(فواز طرابلسي حول كتابه "يا قمر مشغرة")

يوسف بزي
(لبنان)

فواز طرابلسي منذ أواخر الستينات يعمل فواز طرابلسي في مجالي التأليف والترجمة، عدا عن كونه ناشطاً سياسياً وأستاذاً جامعياً، وتتنوّع كتبه وترجماته ما بين الفكر والسياسة والأدب. اليوم يصدر له عن دار رياض الريس كتاب "يا قمر مشغرة" (المحسوبية، الاقتصاد، التوازن الطائفي) الذي هو مختلف عن أعماله السابقة إذ يظهر فيه فواز طرابلسي بوصفه "مؤرخاً" ينقب في أرشيف ووثائق عائلية تخص أسرة وجيه محلي من بلدة مشغرة في البقاع الغربي بلبنان.
هذا الأرشيف يعود قسم منه إلى الياس طرابلسي والقسم الآخر إلى ابنه سليمان وأسرته، وهو كان بحوزة "المؤرخ" منذ أكثر من ثلاثة عقود. والوثائق التي يحتويها تعود إلى الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى ثلاثينات القرن العشرين.

ولأن طرابلسي يصوغ تاريخاً لتلك البلدة التي تتوسط جغرافياً وسياسياً وتجارياً ثلاث مناطق لبنانية هي الجنوب والجبل والبقاع، كما تجمع في سكانها خليطاً من المسيحيين والمسلمين... فهو أيضاً، بهذا المعنى، يدوّن زمناً تاريخياً شهد جملة تحوّلات عميقة في الاجتماع والاقتصاد أفضت إلى نشوء دولة لبنان الكبير عام 1920.

من جغرافيا جزئية وتواريخ جزئية ووثائق شخصية وأسرية، يرسم المؤرخ صورة عينية لتاريخ لبنان ككيان سياسي حديث.

هذا العمل التأريخي كان ليبدو أقل إثارة للاهتمام لولا أن مؤلفه هو نفسه الذي أصدر سابقاً (عام 1999) كتاب "صلات بلا وصل: ميشال شيحا والايديولوجيا اللبنانية"، والذي وجّه فيه طرابلسي انتقادات لاذعة لشيحا ولمنظّري الكيان اللبناني، فبدا عنوان "يا قمر مشغرة" (كما صدحت فيروز، على الأقل) استدعاءً حنينياً للبنانية وربما لأدلجة جديدة لتلك اللبنانية، أو على الأقل لإعادة النظر في تاريخ لبنان وفهمه (وتفهمه؟) أكثر.
ربما ليس من داع هنا للإشارة إلى أن هذا الجهد التأريخي يسهم، إلى جانب الإسهامات الأخرى، في تحقيق تاريخ لبنان وتحرره من الالتباس والكتمان، فيجعله مكتوباً حقاً. لكن من الضرورة القول ان عمل طرابلسي هذا يزيد من البرهان على "تاريخية" لبنان من دون الحاجة حتى إلى أيديولوجيا سياسية.

يا قمر مشغرةعلى كل حال، ليس الكتاب تاريخاً خالصاً. فطرابلسي، بمرجعيته كباحث اجتماعي وكمثقف ماركسي، يحيل هذا التاريخ إلى مادة للفحص والاستنتاج والفهم أكان ذلك في أنماط الإنتاج أو في العصبيات الطائفية والعائلية والنزاعات الاجتماعية. إنه يسعى لإدراك وتحليل ما أصاب نظام المقاطعجية وبروز الرسملة الزراعية ثم الرسملة التجارية والصناعية، واستعداد جماعات بعينها لتقبل أوجه الحداثة الاقتصادية والثقافية، ثم أثر الحزبية العقائدية على شبكة الحزبيات العائلية والسياسية التقليدية... وبذلك يبدو "يا قمر مشغرة" محاولة لجعل تاريخ لبنان القرن التاسع عشر ليس تاريخاً لـ"جبل لبنان" كما درجت العادة ورست عليه، بل هو أيضاً يشمل الأطراف كلها، أو كما كانت تسمى "الأقضية الأربعة" غداة انضمامها إلى الكيان اللبناني.

فهذا على الأقل ما يخبرنا به تاريخ الحرير وتدلنا عليه شبكة التحالفات السياسية المتقلبة والمتنازعة والمتصالحة، وتشير إليه دورة اقتصادية معقدة عمادها التوازن الطائفي ونظام المحسوبية.

