حوار: محمد شعير

هدى بركات(الغريبة) هكذا تحب هدى بركات أن تصف نفسها!
ولهذا اختارت أن يكون كتابها الوحيد الذي لا يصنف نقديا بكونه رواية بعنوان (رسائل الغريبة).
كتاب عن الغربة وعن نوبات الحنين التي تجتاح تلك الغريبة القابعة في بلاد الاغتراب. تتأمل فيه (البيوت العابرة ) التي كما تقول:( لا ننزل فيها أو نقيم بل نستقلها من نقطة إلي أخري من زمن إلي آخر إنها أكثر شبها بالقطارات من محطاتها(

* لماذا ( رسائل الغريبة) سألها عباس بيضون؟

أجابت: شعرت بحاجة للكلام عن الهجرة بشكل مختلف عما كتبه المهاجرون.. ليس نوستالجيا ولا نوعا من الحنين إلي الوطن. فنحن، في هذه الأيام، في هذا الزمن، في عالم اليوم، ليس لدينا إحساس بأننا مهاجرون، علي الأقل بالنسبة لي.أوٌلا ما عاد البعد الجغرافي يعني شيئا.. فأنت تعمل مع لبنانيين في فرنسا وتلتقي بعدد من هؤلاء أكثر مما قد تفعل في لبنان. كذلك، يصلك البلد بشتى الوسائل والطرق.. أي دكان قد يبيعك منتجات لبنانية. بالنسبة لي، لا أشعر بأن هذه الهجرة تشبه الهجرة السابقة. تضاف إليها أمور أخري لا يمكن تفسيرها.. فأنت لا تحيا في بلدك، ولأنك سافرت في سن لم يكن جهازك العصبي قادرا فيها علي الانتظام بشكل مختلف عن الحياة في البلد الأول. إلى ذلك، لا كلام سبق أن قيل يساعدك علي فهم حالتك. فأنت لا تحب بلدك لدرجة أنك تحلم بالعودة إليه، بالطريقة التي كان يكتب بها المهاجرون.. كذلك لا أحد يمنعك من العودة لأسباب سياسية أو غيرها. لذا تري جميع الناس يسألونك ¢ ماذا تفعل في الخارج؟ تفضٌل عد¢. ومن ناحية أخري، لست قادرة علي إنتاج أدب منفي كما يكتب أصدقاؤنا من كتاب عرب ممنوعين من العودة إلي بلدانهم.

*وعندما سألها المذيع التلفزيوني: ماذا أخذت منك باريس؟

قالت: أخذت ما كنت أرغب بالتخلي عنه، وهو تلك الأحمال المترتبة علي المقيم بين أهله وصحبه، وعندما صرت وحدي صرت أكثر قسوة مع نفسي وعلي نفسي.

ولدت هدي في بيروت عام 1952، درست الأدب الفرنسي، وأصدرت أولي أعمالها الروائية( زائرات) في عام 1985 بعد أربع سنوات قررت أن تترك بيروت إلي باريس حيث تعيش هناك إلي الآن. وتعمل في إذاعة الشرق. وفي الفترة الباريسية صدر لهباريس:روايات: (حجر الضحك) (أهل الهوى)، (حارث المياه)، ( سيدي وحبيبي).

* سألتها: كيف تصنفين نفسك في باريس : مهاجرة أم منفية أم مغتربة؟

أجابت: شخصيا أعتبر نفسي مهاجرة، لم ينفني أحد أو تنفني سلطة في بلادي. تركت لبنان بسبب عدم قدرتي علي الاحتمال المزيد من أهوال الحرب الأهلية، وما استتبعته هذه الحرب، وانعكاساتها علي حياتنا وعلاقاتنا ووعينا... أحسست بعدم جدوى إقامتي، وبكمية من الألم لا يبررها..أو لم يعد يبررها شئ.. فهاجرت نهاية صيف 89 إلي باريس. واخترت باريس لأن أختي تقيم هناك وتستطيع توفير سقف لي، لم يكن اختيارها اختيارا ثقافيا أو شئ من هذا القبيل.

*ولكن هل اختيار المثقف للخروج تعبير عن مثقف منسحب؟

يستطيع المثقف أن يكون (منسحبا) وهو في بلاده. والمواجهة الحقيقية ليست وليدة الإقامة الجغرافية ... رأينا الكثيرين من المثقفين المقيمين في أوطانهم أكثر مهادنة وتواطؤا من (الهاربين) و (المنسحبين)

* كيف تنظرين علي ثقافة بلادك من بعيد؟

أنظر الآن إلي الثقافة في لبنان تماما كما كنت أنظر إليها وأنا هناك... لم أشعر يوما بذلك البعيد الذي يلمح إليه السؤال. المسافة النقدية مازالت كما هي. لم أكن أكثر رأفة بنفسي أو بغيري حين كنت مقيمة، كما أن المسافة بين بيروت وباريس تخلق لدي حنينا يجعلني أجمل لنفسي ما كان في الماضي طلبا للرحمة. وأنا التي مازالت تكتب روايات تجري أحداثها في لبنان، لا أشعر أني أطل من بعد علي بلادي.. ربما لأني لم أغادرها تماما لأستقر في المكان الآخر... وربما أنالا أريد ذلك إذ أن الكتابة تسمح لي بأن أقيم في البرزخ الصعب بين مكانين وأجد ذلك عظيما... لم لا؟!

