حسين جلعاد
(الأردن)

الياس فركوحبعد نحو ثلاثين عاما من الإبداع، يتخلي الروائي والقاص الياس فركوح عن لعبة الأقنعة ، ليتقدم الي كتابة سيرية، يتهيبها كثير من المبدعين، وهو بذلك يضع قلبه وروحه باسمه وتاريخه الصريحين علي بياض الورق، ليستنطق ذاته التي تحمل ارثها الشخصي والاجتماعي والتاريخي في ضفيرة تجدل تحولات الذات بفردانيتها وعقلها الجمعي معا، حيث التاريخ العام جزء من الذات، وحيث الفرد بؤرة للتحولات والأفكار الكبرى .
في روايته الجديدة، قيد الكتابة، يعود فركوح الي ذات لم تبن أو تتشكل بمعزل عن الآخرين والاشتراطات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي وضعتهم جميعا في أتون لا يستطيعون الفرار منه. ولا يستطيعون، في الوقت نفسه، الا أن يجابهوه بمقدار ما يملكون من وعي حسب ما يوضح في حوارنا هذا معه .
الرواية الجديدة كانت أيضا مدخلا للحديث حول تنظيرات الكتابة والنقد، وكذلك مكانة الأدب الأردني وتواجده في الساحة الثقافية العربية، وكذا إشكالية العلاقة بين الإبداع والسياسة .

هنا حوار معه :

*الميراث الأخير مجموعة نصوص بحسب التوصيف المكتوب في سيرتك الإبداعية، لكن قياساً الي حجم المؤمّل وما كنتَ تتمنّاه فهو نصوص شعرية، لماذا كنت أعلنتَ عنها بداية علي نحو سرّي ، ان جاز التعبير، حيث كنتَ نشرتها في الصحف تحت اسم مستعار (راكان خالد)، ولم تعلن عن تبنيها سوي لاحقاً؟ وهل الشعر بالنسبة لك يحتاج مغامرة لتكشف عن وجوده فيك؟ ما الذي يريده الروائي والقاص من الشعر؟ ماذا يحقق له مما لم يقله، خصوصا أنه امتلك ناصية التعبير في كل ذلك السرد الذي أنتجه؟

ليس جديداً حين أقول أن مجموعة نصوص الميراث الأخير كانت محاولة منّي لاستكناه معني الشعر الذي تُوسم به لغتي أو تشكيلي للفضاءات المتوفرة في كتابتي السردية، وهذا يعني أنني، بقدر ما، كنتُ أريد أن أطرح السؤال علي الآخرين الذين يقرؤون تلك النصوص بالاسم المستعار المشار اليه. كما كنت أيضاً أسأل نفسي واستفسر عن ماهية الشعر أو جوهره بعيداً عن الأشكال والأوزان، وبعيداً - هنا أشدد علي ما سأقول ـ عن صخب المعارك والسجالات التي اعتدنا عليها في المجلات والصحافة الثقافية. وانّي لأسأل، حتى هذه اللحظة: ما هي طبيعة نصوص الميراث الأخير اذا ما أخضعناها لترسيمات الأجناس وحدودها؟ أهي قصيدة نثر بمعني احتمال تضمنها لشعرية ما جاءت علي نحو سرديّ؟
ما زلت حتى الآن عاجزاً عن الإجابة. أما عن كون الشعر طموحاً أو أمنية لطالما أردت أن أدخل غمارها؛ فلا أعتقد أنها كانت كذلك حقيقة. هذا البُعد أشعره أو أشعر به يتحرك في داخلي حتى في خضم انشغالي بصياغة مشهد سردي، يوقفني ليسألني عن هويته في لحظةٍ أُشركه فيها بسردية واضحة قد تبدو هجينة اذا ما انضفرت في هذا البُعد. الميراث الأخير إشارة علي انفتاح كتابتي، بالعموم، علي فضاءات أو مناطق لا تحبسها الأجناس، ومن ثم فلن تجيء رغماً عني، الا بنصوص تتسم بخلاسيةٍ لا ارفضها، بل أرغب في أن تكون، وربما لإيماني بأن اختلاط الدماء في حد ذاته، أو اذا ما استعرنا تشبيهات المستشرقين أو المستعمرين الغربيين هذه الهجنة الجميلة .
ان لجوئي الي التخفي وراء اسم مستعار، كان بسبب من عدم وثوقي مما أكتب، جازماً، في الوقت نفسه، بأن هذا ليس سرداً- وهو ميداني المألوف. وكنت أخشي اذا ما وضعت اسمي الصريح أن تُقرأ النصوص لدي الجميع مغلّفة بأحكام مسبقة تأتت من قراءاتهم لسرودي. وأعود فأقول إن النصوص بالاسم المستعار كانت تجربة لاكتشاف هويتها من جهة، وربما هو خبث مني للوقوع علي مدي عمق أو هشاشة شرائح كبري من القّراء/ المثقفين/ الكتّاب .
ما أريده من الشعر هو أن أمتلك، حقيقة، بعض تمشيحاته، ان جاز التعبير. أن يثري سردي وأن يساعد، في الوقت نفسه، علي توسيع مسألة المخاتلة وتعميق المعني، وتعدد مستوي الدلالات. هذا ما أريده من الشعر في داخل نصّي السردي، ولا أدري حتى الآن كم كنت قد نجحتُ في ذلك أو في جزء منه، أو تطعيمه وتعميق معناه ودلالاته .

