ومُمَالأة بعض السلطة لهؤلاء بالصمت أو بتشجيعهم على قمع حرية التعبير

محمد شعير
(مصر)

أحمد عبد المعطي حجازيأكثر من خمسين عاماً قضاها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في حروب مستمرة، ومعارك ضد: دعاة الجمود، والأصوليين، وأحياناً ضد السلطة!
المرة الأخيرة وجد نفسه في معارك متعددة ضد أحد هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم من ملاك الحقيقة المطلقة الذين نصبوا أنفسهم متحدثين باسم السماء.. يوسف البدري. المعركة الأولى قديمة بعد عدة مقالات كتبها حجازي عن الأصولية باعتبارها ظاهرة عالمية ووجد نفسه مهدداً ببيع آثاث منزله، حتى تدخلت مجلة روز اليوسف، وقامت بسداد الغرامة التزاماً منها "باحترام أحكام القضاء"، رغم أن المعركة كانت فرصة لفتح ملف العديد من القضايا المعلقة مع السلطة من جانب ومع "الأصوليين من جانب آخر". المعركة الثانية جاءت بسبب نشره لقصيدة حلمى سالم "شرفة ليلى مراد" في مجلة إبداع، وأيضاً استغلها يوسف البدري ليرفع قضية ضد حجازي وضد حلمي أيضاً، بل وضد وزارة الثقافة... وما زالت القضية قيد التحقيق.

وأيضاً تواجه حجازي قضية أخرى من الشخص ذاته يتهمه فيها بسبه وقذفه بسبب حوار صحفي نشرته مجلة "آخر ساعة"... لا وقت لحجازي إذن لكي يكتب، أو يتحدث فهو يخرج من تحقيق الى آخر ومن محكمة الى أخرى...!
اتجهنا الى صاحب "مدينة بلا قلب" وسألناه عن القضية والعديد من القضايا الثقافية الأخرى... وكانت البداية هل يمكن أن يتراجع عن مواقفه أمام حدة الهجوم عليه ممن يعتبرون أنفسهم إسلاميين.. سألناه وأجاب: موقفي واضح مثل موقفي من القضية الأخرى، إنني أعلن على الملأ أنني لم اشتم أحداً أو أسيء الى أحد، إنني تحدثت عن ظواهر وحركات ومنظمات سياسية وأفكار.. وشرحت لماذا أنا منحاز لأفكار دون غيرها وأقاوم أفكاراً أخرى. مشكلتي ليست مع أشخاص أبداً، هم يريدون أن يحولوا الصراع من مجاله الحقيقي الى مشكلة بيني وبين شخص آخر. وهؤلاء لا يهمونني ولن ألتفت إليهم أبداً.

* سألته حتى مع ما أعلنه البدري: "سأجعل حجازي يفكر ألف مرة قبل أن يسب علماء المسلمين"؟

ـ أنا لم أسب علماء المسلمين ولا علماء المسيحيين ولا علماء اليهود ولا أي علماء. بالعكس أنا أحترم العلماء جداً. لكنني حريص جداً على تعرية الذين يزعمون أنهم علماء الى الحد الذي يجعلهم مسؤولين عن تديني أو تدين غيري والذي يعطيهم الحق في بعض الأحوال أن يكفروا الناس وهذا ما حدث مع أبو زيد وتم الحكم عليه بتفريقه عن زوجته.

وأضاف حجازي موضحاً أن القضية لم تكن سباً وقذفاً كما رأى بذلك البدري.. لأن هناك فرقاً بين السب والقذف، وبين النقد المباح: السب والقذف هو أن يكون المقصود هو الشخص نفسه وإهانته والإساءة إليه والعدوان عليه. أما النقد المباح فهو أن يكون الكاتب أو القائل يقصد ظاهرة معينة أو عيباً أو مشكلة من المشكلات. النقد موقف ليس له طابع شخصي لأن التطرف ليس شخصياً، التطرف ظاهرة عامة يشترك فيها أناس كثيرون. نحن أحياناً نتحدث عن التطرف الموجود في بعض مؤسسات الدولة وفي بعض الصحف دون أن نقصد شخصاً بالذات. أنا أجد أن بعض الصحف المصرية تنشر فتاوى أو آراء لا تخلو من التطرف وأشير الى هذا، عندئذٍ لا يمكن مساواة ذلك بمن يريد أن يسيء الى شخص بالذات يعني أن ينتقص منه أو يهينه أو يعتدي عليه.

