حاوره: عمرو رضا

حلمي سالمإشارة «جلطة المخ» لم تكن كافية ليدرك أن عقله سر محنته في مجتمع كلما سمع كلمة مثقف تحسس مسدسه.. وصرخته الشهيرة «يوجد هنا عميان» ليس لها ما يبررها.. فحلمي سالم الذي انشغل كثيراً بكتابة البيانات المساندة لأقرانه المفكرين في مواجهة طغيان التكفير لم يكن يدري انه سيطوله وهو يطل برومانسية من «شرفة ليلى مراد»... كان يخشى مقالب الأصدقاء فقط ولكنه أدرك متأخرا أن الشعر أخطر من أن يقال في هدوء وتأكد أن هناك من يبصر أخطار الاستنارة في أمة يراد لها أن تساق بنصوص السمع والطاعة.
معه كان هذا الحوار:

* كيف سيكون بمقدور المثقف العربي، في رأيك، أن يواجه قمع المؤسستين السياسية والدينية المتشددة معا؟

ـ أولا أظن أن التيارات الدينية، لم تكن لتصبح بهذه الشراسة إلا بدعم الاستبداد السياسي وإذا كان قمع الجماعات الدينية، باسم الله فقط، فقمع الاستبداد السياسي مزدوج: باسم الله، وباسم السلطة. فهو مضاعف، في هذه الحال، والمفارقة أن في عصر السادات ألغيت الرقابة رسمياً وقانونياً، لكن تغذيته وحمايته للجماعات الدينية أفشت مناخاً سياسياً دينياً صار فيه كل مواطن مصري رقيباً، باسم الدين وباسم الأخلاق الحميدة والثوابت والشرع. والمواطن (الرقيب) في ذلك مدعوم بالقانون، (قانون الحسبة)، الذي يعطي أي شخص الحق في أن يرفع قضية (عبر النيابة) على أي فيلم أو مسرحية أو قصيدة، يرى فيها مساساً بدينه ومن ثم مساساً به ولا بد أن نعترف أن المجتمع المصري يشهد منذ السبعينيات حالة انشطار وانقسام بين الفتوى الدينية والقانون، والحديث عن حماية الدستور لحرية الفكر والاعتقاد هو أيضا وهم يجب التخلص منه.

* ما هو الحل؟

ـ الحل هو الدولة المدنية، المطلوب الآن إنقاذ الدولة المدنية من براثن الدولة الدينية القائمة في مصر فعلاً.

* لكن الدولة المدنية لا تعني حرية الإساءة للذات الإلهية كما قيل في بيان أصدره 100مثقف إسلامي يطالبونك بالاستتابة؟

- أولا الإسلام لا كهنوت فيه ليقوم بعض المسلمين بتكفير البعض الآخر: «إن الله هو من سيحاسب الجميع وأنا رجل مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثانيا القصيدة التي كتبتها والتي هي موضع شكوى لدى البعض خالية من أي إساءة للذات الإلهية وأن الصفات التي وردت في القصيدة للرب يجب قراءتها في إطار الإبداع الشعري وليس من قبيل التفسير الحرفي لكل كلمة «إن الله أو الرب ليس شرطياً لكي يمسك الجناة بل يتركهم أحراراً لاختبار البشر واختبار إيمانهم والله بسيط خيّر يقدم العطاءات لبني البشر» هذه البساطة وهذا البعد الخيّر لدى الرب هما ما كتبته شعراً وما اعتبره البعض إساءة للذات الإلهية. ثم إنني لم أرتكب أي ذنب لأطالب بالتوبة ولا يحق لأحد طلب التوبة مني والأشخاص الذين وقعوا عريضة الاحتجاج ليسوا وكلاء الله على الأرض إذ لا وكيل لله، والدين ملك الجميع».

