها العنيفة.. أنا أتكلم لكن داخل صمتي". فمنذ ما يربو على الأربعين عاما ارتبط الشاعر و الناقد بوثاق صداقة تقوم على قيم مشتركة يسوقها إيف بونفوا في "ما يشبه رسالة"، النص الصادر عام 1985 ضمن "دفاتر من أجل زمن" الذي سيصدر بمناسبة احتفاء مركز جورج بومبيدو بجان ستاروبنسكي (المنشور ثانية في "حقيقة الكلام" من لدن دار ميركور دوفرانس عام 1988 و دار غاليمار، سلسلة فوليو، عام 1995).
إن جان ستاروبنسكي ما انفك ينافح،من خلال كتابته، عن كون "العقل و الشعر ليسا عدوّين"، و على هامش مبادرة دار غاليمار إلى إعادة طبع النسخة الأصلية لنص "البلد الخلفي" التمسنا منه إبداء رأيه في هذا النص - المفتاح و حيث تعثر لغة الشاعر على سندها، كما سنعاين ذلك، في مهاد الصورة.

س: لنص "البلد الخلفي" موقع مركزي في آثار إيف بونفوا، إنه كتاب صور بامتياز، هل لنا نتبيّن طبيعة العلائق التي تنسجها، في رأيك، جملة الصور هاته مع النص ؟

ج: لمدة طويلة لم يحدث أن لان جانب "البلد الخلفي" فأصبح سهل المنال سوى من داخل النص الذي يتصدر المجموعة الشعرية الموسومة ب "سرود في الحلم"، غير مرفق بالصور، أو توسطا بطبعات الجيب (1). لقد كان من الأفضل إعادة طرحه مزدانا بالصور الإيضاحية حتى ينسجم مع الهيئة التي ابتغاها له إيف بونفوا حين صدوره عام 1972. فهذا الكتاب يندرج في إطار صنف من التفكير في الصور، إنه لا يحجم عن مساءلة الصورة، و باختصار فإن مبدأ هيكلة العلاقة بين النص و الصور يتلامح في متنه جزءا لا يتجزأ من الإرسالية التي يتوخى تبليغنا إياها.
مع ذلك فنحن لسنا مدعوين لاتخاذه متخذ رواق لعرض الصور ما دام لا ينحو منحى دراسة عن الفن و الفنانين و ذلك على شاكلة ما يواجهنا به كتاب "روما" 1630، الصادر في نفس التاريخ تقريبا رغم كونهما ينهلان سوية من عنصر الفكر. ففي دراسة من هذا الضرب، مفرطة في تعاطفها لكنها توائم بين الحذر و بين موضوع اشتغالها، تقوم مسافة مناسبة في حين يحوز المؤلف على موقع ثابت. إن "البلد الخلفي" لهو بمثابة "تفكير توليفي" يعمد عبره السارد إلى صوغ تاريخ قلقه الشخصي و استكشافه المثابر ل "مكان حقيقي"، و لاشك في أن إناطة ضمير المتكلم بوظيفة السرد ستثمر ارتجاعا إلى حياة بكاملها تتمفصل في تضاعيفها تواريخ اللقاءات التي ستخلف فيها، أي الحياة، آثارا دامغة و تبرز في عرضها بعض من الاختيارات الحاسمة الذي سيكون له دور في توجيهها و تكييفها، أضف إلى هذا حاصل القناعات التي عضدت الفعالية الشعرية، هذا و إذا ما أنا استجرت بكلمة استعملت بكيفية مسترسلة في الكتاب لربما حق لي القول بأن إيف بونفوا يرتقي صعدا، في هذا الموقف، مدارج حياته الشخصية متساميا، هكذا، على الخبرة المدونة في بطون مجاميعه الشعرية التدشينية. فالكتاب يستعرض تمرحلات فكر ينصب على حاضر الكتابة ركوبا على مستويات عدة من الاستذكارات مع التنويه إلى المواقع التي ارتهنت بها.
كيما يبلغ هذا الكتاب الذروة التي يستحقها لم يغرب عن بال إيف بونفوا أن سلسلة "دروب الإبداع"، على الهيئة التي تخيلها لها ألبير سكيرا في أواخر الستينات، تمنحه حرية لامتناهية في هذا الصدد، ذلك أن سكيرا كان يمتلك موهبة إنعاش العلائق بين حدي النص و الصورة و هو ما سيثبته بالملموس في "المينوتور"، المجلة الجميلة، الرائقة، لسنوات الثلاثين، و التي ستكون لأندري بروتون مساهمات فيها لعل أشهرها هي "ليلة عبّاد الشمس". من جهته سيفكر إيف بونفوا عميقا في معادلة الصورة / الحدث، على النحو الذي أجرأته السريالية، هو من سيصيبه الذهول، قبلها، جراء التهمة التي يا ما لاصقت هذه المعادلة بحيث ستدان بكونها حاملة "حضور رديء، و عليه فبمجرد ما سيتولى غايتون بّيكون، صديق الشاعر لردح من الزمن، إدارة السلسة سيعملان معا في دار ميركور دو فرانس و أيضا ضمن أسرة تحرير "العابر". و بخصوص هذه النقطة فإني لا أزال أحتفظ بذكريات شخصية غنية لكوني ساهمت بدوري في مشروع إطلاق السلسلة أو، على الأصح، ورّطت فيه (2)، و للإشارة فإن إيف بونفوا كان، ساعة إعداده لكتابه، يزاول التدريس في جنيف، بنفس الكلية التي كنت أعمل بها و ذلك على سبيل تعويض جان روسي.
و سواء اتصل الأمر بالتصور الطباعي أو بالتفاصيل التي تحفل بها اللوحات، بوظيفة اللون، الأسود و الأبيض تدقيقا، أو بضوابط الصور و تسييجاتها المتنوعة، فإن كافة هذه العناصر التي تشكل بنية الكتاب لا تتواني عن استنهاض الكثير من الحمولات. فهناك نوع من طباق بصري و لفظي يقترح علينا و في هذا المنحى أفكر، مثلا، في الطريقة التي يحضر بها بّوسان إلى حد اعتبار الصورتين الإيضاحيتين الأوليين، اللتين تستجيبان لمناداة النص الحثيثة، نظرتين قائمتي الذات حول رسمه، في أثناء الطريق، ثم الكيفية التي يتبدى عليها رسم ميثولوجي، و من بعده رسمان اثنان مكبّران مستمدان من "إنقاذ موسى"، في الوقت الذي تستثير فيه الجملة النهائية، المستلذة، في النص بّوسان، دائما، و هو يسير بمحاذاة نهر التيّبر مفضلا رسم لوحاته في هذا المكان دون غيره، و الخلاصة هي أن النثر الفرنسي يطول، في هذا الكتاب، إحدى قممه الفارهة و ذلك في سياق تجاور غير مسبوق مع ما هو بصري.