التغريم

* لكن المحكمة قضت بتغريمك بتهمة السب والقذف في حق يوسف البدري وليس النقد، خاصة أنك أشرت إليه بالاسم في مقالاتك؟

ـ أنا لم أرَ هذا الشخص في حياتي حتى هذه اللحظة وليس بيني وبينه أي مشكلة شخصية على الإطلاق. أنا أنظر فأجد أن هناك أشخاصاً يُطارَدون أمثال نصر حامد أبو زيد ويوسف شاهين ورجائي عطية وأنا كذلك. أنا أتحدث عن ظاهرة في المجتمع وعن قوانين تسمح بهذا وعن مناخ يتم فيه كل هذا وأنا أرصد الظاهرة وأشير إليها وأوضحها وأقاومها أيضاً. هذا هو الفرق بين السب والقذف وإعلان الرأي. أحياناً في البيئات الديموقراطية الحقيقية التي تعرف أن لحرية التفكير والتعبير حقها يبدو ظاهر الكلام أنه سب وقذف عندما يقال عن فلان إنه حمار أو ذئب أو جحش أو حرباء إلخ والمقصود بهذا سياسته وعدوانيته وتلونه ولا يعتبر هذا سباً وقذفاً لأن المقصود بهذا الكلام سلوك هذا الشخص المؤثر في المجتمع. لو افترضنا أن فلاناً من هؤلاء الذين أتوجه إليهم بنقد يفعل ما يفعله في بيته فلا علاقة لي به ولكن عندما يكون سلوكه مؤثراً في المجتمع عندئذٍ لا بد أن أتصدى له ففي هذه الحالة لا يكون كلامي سباً وقذفاً وإنما نقداً. عندما أجد أن عالماً مصرياً مهماً مثل نصر أبو زيد اضطر الى أن يغادر مصر وينفى من وطنه ويعيش في الخارج وإلا كان معرضاً للاغتيال، يجب أن أنقد هذا السلوك وهذا المناخ الذي لا يستطيع المثقف المصري فيه أن يؤدي وظيفته ورسالته في المجتمع..

* ولكن لماذا صمتت السلطة تجاة ما يحدث لحجازي؟

ـ من وجهة نظري، إن السلطات لا تصمت فقط لأن الصمت موقف سلبي لكنها تتخذ أحياناً مواقف إيجابية تؤدي الى قمع أكثر للمثقفين. عندما نجد أن مؤسسة من المؤسسات الثقافية تصدر بعض المؤلفات فتقوم مظاهرات يقودها ويخطب فيها رجال محسوبون على الدولة وموظفون رسميون، مثلاً الشيخ عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر خطب في المتظاهرين بجامعة الأزهر الذين لم يعجبهم أن هيئة قصور الثقافة تنشر بعض الروايات التي يرون فيها تجاوزاً على بعض الحدود الأخلاقية. وهذا تكرر أكثر من مرة. عندما نجد أن وزير الثقافة فاروق حسني يعبر عن رأيه في الحجاب فلم يجد المعارضة فقط من الأخوان المسلمين ولكن من زعماء الحزب الوطني الحاكم. إذن السلطات لا تكتفي بالصمت وإنما تشجع قمع حرية التعبير.. السلطات تريد أن تقول للناس إنها أكثر حرصاً على الدين فتكون النتيجة أنها تورطت في التطرف. ويصبح التطرف سلوكاً عاماً وليس مقتصراً على بعض الجماعات، بل تلجأ إليه المنظمات الرسمية والأحزاب السياسية.