*بالقياس الي ما أتيتَ علي ذكره الآن بخصوص المخاتلة واستعارة الاسم للتعبير عن تجربة شعرية ، الي أي مدي تعتبر التجربة الروائية لديك مخاتلة أيضاً؟ بمعني كم اسماً حملتْ شخوصُك الكثيرة ـ والمتعددة المناخات ـ لاسمك الحقيقي الأصلي؟

لا أخفي ـ لا بل أعلن ـ أنني كشخصية خارج النص كاتبة له في الوقت نفسه، عن تواجدي المستمر والمتصل بحيث لا أستطيع الفرار مني، حين أتعرف في سرودي الروائية الي كل تلك المراحل التي مررتُ بها، أسوة بمجايليّ .
هذا يعني أنني تقنّعت بأكثر من اسم دون أن أخفي هذا القناع أيضاً، لا بل أعمل في روايتي الجديدة علي استنطاق القناع نفسه، فربما يخبرني عني بما لا أعرف، داعياً إياي الي السفر فيّ وكشف ما كان مطموراً قبل الكتابة، فبات مكشوفاً علي وقعها. قد تكون أو تندرج الرواية الجديدة في إطار الرواية السيرية أو السيرة الروائية، ولست هنا بمعترض علي التسمية؛ اذ ليست هي العنوان الذي كتبتُ في مناخاته واشتراطاته هذه الرواية، بقدر ما أحاول فيها، مثلما حاولت في سابقتيها، أن أقول عني في نسيج رؤيتي لسواي في الإطار الزمني المشار اليه بالمراحل. وكذلك امتحان مكاني وسط هذا الحشد الهائل من تفاصيل كانت في نتيجتها قد شكّلت لوحة الانكسار الكبير الذي عشناه وما نزال حتى هذه اللحظة. كأنما الانكسار يطالبنا بالكتابة عنه علّنا، اذا ما فعلنا وعلي نحو صادق، نقدر أو نستطيع أن نجبّر شظاياه؛ لكي نرانا دون تزييف .

*نجهد في أوّلات الكتابة الي التقنّع وراء الشخصيات، ثم ها أنت الآن تعود الي كشف الأقنعة للوصول الي ما تخفي وراءها! ما الذي تحاوله الكتابة إذن! بل ما هي الكتابة بعد كل تلك التجارب، وكل ذلك العمر؟

المزيد من كشف الذات للذات ضمن مفهومي الواضح والقائل بأن هذه الذات لم تبن أو تتشكل بمعزل عن الآخرين والاشتراطات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي وضعتهم جميعا في أتون لا يستطيعون الفرار منه. ولا يستطيعون، في الوقت نفسه، الا أن يجابهوه بمقدار ما يملكون من وعي، أو نصف وعي، أو شبه وعي أو بوعي مشوّه .
الكتابة الآن هي كتابة الذات غير المعزولة عن محيطها، وليس هذا اختياراً أو التزاماً بلحن قديم لا يزال ينبعث من الكراريس والكتب الأيدولوجية؛ بل هو الصوت الصادق الذي يحاول، علي الأقل، أن لا ينسب أخطاء هذه الذات الي الآخرين، وكذلك أن يواجه الآخرين بأخطائهم حتى وان عبسوا وتولّوا .
الكتابة، كما أراها وأعاينها في كل حرف أكتبه في هذه الرواية الجديدة، هي كشف حساب لمجموع الأخطاء والخطايا. الكتابة تراكم أخطاء ينبغي، علي ضوء رؤيتي الخاصة لها، أن أعيد ترتيبها لتكون الفضيحة في أجمل صورها و أزهي تجلياتها .
الكتابة ليست بطولة، تماماً مثلما أن البطولة قد انتُزعتْ منا حيال واجبات بناء ما كان مكسوراً وما يزال؛ ولهذا قد استعير مفهوم البطولة في إعلاني عن افتقاري لها .

