لأنها لم تعبر عن كل معاناتي

اسكندر حبش
(لبنان)

فاطمة سافجيفاطمة سافجي، من الأصوات الجديدة في الشعر الكردي التي تكتب بلغتها الأصلية، عرفت السجن والتعذيب، لتخرج منهما أكثر إرادة وتصميماً على الحياة، وعلى الكتابة أيضاً. تجربة تزيدها إصراراً على العيش وسط هذا العالم الذي يفقد إنسانيته. حول ذلك، هذا اللقاء الذي دار منذ أيام في مدينة <ديار بكر>.
سنبدأ بأكثر الأسئلة تقليدية: هل يمكن أن تقدمي نفسك للقارئ، وبخاصة العربي، الذي لا يعرف شيئا عن هذه الثقافة التي تنحدرين منها؟

* ولدت عام 1974 في كردستان الشمال، بمدينة ماردين، التي كانت تعيش فيها مختلف الطوائف، من أكراد وأرمن وعرب وسريان، أي كانت مدينة الأخوة. لم أتابع دراستي إلا حتى نهاية المرحلة الابتدائية، إذ وأنا في السادسة عشرة من عمري انخرطت في النضال، في كردستان، في صفوف <حزب العمال الكردستاني>. كنت في التنظيم السياسي لا التنظيم العسكري. اعتقلت وأنا في الثامنة عشرة بسبب انتمائي للحزب وكان من المفترض أن أحاكم على هذا الأساس لأني لم أحمل السلاح مطلقاً. لكن أثناء المحكمة دافعت عن نفسي باللغة الكردية، فكان جزائي الأكبر لأني تكلمت <بلغة غير مفهومة>، مثلما يقال عادة عندما نتكلم الكردية. يصفونها بهذا المصطلح، لأنهم لو قالوا إنني أتكلم الكردية فمعناه أنهم يعترفون بوجودها. حكم عليّ لمدة 15 سنة لكنهم عادوا وخفضوها إلى .12 تجولت في ثمانية سجون، سواء في كردستان أو في تركيا. مارسوا عليّ جميع أنواع التعذيب. عشت كثيرا في السجن، لذلك ليس لديّ اطلاع على الحياة خارجه. يشكل السجن مناخي كلّه. ولدت في بلد تعيش فيه جميع الطوائف، لكن ظروفي كانت صعبة في السجن، ومع ذلك كان هناك جو من الأخوة، الذي يفرضه الواقع المضطهد وحرمان الإنسان من أبسط الأشياء التي يجب أن يتمتع بها الكائن العادي.

*في ظل هذا المناخ، كيف اطلعت على الأدب؟

- بالطبع كانت اللغة الكردية ممنوعة في السجن، كذلك الكتب الشعرية وبخاصة للشعراء اليساريين. كانت هناك مكتبة إدارة السجن، ولم تكن تجد فيها إلا الكتب التي تتعلق بالأفكار الكمالية وأفكار السلطة، أما الكتب التي يمكن لأي شخص أن يستفيد منها، أي الكتب التي تتحدث عن انفتاح الإنسان على الآخر، فلم يكن لها أي وجود. من هنا، لم أتمكن من الإطلاع على الكتب التي تضعنا في صورة تطور الأدب، ذلك الأدب الذي يشكل الإنسان بكينونته. طالبنا بذلك، وحاولنا جاهدين أن يسمحوا لنا بإدخالها، وأمام الرفض الدائم، دخلنا عام 1995 في إضراب عن الطعام ولم يكن مطلبنا سوى المطالبة بتلك الكتب التي نرغب في قراءتها.
جعلتني شروط الثورة أجد نفسي في السجن، كذلك لم يسمح لي التعذيب بالقراءة، بالمعنى الواسع. وقبل ذلك، كما قلت، لم أدرس في المدارس التركية، إلا لغاية المرحلة الابتدائية. لهذا قررت أن أقرأ كل ما يصل إلى يدي، كل ما كان يقرأه أصدقائي ورفاقي، بمعنى آخر حاولت أن أتحدى الظروف وأن أتعلم اللغة التركية وأن أقرأها بشكل ممتاز وأن أطلع على الأدب التركي كتحد لعجزي على عدم تكملة دراستي. ربما كان الأمر بمثابة معادل موضوعي.
الجبال والثورة

* والكتابة، كيف جاءت وسط هذه الظروف كلها؟

- لم أتعلم اللغة الكردية في المنزل، لم أحس يومها أنها كانت موجودة، لذلك خرجت إلى الجبال واشتركت في الثورة. لم أكن أملك قلماً، فكنت أكتب على الثلج. كنت أتعلم الحروف الأبجدية الكردية بالكتابة على الثلج. لهذا أعتبر نفسي أني اشتركت بالثورة من أجل أن أتعلم اللغة الكردية. لكن لم أجد هناك، في الجبال، أي إمكانية لذلك. لم أنتظر من إدارة الحزب والمعسكرات في الجبال أن يبنوا مدرسة في المخيم وأن يأتوا بالأقلام والدفاتر. قررت أن أتعلم الكردية كنوع من النضال. وبعد أن أتقنتها، بدأت بكتابة الشعر. بعد بدايات الكتابة، قررت أن أتقن اللغة التركية كنوع من الانفتاح على هذه <الثقافة> التي كنت أعاديها في السابق. أستطيع اليوم أن أقول بأنني على علاقة حميمة مع اللغة التركية.