لم يشر فواز طرابلسي إلى "الفرادة اللبنانية"، لكنها لم تخرج مرة من باب الإنشاء المستهلك إلى مجال الواقع العقلاني كما ظهرت في "يا قمر مشغرة".

الكتاب بذاته مثير للأسئلة، لكن المثير للتساؤل ربما هو أنه من توقيع فواز طرابلسي. لذا كان هذا الحوار معه:

* من الجملة الرحبانية عنواناً رئيسياً إلى كلمات "المحسوبية"، "الاقتصاد"، "التوازن الطائفي" مسافة شاسعة، فهل لهذا الجمع دلالة خفيت عنا؟

ـ هذه ليست جملة رحبانية فقط، فهي بالأصل مثل شعبي يقول "يا قمر مشغرة، يا بدر وادي التيم" للتدليل على جمال القمر كما يظهر في مشغرة، خاصة في أواخر الصيف، وهو مشهد مؤثر جداً، يصعب وصفه بالكلام، إنما المميز فيه هو سطوع القمر وكبره بحيث يضيء القرية والسهل ليلاً. إذاً هي إشارة شعرية لمشغرة بوصفها موضوع الكتاب. أما العنوان الفرعي فيدل على المواضيع الثلاثة الرئيسية للكتاب، الذي هو دراسة بناء على وثائق، لتبيان كيفية ممارسة المحسوبية في بيئة ريفية وعلاقة ذلك بالاقتصاد وبالتوازن الطائفي.

* لو لم تكن أنت من مشغرة هل كان لهذا الأرشيف أن يثير اهتمامك إلى حد تأليف كتاب؟ بمعنى آخر إلى أي مدى كان للعاطفة دورها في إنجاز "يا قمر مشغرة"؟

ـ أولاً، علاقتي بمشغرة واهية جداً، أنا من مواليد بيروت وهاجر والدي من القرية وهو في شبابه. الوجه العاطفي في هذا النص هو أنه تحية من بعيد لبلدة الوالد. ثانياً، عثرت على الأرشيف بمحض الصدفة، لكنها صدفة عائلية، حين كنت، وأنا بعد على مقاعد الدراسة الجامعية، أزور بيت سليمان طرابلسي فعثرت على كم كبير من الوثائق. إذاً الرابط العائلي لعب دوراً في حصولي على هذا الأرشيف. على كل حال أنا مستعد ومهتم بأن أعمل على أي نوع من الأرشيف العائلي، لاقتناعي بكتابة هذا اللون من التأريخ وعلى الأخص كتابة التأريخ الاجتماعي.

* مسعاك هو التواريخ الصغيرة المحلية أم تاريخ لبنان أو تاريخ بلاد الشام؟ أم مجرّد تأريخ أنتربولوجي ـ سوسيولوجي مقابل التأريخ السياسي؟

ـ هذا العمل هو لون من الكتابة التاريخية الجزئية، أو الموضعية، مع التركيز الخاص على التاريخ الاقتصادي الاجتماعي. لي اهتمام خاص بهذا اللون من التاريخ لسبب يتعلق بنمط الكتابة التاريخية السائدة في لبنان. كما تعلم، أن تاريخ لبنان يكاد يُختزل بتاريخ جبل لبنان، وبالتالي فإن تاريخ الدولة اللبنانية أو تاريخ تشكُّل السلطة السياسية المركزية ابتداءً من الإمارة فصاعداً، يُسقط ويُهمل التاريخين، تاريخ المناطق التي ألحقت بجبل لبنان عام 1920 (مدن الساحل والأقضية الأربعة) وتاريخ الاجتماع والاقتصاد، بسبب اختزال تاريخ اللبنانيين بما هو تاريخ جماعات طائفية ومذهبية فحسب.

هذه المساهمة الجزئية في تاريخ لبنان تعيد الاعتبار وتؤرخ لبلدة في الأطراف اللبنانية تتمتع على الأقل بسمتين مميزتين، الأولى أنها مختلطة طائفياً، مسيحية وشيعية، والثانية أنها بلدة شكلت سوقاً محلية لعدد من قرى الجوار، إضافة إلى كونها جمعت الصناعة وتحديداً الدباغة وملحقاتها إلى الرعي والزراعة التقليديين. بهذا المعنى فإن إعادة كتابة تاريخ لبنان بما هو ملك جميع اللبنانيين يفترض البحث والتنقيب والكتابة عن كل المناطق التي يتكوّن منها لبنان وعن كل الفئات الاجتماعية التي يتشكل منها أيضاً. بمقدار ما نحقق معارف جديدة عن الأطراف اللبنانية بذلك القدر يمكن أن نقول اننا ننتقل من المحورية الجبلية للتأريخ إلى الشمول الوطني.

