وخسرنا معركة التنمية كما خسرنا معارك الاستقلال والوحدة الوطنية

حاوره: إبراهيم العريس
(لبنان)

لعقود أربعة من السنين، يعتبر فواز طرابلسي واحداً من أبرز وجوه اليسار غير الستاليني في الحركة التقدمية العربية في شكل عام، وفي الحركة التقدمية اللبنانية بوجه خاص. منذ البداية، كان طرابلسي واحداً من الذين أضفوا على حياة الفكر اليساري العربي مسحة تجديدية ثقافية وفكرية أثرت في كثر وكان لها دورها في اجتذاب قطاعات عريضة من المثقفين اللبنانيين، والعرب «المترددين» على الفكر التقدمي. من هنا، حين راح، منذ سنوات – وتحديداً منذ انهيار المعسكر الاشتراكي وانهيار الحلم الاشتراكي العربي بالتالي – يزيد من اهتمامه بالكتابة عن الإبداع الفني والثقافي، على حساب التحليلات السياسية والأيديولوجية النظرية التي كان واحداً من أبرز كتابها ومترجميها، لم يجد نفسه، مثل آخرين من طينته فعلوا الشيء نفسه، في ارض غريبة. ومن هنا كانت كتبه الكثيرة المتلاحقة عن لوحة «غيرنيكا» أو عن «فيروز والرحابنة»، أو عن «احمد فارس الشدياق» ومن خلاله عن الفكر النهضوي في شكل عام، أو كتبه الأخرى عن ذكرياته الشخصية، نصوصاً تقرأ بشغف كشهادة على المزج الخلاق الذي كان بدأ لديه باكراً بين الثقافي والسياسي. ومع هذا لم يخل الأمر من معلقين، وجدوا – عن حق غالباً – انه حتى في تحولاته، غير الجذرية هذه، ظلت للسياسي غلبته على الثقافي.
مهما يكن، فإن تلك التحولات لم تعن أبدا ان فواز طرابلسي ابتعد كثيراً عن السياسة، وعن الفحص السياسي المباشر على ما يجد من أحداث في العالم العربي، ولا سيما في لبنان، حين اشتغل – ولا يزال – على نبش عميق في حفريات ما يحلو للبعض تسميته بأيديولوجينا الكينونة اللبنانية، متوقفاً عند ميشال شيحا في كتاب ظل فريداً في ميدانه إلى الآن.
انطلاقاً من هذه الهموم الثقافية – الأيديولوجية – المسيسة دائماً، كان من الطبيعي ان تتجه الأسئلة التي طرحتها الحياة على فواز طرابلسي، صوب ما هو ثقافي في السياسة، وما هو سياسي في الثقافة، وخصوصاً من خلال الدور الذي لعبه/ لم يلعبه الفكر العربي في التاريخ الراهن لهذه المنطقة من العالم. وكان من الطبيعي أيضا، ان تأتي أجوبة فواز طرابلسي، في معظمها، على شكل أسئلة بدورها تطرح على العربي قارئاً، مثقفاً ومناضلاً.
وهذا «الحوار» يندرج ضمن إطار الحوارات التي تجريها «الحياة» مع عدد من ابرز المفكرين الفاعلين في الحياة الفكرية العربية الراهنة، محاولة من خلالها ان تساهم في رسم خريطة للمناطق التي يقف فيها الفكر العربي حالياً، وفي تماس مع ابرز القضايا التي تشغل الإنسان العربي مثل الآخر، ودور الثقافة، وقضايا التنمية، والإرهاب والسلطة، ومصير الفكر في عالم بات الفكر الحقيقي ينحو أكثر وأكثر إلى الانمحاء أمام لغة الإعلام والسياسة الشعبوية. وكانت حوارات «الحياة» هذه، طرحت أسئلتها على مفكرين عرب في شتى المجالات، من الدكتور سمير أمين إلى جورج طرابيشي إلى الطاهر لبيب وتركي الحمد وعلي أومليل وبرهان غليون وغيرهم.