س: ما نصيب الحلم في نص من هذا النمط ينجذب إلى الصميم من الحياة، و كيف ينحشر في تجاويف الذكريات ؟

ج: أعتقد بأن إيف بونفوا لم يجاف الصواب و هو يموضع هذا النص في صدارة "سرود حلمية"، لكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار المعاني المتراكبة لكلمة الحلم و قيمها المتعددة كذلك، داخل الإطار الذي يوظفها فيه. فهي لا تنقطع عن مده بمعاني غزيرة تسبغ عليها قيمة أخلاقية جد مغايرة، تفصل بين خير التحرر من إسار عقل من التضايق بمكان و بين شر مصدره اللاواقع، و ما يجترحه إيف بونفوا نوع من الحلم يتنفذ فيه جدل حقيقي، و أنا أستعمل هنا بالضبط تعبيرا أثيرا لديه، و يحيل، مبدئيا و بصفة عامة، على الرغبة أو التطلع، غير المحدد القسمات بعد، في سعيهما إلى إبدال النقص بالاكتمال و الخصاص بالانغمار.و بالاستناد إلى السياقات التي يتم إدغامه فيها لا ترتدع الكلمة عن فضح وهم ما أو، بالعكس، تعيين تجربة نوعية طافحة بالمعنى أو تجلية أمر ملغّز. إن قيمة الحلم المثناة لا تفرق في شيء عن تلك التي يغدقها إيف بونفوا على الصورة و من ثم لابد من الإشاحة عنهما، أي الحلم و الصورة، قبل التقاطهما ثانية و سبر غورهما و ذلك بما يتوافق و طباقية "التنعم و التخثر".
ف "البلد الخلفي" يتخذ منطلقا له "الحلم"، الذي يخالج إيف بونفوا "في تقاطعات طرقية"، بالهناك، بمكان آخر "من الأفضل الإنصات فيه إلى موسيقى الأرض، و حيث تجري، في نهاية المطاف، ملاقاة الامتلاء الذي يا ما هو ناقص هنا". و بانتمائها إلى فئة الأحلام لا تني تنبسط، مثلا، ذكرى حكاية تمت قراءتها في إبّان الطفولة (في الرمال الحمراء)، أو استحضار مشاريع مؤلفات إمّا كانت عرضة للانجهاض أو كان مآلها التلف شخص فيها الأبطال أداء مضاعفا، أي أدوارهم مردفا إليها دور المؤلف، أو مجرد الحلم، بالدلالة الخالصة للكلمة، على مدى ليلة كاملة في أثناء رحلته إلى إيطاليا، إذ سيبصر في أحد جدران كنيسة ذات معمار ثماني الأضلاع الوجه الخرب لإحدى العرّافات قبل أن يدهمه صوت يخاطب فيه الطفل الذي كانه معزّيا إياه. كان مضمون الكلام يدور حول "ثلاث غرف تطل على الحديقة"، كما سيتولد لديه إحساس مسبق بضوء ما، و بطريق كذلك.
إن فكرة "البلد الخلفي"، و حيث تتجوهر العلاقة مع الامتلاء، تصر على أن تأخذ إهاب وهم و لهذا فإن الدرس الواضح الذي يمكننا استخلاصه منه هو ألاّ حلم في مكنته الانقفال على ذاته أمّا الاختيار الذي يفضل قائما فهو أن يتجسد في خلقات و أشكال، و بما أن الأمر كذلك فليس أمام الشاعر من منفذ إلى تقبل الحلم ثم استضماره سوى الوشاية به إن لم تكن معاركته.