* هل تقصدين بأنها لم تعد لغة عدوة؟

- أبداً، إنها لغة شقيقة، من الجانب الإنساني. حين يسمح العرب والترك والفرس بتعليم اللغة الكردية، أظن حينها بأن موقف جميع الأكراد سيكون مثل موقفي من اللغة التركية الآن. لكن اسمح لي بالعودة إلى سؤالك السابق، أعتبر أن أرضيتي الأدبية ضعيفة. سألتني كيف تابعت الأدب، وأنا أقول بأنني لم أستطع مواكبته مثل جميع المثقفين. لم تكن لديّ أي إمكانية لذلك بسبب ظروفي القاهرة. هذا ما أحاوله الآن.
لكن وعلى الرغم من ذلك كله، ساعدني الأدب الذي قرأته بالطبع في أن اخرج من السجن، بعد 12 سنة، قوية وإنسانية أكثر مما كنت عليه من قبل. لم تتلوث روحي.

* متى خرجت من السجن؟

- في شهر تشرين الثاني عام .2003

الأزهار المرسلة

* أصدرت مؤخرا مجموعة شعرية وهي الأولى لك، هل كتبت قصائدها في السجن؟

- نعم، حين كان اليساريون الأتراك في حالة إضراب عن الطعام ويقومون بعمليات احتجاج واسعة، كنت أكتب نصوص هذه المجموعة، وهي بعنوان <الأزهار المرسلة>. أدخلنا إلى السجون الانفرادية، لكن الاحتجاجات لم تتوقف. هاجمونا بالأسلحة حتى أن العديد من جدران السجن قد هدمت. سقط من رفاقنا 12 شهيداً. كانت كل رفيقة من رفيقاتي، في تلك الفترة التي تعرضنا فيها للهجوم، تحاول أن تخرج معها قطع الذهب التي كانت تأتيها من الخارج كهدية، أما أنا فقد كان هاجسي أن أخبئ هذه النصوص، في مكان ما لأخرجها من السجن. كنت كتبت قصائدي على ورق السجائر. أصر رفاقي أن أنجو بنفسي أمام حالة القتل، لكنني أصريت أن أخبئ النصوص وإلا أريد أن أموت معها. خبأتها في جواربي. وحين أخرجنا من السجن عنوة، إذ تحول قسم من السجن إلى أنقاض، فتشني الجنود. تحرشوا بي، جردوني من ثيابي، لكن لم يعتدوا عليّ. ولحسن الحظ لم يجدوها.
ربما أنظر الآن إلى هذه النصوص نظرة مختلفة إذ أجد إنها لا تصل إلى المستوى الذي أريده، إلى السوية التي أرغب فيها. لكن خصوصية تلك الحالة، حين أنقذتها، جعلتني في حالة عشق لها، لأني عبرت بها 7 أبواب من بوابات السجن، وعند كل باب هناك التفتيش من قبل الأمن، الخ...

* بأي معنى تجدين هذه النصوص بأنها غير سوية؟ ما هو الإطار العام الذي تتحرك في فضائه هذه القصائد؟

- لست راضية عن هذه النصوص لأني أظن أنني لم أعبر عن كل هواجسي وكل معاناتي وكل ذكرياتي التي عشتها هناك. لهذا أعتبرها هزيلة من هذا المنظار، لم أستطع بعد أن أكتب كل ذكرياتي وكل ألمي. في أي حال، ثمة ثلاثة أقسام رئيسية، ثلاثة فضاءات في هذه المجموعة، لكن لا توجد فيها لغة سياسية أو شعاراتية طاغية. في المقام الأول هناك نصوص تعبر عن هواجسي كامرأة، في جانب آخر، هناك النص الذي حمل اسم المجموعة، وفيه بحث عن السلام الذي لم يطرق بعد أي باب هنا. هناك أيضا، نصوص تحكي عني وعن هموم النساء بشكل عام، عن رغباتهن وميولهن. في القسم الثالث، نصوص عن الحب بشكل عام، ليس عن تجربتي الشخصية، ولكن عن كل شخص يحب ويقتل ولا يصل إلى حبه.

* بأي معنى تقولين إن النصوص لا تحمل أي لغة سياسية أو شعاراتية؟

- حين أقول إن النصوص ليست سياسية فأنا لا أقصد أنها بعيدة عن الموقف السياسي، لأن فلسفتي في الحياة تكمن في حماية الإنسان، كل الأمم المضطهدة، ثوراتهم، نضالاتهم، وأنا أطرح نفسي دائما كمناضلة ومنتفضة، على الرغم من أني أعتبر نفسي ناعمة وأنثى. الجميع يقولون عني إني مرنة وناعمة وأنا أستغرب كيف ناضلت في الجبال واشتركت في الثورة.

