عناية جابر
(لبنان)

بقيت متشككة أنتظر، في بهو فندق في القاهرة، حضور الشاعر الشاب عماد أبو صالح، الذي كان وافق مبدئيا على اجراء حوار معي حول الشعر، وحول جديده «جمال كافر» هو الذي لم يُجرِ طوال حياته الفنية سوى مقابلة يتيمة «لأخبار الأدب» منذ سنوات عشر، جرّت عليه الكثير من الردود المستنكرة تصريحاته وبقيت تتفاعل نتائجها لوقت طويل، حتى أطل ابو صالح، مدعما بحضور شاعري، نحوله، كاسكيت الرأس، النبرة، التأمل المستغرق في لا أدري ماذا، الحديث المستفيد من قراءات وافرة، باختصار حضور الشاعر الذي يشبه قصائده، ومتميزا في نتاجه، وفي نظرته الى راهن الشعر ومستقبله، مع عماد أبو صالح كان هذا الحوار:

* ثمة عدمية، ونبرة غاضبة، وشعرية عالية في نتاجك، أنت المتواري جيدا عن الوسط الثقافي، والموغل في عزلتك التي اخترت، وفي تدبير حياتك من منظورك الخاص، هل تحدثنا قليلا عن الشعر، الشاعر؟

? لا أعرف ان كان تعبير «عبثية» دقيقا هنا. ربما السخرية بشكل أدق احد أهم حلولي الفنية لئلا أقع في فخ ميلودرامية فاقعة، في قصائد تسعى الى الحفر في أعماق الخراب الانساني. كنت، في بداياتي، اشعر بالخجل من كوني شاعرا. كان الدم يصعد الى وجنتي فعلا. هذا الامر لا يزال يحدث لي وان كان بدرجة اقل. ربما يرجع هذا الى حالة «الخفة» التي يؤخذ بها الشاعر عربيا وعالميا ايضا. فيسوافا شيمبورسكا كتبت انها تشعر بهذا الخجل نفسه. قالت في كلمتها وهي تتسلم جائزة نوبل، انها «تحسد» الفيلسوف لانه يمكنه ان يتحايل على الاستهزاء من لقبه بقوله انه بروفسور في الفلسفة، بينما يستحيل على الشاعر ان يعرف نفسه بأنه بروفسور في الشعر، والا اصبح عرضة لمزيد من الاستهزاء.
مع تعميق قراءاتي حول الارواح الشاعرة الكبيرة في العالم، اصبحت اؤمن بمدى اهمية واختلاف هذا الكائن. الشاعر هو الوحيد ـ في رأيي ـ القادر على نطق الحقيقة عارية وقاطعة كحد سكين او شوكة وردة. يمكن لقطعة موسيقية ان تمتع الدكتاتور (قرأت انهم كانوا يديرون اسطوانات موسيقى كلاسيكية الى جانب سرير شارون، ليساعده، باخ ـ يا للسخرية ـ على الافاقة من غيبوبته)، يمكن للدكتاتور ايضا ان يعلق لوحة تشيكلية في منزله، فخورا بثمنها ومبتهجا برؤية الالوان، يمكن للرواية ان تسليه على كرسيه الهزاز، لكن قصيدة.. لا.. ابدا. قصيدة جيدة عن جرائمه، تهيجه وتستفزه وتقلقه وتتحداه.
الشاعر الحقيقي كائن خارق وروح غير عادية، رغما عن الذين «ينظرون» بأن الشاعر الجديد لم يعد يرى ابعد من جسده. خارق ليس بقوته البدنية طبعا، لكن بما فيه من الم. بقدرته على ضبط ذبذبة روحه وجسده على مؤشر لحظة العالم. هو «ليس مسؤولا فقط عن الانسان، بل والحيوان ايضا» حسب رامبو. وحسب رامبو ايضا هو هذا الكائن الذي منحه القدر نفس النعمة التي منحها لقطعة خشب تحولت الى كمنجة. ستظل تعزف الانين والالم، ولا تقامر ابدا بل تعود قطعة خشبية صماء في كرسي او طاولة.