تناقض هذه المحاولة محاولات أخرى تضع لبنان أو تضيّعه بما هو مدى جغرافي وتاريخي ضمن تواريخ أعم، تاريخ السلطنة العثمانية مثلاً. مطلوب، إذاً، إيجاد نقطة توازن بين خصوصيات هذا المدى اللبناني وبين اندراجه في عمومية لها منطق ومحرّكات هي تواريخ الثقافات والحضارات والسلطات في المنطقة الأوسع، أكانت عثمانية أم عربية أم إسلامية.

* يحيلنا كلامك إلى الظاهرة التي نمت إبان الحرب، حيث بدأنا نشهد تحقيق وتأليف كتب تاريخية عائلية أو مناطقية أو طائفية... وكان ذلك مفزعاً وحاملاً شبهة التفتت والتشظي والاحتراب؟

ـ أعتقد أن فترة الحرب أنتجت من دون شك ميلاً عارماً نحو ما أسميه التواريخ الجماعية، تواريخ العائلات أو تواريخ القرى أو تواريخ المناطق وطبعاً تواريخ الطوائف. أرى إلى هذه الظاهرة بما هي ظاهرة تحمل متناقضاتها. ففي وجه منها هي تلبي الحاجة لمعطيات هذه التواريخ الجزئية التي نتكلم عنها وتسمح أحياناً بكشط أوجه من التاريخ اللبناني مغمورة أو مجهولة أو مطموسة، أعني مثالاً على ذلك: هناك اكتشاف متزايد لكثافة الحضور الشيعي في جبل لبنان ولكون الاستيطان الماروني أجلى الكثير من الشيعة من قرى جبل لبنان شرقاً نحو البقاع أو جنوباً نحو جبل عامل. هذه أمور تتأكد من خلال التواريخ الجزئية لقرى معيّنة أو لعائلات. في ذهني مثلاً تواريخ قرية غبالة في كسروان وجاج في جبيل وكتاب "عودة النصارى إلى جرود كسروان"... كلها تؤكد هذا التبدل الديموغرافي، الشديد للجبل اللبناني، وبالتالي يتوقف الأمر على الكيفية التي بها نستخدم التواريخ الجماعية أو تواريخ الجماعات. طبعاً، إن القسم الكبير منها ذو محمول أيديولوجي عارم يريد أن يؤكد إما أسبقية الوجود التاريخي في منطقة معيّنة أو وحدة الطائفة أو يحذف الآخر. مثلاً، حين كان كتابي في المطبعة صدر كتاب آخر عن مشغرة لأحد رجال الدين في بلدة سحمر يختزل تاريخ مشغرة أولاً بالتاريخ الاسلامي ويجبّ ما قبله، ويحذف من التاريخ السكان المسيحيين، بل ويختزل مشغرة الشيعية إلى تاريخ بعض أسرها الدينية.
وإضافة إلى الوجه الايديولوجي لحوافز كتابة تلك التواريخ، هناك أيضاً ذاك السعي لما يسمى بـ"البحث عن الجذور" و"الأصول" و"تأصيل الهوية". وهذه العملية تنطوي على الكثير من الحيل الايديولوجية وتحتوي على إنصاف الحقائق وعلى تزوير الوقائع... وما شئت.

* بخلاف سجالك، في كتابك السابق "صلات بلا وصل" مع طروحات ميشال شيحا، تبدو هنا وكأنك تقدم المسوغات التاريخية لنشوء لبنان الكبير؟

ـ لم أقل مرة بفكرة أن كيانات سايكس بيكو مصطنعة، بمعنى أن هناك حالة طبيعية جرى اصطناع نقائض لها. هذا التصوّر بأن هناك أمة موحدة طبيعية جرت تجزئتها على نحو اصطناعي هو أيضاً ينتمي إلى الأيديولوجيا القومية التي لا أزكيها لا في الفكر ولا في البحث التاريخي.

