خلود الفلاح
(ليبيا)

ناجى رحيمشكراً للتقنية، شكراً للصديق النت الذي اختصر لي العالم في كبسة زر. شكراً للمواقع الثقافية الرقمية وما أفسحته من التعرف على صنوف المعرفة، فمن خلالها تعرفت على العديد من الأسماء في حقول الكتابة المختلفة .

شكراً لإيميلى ومفاجآته اليومية التي جعلتني أعيش في أكثر من مكان في ذات الوقت فهذا صديق يخبرني بصدور كتابه وآخر يعلمني عن أمسية ستعقد له وثالث يخبرني عن فوزه في إحدى المسابقات الأدبية ورابع يرسل لي آخر ما كتب وهكذا.

وشاعرنا ناجى رحيم كان خبر حصوله على جائزة "الهجرة" الهولندية عن قصيدة "الوقت " وما كتب عنها دافعاً لقراءة المزيد من نصوصه الشعرية المستنطقة لذاته ولعلاقته مع عالمه الأول البعيد والحياة في هولندا ومحاولاته العدة في التغلب على غربة روحه.

* يقول اوكتافيو بات ( على الشعر أن يكون، لا أن يعني ) وأنت كيف ترى الشعر؟

- مهلا يا خلود، هكذا نقفز سريعا إلى عمق اللجّة، خاصة وأنت تبدئين بمقتبس عن أحد العظماء، وأنا يافع في الأربعين !
السؤال عن "رؤيا" الشعر موضوع شائك ومتعدد وثرى إلى حد لا تمكن الإحاطة به في حوار أو كتاب أو عصر واحد حتى، إنه ممتد في الزمن منذ أوّل شهقة إنسانية بلورت حالة الإصغاء.
أتخيّل الآن إنساناً داهمه شعور ما وهو يستمع إلى ثورة نهر، يدندن مع رقص شجرة، يبكى لانكسار والد أو ينتشي لحبور أمّ، في رأسه تتلوّى مشاهد لا تهجع ويمطر صخب في قلبه عن كلمات تحمل من الدهشة ما يدعو إلى الإصغاء. في قرية ما، في ليلة مقمرة، رقص أفراد من قبيلة عراة على وقع الشعر، رقصوا ملتحفين كل شيء في الطبيعة البكر. لا أريد أن أستطرد ولكن شيئاً من هذا القبيل قد حدث وتناسل. لقد حاولت في نص منشور هو "اليوم العاشر من عمر الخلق"، أن أعبّر عن معنى سؤالك تقريبا، إليك هذا المقطع منه:
" ثـم ّّ نهـضـت ِالكـائناتُ على معجـزة ٍ تـدعـى الشِعـرَ
تسـاءلَ الربّ ُّ والعجائــزُ عـن معـنـى هـذا الهـول
تـساءل الشـعـراءُ مـنذ رحلة البحثِ عن ماءِ الوجود وحتى أوكـتافـيـو بـاث"
أرى الشعر - بعيدا عن أيّ تعريف لا أملك - كغرفة دافئة أبحث عنها حينما لا يبقى من ملاذ غيرها، أبحث عنها في الشارع، على الرصيف أو مع الآخرين وهى تستقبلني دائما حتى وإن صدّت عني، فيها أحاول أن أفرش روحي وأهندمها، وإن عجزت، أعانق أرواح الآخرين وهم كثر.
وأنا أتفهّم وأتفق حسيّا مع عبارة باث، غير أنى لا أفهم كينونة قياس الشعر، أقرأ نصا فأخشع وامتلئ لأيام أو شهور به، أعود إليه ولا أملّ من إصغائي، ذلك لأنه لامس بي توقا ما، احتراقا أو دهشة، ولأنه كذلك فقد نقل لي معناه المرهف، البسيط، الغامض، الرجراج وهكذا هو الشعور الإنساني الصافي الذي يترجمه شاعر، ليس تهويما، فضفاضا، ملتبسا، متصحّرا، لأنه يريد أن ينقل ما ليس فيه، ربما، والأمثلة عديدة على هذا وذاك.
تابعت ذات مرة حوارا تلفزيونيا مع شاعر هولندي، طرح عليه سؤالك نفسه فأجاب بما معناه "الشعر بالنسبة لي هو اللا جدوى المجدية"، في هذا المعنى أجد نفسي أيضا وهو ينسحب، كما أعتقد، على الوجود الإنساني كله، فالوجود معطى متداول وهو مجد لأننا فيه، نمارسه ويمارسنا، لكن ما معناه، لا أدري، كذلك لا أريد أن أستطرد، فقد نبتعد كثيرا عن معنى السؤال، لكن اسمحي لي أن أذكر هذا المقطع من الماغوط :

" من يوليني اهتمامه ؟
أديري قرص الهاتف يا حبيبتي
واطلبي، مزيدا من الرعب والعذاب
لم أعد أبالى
مستقبلي في قبري وجمهوري الوحيد هو ظلي ".