تحدث المذبحة، ويصرخ الشاعر.. هذه الصرخة هي قصيدته. هو اول وألأعظم الصارخين. لا يختلط عليه ابدا لون وردة حمراء وبقعة دم. بعده يجيء الى المذبحة، عربات الاسعاف ورجال الشرطة والمحققون والاعلاميون وربما الروائيون ايضا ليسردوا المشهد ببطء وأناة.
الشاعر ايضا هو الكائن الوحيد الذي لا يملك احد حق معاقبته. ليس لانه فوق المساءلة، وإنما لانه ـ مهما شاخ ـ يحمل بين ضلوعه قلب طفل، ومن هو ذلك القاسي الذي يعاقب الاطفال؟! لانه يحلم.. يحلم للناس.. فمن الذي سيحاسب الاحلام؟! يمكن للسياسي ان يعد البشر بحياة افضل، لكنهم سيسقطونه في الانتخابات القادمة لو لم تتحقق وعوده. يمكن لرجل الاعمال ان يعدهم بمزيد من الدولارات في جيوبهم، لكن سيكون مصيره السجن لو افلست مشاريعه، يمكن للجنرال ان يعدهم بتوسيع حدود اوطانهم، لكنه سيكون بين خيارين اما الاعدام او الانتحار لو خسر الحرب. الشاعر؟ لا لا. انه رجل «يحلم».. يحلم فقط ولا يعد، ويجب ان نشكره على الحلم. بل انه يكون من الاروع الا تتحقق هذه الاحلام ابدا فتموت. من الاجمل ان تظل محلقة في الفضاء كفراشات.
سأحكي لك حكاية صغيرة عن رامبو.. حين كان طفلا صغيرا في شارلفيل، ارسل له البرناسيون رسالة يقولون له فيها «تعالي الينا ايتها الروح العزيزة». ذهب مفلسا الى باريس، ولم يكن معه سوى عنوان مرسم رسام فرنسي آنذاك اسمه اندريه جيد. فتح باب المرسم ودخل فلم يجد احدا. نام من التعب. حين جاء اندريه جيل وجده نائما كملاك مشرد.. هزه بقدمه قائلا: «هيه.. انت.. ماذا تفعل هنا؟».. رامبو الذي كان يتقن استعمال «سلاح» الحلم رد بثقة: «انني شاعر، وانني أحلم هنا» طبعا ما كان يمكن لأندريه جيد الا ان يقول: «اذا كان الأمر يتعلق بالأحلام فابق نائما.. إنني أريدها هنا في مرسمي".

* يضا لو تستعرض لنا سريعا، مجموعاتك او بعضها قبل «جمال كافر» جديدك الصادر حديثا؟ ما الذي يستدعي الكتابة عندك؟ أية حالة او كيفية؟

? بعد ديوان «قبور واسعة» الصادر سنة 1999 كنت شبه ميت. ظللت حوالى عامين لا أقوى تقريبا على الحركة. غصت أكثر في عزلتي. كنت مفتونا قبلها وأسعى لكي أغازل عدمي. ما من فنان حقيقي في رأيي الا ويحاول مغازلة العدم. هنا تكمن الخطورة والمحك، اذ عليه بعد ان يذهب طائعا ومرغما الى الموت، ان يملك القدرة على معاودة الحياة.
في رغبتي وقدرتي على معاودة الحياة، في هذه الأجواء أعني والتحدي، كتبت «مهندس العالم» وهو الكتاب السادس لي. جاء هذا الكتاب بمثابة وصية او شبه وصية. كتاب موجه اساسا الى الشاعر، وعن الشعر، والشاعر في رأيي هو هذا المهندس الذي يهندس الخرائط ويعيد بناء الأنقاض.