... لندخل مباشرة في موضوع لبنان الكبير. نشوؤه كان مزيجاً من عملية تاريخية ومن فعل استعماري. العملية التاريخية تتعلق باكتشاف أهل جبل لبنان في ظل المتصرفية باستحالة عيشهم ككيان مستقل لاتكالهم على طرفين: أولاً البقاع وبر الشام وهما مصدر ثلثي حاجاتهم من الحبوب واللحوم. وثانياً لارتباط الجبل ببيروت بارتباطات عدة أهمها تصدير إنتاج الحرير من خلال مرفأ بيروت. وبالتالي لبنان الكبير كناية عن حاجة اقتصادية تضخمت أهميتها مع مجاعة 1916، فكانت فكرة إلحاق سهلي عكار والبقاع هي من أجل تأمين منطقة زراعية تزود لبنان بحاجاته من الحبوب واللحوم. والمفارق أن هذه الحاجة الاقتصادية سارت باتجاه معاكس لفكرة الكيان المسيحي لأن لبنان الكبير كما تخيّله يوسف السودا بات لبنانياً فقد فيه المسيحيون الأكثرية العددية.

يمكن القول ان لبنان الكبير، بهذا المعنى، كيان تاريخي، بمعنى حقيقة ارتباط ثلاث مناطق ببعضها البعض من خلال الدورة الاقتصادية. لكن من جهة أخرى فإن رسم حدود لبنان، خصوصاً الحدود الجنوبية، تم بغض النظر عن مساهمة اللبنانيين، لأنه تقرر في لجنة عسكرية فرنسية بريطانية مشتركة.

وما أريد قوله ان كتاب مشغرة يمثل تجربة عينية على الارتباط المتزايد لجزء من البقاع بالجنوب، وبجبل لبنان وبالمركز البيروتي في حقبة تاريخية تعود إلى ما قبل نشوء دولة لبنان الكبير.

* يبدو لي أن الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر وحتى العقود * الأولى من القرن العشرين، مغوية جداً للمؤرخين... لماذا برأيك هذا الاهتمام الاستثنائي؟

ـ ثمة مادة كثيفة لتلك الفترة. لكني ضد هذا الإغواء لأن كثافة هذه الكتابة التاريخية لتلك الفترة مردها النتاج الغربي الكثير عن سلسلة الأحداث والاضطرابات من عام 1840 وحتى عام 1860. وقد تم ذلك الاهتمام على حساب مراحل أخرى من تاريخ وحقبات عديدة للبنان، ما يشكل ثغرات في العمل التأريخي، وللأسف فإن المعلومات التاريخية لحقب أخرى شحيحة جداً.

* نعود إلى "يا قمر مشغرة". لماذا تبدو دائماً ملحاً على التلازم بين الملكية العقارية والموازين السياسية ـ الطائفية، بل وتبدو أكثر تفهماً لأنواع المقاطعجية والوجاهية والزعامة التقليدية؟

ـ تبيّن لي من تاريخ بلدة مشغرة جملة من الأمور تتعلق بالسلطة الاقتصادية والسلطة السياسية والتوازن الطائفي. وأول ما تبيّن أن التفوّق الاقتصادي لمسيحيي مشغرة وارتباطهم المبكر بالرسملة التجارية والزراعية ثم بالرسملة الصناعية مكّنهم من أن يكونوا الطرف الغالب سياسياً على البلدة.
كما تبيّن لي أن الحزبية العائلية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالفاعليات الاقتصادية. فحزبية آل طرابلسي وشركائهم من آل عواضة كانت متشكلة حول الملكية العقارية، في حين أن الحزبية المناهضة لها، وهي حزبية آل ناصيف وشركائهم من آل حسيني ومنصور ارتبطت بفاعلية تجارية ومالية. كذلك تبيّن لي أيضاً أن غلبة فاعليات الإنتاج على البلدة أكانت رعوية أم زراعية أم صناعية أوجدت انقسامات سياسية مختلطة طائفياً بحيث إن كلا الحزبيتين العائليتين كانت تضم عائلات مسيحية وشيعية في آن معاً. أما الانقسام الطوائفي فارتبط اقتصادياً على الأقل بضمور النشاطات الإنتاجية وتنامي الهجرة من القرية إلى المدينة وإلى بلاد الاغتراب وهامشية اقتصادها وغلبة الفاعليات الاستهلاكية والخدماتية عليها.