* كان البعض يعتقد أن عودة المثقفين من منافيهم سيصاحبها محاولة لاحتوائهم، بحيث يحاربون معركة السلطة مع "الإسلام السياسي" المتطرف، وعندما تنتصر السلطة ستتخلي عنهم... هل تعتقد أن ذلك السيناريو هو الذي تم؟

ـ لا، على الأقل لم يحدث ذلك معي، لأنه من الصعب أن يستعملني أحد، لأنني مكتف بنفسي، وشديد الحساسية ولدي رغبة دائمة في أن أعلن آرائي بصراحة، ثم أظن أنه لا ينقصني أن أعرف قيمة الأشياء والآراء المختلفة، فمن الصعب أن يضحك عليّ أحد، ولهذا فأنا لا أستطيع الدخول في مساومات ولست محتاجاً لها. وأظن أن عملي منذ وصلت الى هذه البلاد بعد عودتي من فرنسا يشهد بذلك، وقبل ذلك أيضاً. كان يمكن أن يفكر أحدهم في استخدامي منذ الستينيات، وقد كنت معروفاً وشهيراً في ذلك الوقت، ولكني لم أكن رئيساً لتحرير مجلة أو رئيساً لهيئة. ولست هنا لا في مقام الدفاع عن نفسي ولا في مقام الفخر، بكل بساطه أنا خارج موضوع الاستغلال، أعلن آرائي بصراحة وعودت الناس على ذلك.

المعارك

* لو رصدنا تاريخك منذ دخولك معترك الأدب والصحافة، ما هي المعارك الأخرى التي واجهتها في سبيل الحرية والتعبير؟

ـ أظن أنه من أوائل السنوات التالية لعام 1952 كان لي موقف من الحكم العسكري. وهذا الموقف أدى بي الى السجن وإن كان لفترة قصيرة بسبب مظاهرة لم أهتف فيه بسقوط الحكم العسكري وإنما هتفت بحياة بعض الزعماء السياسيين المصريين من أمثال محمد فريد ومصطفى كامل عندما كنا طلاباً في شبين الكوم. وهذا ما منعني من السفر منذ دخولي سجن قراميدان بالقلعة ـ والذين هدموه فيما بعد ـ الى السبعينيات، فعند سفري الى فرنسا عام 1974 كنت ما أزال ممنوعاً من السفر، وكنت مضطراً باستمرار الى الحصول على تصريح. ودائما كنت أُعتَبر معارضاً. ولست معارضاً في السياسة فقط لكن في كتابة الأدب. فأنا تبنيت منذ وقت مبكر دعوة لتجديد القصيدة العربية فكانت النتيجة إني اصطدمت بالسلطة الأدبية كما اصطدمت بالسلطة السياسية. وكانت السلطة الأدبية ممثلة في محمود عباس العقاد الذي كان يفعل معي مثلما تفعل الحكومة معي. حدث في عام 1957 أن تقدم بعض أعضاء لجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب بأن يفحصوا بعض القصائد التي قالها الشعراء المصريون في العدوان الثلاثي واختاروا قصيدة لي بعنوان "اثبت بأعلى السلم" من بين القصائد واعتبروها جديرة بالجائزة وقدمت هذه القصيدة الى لجنة الشعر التي كان يرأسها العقاد والذي اعترض مبدئياً على اختيار القصيدة التي نظمت على طريقة جديدة ليست من الشعر من وجهة نظره فأحالها الى لجنة النثر وكان هذا أول صدام، لكن الأستاذ فتحي غانم اعترض في مجلة "صباح الخير" على قرار اللجنة والعقاد من الشعر الجديد وكنا نسخر من العقاد ونهاجمه لأنه كان مصراً على ألا نشارك في أي نشاط من أنشطة اللجنة إلا إذا كتبنا شعراً تقليدياً. في عام 1959 قررنا أنا وصلاح عبد الصبور أن نكتب الشعر التقليدي واشتركنا في مهرجان الشعر الذي كان يعقد في بدمشق بعد الوحدة المصرية السورية. وفي عام 1961 عرض علينا يوسف السباعي أن نشارك في المهرجان فذهبنا دون علم العقاد الذي هدد بالاستقالة من المجلس إذا شاركنا في المهرجان مما اضطرنا إلا نقول شعرنا في المهرجان، وحينما عدت كتبت قصيدة تقليدية في هجاء العقاد نشرتها في "الأهرام".