* يرى كثر ان الوضع العربي محزن، مبك، مقلق أو على شفير الهاوية. ترى كيف تنظر إلى هذا الوضع أنت الذي ترصده منذ أربعين سنة على الأقل، ولك في الأمر مساهمات عملية ونظرية تجاوزت دائماً حدود بلدك لبنان؟ هل ترى الصورة مرعبة مثلاً؟

- في ظني ان التعميم ليس سهلاً وليس منطقياً بالنسبة إلى أي نظرة يمكن ان تلقى على الأوضاع العربية. قد يكون هذا المقدار من الوصف حزيناً وسوداوياً، لكنه قد يكون صحيحاً أيضا. لكن المهم هو الوصول دائماً إلى القبض على ما يحصل حقاً من تحولات في الوضع العربي، لفهم الحقائق. وأعتقد بأننا مقصرون في إنتاج المعارف اللازمة حول هذا الوضع، من هنا ميلنا إلى الإكثار من الأوصاف والإقلال من المعارف. وإذ ابدي هذا التحفظ، اعتقد بأننا نعيش في دوائر متداخلة، ربما يكون من الأفضل تسميتها باسمها. وفي المقام الأول لا بد من القول ان الحداثة في بلادنا انكسرت، والى حد كبير خسرنا معركة التنمية كما خسرنا معارك الاستقلال الوطني والوحدة الوطنية. ولن أدخل هنا في التفاصيل أو تفاصيل الأسباب. الأساس هو أننا نعيش في منطقة تختزل بأمرين: النفط وإسرائيل. ولا يجوز الإقلال من اثر هذين العاملين في حياتنا. وعندما أقول النفط اعني انه فاتنا وضع النفط في خدمة انتقالنا إلى العصر الحداثي، بل تحولت هذه الثروة إلى إحدى العقبات الأساس في وجه نمونا إذ خلقت حالاً ريعية ارتبط بها الاستهلاك، ما أنتج تقلصاً لمفهوم العمل والإنتاج. أتحدث عن دوائر مختلفة وليس عن البلدان المنتجة للنفط. ما اعنيه هو، بخاصة، وضعية البلدان غير المنتجة للنفط، حتى لا أتحدث عن بلدان مزجت بين الطاقة البشرية والقدرة النفطية، مثل العراق قبل ان يبدد نفسه ويبدَّد. المهم ان هذا الواقع يجعلنا في حال من الاستهلاك عالي الوتيرة لأشياء العولمة، ومن دون بنيان يسمح لنا بالانتقال من حال الاستهلاك إلى حال الإنتاج، وهذا ما يجعلنا نقدِم على العالم المعاصر وهو في طور ما بعد الحداثة.
ومن دون توصيف أين موقعنا في العالم، لن نقدر حتى على طرح الأسئلة الحقيقية. وهنا يلفتني ان كثراً من المثقفين العرب يستمرئون، بوحي من الهيئات الدولية، الأكثر من الاقتراحات التي أساسها السؤال النهضوي: لماذا تقدم الغرب وتخلّف العرب والمسلمون؟ وسؤالي الشائك هو لماذا نقارن حالنا اليوم إحصائيا بالدول الغربية لنستنتج أننا متخلفون؟ الأهم ان نقارن ما نحن عليه الآن بما كنّاه. وهناك أمر آخر: نكاد ان نكون في إحدى المناطق القليلة في العالم التي تتراكب فيها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية مع مشكلة الاستبداد، والمشكلة الوطنية القومية. وليس خبراً جديداً ان نقول ان لدينا آخر وضع كولونيالي في العالم، هو الوضع الفلسطيني الذي لا يعني الشعب الفلسطيني وحده، إنما يعني – على الأقل – الجزء الأكبر من المشرق العربي وأجزاء من الخليج والجزيرة. وهذا التراكب بين عدد من المشكلات هو الذي يطرح علينا التحدي الكبير. إنه تعقيد لا تنفع معه مهمات وحدوية تبسيطية أو شعارات مثل «لا صوت يعلو...»، أو هذه المقايضة التي بتنا محكومين بها: إما ان تكون ديموقراطياً فتهمل المسألة الوطنية والقومية، وإما ان تكون وطنياً وقومياً فتؤدلج الاستبداد والقمع والديكتاتورية وتبررها. هذا كله يخلق مشكلات هي تحد كبير مطروح على الفكر العربي وعلى المعرفة... هو ليس مسألة سياسية مباشرة فقط. ولنضف إلى هذا أننا نعيش ونعاني في ظل الانفراد الأميركي، وما يعنيه من عولمة الأمن و «الحرب» بين الإرهاب والحضارة، الحرب التي تشكل منطقتنا مسرحها الرئيس، ما يجعل الاحتلال الأميركي للعراق احد تعبيراتها الأساسية. وفي اعتقادي، تدمير العراق، بحجة التخلص من صدام حسين، كان في المقام الأول تدميراً للدولة العربية كمفهوم...