وإذا تذكرنا أن عنوان القصيدة هو "واجبات منزلية" سيمطر المعنى أكثر. الشعر الخالص، كما أرى، هو ذلك الذي يتيح لنا المقدرة على التضمين، أن نسبح معه فى أنفسنا، فى توقنا، وجودنا، قلقنا، أسئلتنا. خلاصتي هي، أرى الشعر كغرفة دافئة أمارس وجودي فيها.

* هل أنت قارئ مثابر للماغوط؟

- نعم، هو من الأرواح الكبيرة التي أعانقها غالبا في غرفتي، بالمعنى الذي عبرت عنه قبل قليل.

* أعود إليك ، "لقد فكرت مرارا لم أنا منكود هكذا وما أكتب لا يرشح منه الماء" .

فى هذا المقطع من نص "اللغز" كم كبير من الحزن المتوهج والحنين المعتق. هل باتت الكتابة متنفسا أو كما قلت مرة، أكتب من أجل إعادة التوازن، توازني فى العالم؟
- دعيني أبدأ من الجزء الأخير، هل تصدقين أنى لا أملك ما أضيف على هذه الجملة التي قلتها قبل ثلاث سنوات أو أكثر في حوار أجراه معي الناقد والقاص عدنان حسين أحمد، بل وأصبح هذا التوازن المنشود عصيا، بعيد المنال. هذا موضوع مؤلم، ربما نتحدث عنه بعد قليل. أعود إلى سؤالك عن الكتابة و"اللغز". أجل، الكتابة الشعرية بالنسبة لي محاولة للتنفّس ومشاركة فى الوجود، محاولة للفهم وللسؤال، محاولة للغفران والترميم وإطلاق شتائم لا يعرفها غيري، صراخ هامس وإصغاء فى ذات الوقت. مرة أخرى أقول، لا أملك قياسا لمعنى الكتابة، أنا أكتب فقط وأتلف الأوراق وأبدأ من جديد، لذلك فأنى أحاول وها أنت ترين إصراري على هذا الفعل "أحاول". أبدأ من جديد كل مرة، "أبدأ برفو العمر ورزم بخار الأحلام" كما كتبت فى نص نشر قبل فترة فى موقع جهة الشعر.

الأمل والعناد

* سأسألك عن آخر ما قرأت لك فى جهة الشعر "عن الأمل" – هنا مقطع منها - قرأت فيها انكسارا ومحاولة للعناد وهو تضاد موحى أو ما يشبه الاعتراف، هل أصبت؟

النهار جميل جدا خاصة وأنى لا أتذكر متى نمت آخر مرة
لاستلام جرعة من عناد لا ريب فيه عليّ أن أودع الكثير
منذ الصباح وأنا أبحث عن أستاذ لكي نتحدث عن الأمل

- نعم، قراءتك رائعة، كما وأشكرك جدا على هذه المتابعة. هناك انكسار كما أشرت، لكنه لا يستكين، إذ أنى عاندت فى النص وما زلت أعاند فى الحياة. ولأن "على الشعر أن يكون لا أن يعني" فسوف أترك النص يقدم نفسه. تعنيني ملاحظتك بخصوص الاعتراف، وهى ملاحظة صائبة. هنا لا بدّ من طرح قناعة تتعلق بالكتابة كما أفهمها. ولا أزعم منذ البدء بأني العبقري الذي اكتشف ذلك، أبدا. قناعتي تتلخص بمسألة التجربة الشخصية، الكتابة عن تجربة حياتية وليس عن تأمل متذاكٍ، عن عفوية وتلقائية وليس عن شطارة واستحضار و جمع شتات .. النص الذي تطرحين هو أنا، خالص فى تلك الحالة، وهى حالة عشتها فيها من الاعتراف كله.