التجديد

* ننتقل الى دورك في تجديد الحركة الشعرية العربية.. كيف يبدأ هذا الدور؟

ـ الدور يبدأ أولاً بأن يكون صاحب الدور شاعراً ولا يكفي أن يكون متحمساً للتجديد، والأفكار المتصلة بتجديد الشعر والأوزان واللغة والموضوعات والأشكال الشعرية موجودة. ويكفي المقارنة بين حال الشعر الانكليزي وحال الشعر العربي كي يتحمس الإنسان للتجديد، لكن كيف يتحقق هذا التجديد، وإذا تحمس عربي أو مصري لكتابة مسرحية شعرية أو ملحمة أو قصة شعرية أو تجديد الوزن هل يستطيع أن يؤثر؟ وما المعنى المقصود بكلمة تأثير؟ التأثير هنا هو أولاً إقناع جمهور الشعر والوصول إليه كي يتبنى ما قدمه الشعر من تجديد وأن يتحول عمله الى حركة يشارك فيها جيل أو أجيال من الشعراء. كما أن الأفكار المتعلقة بتجديد الشعر كانت سائدة في الأربعينيات من القرن الماضي لأن الرومانتكيين المصريين بدأوا هذا الاتجاه وقدموا هذه المحاولات، فنجد في أشعار احمد زكي أبو شادي محاولات في تجديد القصيدة العربية والوزن وفي خلق أوزان شعرية جديدة فقد حاول أن يقدم قصة وأوبرا ومسرحية شعرية وكذلك "خليل شيبون" وهو شاعر مصري من اصل سوري هاجر من سوريا وعمره 15 عاماً وكان من شعراء أبوللو كما نجد تجديد في ترجمات: محمد فريد أبو حديد لمسرحيات شكسبير وعلي احمد باكثير، وظهرت في الأربعينيات كذلك محاولات في تجديد الكتابة الشعرية عند عبدالرحمن الشرقاوي وكمال عبد الحليم لكن كل هذا لم يخلق جمهوراً للقصيدة الجديدة. وفي أوائل الخمسينيات خصوصاً بعد نشر الشرقاوي قصيدته "من أب مصري" وعندما بدأت القصائد الأولى لـ"صلاح عبد الصبور" الذي سبقني للتجديد وظهرت قصائده الأولى عام 1955.

الثورة

* هل كان قيام الثورة أمراً هاماً في تثبيت دعائم الحركة الشعرية الجديدة؟

ـ من حسن حظي أن هذه الفترة كانت فترة تفتح على الجديد وكانت قترة شعارات ثورية، فالسياسة لم ينتج منها الكثير أو على الأقل أدت الى هزائم معروفة لكن الثقافة كانت تعيش في فترة ازدهار لفكرة التجديد في الخمسينيات. هذا المناخ لم يكن ايجابياً تماماً ففي الوقت الذي كان الكل فيه يتحدث عن الثورة كان هناك قمع شديد للحريات بما مثل جانباً سلبياً خطيراً، لذلك كانت حركة التجديد بقدر ما كانت حركة اندفاع وحماسة للتجديد لم تكن حركة عاقلة فلم تكن مصحوبة بحركة نظرية سواء في النقد النظري "فلسفة الجمال" أو النقد التطبيقية موازية للمحاولات الإبداعية، طبعاً كانت هناك جهود نقدية لكن كانت أقل ولم تتمكن من أن تُرسي تقاليد أو تبلور أفكاراً. ففي الوقت الذي كان هناك تجديد في القصة القصيرة والرواية على يد يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ كان كتاب "في الثقافة المصرية" لـ"عبدالعظيم أنيس، محمود أمين العالم" في وقته كان له تأثير كبير لكن قرأته الآن تؤكد أنه محدود ولم تتطور أفكاره لانهماك مؤلفيه في العمل السياسي والاعتقالات وبسبب القمع الفكري ضد اليسار مما أسهم في عدم تطوير الحركات التجديدية التي ظهرت في الخمسينيات والستينيات.