قصائد حب مسلحة

* ماذا عن «جمال كافر» جديدك، طموحك في قصائدك الجديدة ورؤيتك وإضافتك اذا كان ثمة من اضافة؟

? في «جمال كافر» كنت أطمح الى صنع «قصائد حب مسلحة» اذ ان قصائد الحب، في معظمها العربي، كانت في رأيي أسيرة «غرض» واحد طوال قرون من كتابة الشعر، وهو غرض الغزل. حين انحلت تلك القصائد مع موجة الحداثة العربية بداية منتصف الخمسينيات وما بعدها، صارت تسقط رؤيا مثاقفتية على علاقة المرأة بالرجل. في «جمال كافر» كنت أحاول ان أكتب قصائد حب متخلصة او متخلية عن الرومانسية الهشة والحالمة والمثاقفتية النخبوية، لصالح قصائد او لصالح علاقة حب تصمد في وجه هذا المشهد الخرائبي من الحديد والنار والدم.

* المرأة برأيك، ما عادت مانيكان او تمثال جمال، كما ليست بعد، موضوعا للغزل القديم؟

? هذا ما أقوله لكِ. المرأة في «جمال كافر» ليست مانيكان ولا تمثال جمال. انها امرأة ند او شريك او ربما أقوى من هذا أحيانا. أجل، لم تعد موضوعا للغزل القديم. غير انني أظن ان الكون كله ببشره وزهره وصخره مخلوق «للتخديم» على علاقة وحيدة هي علاقة الحب. كل رجل وامرأة تجمعهما علاقة حب، انما يعيدان في رأيي بداية خلق العالم. انهما آدم وحواء. عاريان ووحيدان وعاشقان على الأرض. سيبقى الحب رغم ما لا يحصى ولا يعد من حكايات الهجران والفقد والخيانات. الحب هو هذه الهدية التي أهداها الله للعالم، او هو هذا النور المر ان كان يحلو لكِ تسميته هكذا. الولد الذي يمسك بأصابعه في هذه اللحظة يد بنت في حديقة ما، في الطرف الآخر من العالم، يعيد التوازن الى الحياة، ضد رجل هنا يضغط في نفس اللحظة بأصابعه على الزناد ليبيد الحياة.

قارئ محترف

* ما هي قراءاتك، مصادر كتابتك الشعر او جذر قصيدتك؟

? أنا قارئ «محترف» ـ لو كان يحق لي القول ـ للقصيدة المترجمة. اتابع باستمرار الشعريات المركزية وشعريات الهوامش والاقليات في كل العالم، اذ انه كان مستحيلا ان اتقن أي لغة اخرى. تسكن ارواح كثيرة في روحي، مختلفة ومتناقضة، لكنها لا «تتشاجر» ابدا هناك. تسكنني نخبوية اليوت ومرارة اودن وفلكلورية ييتس وفجائعية والكوت هذا الذي يبحث عن هوية لشعوب الكاريبي المنفيين بين الماء والماء. تسكنني غنائية لوركا ومأساة ماتشادو وقدرة نيرودا، على التهام الحياة. تسكنني طفولة بريفير وعنف بودلير ونصال شار وشقاء رامبو الذي لف العالم على قدميه لافراغ نار روحه دون جدوى. تسكنني ومضات اونجارتي ومثاقفات مونتالي وملحمية هوميروس، كما تسكنني حكمة جلال الدين الرومي ونقاء سهراب سبهري وبحث فروغ زاده المحموم عن الحرية. هناك ايضا آنا اخماتوفا وبوشكين وماندلشتام ورسول حمزاتوف وريكله وريتسوس وانسسبرغ وفاسكو بوبا وارنستو كاردينال ووالت ويتمان وشيموس هيني وكثيرون جدا غيرهم. أما قسطنطين كفافيس وفيسوافا شيمبورسكا فهما يسكنان المنطقة الاعمق من روحي.. آه.. كفاية.. انت تورطينني بسؤالك، ابدو كمن يستعرض قراءاته هنا!.
احب الشعراء. وهنا في روحي تتصالح بهم شعوب وأعراق وثقافات وديانات، ضد هذا التناحر والدم الذي يلطخ خريطة العالم. احب الشعراء، وفرحان لانني جندي صغير ربما لا يتعدى دوره تجهيز البنادق في هذه الكتيبة التي ناضلت منذ بداية الخلق (اذ من ادرانا ان آدم لم يكن شاعرا)، لاطلاق قنابلها على القبح.