الحياة قصيدة

* الحياة هي قصيدة، الحياة بحدّ ذاتها قصيدة، ما رأيك؟

- نعم، الحياة قصيدة، غامضة، هادرة وعصية. قد يكون وجودنا قصيدة والشعر هو الوجود. أنا لا أرغب بأدوات التعريف أيا كانت، بل وأخافها حتى، وعندما أقول الشعر هو الوجود فلا أعنى تعريفا للشعر بقدر ما أرغب بالإشارة، الشعر الذي لا يبحر فى لحم الوجود لا يعنيني، الذى لا يلامس مجسّات الوجود، الذى لا يحترق بأنفاس الحياة . الشعر "هو" الإنسان فى دهشته الأولى ولأننا فى الوجود الذى نكابد فلا بد أن يكون شعرنا. هل أبالغ، هل أنظّر، هل أركب الآن عربة المثالية وأقف على حواف الأرض أحدّق بالإنسان؟ لا أدري، أتمنى ألا أكون كذلك، وإن كنت فليكن. هذا هو رأيي الآن فى هذه اللحظة. كما وملاحظتك تؤطر سؤالا أو وضعا يشغلني والفكرة ليست لي أصلا، لقد قرأت عنها فى مكان ما، "الحياة الشعرية"، أن نحيا شعريا كما نحلم بعيدا عن أيّ منغّص. فى ذهني الآن شعراء معينين، بودلير، رامبو ، حسين مردان، عقيل علي، وفى معنى ما أيضا الروائي المغربي محمد شكري، لا أقارن نفسي طبعا بهؤلاء الكبار ، أتلاحظين أنهم جميعا يقفون الآن فى الركن الآخر للكون وحضورهم هنا حاضر. هو حلم على أية حال ، هل يتحقق مع كل هذى الالتزامات والأقنعة والقوانين والأعراف والوصايا والمجاملات والكذب و"الأخوة الأعداء" .. إلى آخر القائمة

مفردات الوقت

* "هكذا يمرّ نصف اليوم بينما رائحة الليل البارح لا زالت تنقّع مرور الساعات" هذا المقطع من قصيدة "لأجلك" هناك مفردات مثل الوقت، الليل، النهار، الساعات، عدم النوم متداولة كثيراً فى نصك. ما السر فى ذلك ؟

- نعم. هذا النص يبدأ هكذا : تجلس خلف مكتبك المكتظّ، تباشر عاداتك السمجة، تضع الأقلام على الجانب وطويلا تتغزّل بجسد الورقة، هكذا يمر ... الخ
جوابا على سؤالك، أقول لا أدري ، تتكرر مفردات الوقت بصيغ مختلفة فى نصوصي، هذا صحيح، غير أنى لا أعرف السرّ. هل له علاقة بشعور طاغ بالزمن، بموقف ما من العالم، من سرّ دوران الأرض التي لا تدوخ، بقسوة مرور الوقت وتسربه من بين أصابعي؟ ربما، وهو موضوع قد يندرج ضمن خسارات عديدة، أشترك فيها والآلاف بل الملايين من العراقيين. فأنا لم أعش طفولتي، لا أعرف معنى مفردة طفولة، لم أعش طفولة آمنة وبريئة كما أراها هنا فى هولندا، كما ولم أعش فترة صباي وشبابي فى العراق، أبدا. كل حياتي هناك مسرح معبأ بالخوف والحرمان والحسرات المتناسلة عن حسرات. يضاف إلى كل هذا حسّاسية مفرطة تكاد أن تكون مرضية، بل هي مرضية قطعا. هذا يدعم، كما أظن، من الشعور بضياع العمر. أما مسألة الأرق، فهذه قديمة جدا، أشعر وكأنها ولدت معي، لا أنام عادة إلا من فرط التعب، وهي ليست بطولة طبعا، بل هزيمة ملوّنة أنا أحد أبطالها.

* "للوقت الذى يمرّ متأبطا رائحة الموت حكايات رجل تنحسر أثواب عمره كلما ازداد إيغالا فى البحر". هذا المقطع من قصيدة بعنوان "الوقت" حازت على جائزة "الهجرة" الهولندية بدأتها فى مخيم رفحاء السعودي للاجئين العراقيين فى بداية التسعينيات وأنهيتها فى هولندا فى عام 2000. هذه القصيدة تحتفي بالعديد من التفاصيل. هل بذلك تمنح القصيدة ذاكرة؟

- اسمحي لي يا خلود أن أشكرك من جديد على هذه المتابعة لما نشرت وما أكتب. نعم، أنهيتها فى شتاء 2000 وهى ليست بالقصيدة الطويلة كما قد يتبادر إلى الذهن بسبب طول الفترة. أنا لا أخطط للكتابة، لا أنطلق من مشاريع محسوبة ومنظّمة، بل ويمكن القول رغم ابتعادي عن السؤال، بأني أبعد ما أكون عن النظام والترتيب والمشاريع والدقة ..الخ، وهذه من مساوئي العديدة. من هنا قد يتضح بأن منح القصيدة ذاكرة - عبارة جميلة بالمناسبة- لم يكن فى حسباني . للموت، الموت المجّاني والمقابر وأصداء الخسارات العديدة، سطوة فى هذى القصيدة وهو موضوع عراقي بامتياز للأسف، تكاثف وتجوهر فى حياتنا الجحيمية فى مخيم رفحاء الصحراوي، وكوني رجعت إلى قصيدتي وأكملتها فى هولندا بعد أكثر من ثماني سنوات على بدايتها، يعنى لي الكثير، فالموضوع لم يتلاش بل تكاثف، وسطوة المكان الأول لم تتبدد، أبدا، كما وزرعت حياتنا الميتة فى ذلك المخيم - وقبله مخيم الأرطاوية الأتعس بمراحل - مخالبها فى روحي . لا أريد أن أتحدث عن قصيدتي ولا أريد أن أوضح لكنها كما تذكرين تحتفي بتفاصيل عديدة وتحمل ذاكرتها التلقائية.