ساعدنا جداً ظهورنا أنا وعبد الصبور في الخمسينيات والستينيات لأنه كانت هناك نهضة شاملة بصرف النظر عن الأسس التي قامت عليها وفشلها فقد كان هناك حالة روحية عامة استطاعت أن تأخذ غالبية المصريين في صف التجديد، فرجل الشارع كان مع التجديد في جميع المجالات حيث كان يرى أعمال الفريد فرج وسعد الدين وهبة ويوسف ادريس في المسرح ويقرأ شعرنا في الصحف التي كنا نطبع منها ثلاثة آلاف نسخة وهذا لم يكن يحدث من قبل.

* وعلاقة النقد والشعر؟

ـ أي ناقد حقيقي يكون في الوقت ذاته ناقداً حقيقياً لأنه ينقد نفسه قبل الآخرين، فالمبدع يكتب ويفتض الشعر ولا يكتب القصيدة من أولها الى آخرها كأنها مملاة عليه من شياطين الوحي بل إنه يصنع، فهناك انفعال هائل يوظف كل طاقات الشاعر وقواه العقلية وحتى الجسدية في خدمة خياله، فهو يوظف ذكرياته وأحاسيسه وانفعالاته وما رآه في الطفولة والآن. الشعر فن خطير لأنه لغة كلية شاملة وهذا هو الفرق بينه وبين أي لغة ثانية، فلغة النثر العادي لغة إشارة ومنطق أو معلومات أو وصف أو تسجيل، أما الشعر فنرى ونحلم ويتم هذا في الوقت ذاته. إن المعرفة التي تنتج خلال الكتابة الشعرية هي معرفة ناتجة عن عمليات معقدة، كل القوى تشترك فيها وتتحقق من خلال شكل هو القصيدة ومادة هي اللغة، وهذه اللغة هي المجاز أو الرمز ولغة الموسيقى أو الإيقاع. ولا بد أن يكون الشاعر متقناً لهذا الشكل فهو يسعى لتحقيق هذا الإتقان وهو يعمل. الشاعر في حالة إلهام لكنه أيضاً صانع ينسج يخطئ ويكتشف أخطائه ويصوبها وهو ما يحدث عندما يجد نفسه خرج من السياق أو فرض عليه ما لا يقبله أو يحرفه الى طريق لا يبلغه غايته فيراجع نفسه، مثلاً سعي الشاعر كي تكون العبارة مفهومة بطرق خاصة شعرية ليس من خلال العقل المنطقي وإنما من خلال الإحساس، هذه اللغة الرمزية لغة موقعة وأن تكون صحيحة. كل هذه العمليات تحتاج الى تربة أي مران فتصبح كل قصيدة جديدة مختلفة. ومن هنا يفترض في كل مبدع عظيم أن يكون ناقداً عظيماً. بالإضافة الى ذلك فالشاعر الذي يكون قد أحدث حدثاً جديداً في الشعر كأن يكتب قصيدة جديدة فلا بد أن يبررها للقارئ وللشعراء الآخرين والنقاد حتى يشرح عمله ويناقشه ويكسب لإبداعه الجديد جمهوراً جديداً ويثبت أن هذا الإبداع يتطلبه العصر. فالشاعر لا بد أن يكون أيضاً مفكراً وفيلسوفاً.

الحرية

* ما هو الثابت والمتحول خلال رحلتك السياسية والفكرية والشعرية؟!

ـ الثابت هو البحث عن الحرية، فالذي يقرأ حتى شعري وليس فقط مقالاتي: يجد أن الحرية هي الهاجس الأول، الحرية بمستوياتها المختلفة بالمعنى الفلسفي الذي قد يصل أحياناً الى الشك في كل شيء. ليس الشك بدافع عدمي! ولكن بدافع المراجعة، والبحث عن الطمأنينة الفكرية.

* وهل وجدتها؟!