س: غالبا ما انطبع مسار إيف بونفوا بمحطات تصويرية، دليل هذا أنه في تقصيه الدؤوب لبلد خلفي سوف لن يتقاعس، في لحظة ما، عن مغادرة عالم شيريكو لكي يعانق عالم بّييرو ديلاّ فرانشيسكا، ما الذي يستشف من مسيره بين هذا و ذاك ؟

ج: أول سفرة من سفرياته إلى إيطاليا، و قد تحدث عنها في "البلد الخلفي"، تمت، فيما أعتقد، عام 1950، و التفاته إلى الرسامين اللذين تذكرهما مؤشر قوي على المباعدة التي كان إيف بونفوا قد شرع في اتخاذها بإزاء السريالية. و ممّا لا يخفى فإن أندري بروتون كان يكنّ إعجابا شديدا لكل من أوشيللو و شيريكو، لرسوماتهما التي تأتلق فيها مدن قاحلة تدثرها عتمات كثيفة، مثلما سيدمج، ضمن الرسوم التزينية ل "نادجا" أحد مشاهد "دنس الأضحية" لأوشيللو، و من جانبه سيحيا إيف بونفوا، ممّا لا يخفى على العموم، نفس الانجذاب نحو هذا الطراز من التصوير الطافح غموضا و سحرا، و مع وصوله إلى فلورنسا ستنقلب الأمور، مثلما يصرح بذلك، رأسا على عقب، إذ "هنا سأكتشف، خلال ساعة من الزمن، لا يمكن أن تنسى، ما كنت غنمته من شيريكو حول عالم خيالي يوجد بالفعل، رغما من استحالته، على هذه الأرض، كل ما هنالك أنه وضع موضع استئناف و أصبح ممركزا، ذا ميسم واقعي، بل و قابلا للإقامة في رحابه توسلا بفعل روحي جديد و مثمر، دفعة واحدة، بالنسبة لي، لذاكرتي و مصيري" (البلد الخلفي).
في هذا الشأن، دائما، يتوجب علينا أن نقرأ مقالة "خفة الروح"، الواردة في "اللامرجح"، لكونها تفيد في استبطان هذا الملمح. فالشاعر لا يتواني عن إجراء مقابلة، و ذلك بطريقة ملموسة، بين كل من بّييرو و شيريكو ليستنتج بأن أعمال بّييرو ديلاّ فرانشيسكا يحضر فيها باستمرار شاهد أو قرينة على "حقيقة الحياة"، "نباهة لا لفّ فيها و لا دوران تجاه تناقضات ما هو قائم" في حين أن شيريكو يربط بين الفن الكلاسيكي الجديد و بين فن "المنفى و تأمل النفي و استبصاره". و بما يشبه هذا سيعيد إيف بونفوا النظر في ما كان من إعجابه، أول الأمر، بأوشيللو مؤكدا ب "أن استخدامه التجريدي، المجاوز للحد، لعنصر المنظورية يؤدي إلى انبتار الفضاء، إلى إضفاء مسحة برّانية على الوقائع و الموجودات، إلى إغداق نوع من العجائبية على الأشكال مع التطويح بالألوان و إسقاط العتمة على رقعة الصورة". و حتى الجمالية الغنوصية التي اقترنت بأوشيللو سرعان ما سيعثر عليها عند بورّوميني و من هنا سيلتئم شمل كل من أوشيللو، بورّوميني، و شيريكو عند نفس المنحدر الجزافي لفن لا يعطي و لا أدنى أهمية للتجسيد، "للبعد الزمني"، و "الجمال التلقائي".
على أن خطوة لا فكاك منها كان منتظرا من الشاعر توقيعها ألا و هي التنصل، إراديا، من نموذج صورة مذهلة تقتاد إلى مكان آخر، إلى "عالم مغاير" في تلازم مع إدراك أن الفن بمستطاعه أن يتصاعد بالهنا، ب "مجال وجودنا" المخصوص، الشيء الذي سيحدث و الشاعر قبالة الواجهات الصباغية لكل من ألبيرتي و برونيلليشي و إن لم يسفر، من لحظته، عن تبديد التعلق بمكان آخر طيّ الغيب، ب "بلد مفعم بأزخر ما يمكن من المعنى"، و لعل في هذا إشارة إلى نوع من التصالح مع الأمكنة البسيطة التي يؤثثها "الوجود العادي"، و إلى احتماليته سواء بسواء.