رائحة الناصرية

* فى طفولتك النائمة حاولت أن تستقبل القادم بشيء مختلف، لكنك لم تستطع أن تستقبله إلا وهو معجون بالذاكرة البعيدة. ماذا تقول؟

- أقول، هكذا هو الأمر . حاولت في ديواني العربي اليتيم (حيث الطفولة نائمة) أن أستقبل " ولادة طال انتظارها " ولم يمنحني حظي المعطوب فرصة لذلك - بالمناسبة ما هو الحظ ؟ - لكن، لأكن متفائلا ولو لمرة واحدة فى هذا اليوم، فديواني حمل رائحة مدينتي العظيمة " الناصرية "، وهى ذاكرتي البعيدة القريبة، تلك التي تغفو آسرة على ذراع "فراتها النبي" كما عبّر شاعرها الفذ كمال سبتي ذات مرة، تغفو موجوعة بسبب الموت والمخاوف والإهمال.

اخترت قصائد منذ بداياتي فى النصف الثاني من عقد الثمانينيات، مرورا بـ "أفران رفحاء" حسب وصف الأديب العراقي على شبيب ورد الذى فاجأني ذات صباح برسالة يقول لي فيها "استيقظ أيها السومري، لقد أيقظتنا طفولتك النائمة" وأنا لم يسبق لي شرف المعرفة المسبقة، أو لقاءه لحد الآن .أقول فاجأني بدراسة نقدية لا أريد مدحها لأنها تتحدث عن ديواني، هي - وليكن مدحا منصفا، لم لا - دراسة رصينة، ذلك لأنها تعاملت مع النص وحده ولم تتفاعل مع علاقة من العلاقات . أما بقية القصائد فقد كتبت فى هولندا إلى حد عام 2004 وقت صدور الديوان بجهود الأديب العراقي نعيم عبد مهلهل المشكورة، وقد زينت غلافه الأخير كلمة للمبدع الكبير فاضل العزاوي . لكن وبسبب إمكانيات المدينة المحدودة وبسبب الظروف الصعبة المعروفة والتي طالت كل مناحي الحياة العراقية، لم يكن بالإمكان طباعته كما نعهد ونعرف فى المدن الهادئة، بل صدر بطريق الاستنساخ ، ووزع في المدينة على الأدباء والمهتمين بواسطة الأديب نعيم عبد مهلهل نفسه، وكانت مبادرته الجميلة بأن يصدر الكتاب أصلا.

* لكن، لم تقم بتوزيعه؟ أنا قرأته كاملا فى موقع جهة الشعر

- نعم، لم أقم بتوزيعه. هذا ليس مهما الآن، يكفى أنه صدر فى المدينة حيث تغفو طفولتي . وكما نوهت أنت فهو منشور - مختارات عديدة منه - فى كتب جهة الشعر منذ أكثر من عامين وبهذا فهو متاح للجميع.

الشعر والأرصفة

* ناجي، هل يمكن للشعر أن يجد نفسه فى أي مكان، حتى على أرصفة الشوارع؟

- الإنسان فى رحلته التي لا تتوقف ، دهشته التي لا تنطفئ، أصابعه التي تشير، فى كل مكان يتصفّح فيه كتاب الوجود. والأرصفة منبع للشعر دون شك، عليها تبحرين مع الكائنات، فتلمسين زهو العيون فى حالات الألق، أو ذؤابات الوجع فى حالات الانكسار، ابتسامة العشق ودمع الفقد، تصافحين ملامح الناس وهى تنضح بالطمأنينة والحياة فتركض بك الذاكرة إلى بيوت وأرصفة وشوارع لا تعرف معنى للأمان وتتساءلين، أية أقدار تدير هذى الأرض، أية هواجس ورؤى تدير طواحين العالم.

* كيف ترى الوطن "العراق " من بعيد؟

- لا كلمات يمكن أن تحيط بكارثة العراق ، الآن كارثة وكان كارثة أيضا، هو الآن كوارث وقد قدت أنيابها، أحقاد من قرون غابرة، أمراض قرون شهقت فى عقول آسنة، ثارات وأطماع وافدة وسموم تنتشر، لا ، لا كلمات عندي، وماذا ستفعل كلماتي أمام آلة الموت التي تدور؟؟