* كيف تنظرين اليوم إلى هذه التجربة بأسرها، وهل أنت على استعداد لتكرارها؟

- حين تكون الشروط مشابهة للمرحلة السابقة وحين تغلق الأبواب أمامي كما في السابق، وحين توضع جميع الحدود الماضية من جديد، وحين لا نجد أي طريق نحو الديموقراطية والإنسانية، فبلا أدنى شك، سأكرر التجربة ذاتها. أنا لا أريد قطعا كل تلك الشروط الصعبة والمجحفة ولا أريد بالنتيجة أن أعود وأكرر التجربة، ولكن... لقد اخترت لي درباً صغيرا نحو الإنسانية وأريد أن أبقى فيه. أحب الحياة ولا أشك أنكم جميعا تحبونها. أنا أحب الحياة لهذا ناضلت ولهذا أمسك بي الأتراك.

معنى الكتابة

* ما هو الشعر بالنسبة إليك اليوم؟ ما معنى الكتابة بشكل عام؟

- ذات يوم كنت أهتم وأعتني بصديق جريح، كنت وحدي معه، ولم أجد أي طريقة للتعبير عن هاجسي تجاهه. لم يكن بإمكاني البكاء ولا الحديث مع أي شخص آخر. من هنا كان الشعر تعبيراً عن نزفي وجراحاتي، بكاءً داخليا عميقا لأنني لا أبكي أبدا. أعتقد أنه هذا الحديث الشفاف، النظيف جداً. لهذا احتميت، في السجن، بالشعر. كان بالنسبة إليّ، سلاحا أقوى بكثير من جميع الأسلحة الأخرى، لأنني عبرت به عن حنيني وآمالي في تلك الفترة القاسية. الشعر بالنسبة إليّ هذه المرآة التي تظهر روحي وأعماق روحي. أنا قادمة من حركة سياسية وحزب سياسي. والسياسة تشوه الوجه والملامح وأنا كنت سجينة تحت أنظار السجانين، فنظرت إلى الشعر كعامل قوة لي. أمام الجميع كنت مجبرة على ارتداء لباس ليس لي، ووجه ليس لي. أما في الشعر فكنت أجد نفسي عارية. أنا حقيقية في الشعر فقط.

*بعيدا عن النصوص التي كتبتها في السجن، هل تحاولين في نصوصك الحالية الخروج من هذا الإطار الذي كنت تجدين نفسك داخله؟

- لم أصل بعد إلى الحياة التي أعيش فيها الآن. أعيش في برزخ بين حياتي الماضية وحياتي الحالية، برغم أني انتظرت كثيرا هذه الحياة خارج السجن. كما قلت أمضيت 12 سنة داخل السجن، أي أمضيت 12 <رأس سنة> وعدداً لا يحصى من الأعياد. ذات يوم وصلتني رسالة يقولون لي فيها إن الجميع في الخارج يعتبرونني ميتة أو على وشك الموت. أجبت بأنني لست ميتة وليست لي النية في أن أموت. أخبرتهم بأنني لن أموت قبل أن أعانق حياة الخارج المحظورة عليّ. الخارج الذي كنت أتوقعه لم يكن مطاقا لتوقعاتي. حين خرجت، لم ألق أحدا في قريتي. لقد هجر الجيش التركي أهل القرية. أمضيت عشرين يوما في القرية حيث تعرضت فيها للمراقبة والاعتقال المؤقت. طلبوا مني الرحيل عن هناك. سألت عن السبب، فقالوا لأن الأمن يهدد حياتي. قلت لهم بأني كتلة من 49 كلغ، فأين الخطر؟ وأنا اليوم مجبرة على العيش في اسطنبول. منذ شهور لم تصلني أي رسالة في البريد، من رفاقي في السجن. لم يصلني أي كتاب، يبدو أن بريدي مراقب. لهذا رأيت أنه من الأفضل أن أغير مسكني. أنا نازحة هناك. أمضيت عمرا في السجن وبي رغبة في معانقة حياة الخارج إلا أنني أعيش اليوم هذه الغربة الكبرى. لهذا ألجأ إلى الكتابة وأمسك بأجنحتها كنوع من الخلاص.

*هل لديك الرغبة في كتابة هذه التجربة المريرة؟

- أكتب نصوصاً سردية، كتبت مجموعة من القصص لكنها لم تكن ذات سوية. هناك قصص يجب أن أكتبها وأتوقع أن تحمل جزءاً لا بأس به من همومي وآلامي. أطمح إلى تعلم كتابة السيناريو. أحب الرواية وأجدني قريبة منها لكني لن أستعجل كتابتها. أريد أن تختمر تجربتي أكثر.

(ديار بكر)

السفير
2006/11/29