حاورته: نوّارة لحرش

اسكندر حبشاسكندر حبش ، كيف لنا أن نقدمه أو نرسم بعض ملامحه ؟ إنه مبدع يصعب تقديمه . فهل نقول عنه شاعر ونكتفي، مترجم ونكتفي، إعلامي ونكتفي؟ أم نقول عنه كلّ هذا ولا نكتفي؟ فهو في كل هذه الحالات له صولات وجولات وحضور طافح بالإبداع المشرق واللافت. له الكثير من الكتب التي قام بترجمتها /أو بارتكابها، تماما كما يرتكب الشعر بلغته البكر، والكثير من المجاميع الشعرية، والتي هي مواسم شعرية إن شئنا، و يكفي كثيرا أن مواسمه الشعرية حين نقرأها تغمرنا و تقيم فينا.
في حواره الأول هذا للصحافة الجزائرية يتحدث الشاعر والمترجم والإعلامي اللبناني اسكندر حبش عن الشعر الأوسع وكينونته وعن طقسه وطقوسه وعن الترجمة التي تعني التجول دون توقف وعن دروبها التي تشبه الكتابة الأولى/أو الشكل الآخر من الكتابة . وعن قضايا أدبية أخرى نكتشفها معا في هذا اللقاء الثري فعلا .

* : لنبدأ بالشعر هذا الكينوني المتشعب الوجع والحالات .. ماذا تقوله به، له، عنه ؟

إسكندر حبش : من الصعب فعلا تحديد كُنه الشعر، مثلما من الصعب أن نجد له صفة محددة له، نقول من خلالها هذا "هو الشعر". على الأقل هذا ما اعتقده وأشعر به. قناعة تكونت عندي من خلال هذا "العمر" الذي قضيته بقراءة التجارب الشعرية المختلفة، وهي تجارب متنوعة الاتجاهات والمشارب. كنت أعجب بتجربة فلان أحيانا، وفي الوقت عينه، أعجب بتجربة أخرى هي على النقيض من الأولى، ما أريد قوله إن لا شيء جاهزا ومحددا في القصيدة. لا أميل أبدا إلى انحياز البعض حين يقولون إنهم مع هذا المفهوم ضد مفهوم آخر. الشعر أوسع من ذلك بكثير، ولا يحدّه أي إطار يجب علينا إتباعه. كلّ التجارب لها الحق في الوجود، قد نفضل تجربة على أخرى، ربما بسبب تكوننا الثقافي والمعرفي والاجتماعي وما إلى هنالك، لكن على ذلك أن لا ينسينا، الصوت الآخر. وفي مرّات كثيرة يقدم إلينا هذا الصوت الآخر، مفاتيح لا يمكن أن نجدها ضمن نطاق صوتنا الخاص. إذا أردتِ، هو هذه الكينونة، التي تتحدثين عنها في السؤال، وبما أن الحياة هي مجموعة من "الكينونات" المتباعدة والمتفرقة، يبدو الشعر امتدادا لها، أي يحمل في طيّه كل تناقضات الكائنات التي تكتبه.

* : هل يمكن للشعر أن يكون صلاة فرح خارج طقوس البؤس اليومي الرتيب؟

إسكندر حبش : ثمة جملة أحبّها للشاعر غينادي إيغييف، تحضرني الآن، يقول فيها إن الشعر هو "الجوهر الحيّ للأخوة الإنسانية، إنه عمل ولغة هذه الأخوة". بهذا المعنى يبدو كنافذة في جدار هذا الوجود المكتئب، أي يحاول أن يصلنا بالنور الخارجي. ولكن يمكن أن يقودنا أيضا إلى قلب هذه العتمة أو إلى "قلب الظلمات"، إذا استعدنا عنوان رواية جوزيف كونراد الشهيرة. يمكن للكتابة بأسرها أن تقودنا إلى هذا الفرح، ويمكن أن لا تقود. في أي حال أظن أن الشعر هو الطقس بحد ذاته.