س: قسم وافر من الصور (إن لم يكن معظمها) التي يزدان بها "البلد الخلفي" تعيد، إذن، إنتاج سجلّ اللوحات الإيطالية للقرنين الرابع عشر و الخامس عشر، لوحات بّييرو ديلاّ فرانشيسكا، بلليني، بوتيتشيللي أو بّوسان، ما دلالة هذا المثول الملحّ لإيطاليا و للرسم النهضوي ؟

ج: حقا، إن إيف بونفوا سيكتشف لدى بّييرو، كما لدى كبار الفنانين المعماريين في عصر النهضة الإيطالي، لونا من "فن توكيدي"، "يضطلع بمدنيّة المكان" (البلد الخلفي)، سوى أن هذا لا يعني أفضلية ما استثنائية. فهؤلاء الفنانون سوف يقومون بالنسبة إليه مقام شهود على فترة تاريخية نموذجية لأنهم وضعوا على المحك خطورة التمثل و مجازفة المتخيل و لم يرتضوا فك الارتباط بين فنهم و بين العالم. و في هذا الاتجاه فإن القضية التي سيطرحها الشاعر، و لو أنها ستكون بمعزل عن أية خلفية أخلاقية، تترجم نظرة إلى الوجود من زاوية يظهر معها الفن و الحياة، و العامل الأخلاقي بطبيعة الحال، في وضعية التئام مستحكمة، و بتعبير آخر فإن فعل المساءلة، بغض الطرف عن حمولته الفضفاضة، يمكنه أن يرجأ إلى مواقيت أخرى فيطول فنانين مغايرين أفرزتهم الفترات المتوالية انتهاء إلى
الفترة الراهنة، و سنكون مخطئين إن نحن لم ندرك تجدّد التنابذات المذهبية، هكذا و في كتاب صدر حديثا عنوانه "ملاحظات حول النظرة" (3) ستجري المقابلة، هذه المرة، بين جياكوميتي و بين بيكاسو.
لابد من التنصيص على أن الشاعر يجهد لينجز عملا هو من شغل المؤرخ و يدخل في صميم مهامه، فهو يسعى إلى اختراق خيارات وجودية واضحة بقدر ما هي مستضمرة، مصرا على توصيفها و نمذجتها لأن ما يهمه، خارج مسألة السجلّ و وازع الدراسة، هو أن يصبح هو نفسه طرفا في لحظته الوجودية الخالصة تلك. و هناك ملاحظة أخرى أجدني مسوقا إلى إبدائها و القول بموجبها إن كان الفنانون الذين أتيت على ذكرهم حاضرين حقيقة، بمعنى بكيفية لا غبار عليها، عبر الرسومات التزيينية التي يحتويها "البلد الخلفي" فمن الواجب إثارة الانتباه إلى أننا و نحن نضيف إلى هذه الأسماء أعمال ديغاس، موندريان، دي بوكور.. سنلفي، قطعا، إيف بونفوا يستقطبها جميعها و يرصها في محفل صوره بحافز من حساسيته كشاعر أو كحالم لا في هندسة الأمكنة التي اجتازها خلال مختلف السفريات التي تشكل مادة سرده. فالمسار التأملي سوف يتوقف عند عتبة روما ليعوّض بالإفصاح عن الفائدة التي تغمر الطريق المديد الموصول بشييشنتو: "كيف لنا أن نرتاب في أن النضوج الوجودي لا إعادة إنتاج مظاهر بعينها هو ما شكل مناط الرغبة الدفينة للفن الإيطالي حتى متمّ حقبة الباروك ؟ "، و على ذكر الباروك، الروماني تحديدا، فسيجري التطرق إليه في مصنف ضخم، لكن من خلال الانزياح إلى نموذج دراسي استحواري، شامل الرؤية سيستنزف إيف بونفوا فتكون ثمرته "روما" 1630، الذي سيغبطه كثيرا أن يولم على مائدته لائحة شهوده العريضة. فإلى جوار بّوسان، بورّوميني، و برنان، سيكون هناك اعتناء ب حنّابعل غاراش، كارافاج، بّيير دي كورتون، لانفراك، من غير نسيان ثلة من الأجانب الذي أغوتهم إيطاليا مثل كلود لوران، فيلاسكيز، فالانتان دي بولوني.. الرسامين الفلامانيين و رسامي اللوحات المرفهة، و بهذا فهو مصنف دسم عن موضوع يضارعه دسامة.
علاوة على ما ذكرت يلزمنا الاعتراف، مع هذا، على أن تأمل فن توسكانيا للقرن الرابع عشر يكتسب هنا ميزة تدشينية ناصعة، و أن ما سيكتبه إيف بونفوا ليشهد بقوة على أهمية اكتشافه لهذا الفن. فما يذهب إليه "البلد الخلفي" من إلحاح على ما يدعوه نعمة "التوكيد" التي منّت بها فلورنسا على الشاعر تستحسن موازاته بقرينة التوكيد "بلى" التي تتواتر في "المشتت، الغير قابل للقسمة"، في خاتمة النص الفذ "في مخادعة العتبة"، ذلك أن الكلمات الأخيرة في القصيدة هي: "السماء / لانهائي / لكن كل هذا سيتكثف بأسره بغتة في مرآة الغدير الصامت"، ممّا يشير إلى مكان بسيط في الأرض ينبثق إثر سقوط المطر و هي الصورة التي لم يبخل عليها إيف بونفوا بمقاربة لافتة.
إن درسه بالكوليج دو فرانس الذي اتخذ له موضوعا شعيرة الصور في فن الرسم الإيطالي، خلال الموسم الجامعي 1988 - 1989، يتضمن تأويلا للوحة بّييرو ديلاّ فرانشيسكا المعروفة ب "تعميد يسوع" بحيث لن يتمالك الشاعر نفسه إزاء مشهد انعكاس كبد السماء على سطح الماء لصق قدمي يسوع و لشدّما استولت على تفكيره، فما أبصره في هذا المنظر هو "الرموز موطّنة ثانية في كينونة محسوسة"، "جهة الرب، في غمرة بركة ماء، أي ما معناه في الشعرية الحديثة صدارة دراسة استدامة العلائق بين المطلق و بين العالم" (4)، أي المجاورة التي تستحث تلك الوشيجة المتجذرة بين ما يتقصاه إيف بونفوا في الرسم و يستشفه من إرساليته و بين ما يصدر عنه فكره الشعري.
لنأخذ، مثلا، قصيدة "ديدهام مرئية من لانغهام"، ضمن "ما ليس الضياء سمته"، فهي ليس فقط عبارة عن تحية رائقة إلى ضابط شرطة إنجليزي و إنما هي تفوق هذا بكثير، بفضل توسلها بنظرة الرسام للعالم، و تعد أحد أجمل الإبداعات الشعرية قاطبة. و إذن فالنصوص العديدة التي سيستأثر بها كل من جياكوميتي، موندريان، و موراندي، أو المقالات المكثفة حول فنانين محسوبين على دائرة الأصدقاء، مثل أوباك، زاو هوكي، غاراش، بّاليزيو، ناصر عسار، بوكور، شيلليدا، أليشنسكي، و هولان ترمي إلى توثيق "مجاورات و تآزرات" كما يثبت هو ذلك، و كذلك الأمر بالنسبة لي فهذه الكتابات ليست نصوصا نقدية بقدر ما هي شيء آخر تماما، إنها، إن أردنا، طريقة للذهاب بعيدا في معرفة ما هو قائم.