ـ الى حد ما. ولكن حتى تجد شيئاً من الطمأنينة يمكنك أن تصادف ما يثير شكوكك في جوانب أخرى وهكذا. القلق دائم ولا يمكن الاطمئنان الى شيء ما عدا شيء واحد: العقل وقدرة العقل على معرفة الحقيقة. لا أقول إن العقل قادر على معرفة الحقيقة الكاملة. ولكنه قادر أن يتقدم شيئاً فشيئاً من حقيقة جزئية كانت مجهولة من قبل الى حقيقة جزئية أخرى مجهولة وهكذا. العقل يستطيع كل يوم أن يكتسب أرضاً جديدة. وأنا واثق كل الثقة من أن الإنسان حر وأنه قادر علي أن يحقق حريته. حتى على الحتميات الطبيعية ولننظر مثلاً: البشر كانوا يموتون في الثلاثينيات من عمرهم الآن يموتون في السبعين، كانوا يموتون بسبب كائنات صغيرة جداً. جراثيم فضلاً عن الحيوانات المفترسة، الآن تغلبوا على كثير مما كانوا يصادفونه من قبل. أيضاً اتسعت الرؤية واتسعت دائرة المعرفة. معرفتي الآن تضاعفت آلاف المرات لماذا؟ لأنني أصبحت أعرف في الدقيقة الواحدة أكثر مما كان يعرف أبي في سنة وسنتين. كما أن لدي متسعاً من الوقت الذي أعرف به أكثر بكثير مما عرف. أنا أسافر وهو لا يسافر، أنا ألتقي بالناس وأقرأ لغات مختلفة وهو لم يكن يقرأ سوى لغة واحدة وهكذا الإنسان حر والمعرفة تحقق الحرية. والحرية تتحقق بقدر ما تتسع المساحة التي تتحرك فيها فإذا لم تكن لديك مساحة من المعرفة فأنت لا تستطيع أن تتحرك في الظلام ولا تستطيع أن تتحرك في المسدود والمغلق..

.. والمستقبل

* كيف ترى المستقبل إذن مع كل ما يحيط بنا ويهدد حرية التعبير؟

ـ انا خائف ومرعوب مما يمكن أن تأتي به الأيام القادمة وما الذي يحمله لنا المستقبل ونحن نرى الجمهور في قبضة المتطرفين، ونحن نرى جماعة هي بالأساس سياسية ولكنها تتهمني بمعاداة الدين وتحرض علي لأنني أدعو الى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة. كل خلط بينهما يؤدي الى كوارث، ويكفي أن نرصد ما يجري في السودان والعراق وإيران.

* وماذا عن مجلة "إبداع" التي ترأس تحريرها.. الى أي مدى وصلت القضية المرفوعة عليك بسبب قصيدة "شرفة ليلى مراد"؟

ـ آخر آخبار القضية أنني ذهبت الى النيابة للإدلاء بأقوالي وشرحت للسادة وكلاء النيابة لمدة أربع ساعات الفرق بين الشعر والنثر، وأن ما يمكن اعتباره إساءة في النثر لا يمكن اعتباره كذلك في الشعر، لأن الشاعر لا يستخدم لغة مباشرة تفهم بظاهر معناها ومفرداتها، وإنما تفهم بصياغة الشعر. وعندما يقول حلمي سالم في قصيدته "شرفة ليلى مراد". إن الله ليس شرطة مرور فهي ليست إساءة لأنه لا يقول إن الله لا ينظم حياتنا، وإنما يريد هذا المعنى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" أي علينا ألا ننتظر الحل من السماء.

* ولماذا لم يصدر العدد الثاني منها حتى الآن؟

ـ بعد أن تم وقف توزيع العدد، دار حوار حول المجلة بيني وبين المسؤولين، ووصلنا الى حل أن نتصل بالشاعر ونطلب منه حذف بعض سطور القصيدة محل المشكلة، ووافق، ورفعنا السطور وأعيدت طباعة القصيدة ووزع العدد ونفد من الأسواق، ولكن بعد هذه الحادثة صار المسؤولون شديدي الحساسية تجاه المجلة ومن هنا تأخر صدور العدد الثاني حتى هذه اللحظة.

المستقبل
الثلاثاء 6 تشرين الثاني 2007