* في إشارتك إلى العامل الديني مثلاً (في الإقبال أو الإحجام عن أنماط اقتصادية حديثة تجارة وصناعة ورسملة)، ثم تحليلك لمحرّكات التطوّر الاجتماعي والثقافي، تبدو كأنك تأخذ مثلاً بطروحات ماكس فيبر لا بطروحات كارل ماركس وحده... وأظن أنك لم تكن فقط تفحص الوثائق وتؤلف الكتاب بل تفحص بعض قناعاتك؟

ـ أعتبر ما تقوله يصيب في الصميم علاقتي بالكتابة، لأنك تقول ما لا يعترف به عادة الكتّاب حيث تصوّر الكتابة كأنها فيض داخلي وليس علاقة تفاعل مع موضوع ومع أحداث ومع تواريخ وتجارب. وتأكيداً لما تقوله: الماركسي الذي هو أنا حكّ مفاهيمه على هذا الواقع الرأسمالي، البدائي وأحياناً ما قبل الرأسمالي واكتشف أمرين: الأول مدى خصوبة الامكانيات النظرية للماركسية في فهم المجتمعات ما قبل الصناعية، والثاني مدى ضرورة اغتناء هذه النظرية بمساهمات عديدة جاءت كرد فعل عليها أو من خارجها مثل مساهمات ماكس فيبر. وحتى لا أكون مجرّداً في حديثي أشير مثلاً إلى أن الوثائق حول العلاقات بين شبكة المحسوبية أضاءت مفهومين في الماركسية، الأول دور الأيديولوجيا في العلاقات بين البشر، فمثلاً يقدم الزعيم البقاعي الياس طعمة سكاف نفسه إلى الوجيه المحلي بما هو خادم لهذا الوجيه في حين أن العلاقة الفعلية ليست كذلك. أما المفهوم الثاني فهو أن العلاقات ضمن شبكة المحسوبية تؤكد فكرة التبادل غير المتكافئ في الماركسية، إذ يبدو للوهلة الأولى وكأن المحسوبين على الزعيم والزعيم نفسه يتبادلان قيمة متوازية: الزعيم يقدم خدماته وهم يقدّمون الولاء السياسي، أما في رصيد هذه العلاقة فيتبيّن أن القسم الأكبر مما يجنيه المحسوبون على الزعيم يعادل لا شيء، يعادل تقديم الولاء السياسي بلا مقابل.

* بدوت مهتماً بالماسونية وبالحزبية الحديثة (العقائدية) ما مردّ ذلك؟ ثم لماذا برأيك هذا التناقض الدائم والفارق بين الموقع الاجتماعي والخطاب السياسي... لم أجد تفسيراً وافياً لهذه الظاهرة التي ترصدها في كتابك؟

ـ ليس لدي اهتمام خاص بالماسونية. اكتشفت ما فاجأني وهو أن مالك أرض في منطقة طرفية في لبنان الذي هو وجيه محلي كاثوليكي كان ماسونياً فحاولت تفسير لماذا يتحوّل مثل هذا الرجل إلى الماسونية بما ملكت يداي من إمكانيات تفسير. والحقيقة ليس لدي الكثير لأضيفه حول الموضوع اللهم ما هو وارد في الكتاب حيث تحدثت عن "الغربنة" بما هي امتياز اجتماعي.
أما في ما يتعلق بالفصل الأخير عن الحزبية العائلية والحزبية العقائدية، فهو الفصل الوحيد غير المرتبط مباشرة بوثائق سليمان طرابلسي، إنما أردته امتداداً لما حصل في البلدة بعد وفاة هذا الزعيم المحلي. وتبيّن لي تلك العلاقة الغريبة والمركبة بين الحزبيتين العائلية والعقائدية. لست أذهب إلى حد القول ان الحزبية العائلية امتصت الحزبية العقائدية إنما نشأ اختلاط غريب في الولاءات والهويات. كل ما استطعت تلمسه هو أن فرع الحزب الشيوعي كسب بالدرجة الأولى في أوساط حزبية آل طرابلسي فكان بالتالي يجمع أبناء أسر من ملاك أراض، وعمال دباغة، وان فرع الحزب السوري القومي جنّد في أوساطه حزبية آل ناصيف وآل منصور وكان أكثر تمثيلاً للملاك الزراعيين الصغار والمتوسطين والتجار وأصحاب المصانع (الدباغات).
الأمر الآخر الذي تبيّن من هذا التنقيب التاريخي المحدود هو أن الحزبية العقائدية سمحت بحراك سياسي للفئات الدونية من الحزبية العائلية. هذا كل ما يمكن قوله بناء على دراسة تاريخية أكثر مما هي وثائقية لتلك الفترة.

المستقبل
الاحد 26 كانون الأول 2004