* هل يمكن الكلام عن الدولة المدنية دون السعي لتجديد الخطاب الديني؟

- الحديث عن تجديد الخطاب الديني لا طائل من إعادة تكراره، فهذا الخطاب تجدد طوال القرون الخمسة عشر الماضية عشرات المرات، والمشكلة هي عدم وضع هذا التجديد موضع التنفيذ، وغياب السلطة والإرادة السياسية التي يمكنها تنفيذ التجديد وتحقيقه؛ بسبب قوة وشراسة الفكر الرجعي وتحالفه مع السلطة السياسية القائمة والذي ينبغي فعله هو إلغاء الفتوى نهائيا والاعتماد فقط على القانون، وإلغاء ولاية الأزهر على الإبداع والفكر وإلغاء الحسبة نهائيا سواء للأفراد أم للنيابة العامة وتعديل المادة الثانية في الدستور، علاوة على مجابهة الفكر والرأي والمقال بمثيلاتهم وليس بالمسدس أو السجن.

* إطلاق الطاقة الكامنة في اللغة نعود إلى الشعر. البعض يعتبرك شاعراً خارج التصنيف فأنت تكتب القصائد السياسية الثورية المباشرة ومساهمًا في قصيدة النثر وتعود للرومانسية أحيانا ؟

- لا أعتقد أنني خارج التصنيف. فأنا أصنّف نفسي إذا كان لي أن أفعل ذلك، داخل إطار شعر الحداثة العربية، كما أنني أعتقد أن لي جهداً مبكراً في ما يسمّى (قصيدة النثر) فكان لي ديوان في العام 1977 بعنوان «دهاليزي والصيف ذو الوطء» واستمر هذا الخط في دواوين: «فقه اللذة» و«سراب التريكو» و«يوجد هنا عميان». ولكن الحداثة لدي ليست ديناً ولا شيكاً على بياض وليست «وصفة» جامدة أبدية ومن ثم فهي لا تمنعني من أن أذهب إلى الغناء أو إلى المباشرة، أو حتى إلى الشعر السياسي المباشر إذا اقتضى الأمر ولست أرى في ذلك عيباً كما يرى بعض الحداثيين.

* أنت من جيل السبعينيات الذي يسود الساحة الشعرية منذ وقت غير قليل.. بصراحة ماذا أضفتم للشعر العربي؟

- ربما كان هذا التحديد مهمة النقاد، ولكن أستطيع، مع ذلك، أن أقترح أن جيلي كله، وأنا واحد منهم، أضاف إلى الجيل السابق (الخمسينيات والستينيات) الاعتناء بفنية القصيدة، أي العناية الكبيرة بالشكل الفني، والأساليب الجمالية، وعدم الانطلاق من أن المضمون الجيّد وحده يضمن قصيدة جيدة، وأضاف جيلي، كذلك، النزول بلغة الشعر من السماء إلى الأرض، وأيضاً ما يمكن أن نسميه إطلاق الطاقة الكامنة في اللغة (تفجير اللغة) وفيما يتعلق بالأجيال التالية، أظن أننا أفدناهم واستفدنا منهم، بحيث نزعم أننا جميعاً ربما نكون قد انتقلنا بالشعر نقلة ملحوظة بدون نفي أو إقصاء أو ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة الوحيدة أي بدون المفهوم المنحرف لقتل الأب، أو قتل الابن فالقطيعة المعرفية الصحية ليست إقصاء السابق كما يتوهم البعض بل هي إدراكه ثم تمثّله، ثم تجاوزه.