* : هل الخلاص الشعري ممكن، وإذا كان هذا فهل هو خلاص شخصي بالضرورة، أم هو خلاص شمولي كينوني/ جمعوي؟ هل هو خلاص حقيقي أو وهمي، هل هو حقيقي واهم أم وهمي حقيقي ؟

إسكندر حبش : ربما كنا نُحمّل الشعر أكثر مما يستطيعه في نهاية الأمر. ومع ذلك، نوهم أنفسنا بأنه خلاص ما. ونقل إنه محاولة للخلاص الإنساني. برأيي قضية الإنسان هي التي يجب أن تستحوذ على تفكيرنا، وأن نعمل لأجلها. قد يكون الشعر وسيلة ما للبحث عن هذا الخلاص، عن هذه الراحة التي تؤرق وجودنا. وإن كنت لا أنفي، بأن الكتابة، بمختلف أوجهها، ليست سوى وهم من أوهامنا الكثيرة التي نتعلق بها. لا يستطيع الشعر – برأيي – لا أن "يغير العالم" ولا "أن يحول الحياة"، في ما لو إستعدنا مقولتي كارل ماركس و أرتور رامبو. الشعر هو الشعر. لا شيء أكثر. وكل محاولة لإضفاء "وجوب" ما عليه، محاولة لا تؤدي إلى شيء، سوى إلى وهم آخر.

* : لك العديد من الإصدارات في الشعر والترجمة و القراءات والدراسات، ماذا تقول عن هذه التجربة الممعنة في التنوع الجميل ؟

إسكندر حبش : في الواقع، الكتابة بالنسبة إلي هي الكتابة، بالدرجة الأولى. وما التنوع إلا لأني لا أستطيع الارتكان إلى نوع واحد. أحب أن أكون شاعرا في مقالاتي، وصحافيا في شعري، وهكذا دواليك، بمعنى لا أفصل "تجاربي"، بعمقها، على كونها هذا الشيء الواحد: الكتابة. للكتابة أوجه مختلفة، وأحب أن أكون صاحب أكثر من وجه. لنقل إنها الأقنعة التي كانت تستعمل في المسرح القديم. حيث كل قناع يشير إلى وجه، لكن كل الوجوه، في النهاية، تؤلف هذه الحياة التي نحياها.

* : تشتغل على الترجمة كثيرا ، ماذا أضافت لك على صعيد الشعر و الفكر معا؟

إسكندر حبش : بالنسبة إليّ، ترجمة الشعر هي هذا الشكل الآخر من الكتابة الشعرية، التي تسمح لنا أن نتجول بدون توقف، في ما وراء الحدود الفردية والجماعية. من هنا أجدها بمثابة هذا الميل إلى اعتبار أن الشعر، في جوهره، هو مكان هذا اللقاء الخاص الذي تجتهد في تكوينه – وفي قلب الخاصيّات الاجتماعية / الثقافية – علاقة حيّة، دينامية، بين مختلف أنواع الوعي. لماذا الترجمة الشعرية؟ لأن الشعر غالبا ما يقدم لنا هذا التناقض:إنّه حاضر داخل حميمية الكائن وفي خاصيّة لغته وثقافته الأم، كما أنه – في الوقت عينه – يشكل مكان ومناسبة تبادل وتقاسم، مكان "حوار مطلق"، فيما لو استعملنا عبارة الشاعر الفرنسي رينيه شار. غالبا ما ينجح الشعر – أيضا – بهذه "الأعجوبة": يجعلنا نسمع صوتا لا يُختزل بصوت آخر، في لغة مفتوحة على الكوني، كما فاعلا في هذا الذهاب والإياب المستمر، المثير للدُوار، بين "الأنا" والآخر. يستطيع الشعر أيضا، وفي النهاية – على الرغم من أنه يتحدث جميع اللغات واللهجات – أن يُشكل هذه "الاسبيرنتو" المثالية التي حلمت بها جميع العصور من دون أن تستطيع تحقيقها. بمقدوره ذلك لأنه يجعلنا نسمع – تحت غرابة كل لغة – لغة أولى ومشتركة، لغة الأعماق الإنسانية "المترجمة من الصمت" وفق ما استطاع التعبير من خلاله. من هنا تأتي ترجمة الشعر – وبعيدا عن التنويعات الألسنية المتعددة التي ترتديها، هنا أو هناك فوق هذا الكوكب – كأنها وسيلة للالتحاق بهذا المكان الكوني والجذري الذي تنبثق منه كل عبارة وحيث تعترف الأسرار لبعضها البعض، من قرن إلى آخر ومن بلد إلى بلد ثان. من هنا ولإكمال هذا الدرب – أي هذا القرار الذي يعني أيضا الأمل القوي في إيجاد إقامة مشتركة لكل البشر. هذا ما أريده من ترجمة الشعر: أن تصبح الترجمة هذا الشكل الآخر من الكتابة – التي تسمح لنا أن نتجول بدون توقف، في ما وراء الحدود الفردية والجماعية.