*الكتابة السيرية تفتح شهية القارئ علي تتبع فضائحية ما، أو أسراراً يبوح بها الكاتب. الي أي حد تلبي روايتك السيرية الجديدة شروط حيازة الشجاعة في كشفها والأخبار عن السيرة الذاتية؟ هل هي كتابة منقادة فعلاً، أم أنك تغالب فيها ضميرك الجمعي والاجتماعي؟

أنت تعرف أن الكتابة، حتى وان كانت من الذات عنها، الا أنها وبسبب وعيي علي أنني لست سوي الفرد الواحد وسط حشد من الأفراد الآخرين؛ إذن فلن تكون الرواية الا صورة ما من صور اشتباك أو امتزاج هذه الذات بذوات أخري تتلاقح معها وتتصارع، تتآلف أو تتنافر، لكنها سيرة وجه يحمل ملامحه، ويحمل ملامح أخري ليست له أيضاً. وهذا من صميم الكتابة، كما تعرف أيضاً .
سيجد القارئ مناخات أخري وجديدة، وسيقع علي اعترافات قد لا تكون في تفاصيلها فضائحية، لكنها في صميمها وفي جوهرها إنما تدل علي أن الفضيحة، ان مارسنا أفعالها، ليست سوي فضيحة مجتمع أجبرك وأجبرنا جميعاً علي اقترافها .

*في قصصك كما في رواياتك طرقت باب التجريب، سواء في اللغة المفارقة للغة السرد التقليدية أو في معمار القص والرواية، أين تصنف كتابتك هذه قياساً بتجارب السرد العربي، هل تراها معماراً نافراً كما وصفها أحد النقاد، أم أنك تقدمت الي مساحات إبداعية جديدة أردت فيها أن تناسب أشكالُك مواضيعَك؟

اذا نظرنا الي هذه النصوص من الخارج، فلن تكون الا نصوصاً مفارقة للسائد ان في لغتها أو في بنائها. أتفق مع هذا الرأي لأنني، حين كتابتي، أتقصّد ذلك بوعي حاد منطلقاً من أن الكاتب في النهاية هو أسلوبه، وأن الكتابة في محصلتها هي كاتبها .
هذا من الخارج. أما اذا نظرنا الي هذا المنتج المكتوب من زاوية داخلية (اذا جاز التعبير)، فأزعم أن رؤيتي الي العالم وبالتالي الي ذاتي تتحلي بخصوصية هي محصلة طبيعية لا بطولة فيها ولا تميّز. واذا ما صحّ هذا الزعم، فان هذه الرواية الخاصة ستتشكل بالكتابة علي نحوها الخاص كتابة خاصة بالتالي. هكذا تتبادل عمليّتان أدوارهما لتكملا مشهد الكتابة: رؤية خاصة الي العالم، رؤية خاصة الي الكتابة، مما يؤدي الي: الكتابة علي غراري .
هل هذا تجريب؟ أنا لا أستريح تماماً الي توصيف هذه الكتابة وإدراجها في خانة التجريب؛ لأن التجريب يعني التقصّد من أجل المغايرة، وهذا يتضمن افتعالاً بمعني ما لستُ أحبذه. أزعم، من جديد، بأن مغايرتي تأتّتْ من كوني في داخلي، وكيفية تفاعلي مع محيطي، إنما هي تجلية لخصيصة أفرَدَت وأفرزتْ كتابةً مغايرة. فالمغايرة بهذا المعني مغايرة طبيعية لا تقصّد فيها ولا تكلّف، أو هذا ما أراه .
في مناحيك التجريبية ثمة نزعة الي التفكيك، وإعادة بناء المواضيع التي تعالجها من زوايا مفارقة للوعي السائد، هي كتابة تجمع الرؤية والأخبار، بل هي أخبار برؤية، ان جاز التعبير .