س: إيطاليا تعني أيضا اللغة اللاتينية التي سيمثل اكتشافها حدثا فارقا بالنسبة لإيف بونفوا، الطفل ذي الأحد عشر ربيعا، ما البعد الذي تحمله هذه اللغة قياسا إلى اللغة الفرنسية، و ما درجة الأهمية التي يحظى بها عنده الشعر اللاتيني، و فيرجيليوس بوجه خاص ؟

ج: الصفحات التي تتناول اكتشاف اللغة اللاتينية تشغل، كما يبدو، حيزا في شطر من الكتاب الذي سخره للغوص في بلد طفولته الخلفي، لهذا فهو لن يجد مانعا، إجمالا، في استحضار قسمات حياته في كنف الأسرة بمدينة تور و استذكار إقاماته الصيفية في توراك، لدى جده و جدته، و إذا ما صح الحديث هنا عن سوابق سير - ذاتية، نظير سوابق المريض الاعتلالية، قد تبدو هذه الاسترجاعات من قبيل السوابق، لكن الأساسي هو أن تستقيم، في تضاعيف تلك المرحلة الباكرة، إرهاصات أولية بذلك الهاجس الثنائي الذي بمقتضاه يقابل بين مكان و آخر و ترتسم "قسمة بين صعيدين يعلن عنهما الواقع". لذلك، و عن اللغة اللاتينية، ما من شك في أن تعلّمه إياها يتموضع في إطار علامة الثنائية هاته فيجري تعاطيه معها بوصفها لغة أكثر كثافة، بمقدورها ابتعاث العلائق الدلالية على نحو أمثل، و خاصة عنصر الحركة و العلائق الفضائية، أي التعبير الفضائي - أين نحن، إلى أين نتجه، عبر ماذا نمرّ أو نذهب.. ؟ -. إن الطفل الممدرس سيقع تحت تأثير معتقد كونه لمس في اللغة اللاتينية أهلية ممتازة للتعبير عن حقيقة الكينونة في ديناميتها، غير أن قلقه سرعان ما سيتبلور بل و ينزع،علاوة على هذا، إلى التصاعد، وجهة الشجرة العائلية للغة اللاتينية في اللغات الإيطالية، و جائز أن يكون هذا التصاعد سبب نزوعه الفكري نحو اتخاذ جملة من الترتيبات و الإجراءات بخصوص منسوب الوهم الذي يمكن أن يتشربه سر من الأسرار لا تنقطع مرتبته عن التعالي. إن مسالك الاستيلادات اللغوية، في هذا النطاق اللغوي، محصنة ضد الانفضاء إلى المعاني المزيدة التي لا اقتضاء لها على شاكلة ما يشوب الكلمات المبسطة لوقتنا، و مع ذلك فهو لن يتحرج، عند مراجعته لحماسه الأول، في الدفاع عن أن "المقولات" و "صيغ الكينونة" القائمة في بنية اللغة اللاتينية لا تند، في الواقع، عن ذهن "الشعراء في سائر لغات العالم".
من ناحية أخرى إن تعبير Eo Roman "اذهب إلى روما" الذي يلمع إليه إيف بونفوا بحسبانه مثالا يتخذ معنى ترميزيا ينطبق انطباقا تاما لا على محمول المقطع السردي الذي يرد فيه و إنما كذلك على ما يحبل به المتن الشامل للكتاب، "بقدر ما تخيب اللغة اللاتينية ظني بقدر ما تزداد الطرق المؤدية إلى روما تأنقا"، و بناء عليه فنحن نتّبع، من خلال الكتاب، طريقا رومانيا خياليا انطلاقا من ذكرى كتاب أبدعته مخيلة طفل (في الرمال الحمراء)، و حيث يمد التخييل من عمر حاضرة رومانية تقبع في رمال الصحراء، و حتى الصفحات الأخيرة التي تصور روما مكانا لحضور متعدد، لحضور برنان، بورّوميني، كلود لوران، و بّوسان.
من المؤكد أن فيرجيليوس يكتسب، حصريا، جدارة الشريك كلما أثار إيف بونفوا قضية اللغة اللاتينية، خصوصا و أن شعره، أي فيرجيليوس، في لاواقعيته الرعوية، يستثير لديه "أرضا سرية" لا تفرق في شيء عن بلده الخلفي، بل إن ما سيتراءى له تقلبا دالا بين الهنا و بين مكانية أخرى لهو شيء مدوّن في عمل الشاعر اللاتيني و في مصيره أيضا، "لقد […] انخدع بمكان آخر متوهم في جبال اليونان، و قبل أن يموت في هذا المكان - المعبر و "حيث ترجع إليه برينديزي" (البلد الخلفي)، و ممّا تجب ملاحظته، زيادة على هذا، أن لغة إيف بونفوا يا ما تصبح، حينما يتصل الأمر باللغة اللاتينية و فيرجيليوس، متنعمة، ترفل في الرفاه و ذلك جرّاء انتقالها من المستوى السردي و التأملي إلى صميم الإبداعية الشعرية. كذا فإلى جانب وصف، يكاد يكون تقنيا، للموارد النحوية التي تكنزها اللغة اللاتينية نجده يوظف مشهدا حسيا من الروعة بمكان "ما كان يستبد بفكري، فعلا، هو الصور و في هذا الباب سوف تعنّ لي اللغة اللاتينية كما لو أنها أوراق شجر مرسومة أو محفورة، خضراء غامقة، كثيفة، إكليل غار يتوج الروح، عبرها أمكنني تملّي ما يشبه الضوء أو الانفراج، و في جميع الأحوال فقد أمكنني إبصار دخان يتصاعد من نار، وشوشة ضوضاء، حفيف امتلاء أحمر"، أمّا "الرعاة المقدسون، أو يكادون، لفيرجيليوس فسيلوحون لناظره و هم يوالون مصيرهم تغمرهم الموسيقى، يبددون الزمن في المكان شبيه النيران التي تلتهم أوراق الخريف و تكسو السماء بهالة متعاظمة".
كذلك بمستطاعنا أن نحيل سواء التوليف المتشعب في "البلد الخلفي" أو أسلوبه المنبسط، "المتقطع" لمرات عديدة كما نصادف ذلك في المقالات الأولى، إلى منزع إيف بونفوا اللاتيني، لكن إن كان الأسلوب "يرخي جناحيه على مدى متراحب" فإنه يتحاشى، في مقابل هذا، الإفراط في تسخير الروابط النسقية و التمفصلات اللفظية للبلاغة الحجاجية التي تحدّرت إلى اللغة الفرنسية من رحم اللغة اللاتينية.
أخيرا يلزمني أن أذكّر بأنه منذ "حجرة مكتوبة" إلى الإصدار المتأخر "الألواح المقوسة" سيعرف عمل إيف بونفوا الشعري ذيوعه الواسع بفضل قصائد، يسيجها عنوان "حجرة"، تركب، بمنتهى الحرية، نموذج التدوينات و القصائد الهجائية و الأخرى المأتمية العتيقة و لكأنما المسألة تتعلق بلقاء غير متوقع، في عرض طريق ما، بكتابة و صوت في آن معا يقولان الموت و يضعانه موضع تتفيه و تفنيد، متحررين من أيّ أمل زائف.