* : ترجمت الكثير من الكُتاب إلى العربية ومنهم أوكتافيو باث، ماذا يعني لك هذا الشاعر تحديدا ؟

إسكندر حبش : قرأت أوكتافيو باث باكرا. ترجمتي لشعره مرّت بمراحل عديدة. المرة الأولى التي عملت على نقل نصوصه، كانت قبل حيازته جائزة نوبل للآداب بزمن طويل، لكني عدت وعملت عليه بشكل جدي، بشكل أكبر، بعد أن التقيت به في باريس، عبر كاهن ومفكر روماني، كان صديقه الكبير. ذات يوم، اتصل بي الكاهن الروماني ودعاني إلى العشاء، قائلا بأن باث سيكون حاضرا. ولم أفوت الفرصة. أعترف بأن الرجل سحرني، وتوطدت صداقتنا أكثر، إلى يوم رحيله. ربما هذه الصداقة قد لعبت دورا إضافيا في عملي على ترجمة شعره. ما يدهشني في باث أنه هذا "الجوهر الإنساني المرصع بالشعر".

* : ماذا بقيّ عالقا في الذاكرة من لقاء باث، أحكي لنا بعض تفاصيل اللقاء؟

اسكندر حبش : لم يكن لقاء واحدا، بل ثمة لقاءات كثيرة عادت وجمعتني به. هناك الكثير من التفاصيل ولا أعرف إن كان يحق لي ذكرها الآن، إذ كل حادثة سأذكرها ستبدو وكأنها نوع من التبجح، ولا أحب أن أبدو بهذا المظهر.

* : ما الذي يدفعك إلى ترجمة كاتب ما، هل رغبتك في الترجمة أم حبك وشغفك لأدب ذاك الكاتب بعينه ؟

إسكندر حبش: ما معنى الترجمة ؟ سؤال طرحه ذات يوم الشاعر والمترجم الفرنسي “أرمان روبان”، واعتبر، كجواب، هذا العمل بمثابة طريقة أساسية في مواجهة الذات. كان يتحدث عن الترجمة الشعرية، هذا صحيح. وأضاف بأن مهمة المترجم هي أن يحل محل مهمة الشاعر، سواء كان ذلك نحو الأفضل أم نحو الأسوأ.
بمعنى آخر، أحب أن أستعيد دائما ما قاله أرمان روبان في مقدمته لترجمة كتابه “أربعة شعراء روس” الصادر عن منشورات "Le Temps qu'il fait" Cognac, " (العام 1985) في الصفحة السابعة، حين يصف عمله على الشكل التالي: "أقدم برهبة هذه الأشعار الروسية التي ترجمت فيها نفسي". أي قدم فكرة عن ذلك كله تتلخص بهذه الكلمات "TRADUIRE, TRAHIR,SE TRADUIRE" (أي الترجمة، الخيانة، ترجمة الذات).