أي لحاق بالغرب؟

* يُفهم من كلامك ان الأمور باتت أشبه بقدر متكامل الحلقات لا رادّ عنه، وأننا بتنا ضحية عدم قدرتنا حتى على إبداء أي رد فعل، ناهيك بالقدرة على الفعل. غير ان ثمة رؤية تاريخية تقول انه قبل عصر الانقلابات العسكرية، كان هناك عصر ليبرالي حامل بآمال أنعشت المسألة الوطنية رابطة إياها بما هو أساسي: المسألة الديمقراطية. ثم تبخر جزء كبير من هذا إن لم نقل كله... أليست ثمة أخطاء ارتُكبت بصرف النظر عن دور العوامل الأخرى؟

- الرؤية النهضوية الليبرالية التي تشير إليها كانت أساسا قائمة على فكرة اللحاق بالغرب، وهي فكرة مستحيلة في نظري. فالغرب لا يمكن اللحاق به من دون وسائل ضرورية. النهضويان الأساسيان محمد علي باشا وجمال عبدالناصر، انطلقا معاً من فكرة بسيطة مفادها ان النهضة معناها ان تعيد، في ظروفك الخاصة، انتاج ما حققه الغرب بفضل ثورات صناعية وسياسية وثقافية. حتى هذه الفكرة البسيطة تخلينا عنها لاحقاً وهزمت.

* من الذي تخلى عنها؟ الشعب؟ المثقفون أم الانقلابيون والعسكريون أم الأحزاب العقائدية؟ لقد تغير شيء ما، وصار ثمة نكوص عن إتباع الرؤية النهضوية التي كانت مشروعة، وإن غالت كثيراً في طموحاتها أو أطروحاتها. كان ثمة مَن ضرب هذا كله، مَن تخلى عنه...

- عوامل تضافرت كانت على علاقة بذلك النكوص. إنها مجموعة من العناصر التي تداخلت في بنية المنطقة وعلاقتها بالعالم. ولعل أولها التضحية بالمساهمة الشعبية في عملية التنمية، ثم كان تبرير الاستبداد تحت شعار ان المعركة الوطنية معركة عسكرية. وثالثاً هو ان الأنظمة من النمط الحزبي البعثي والناصري، نابت عن الجماهير وتحدثت باسمها فكان ان أُنتجت طبقات جديدة قضت على طبقات تقليدية من ملاّك الأراضي وصف واسع من الارستقراطية التجارية المدينية، ما أنتج طبقات هجينة استندت لاحقاً إلى الأمن والعسكر لحماية مصالحها السياسية، ولكن التجارية الضيقة أيضا. لكن هذا كله هو نصف الصورة، أما النصف الآخر فتشغله الأنظمة التقليدية التي كان همّها الحفاظ على الأوضاع القائمة. وأسفر هذا كله مع مرور العقود عن اصطفاف جديد، أوصل الأمور إلى جمودية أُلغي معها دور الفئات والقوى الاجتماعية ذات المصلحة الحقيقية في التنمية والتقدم.

* نعود إلى موضوعنا الأساس، الفكر العربي. هذا الفكر انتفض أواخر القرن التاسع عشر مع الغزو الإنكليزي لمصر، ليكون خطوة في الصورة الفكرية التي قامت في ضوء احتضار الإمبراطورية العثمانية ثم موتها، ما حوّل الفكر الإسلامي إلى فكر عربي. ثم مع هزيمة 1967، حدث شرخ جديد في العالم العربي، فكانت نهضة فكرية نقدية عربية تمثلت في افكار وكتابات جديدة مشبعة بالنظر النهضوي الجديد. ولكن مع هزائم تسعينات القرن العشرين، لم نعد نرى أي رد فعل فكري، لماذا في رأيك؟ لماذا كان رد الفعل عام 1967 أقوى وأبعد اثراً من رد الفعل في التسعينات؟