* قصائدك الأخيرة ذاتية وترسخ لمفهوم سقوط الايديولوجيا.. هل هذا نهاية الأفكار كلها؟

- أعتقد أن الايديولوجيات لم تسقط، بل إننا في ذروة الأيديولوجيات وإلا فما الذي يحدث في إيران وأفغانستان والعراق وفلسطين وفي الولايات المتحدة هذه سطوات كبرى للايديولوجيات الكبرى. إن فكرة سقوط الإيديولوجيات كذبة أميركية لكي لا يبقى سوى الايديولوجيات التي تعينها أميركا للعالم، فكرة سقوط الايديولوجيا هي إيديولوجيا كبرى نفسها إذاً، فلا الايديولوجيات ولا القضايا الكبرى ذهبت وكل ما حدث بالنسبة إلى الشعر ثلاثة أمور أولها، هو تغير (المدخل) إلى القضايا الكبرى، فبدلاً من أن يدلف إليها من مدخلها الرئيسي أو المركزي أو المعلن، صار يدلف إليها من مدخلها الثانوي أو الجزئي أو الهامشي أو المسكوت عنه وهذه بالضبط، هي فكرة سقوط المركز وصعود الأطراف، سقوط المبنى وصعود الهامش. ثانيها، أن الشعر (العربي تحديداً) لم يعد ديوان العرب، وذلك طور إيجابي في رأيي وليس سلبياً. لأن الشعر العربي كان ديوان العرب، عندما لم يكن لدى العرب مؤسسات للفكر أو الإعلام، أو الجغرافيا، أو الطب، أو الفلسفة، أو الأجناس، أو الدعاية فكان الشعر ينهض بكل ذلك، فلما قامت المؤسسات في العصر الحديث، أخذت كل مؤسسة من الشعر مهمتها التي كان يقوم بها عنها ولم يتبق للشعر سوى شعريته وذلك هو الطور الايجابي الرفيع الذي آل إليه الشعر.
ثالثها، لما صار الأمر كذلك، أصبح الشاعر في مواجهة نفسه وذاته، وأحلامه، وبشريته الضعيفة البسيطة وصار معيار الشعر الجميل لا مجتمعيته، ولا حمله لقضايا شريفة، ولا تعبيره عن التحولات الكونية.

* ذكرت أن الشاعر الحديث أكثر التصاقاً بالتعبير عن قضاياه الذاتية وهذا يعيدنا إلى السؤال هل ابتعد الشعر عن القضايا الكبرى؟

- لا يمكن أن تهجر القضايا الكبرى، الشعر أبداً، أو الفن عموماً ما يختلف من عصر إلى آخر، هو طريقة التناول لا شعر بدون قضايا كبرى، قديماً أو حديثاً ما يتغير هو منظور الشاعر لهذه القضية الكبرى، والبقعة التي يسلط عليها الضوء، والمسافة بين الناظر والمنظور. لذلك، قيل: لا جديد تحت الشمس، بمعنى أن طريقة التناول وزوايا النظر هي التي تختلف أما القضايا نفسها أو الهموم فثابتة طبعاً نعرف، فلسفياً، أنه حينما تتغير طريقة النظر وزاويته إلى قضية بعينها، تتغير القضية، إذ لا تعود هي نفسها وأظن أن الحيلة الدائمة هي ما لخصه أبو حيان التوحيدي ذات يوم حينما قال: إن البلاغة هي تصغير الأشياء الكبيرة أو تكبير الأشياء الصغيرة. إذاً، في كل فترة يجري التعامل مع هذه المعادلة التوحيدية بمعدولها أو بمقلوبها نحن الآن في الجزء الثاني من هذه المعادلة، أي تصغير الأشياء الكبيرة ولذلك، نعم تستطيع قصيدة النثر (وهي المتشظية الهامشية الوجودية الذاتية والطرفية) أن تعبر عن القضايا الإنسانية الكبرى باقتراحات جديدة، فنياً وإلا كيف تصف شعر محمد الماغوط، وشعر أمجد ناصر، وشعر قاسم حداد، وكثيرين غيرهم، إذ نجحت قصيدة هؤلاء في مناوشة أو معالجة القضايا الكبرى ولكن من مدخلها الصغير المسكوت عنه، الذاتي، والنقطة العمياء في النفس.

أوان- الكويت
الاثنين, 3 ديسمبر 2007