* كيف تتعاملين مع الثقافة الأخرى _ الفرنسية؟ وما هي الأجواء التي توفرها لك هذه الثقافة؟

أنا _ في الواقع¬ لا أتعامل مع الثقافة الفرنسية بفعل إقامتي هنا. ورغم نجاح ترجمة رواياتي إلي الفرنسية أبقي علي هامش الفرنسية... لا يزعجني أبدا أن أبقي دخيلة عليها، فأنا اخترت أن أكتب بلغة عريبة وألا أكون كاتبة فرانكوفونية رغم الغوايات الكثيرة... الحقيقة أن القرار مزدوج، فلا الثقافة في البلد الآخر تفتح لك مجالا إن لم تكتب بلغتها الأصلية ولا أنا تغويني المشاركة في الحياة الثقافية الفرنسية... وربما يعود ذلك إلي طبيعتي غير الاجتماعية والمنعزلة قليلا. فمسألة ¢ العلاقات¢ أكان في فرنسا أو غيرها لا تستهويني ولا أنا ¢ شاطرة¢ فيها. كما أن الاندماج في الحياة الثقافية للبلد الآخر لها شروط تبعدك قليلا عن عالمك الخاص. أما بالنسبة لما قد توفره الثقافة الأخرى مما قد لا يوفر في البلاد الأصلية فهو الفضاء الحر غير الضاغط سياسيا أو اجتماعيا. لكن أنا حكايتي ليست كحكايات المنفيين السياسيين أو المثقفين المطرودين من بلادهم ولا أستطيع ولا أريد ادعاء ذلك. لست حامد نصر أبوزيد! أنا روائية لا أدعي النضالية وربما أبعدني عن النضال بمعناه المباشر معارك المثقفين العرب!

لقد خسرنا معارك وقضايا جوهرية بالهوامش والحروب الداخلية الزائفة والخاوية المعني (منذ .. وحتى ..) قررت إذن إني خارج هذا الإطار. وأن مهمتي الأساسية هي أن أكتب جيدا وأن يكون لما اكتبه معني يلتقي في النهاية مع هدف المناضلين( علي ما آمل) دون توقيع بيانات و إثارة الضجيج .. وبهذا المعني يعلمك الابتعاد عن مكانك الأصلي الكثير من التواضع ومن النسبية فلا تتوهم ( لمجرد مرورك عصرا علي المقهى ولقائك بزملائك) أن لك فعلا في الواقع والمنطقة والعصر لأن أصحابك صفقوا لأفكارك وتحمسوا لمقالة كتبتها (ترد فيها علي فلان..).

هل ثمة متغيرات أساسية لحياة المنفي العربي بعد 11 سبتمبر وخاصة مع نظرة الإدانة التي وجهت إلي العرب بعد التفجيرات؟ وهل يعيش العربي في غير بلاده (اغترابا مزدوجا)؟ لا أوافق علي صيغة السؤال التي تفترض أن نظرة الثقافة الأخرى هي نظرة إدانة لك كمثقف عربي... وهذا يعني للأسف أنا ما زلنا ننظر للغرب نظرة أحادية مع أننا في أشد الحاجة حاليا للمراهنة علي أن الغرب متعدد وأن لنا محاورا في هذا الغرب يكون شريكنا الإنساني... هناك كتب كثيرة يكتبها عرب تدعو إلي إدانتنا وإلي نظرة تجمعنا كلنا في سلة واحدة أكثر مما يكتبه غربيون موتورون في هذا الإطار. ثم أنا شخصيا أجد للاغتراب المزدوج كما يقول السؤال حسنات كثيرة. يجب ومن المفيد للمثقف العربي أن يشعر بالاغتراب، أن يخرج من الجماعة والقبيلة والصحبة والعصبة لكي يعود إليها بعقل صحيح وعلي أساس صحيح، وإذ ذاك يصبح التفافي والالتفاف حول الهدف المشترك فاعلا ومؤثرا..

* هل تحلمين بالعودة إلي لبنان بشكل دائم؟

لا أحلم بالعودة إلي لبنان ربما لأني لم أشعر يوما أني غادرته وأني انقطعت عنه. إنه في داخلي، ثقافتي العربية المنفتحة علي كل ثقافات العالم في داخلي .. هنا أو هناك أو في أي مكان في العالم .. إنها، لقوتها، تتغذي مما هو خارجها. والخارج إذن لا يستطيع أن يتهددها في شئ .. إني هنا أكثر ولعا باللغة العربية وحمولتها العظيمة.. ربما أيضا لأني بعيدة عن كل التشويش الذي يلحق للأسف بها.

أخبار الأدب
الأحد 9 يوليو 2006