* أعرف انك تحب الشاعرة الايرانية فروغ فرخ زاده، لماذا؟

? المرأة على العموم في رأيي، أبدع كائن على الارض. أنا ضعيف تجاهها. يصبح التحدي اكثر حين تكون المرأة شاعرة. هنا يكتمل المشهد في أبهى صورة. معظم شعر المرأة الذي أقرأه عربيا وعالميا يختصر الشعر في «مماحكات» «نسوانية» لا «انسانية»، أبرزها هذا الصراع او العراك الأزلي بين الرجل والمرأة. أرى ان المرأة الشاعرة هي «أم» الحياة أراها راسخة كالأرض. هي القادرة على ان تضع رأس الضحية على كتفها، ورأس الجلاد على كتفها الآخر، وتهدهدهما بنفس الحنان، لا تقريع ولا هستيريا ولا ادانات مجانية. كان لاوتسو يقول «الأنثى تغلب الذكر بالثبات، بأن ترقد تحته ثابتة مستقرة».
لا يعجبني هذا التصنيف المشاع لفروغ من زاوية نسوية ترى فيها مجرد امرأة جريئة او متحررة، كما انني ايضا ضد من يحملونها تحميلات ايديولوجية او سياسية لادانة العمائم، هي في رأيي شاعرة حقيقية ـ أهديتها أحد نصوصي الشعرية في غير هذا الكتاب ـ امرأة من نار لو جاز التعبير، وهي في شعرها تمثل الايمان العميق بالحرية، دون الانفلات من الجذور.

* أخيرا، السؤال الكلاسيكي عن كيف ترى الى المشهد الشعري العربي؟

? لست «وكيلا معتمدا» للشعر ولا متحدثا رسميا باسمه ولا حارس بواباته. أكتب في الظل، وأحاول ـ طول الوقت ـ ان أحافظ على كوني شاعرا «هاويا» لا «محترفا»، اذ انني أؤمن بحكمة صينية تقول «المشاء الجيد لا يترك وراءه أثرا». غير انني أرى المشهد الشعري العربي أصبح مترهلا وفضفاضا. أشياء كثيرة ساهمت في ان تخرج «كراسات الخواطر» التي كان يخفيها المراهقون تحت مخداتهم، لتحظى بمشروعية النشر. أصبحت قصيدة النثر «عمودا شعريا» جديدا يحل محل العمود الشعري القديم. بصراحة وأسى، أصبح كل من «يخل» بالخليل شاعرا. المؤسف ان كثيرا من شعراء المشهد الجديد وقعوا على مفهوم «خاطئ» للشعر يعاد انتاجه في مئات القصائد التي لا تتجاوز في أفقها اليومي والبسيط والعابر. انها وصفة جاهزة ان طبخة «تيك اواي» نضجت على عجل ولا تشبع وبلا طعم وننساها فور قراءتها. ها أنا أتذكر الآن ماياكوفسكي الذي كان يؤمن بأن قصائده «ستعبر على ظهور القرون والجبال الى الأجيال القادمة، مثلما تمتد الى أيامنا هذه مواسير المياه التي كان صنعها في الماضي «عبيد روما».. الله، ما أروعه.

السفير
18-9-2007


إقرأ أيضاً:-