*سؤالي: كيف يمكن الوصول الي كتابة إبداعية يوازن فيها الروائي بين رؤاه الخاصة، وبين ما يجريه من سرود علي ألسنة شخوصه؟ أم أن الرواية فعلاً هي رواية صاحبها؟

هي رواية صاحبها دون مواربة أو تزويق في الكلام. غير أن سؤالاً يطيب لي أن أطرحه علينا كلينا: من هو الكاتب؟ من الفرد؟ أو ليس هو، في عمقه، أكثر من كائن واحد، بمعني أكثر من وجه واحد!!. بمعني أنه حمّال لأثقال من التناقضات هي ملامح منه ومن غيره؟
اذا وصلنا الي اتفاق علي هذا الضرب من التعريف؛ فان جملة الشخصيات المتباينة أو ملامح الشخصيات المتباينة في قصصي وروايتيّ ستكون نسخة فنية، وصورة أحياناً بالأبيض والأسود وأحياناً أخري بالرمادي، وأحياناً ثالثة بالألوان بفضاءات داخلية تكرّس مبدأ التناقض وصراع صاحبه من أجل خلق توازن لا يتحقق، في نظري، الا بالكتابة .
استطعتَ مع عدد من مجايليك أن تذهبوا بالإبداع الأردني الي مساحات غير مطروقة سابقا، وحين يتم الحديث الآن عن إبداع روائي أردني، فإنكم تُذكرون كجيل رسّخ أدبا أردنيا ذا ملامح مميزة .

*الي أي حد استطاع المبدعون الأردنيون الوصول الي الساحة الثقافية العربية، بحيث يمكن القول إننا أصبحنا الآن جزءا صلدا منها، وهنا اثبت مبدئيا أن لدينا كما ونوعا أدبيا يوازي في بعض جوانبه بل ويتميز في جوانب أخري عما هو سائد ومتحقق في ساحة الإبداع العربي؟

من الضروري الإشارة والتأكيد علي أنَّ نضجاً ملموساً قد تحقق في عديد من النصوص السردية (قصة ورواية) والشعرية، ما كان له أن يتبلور الاّ لأنَّ تراكماً قد لحق بهما أنتجَ، بالضرورة، ملامح نوعية لا يجوز إغفالها من جهة، كما لا يجوز عدم إدراجها عند دراسة المُنجَز الأدبي العربي وفي حدود التميّز من جهة ثانية. واني حين أدلي بشهادة كهذه لا أصدرُ عن مبالغة، ولا عن جَهْل وعدم اطلاع عمّا يُسّجَّل الآن في المدونة العربية. هنالك ما ينبغي الالتفات اليه في كتابات أنجزتها مجموعة أسماء أردنية، وذلك لاستحقاقه هذا وبعيداً عن مجاملة الذات لذاتها، أو خداعها بالتحرك داخل إطار الوهم .
فعند تصفُح مضمون ومحتويات المدونة العربية، فإننا سنقع للمبدع الأردني فيها علي نصيبه الواضح دون شك. غير أنَّ جملة أسباب تكمن في الإبقاء علي هذا المنجَز بعيداً عن الضوء وسط منطقة الظلال والعتمة علي نحو يلحق به الظلم. ولكي لا نلجأ الي تبرئة ذمتنا؛ علينا أن نعترف بتقصيرنا في حق أنفسنا؛ اذ لم تعمل جهة رسمية أو أهلية ذات صلة بالثقافة علي تسويق هذا المنجز بصورة منهجية وعملية. لم تعمل هذه الجهات علي ذلك حتى أردنياً ! حتى في الداخل؛ فكيف سننتظر منها أن تفعل هذا في الخارج؟! كما أن الصحافة المحلية لا زالت تتعامل مع نفسها علي أنها مجرد صفحات تُقرأ في عمّان ومدن ثلاث أخري، دون أن تتحلي بطموح أكبر لأنها، للأسف، تفتقد الرؤية المتجهة للعالم خارج حدودنا .
وإضافة الي ما سبق؛ علينا الإقرار بدوام مركزية بعض العواصم العربية في حقل الثقافة دون أن تتخلي عن نظرتها لنفسها كونها كذلك. أما الأخطر؛ فهو توطُن هذه النظرة حتى عند مبدعينا علي الأغلب. فهم يرون بأن الاعتراف بهم خارج الأردن سيعمل علي تكريسهم داخله!.. ولعل في هذا شيء من الصحة.. للأسف .