س: في البداية سيتلقى إيف بونفوا دروسا في الرياضيات و الفلسفة، أو ليست الصور، فضلا عن المفاهيم، هي التي توجه تفكيره ؟

ج: معروف أن إيف بونفوا سيكنّ احتراما، إن لم نقل حنوّا، بالغا للرصانة و الإبداعية المنتظمتين لعلم كالرياضيات، و لعل لهذا الشعور أصداء في "البلد الخلفي" يمكننا التقاطها عبر إثارته، و لو عرضا، للنظرية البرهانية التي قعّدها فيرستراس، منظّر الرياضيات العددية، أو لمفاهيم، أصلية أو مشتقة، في اللغة اللاتينية، "جبر اللغة المنفي". على أن هذا الشعور لا يجنح به حد الوثوق الأعمى في فنّ تتنفذ فيه الأعداد و النسب، و قد كان له شغف خاص بالفنون المعمارية التي تبقى الحسابات فيها عرضة للنسيان و ذلك لصالح حساب آخر ألا و هو حساب الضوء. و فيما يهمّ الفلسفة لا مراء في أنه سيتمكن، و هو ينصت إلى باشلار، من وضع اليد على شرعية ما هو محسوس و متخيل، و فيما هو ينكب على دراسة جان واهل حول "بودلير و كييركيغارد" سيعي جيدا ما الذي يجعل الإستيتيقا نطاقا نسبيا من منظور الأخلاق و بفعل "إكراه الوجود"، التعبير الذي ينحته الشاعر كمعادل لما ينعته كييركيغارد بالديني.
و لمناسبات غير قليلة سوف لن يكلّ عن تقديم جملة من الدفوعات ضد المفهوم أو، بالأدق، ضد كل ما يجمد الفكرة و يصادر منها تواصلها مع ما هو محسوس و يصيّرها، في المحصّلة، إلى أداة تحت تصرف فكر غايته توطيد ترسيمة من العلائق السببية و التحكم في عالم الأشياء. و إذن فالمفهوم الذي يحاربه الشاعر هو المفهوم الذي يبلغ من تجبره و كبريائه حد إنكار حادث الموت و الطعن في بداهة التناهي. أنوّه إلى هذا حتى لا يستنتج بأنه يضمر مطلق الضغينة للعلم أو التقنية أو المنطق، كل ما هنالك أنه يصر على رجحان معنى، من المعاني، "لا يدين بشيء لمنطق العليّة في علوم الطبيعة"، و لا يخرج عن إشارية الحضور الملموس الذي لا ينشأ عن هذه العلوم و من هنا فإن ما يقترحه من شعر في مقابل فكر بحت ليس من نمط الفعل الذي يولد، هكذا عفو الرغبة، حاملا للمعنى، بل إنه لن يقوى على الوقوف متصالبا في وجه هذا الغريم إلاّ إن هو أسدى كلفة تترجم إرغاما قاسيا ما في ذلك ريب، "شنّ حرب لا هوادة فيها ضد أوهامه المتأصلة، ضد استيهامات البلدان الخلفية المحتملة و المتنائية، ضد متخيّله.. رجاء عثوره على لغة الأشياء البسيطة التي يمكن للواحد يندّ عن أيّما تثنية، بما هو الدّاني إلى ما لا نهاية، أن يأتي لكي يوجه الضربات، بلا مصاعب تذكر، إلى الواجهة الزجاجية" (5).