- حتى الآن هناك تيار جارف يحدونا جميعاً إلى القول انه يلزمنا بنهضة جديدة تختلف عن كل ما عرفناه سابقاً من افكار نهضوية. وفي تفكير ضروب النهضات الفكرية السابقة، كثير من التمني الساذج. ذلك ان ما يحلو لنا تسميته بالنهضة، سواء أكانت أولى أو ثانية، إنما هو مجموعة مسارات رحنا نؤرخ لها، أو نحاول تجميعها بعد انتهاء مفاعيلها التي ظلت فكرية بحتة. في المقابل، السؤال الأساس حالياً هو: أين نحن الآن؟ هناك ردود فعل مشروعة على الوضع، على المستويات الثقافية والفكرية، لكن التبسيط يكون في ذلك التمني الذي يرى ان كل انتكاسة لا بد ان تكون في مقابلها نهضة. والحقيقة ان ليس حتمياً ان تنتج كل كارثة ثقافة ترد عليها. وهذا يصح خصوصاً اليوم، إذ علينا ان نتنبه إلى ان المثقف كأستاذ مدرسة، كمثقف الضيعة، انتهى في سنوات السبعين من القرن الفائت. وهو كان على أية حال غير المثقف الغربي الذي حين تحرك، اشتغل على غرس العلمانية قبل أي شيء آخر.
عندنا هذا المثقف انتهى... وهو كان معزولاً حتى حين كان موجوداً. انتهى اليوم وحل محله الإعلامي. وكان هذا طبيعياً، بعدما عبّر من كان يسمى المثقف العضوي، عن نفسه بالتزام حزبي عقائدي، أفقده – غالباً – القدرة على التفكير الخلاّق. مهما يكن، فإن المثقف أو المفكر كان دائماً يرى نفسه غاضباً مهموماً ناقداً. كان ميالاً إلى المعارضة على أساس ان حياة المثقفين حياة نقد ومعارضة، بالتالي كان من الطبيعي القول أن مثقفي الأنظمة كانوا دائماً قلة. ومع هذا سنجد لو تبحرنا في الأمر ان مثقفين كثراً مالأوا الحكام، من دون ان يتخلوا عن «المعارضة»، في معنى ان مفكراً من هذا البلد مثلاً، كان يمكنه ان يعارض هنا، ويبرر لحاكم الجوار ما يفعله. اليوم يبدو هذا كله وكأنه تم تجاوزه. وفي الأحوال كافة، لست من الميالين إلى إضفاء صفة الضمير على فئة اجتماعية معينة، ولو كانت فئة المثقفين... الأمر يتعلق بمفاخرة بالذات، وليس بواقع حقيقي ذلك الربط بين فكرة أن المثقف ميدان عمله الذهن والذهن، يساوي الضمير والشرف والأخلاق.

جلد الذات الدائم... لماذا؟

* الحديث ينحصر في تلك الثقافة النقدية التي أمام هول الكوارث والهزائم، كشفت ان علينا كشف العيوب وضروب التقصير في صفوفنا، وليس تحميل الغرب والآخر وزر مصائبنا. طلع مفكرون اشتغلوا على سبر أغوار الإيديولوجيا العربية المعاصرة، وآخرون اشتغلوا على النقد الذاتي... كلها أفكار أوضحت أننا لسنا، كما كنا نعتقد، منزهين عن هزائمنا، وأن الآخر هو دائماً السبب. أفكار قالت ان الغرب، وحتى إسرائيل استُخدما مشجباً نعلق عليه تقصيرنا...