* : اللغة في الشعر ليست لغة متاحة كما يعتقد البعض، هي لغة تحتاج إلى اشتغال ،إلى فن ،إلى خلق ما رأيك؟

إسكندر حبش : الشعر، شئنا أم أبينا، هو اللغة قبل أي شيء آخر، ولكن لأحدد بأنه اللغة الشعرية.ألم يقل الجاحظ بأن المعاني مطروحة في الطريق؟ من هنا، لتتحول إبداعا علينا أن نبدعها في لغتها، وإلا لبقيت هذه المعاني المجردة. لكن يجب أن لا نقدسها كثيرا لأنها في النهاية ليست سوى وسيلة اتصال.

* : اللغة عندك ماذا توازي؟

إسكندر حبش : كما قلتُ في الجواب السابق عليها أن تتحول إلى عملية إبداعية جديدة، "اللغة ليست غاية بل وسيلة"، مثلما يقول الشاعر الفرنسي يوجين غيوفيك. أعتقد أنني أنحاز كثيرا إلى هذه المقولة. مشكلة بعض الكتابات العربية أنها جعلت من اللغة سدرة المنتهى، ولم تهتم بباقي التفاصيل. قالت العرب بأن النص ولكي يكون نصا أدبيا حقيقيا، عليه أن يوازن بين أربعة أقطاب هي العاطفة والخيال والفكر والأسلوب، وإن أي خلل في قطب من هذه الأقطاب، لا بدّ أن يصيب النص بالعطب. أظن أن الأقدمين نجحوا في إدراك ما يقوم عليه النص الأدبي، ومن جميع المستويات.

* : الشعر عندك ماذا يوازي ؟

إسكندر حبش : لو كنت وجدت جوابا مناسبا لربما توقفت عن كتابته منذ زمن. في أي حال، وبما أننا نريد دائما أجوبة عن كل الأسئلة، سأحاول أن أقول، بأنه وسيلة من الوسائل التي أجد فيها توازني بين هذا الخراب الذي يلفنا من كل الجهات. وبما أنني لم أجد توازني لغاية اليوم، فما زلت أكتب بحثا عن حالة الفقدان هذه.

* : هل الشعر حالة فقدان أيضا؟

اسكندر حبش : هو كل شيء. إنه الوحيد الذي يمكن له أن يجمع كل التناقضات بين طياته. وإن لم يكن كذلك، فسيتخلى على أن يكون شعرا. كما قلت في بداية هذا الحديث: ما من وصفة سحرية يمكن لنا أن نطلق عليها اسم هذا هو الشعر. الشعر هو كل شيء، الشيء ونقيضه في الوقت عينه.

* : برأيك في ماذا تكمن الشعرية أقصد شعرية النص، شعرية الحياة، شعرية المكان/ الزمان ؟

إسكندر حبش : على الشعر أن يكمن في الشعر. كل الأشياء في خدمته. عليه أن يستفيد من كل ما يحيط به. علينا أن نوازن بينها كلها. لنحيا في القصيدة ولنكتب الحياة بزمنها ومكانها.

* : هل من المهم والضروري أن يكون الشاعر على يقين بشعريته ؟ أم من الأحسن أن يكون على شك بها حتى لا يصاب نصه بالسكتة الشعرية وحتى لا يصاب هو بالسكتة الإبداعية ؟

إسكندر حبش : أعتقد أنه منذ أن يبدأ المبدع، أي مبدع، باعتبار أن نصه وصل إلى مرحلة الكمال والاكتمال، فإنه بذلك يحكم على نصه بالإعدام. أجمل ما في الكتابة أن تظن دائما بأن شيئا ما ناقص، لتحاول أن تجد هذا الغائب عنه. لا تركن الكتابة إلى شيء، لأنها لن تصل إلا إلى أسئلة إضافية. ومع كل سؤال محاولة لإيجاد جواب. بالتأكيد لن تصل إليه وإلى معنى الكتابة عندها، إذا وجدت أجوبة على الأسئلة التي نطرحها.