*جهد الأدباء في دفع تأثيرات السياسة وكذا جهد المثقفون في دفع تأثير السياسيين عن نصوصهم وإبداعاتهم، ولكن رغم أن المبدع/ المثقف وازن بين إبداعه وحضوره الثقافي في الحياة الاجتماعية والسياسية، بمعني أنه تعاطي مع الفعل السياسي والتغييري علي هدي من تجربته الثقافية، الا أننا نلمس مؤخرا طغيان النظرة الأدبية الصرفة في تعاطي المثقف مع ثقافته، فيما العالم الآن غدا أكثر تسييسا، لقد أوغل السياسي في سيطرته تحت مسميات محاربة الإرهاب أو الدفاع عن حرمة المقدسات ، فيما نري المثقف ينصل مثل خيط ماء دقيق بدعوي حريته وتنسكه الإبداعي.؟
كيف تري الي إشكالية علاقة الإبداع بالسياسة الآن قياسا الي الاشتراطات القاهرة في أمة تعيش تحديات داخلية وخارجية أم هل استطعنا النفاذ والتحرر من تلك الإشكالية، وإلا كيف يمكن الوصول الي صيغة متوازنة بين الثقافة والسياسة؟

ان علاقة الإبداع بالسياسة علاقة إشكالية بامتياز، نظراً لصعوبة التوفيق بين البراغماتية والمثالية. ففي الأولي، غالباً وكأنما هي القاعدة، تُنحّي الأخلاق والمبادئ جانباً لتحل محلها اشتراطات المنفعة والجدوى الآنيّة، مكرّسةً نفسها علي نحوٍ تبريري قوامه أن السياسة فن الممكن. ولأنَّ الأمر هكذا؛ فلنا أن لا نُفاجأ بكم الأخطاء ـ بل الخطايا التي سوف تلحق بالإنسان لحساب تحقيق الممكن في خضم صراعات الدول أو تحالفاتها ـ رغم براقع الأخلاق والحقوق الكاذبة وباسمها زوراً وبهتاناً .
ولهذا؛ فانَّ اشكال التناقض يبرز قاطعاً صارخاً عندما يكون الإبداع، ممثَلاً بمنتجيه، يقف علي الطرف النقيض تماماً من السياسة؛ والسياسة العربية تحديداً كونها لا تتحلي بالأخلاق أساساً، وفي الوقت نفسه لا تملك وزناً حقيقياً في تقرير سياساتها الإستراتيجية ـ فتفقد لهذا السبب حتى شرف الانتساب لمصطلح السياسة لأُميتها الفادحة في كلا الوجهين .

*الإبداع، في جوهره العميق، معاكسٌ تاريخيٌ للفساد بكافة تجلياته. فما بالك، اذا ما كان للفساد الكُلّي صفة الجامع المشترك للسياسات العربية وكتائب العاملين فيها من (سياسيين) يفتقرون الي هذا العنوان؟ !

غير أنّ ذلك كله لا يعني انصراف الإبداع بمبدعيه، عن الخوض في المسائل والقضايا التي تفرزها السياسات العمياء أو الحمقاء عندما تطال في نتائجها تفاصيل الإنسان الفرد في حياته اليومية. ولأنّ ما أشير اليه ليس استثناءً؛ فان نسبة عالية من الإبداع العربي لا يزال غير مستنكفٍ عن التعرّض في نصوصه لتلك الحالات، رغم تسربلها ضمن الجيلين الأخيرين بعوالم الذات التي تبدو خالصة تماماً. وحتى لو افترضنا أن نسبة عالية من هذه الكتابات قد انصرفت فعلاً الي دواخل كُتّابها / كاتباتها؛ فذلك أحد آثار غياب العمل السياسي المحترم والمقنع في جانبي السلطة والمعارضة معاً .
هنالك (صيغة غير متوازنة) تعيشها مجتمعاتنا العربية بكل ما يحملُ التوصيف من معانٍ. فهل ننتظر من النص الاّ أن يكرّس ذلك أما رفضاً، أو كفراً، أو انكفاءً درءاً لمزيد من خسائر الروح .. والبدن؟

القدس العربي
2006/03/31


إقرأ أيضاً:-