- ان هناك ظروفاً غير صحية وضعتنا أمام الاستقطابات التي تشير إليها، كأننا مجبرون على القول ان كل مصائبنا آتية من الخارج، أو كلها من عندنا. ان الفكر النقدي الحقيقي المطلوب هو ذاك الذي يعطي كل ذي حق حقه من دون «كليشيهات» مرسومة سلفاً. وما اعنيه، مثلاً، ان ليس ثمة مؤامرة دولية منذ وجد التاريخ، مهمتها الدائمة ان تخرب أوضاعنا، وفي المقابل ليس ثمة فائدة ترتجى من فكرة جلد الذات في صورة دائمة. خذ مثلاً اليساريين، أنهم لا يزالون بعد 15 سنة على انتهاء الاتحاد السوفياتي يبحثون في ضرورة النقد الذاتي أو عدم ضرورته. المهم أن تراجع أفكارك وتاريخك من دون انتظار، أما أن تقف وتكرر الدعوة إلى النقد الذاتي، صباحاً ومساءً، فما هذا إلا إعلان إفلاس لا يعترف بنفسه.
خذ كذلك مسألة الأقليات في العالم العربي. أنها مسألة شائكة تقول دائماً بضــرورة الاشتـغال عليها، لكننا لا نفعل، في الوقــت الذي صــار موضوع الأقليات موضوعاً أثيراً للتـدخل في المنطقــة. ان هذه المسألة نموذج حـي لتـرابط الداخلي والخارجي... ونموذج أيضا لصعوبة التفكير في بعض المسائل العربية الشائكة الآن. التفكير في كيفية النفاد من داخل الثنائيات المطروحة، وأرى اليوم ان العدو الأكبر هو هذه الثنائيات (مثل الخارج/ الداخل، التقدم/ التخلف، الماضي/ المستقبل... الخ) التي يساهم الإعلام في الترويج لها. أين هو الشارع العربي الآن، مثلاً؟ هذا سؤال افتح أي قناة تلفزيونية سيذهلك مدى تبسيطه.

- ان المسألة النقدية نفسها لم تعد بسيطة كما كانت حتى 1967 وكما كانت بخاصة في 1948 (ضياع فلسطين) حين قامت مدرسة تصرخ باحثة عن أسباب الهزيمة في عناصرها الداخلية. في الحقيقة، إذا كان عدونا هو الذي هزمنا، فتلك هي وظيفته. لماذا ألومه؟ السؤال الأساس هو: ماذا أفعل في مواجهة ذلك. ذكرت سابقاً مثال العراق فقط لأقول إنه إذا كان الاحتلال مسؤولاً عما حدث، فليس وحده المسؤول. هناك أيضاً نظام صدام حسين وتراكمه، وهناك الحكام الحاليون. هذا يعقّد مهمة الفكر النقدي، لكنه لا يلغيه. النقد الذاتي ليس معناه تبرئة الآخر، أو تبرئة الخارج. فلأننا، إلى هذه الدرجة، مجدولون بالوضع العالمي، ولأننا قريبون من أوروبا، ونبيع نفطنا ونحصل على رساميل الغرب، الأكيد أن شغله الأساس سيكون استرجاع هذه الرساميل. أما نحن، فإن لم نع هذا، إن لم نع موقعنا وهويتنا، فلن نصل إلى أي ضوء في آخر النفق. وكي أعود إلى سؤالك الأساس، أقول إن أهم تحد نواجهه الآن يكمن في إعادة انتاج النقد الذي برز في 1967، إنما وسط ظروف شديدة الاختلاف، أهمها ينبع من الانهيار الكبير للعوالم التي أنتجت 1967. والمنطلق الأساس يكمن في سؤال بسيط المظهر: هل انتصار الرأسمالية على بديل لها عاش طوال قرن، يعني أن أفق التاريخ بات ملكاً للرأسمالية فقط؟ ثم، هل ان المعادين للرأسمالية، كانوا يعادونها فقط لأنهم كانوا يحبون الاشتراكية والعكس بالعكس، في معنى أنهم مالوا إلى الاشتراكية لأنهم ضحايا؟ مثل هذا القول يمكن أن يكون نوعاً من التبسيط، كما أن من التبسيط القول، مثلاً، إن عصر الإيديولوجيا انتهى، وإن كان من السذاجة أن تصوغ لاهوتاً فكرياً انطلاقاً من السوق وتقول: هذا اسمه أيديولوجيا. السؤال الأساس اليوم، والذي يشكل تحدياً فكرياً مهماً، هو: كيف تفكر رأسمالية ما بعد الحداثة؟ ثم، المطلوب مثلاً الحديث عن الدولة القومية ثم القفز فوقها؟ أفلا نلاحظ أن العالم يتوحد الكترونياً، لكنه يتفتت أكثر وأكثر إلى ما هو دون القومي؟ وما معنى إشكالات الهوية المرمية علينا، وكأن الشيء الوحيد المطلوب، لمجابهة العالم، هو أن تعرّف بهويتك؟ ماذا تفعل الهوية؟ هل تردك إلى أصل خرافي؟
هذا الاحتدام لكل هذا النوع من الأسئلة، هو اليوم جزء أساس من الفكر المنتمي إلى عصر العولمة، حيث يصبح واحداً من الأجوبة الأهم حل مسألة القوميات والأقليات، ولو لمجرد أن تمنع توظيف مثل هذه المسألة ضدك. وفي رأيي أننا نستطيع هذا. لماذا لا نستطيع؟ هل من الضروري، مثلاً، أن تصل مسألة الأمازيغ (البربر) في الجزائر إلى التفجر، لمجرد أننا لا نريد أن نعترف بحق سكان أصليين في البلدان يتكلمون لغتهم؟ هل من الضروري حمل كل هذه الأكفان والتوابيت في العراق، لمجرد الشعور بأن ثمة أكراداً يريدون أن ينفصلوا؟ ماذا إذا تذكرنا أن الانتخابات العراقية الأخيرة أثبتت أن الغالبية العظمى من الأكراد لا سيما القيادات الكردية، لا تريد مبارحة الوطن العراقي؟
أمام مثل هذه الأوضاع، لا يبدو لنا جلياً أن الفكر النقدي العربي لم يفق بعد من صدمة حرب الأيام الستة، ووعيه ضرورة النقد بعد هزيمة 1967!