* : في كل الخارطة الأدبية العربية تقريبا هناك حراك إبداعي لكن الحراك النقدي لا يوازيه بنفس الشكل أو بنفس القوة والكثافة ؟

إسكندر حبش : للآسف، ثمة حقيقة واقعة في سؤالك هذا، قلة هم النقاد في العالم العربي الذين يتابعون الحراك الإبداعي الجديد. بل ما هو أنكى من ذلك، أنهم لا يحاولون تطبيق مفاهيمهم النقدية الجديدة إلا على نصوص قديمة. ربما ثمة خشية في الاقتراب من النص الحديث بصفته نصا يتحرك باستمرار. في أي حال، ثمة هوة بين النقد العربي الحديث وبين الفعل الإبداعي، لدرجة نستطيع أن نقول معها – وللآسف – بأن النص النقدي العربي الجديد، لم يصبح بعد، نصا إبداعيا قائما بذاته.

* : أيضا معظم النقد الذي تحظى به بعض المجاميع الشعرية و المتون الروائية منابعه ومشاربه علاقاتية أي من باب الصحبة والزمالة وربما الشهرة، في حين هناك إنجازات جديرة بالاهتمام والاحتفاء لكن مصيرها الركن على رفوف اللااهتمام واللامتابعة واللامواكبة .

إسكندر حبش : وهذه أيضا مشكلة كبيرة نقع فيها. ثمة نصوص لا تستحق أن نكتب عنها، ولكننا لا نجد إلا أصحابها على صفحات الصحف والمجلات، بينما هناك كتابات حقيقية لا يهتم بها أحد. علينا أن نتقبل سمة هذا العصر، وعلينا أن نقنع أنفسنا بأن التاريخ سيكون منصفا. لا حل آخر، وعلينا أن نكتب وأن لا نصاب بالإحباط، كل هذا الإعلام لن يفيد على المدى البعيد.

* : كيف كل هذا الإعلام لن يفيد على المدى البعيد، هل توضح أكثر ؟

اسكندر حبش : ليس الإعلام من يصنع الكاتب في النهاية، وإن كان يساعده على اكتساب شهرة ما. لكن هل تكمن الكتابة الحقة في الشهرة فقط؟ أنا مؤمن بأن التاريخ سيكون الحكم النهائي. ثمة أسماء ستبقى وأخرى ستغيب. ذات يوم قال الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا ما معناه إذا بقي، بعد سنين عديدة، نصف ما كتبته فسيكون الأمر حسنا، وبعد مدة، إذا بقي نصف النصف فهذا عال، وهكذا دواليك، فإذا جاء يوم ولم يتبق من كل ما كتبته سوى سطرين، على مر التاريخ، عندها أكون شاعرا جيدا. لم يبحث بيسوا عن الشهرة الإعلامية، حتى أنه لم ينشر في حياته سوى كتاب بسيط. وما الذي تبقى منه لغاية اليوم؟ الكثير الكثير مما كتبه.
في أي حال: هناك خيارات في العالم. البعض يختار الإعلام، وآخرون يختارون الكتابة بعيدا عن الضوضاء. وعلينا أن ننحاز إلى أمر وأن ندافع بالطبع عن خياراتنا.

* : لحد الآن ما زالت الكثير من الإشكالات تثار حول قصيدة النثر والشعر الحداثي وما إلى ذلك، وقلة من تجازوا هذه الأطروحات أو الإشكالات إلى ما هو أرقى وأجدى، أي إلى الإبداع وتحقيق الشعرية الممكنة أو المأمولة، كشاعر حداثي ماذا تقول ؟

إسكندر حبش : المشكلة لم تعد مطروحة بالنسبة إليّ، لقد انحزت إلى قصيدتي وشكلها منذ البداية، ولم أعد أفكر إلا بالنص الذي أكتبه، أي بحثا عن هذه الشعرية التي أتمناها. أكتب بلغتي، بأدواتي، التي لا تنفصل عن محيطها الاجتماعي والزمني. ليس معنى هذا أنني ضد الشعر الكلاسيكي، أبدا. لكن لا أستطيع أن أخرج من جلدي وأكتب بلغة غير لغتي. أنا إبن هذا العصر، وابن هذه الحرية التي أصارع من أجلها. وهذه القصيدة تمنحني الحرية المطلقة. من جهة أخرى أعتقد أن حدة الصراع هذه قد خفت. لننظر إلى ما يكتب اليوم. لقد انحاز الشعراء إلى أساليبهم، وفرضت قصيدة النثر شروطها ومكانتها، ولم يعد بإمكان أحد أن ينفيها. بمعنى آخر، لقد كسبت رهانها.