س: في "مقابر رافين" سيكتب إيف بونفوا ما نصه: "إن الشعر و السفر يؤولان إلى جوهر واحد […] و من بين كل الأفعال المتاحة للإنسان لعلهما الوحيدان اللذان يتمتعان بما يكفي من الصلاحية، الوحيدان اللذان يمتلكان هدفا"، أو لا يسافر المؤلف هو أيضا، ضمن تقصيه لبلد خلفي، مجتازا أكثر فأكثر الزمن و المكان كليهما ؟

ج: ربما قد نتساءل لماذا كل هذا الامتياز الممنوح للسفر، و كإجابة أقول لكونه يجعل الزمن و المكان مندغمين في بوتقة تقدم متحكّم فيه، فالإحساس القبلي بمكان آخر، نوستالجيا التخوم و الأقاصي هاته، لممّا يحث على المغادرة. و في هذا المقام ينهض كذلك، على حين غرة، ذلك التناقض، المومأ إليه آنفا، فأن تغادر معناه احتمال الفرار من الواجبات التي تشدك إلى هنا، و قد ندرك هذا الجانب على نحو أفضل إن نحن استحضرنا إدانة إيف بونفوا للغنوصية و اتهامه إياها بالتجرد من العاطفة، بالانحطاط، بإضاعة مبدأ الوحدة، و إغلاق باب الجنة، هذا و لو أن بعض المذاهب الغنوصية يقوم على فكرة العودة و تصويب اختلالات الروح. فهي، أي الغنوصية، لا تقدر على صدّ إفلات العالم من بين يديها و لا على ربح رهان مبدأ الوحدة نظرا لانغماسها في التجريد و الافتراضات الحسابية، وتخطّيا لهذه الرؤية سنلفيه يلحّ على مستلزم الحضور الذي لا يقبل الاختزال في محض "مفهوم".
و الواقع فإن "البلد الخلفي" يعج بالكثير من السفريات، أولا تلك التي يقوم بها السارد إلى إيطاليا و شبه القارة الهندية ثم اليونان داخل السّجل السير - ذاتي، بحيث يتحدث السارد عن قراءات عهد الطفولة، "في الرمال الحمراء"، و تلتئم صورة بطل يتزيّا بهوية عالم أحفوريات يسافر إلى آسيا لتستقيم، بعد ذلك، إرهاصات مشروع لم يعرف اكتماله في النهاية بسبب ما لحق المسوّدات من تمزيق أو تلف أو لأن محتواها خضع، بكل بساطة، لإعادة تركيب في الذاكرة، ذلك لكون الخيال لا يعجز عن "تبديد مجمل السرابات التي يصطنعها" (6). فالسفر سوف يتم لمرة أخرى باسطا معه، خلال مختلف التشققات التي ستلم بمحكيه الذي يستعرضه "البلد الخلفي"، الاكتشاف التالي: إن ما سيجرح حياة المسافر و يدميها هو ما كان من انسياقه إلى "الاستهانة بالتناهي، بالزمن" (7).
إن ما تطلع إليه إيف بونفوا من مكان، أو، على الأصح، من حضور لا يعثر على حقيقته سوى عند إدراجه في السيرورة، في الزمن، في "الذي يتصرّم"، و، بالتالي، في سيولة نهر - التّيبر في هذا المقام - تؤيقنه صورته المحسوسة، و من ثم يمكن للصورة، و الحالة هذه، أن تشكل، على نفس قدم المساواة، طريقا قابلة للطّي و الانتهاب ما دمنا، في الجوهر، نترك المكان من خلفنا، على رأس كل لحظة من لحظات السفر، متكئا على سند ما بينما لا يراوغ في الانفتاح قبالتنا نحن "عمق لحظة قادمة".

استنساخ للطبعة الأصلية مزيد و منقح مقارنة مع النص الصادر عام 1992 ضمن سلسلة "شعر"، دار غاليمار، أمّا الرسومات التزيينية فقد أعيدت طباعتها باللونين، الأسود و الأبيض، عام 1998.
من بين أخرى عبر مجلد "صور الفنان في زي البهلوان"، 1970.
إيف بونفوا: ملاحظات حول النظرة، دار كالمان - ليفي، 2002، (نصوص حول بيكاسو، جياكوميتي، و موراندي).
أمكنة الصورة و مصائرها، منشورات سوي، 1999، ص 168.
حوارات حول الشعر (1972 - 1990)، ص 331.
إيف بونفوا: كتب و وثائق، منشورات المكتبة الوطنية و ميركور دوفرانس، 1992، ص 144.
إيف بونفوا: البلد الخلفي، منشورات سكيرا، جنيف 1972، ص 83.
- عن شهرية "الماغازين ليتيرير"، ع 421، يونيو 2003.