* : برأيك ما هي مهمة الشعر الواجب أن يؤديها ؟

إسكندر حبش : سأستعير مقطعا من الشاعر التشيكي فاتسلاف شولك لأردد معه: " وهبني القدر/ هذا الشقاء الناعم/ أن أكون/ شاعرا...". مضى زمن المهمات.ولم يعد الشاعر بوقا لأي قبيلة أو سلطة. بالأحرى عليه أن يرفض ذلك ليكون شاعرا. الواجب الأول للشاعر أن يكتب الشعر. وكما يقول أيضا الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفيرت:" استعارة مدهشة تساوي أكثر/ من خاتم ذهبي في اليد." لذلك، إذا نجحنا- خلال الكتابة – في القبض على هذه الاستعارة، أعتقد أننا، حينذاك، قد قمنا بواجبنا على أكمل وجه.

* : يقول إيف بنفوا: "من دواعي سروري أن الشعر ينتمي لكل الأزمنة" فهل برأيك ما زال الشعر ينتمي لكل الأزمنة ؟

إسكندر حبش : هو الزمن الأول. وبالتأكيد سيكون الزمن الأخير. وإلا ما نفع أن نكتب بعد. إنه أجمل أوهامنا.

* : الشعر برأيي هو أيضا نوع من فلسفة الذات التي تسعى لخلق جمالها الذاتي أو تجميل خرابها الشخصي ،ما رأيك؟

* إسكندر حبش : لنذهب إلى أبعد من ذلك ونقول إنه ذاتنا، إنه حصننا الأخير، بعد أن فقدنا كلّ شيء. بالتأكيد هو هذه الرؤية الخاصة التي تتحكم بنظرتنا إلى الأشياء. وبالتأكيد أيضا يرمم خرابنا الكبير.

* : بحكم تجربتك الطويلة في الصحافة ،فأنت على اطلاع واسع بالتجارب الشعرية والأدبية العربية ، فهل هناك تجارب جزائرية لفتت انتباهك؟

إسكندر حبش : هذا صحيح، لقد أتاح لي عملي الصحافي الاطلاع على الكثير من هذا الشعر، مثلما تتيح لنا اليوم مواقع الأنترنت، بالتعرف على أسماء أخرى. لكني لن أدخل في لعبة الأسماء، وإن كانت هناك العديد منها التي لفتتني. أخشى لو فعلت أن أظلم بعض الذين لم أعرفهم. ألم نقل أن ثمة أسماء جيدة تستحق أن تُقرأ لكن ثمة لعبة إعلامية تحجبهم عنا؟ أضف إلى ذلك هل نحن على اطلاع كاف على كل التجارب ما بين المشرق والمغرب؟ أكره هذا الفصل، ولكن ثمة واقعا لا نستطيع تجاوزه وعلينا أن نفعل ما بوسعنا لإلغائه.

* : هل من كلمة أخيرة، جملة، مفردة تود قولها، بعثرتها، رسمها أو تعليقها على ضوء ما ؟

إسكندر حبش : هي رغبة قديمة. كان من المفترض أن أكون في الجزائر منذ أشهر قليلة، لكن الوضع المتردي في لبنان جعلني أصرف النظر عن السفر. ما أخشاه هو أن تعود الشياطين القديمة لتستيقظ. من هنا أنا على أملين:أن لا تعود الحرب سوى ذكرى قديمة وأن آتي يوما إلى بلدكم، وبخاصة أن لدي الكثير من الأصدقاء.

nouarala2@hotmail.com

جريدة النصر الجزائرية
14 أوت 2007