الشعب والمفكرون

* أشرتَ إلى أن المثقف العربي حل مكانه الإعلامي، لكننا نعرف أن المفكر النقدي مشاكس عادة، أما الإعلامي فيخضع لألف اعتبار واعتبار، وإن بحثنا مسألة الرقابة وتمويل وسائل الإعلام جانباً. ولنقل انه يخضع أول ما يخضع إلى مزاج الرواج العددي، أي مزاج الجمهور العريض، وهو مزاج إحباط وتخبط من منطلق العداء للغرب والعداء لكل ما يمت إلى الحداثة بصلة. وقد يصل إلى تبرير الإرهاب إن لم يكن إنتاجه، فمعظم الإرهاب لا ينتج اليوم من جانب الدول أو الأنظمة، بمقدار ما ينتج على صعيد الإحباط في المجتمعات. في مثل هذه الوضعية أين يقف، إذا، المثقف المتنور، ولا أقول التنويري، لما تحمله هذه الكلمة من معان رسولية استعلائية لا نريد الخوض فيها؟

- ولا مرة في التاريخ كان الدور الوحيد للانتقال، بالضرورة، دور الريادة الثقافية، في أحيان كثيرة تكون هناك مبادرات شعبية...

* أين؟ أعطِني مثلاً...

- في أي مكان. خذ مثلاً النهضة الأوروبية. إن ثمة تصوراً ميكانيكياً لها ينسى أنها قامت في القرن السادس عشر، لكن تطبيقها العملي لم يتم إلا في القرن الثامن عشر، فما الذي حدث طوال قرنين؟ يقيناً ان المثقفين لم يقضوا وقتهم يمارسون النهضة حتى اطلوا على القرن الثامن عشر ونهايته، كي لا نتكلم على القرن التاسع عشر...

* في كل المسيرات كان المثقفون هم القادة، من مارتن لوثر إلى لينين وتروتسكي، مروراً بالمتنورين الفرنسيين...

- ليس هذا الكلام دقيقاً، وإن حملته كتب التاريخ جميعاً. إن جزءاً من مأزقنا الحالي يكمن في أن المثقفين فقدوا اتصالهم بالناس، وأصبحوا شبه طائفة أو شريحة، تقودها غريزتها إلى الدفاع الدائم عن نفسها، بالتالي تصبح أكثر توهماً في تقدير دورها. خذ الثورة البروتستانتية مثلاً – حيث أنك تذكر دور مارتن لوثر – هذه الثورة لم يكن لها أي معنى لولا الحروب الفلاحية التي قامت في ألمانيا ثم اتسعت لتشمل مناطق أوروبية. في أحيان كثيرة تنتج الحركات الشعبية مثقفين، أما العكس فليس صحيحاً إلا في مرات نادرة.
الآن، واضح أن قسماً كبيراً من المثقفين انفصلوا عن الحركات الشعبية، وهذا وضع شديد الخطورة لأنه يجعل السلوك العفوي تحركاً – إذا قام – لا وعي له، بالتالي تحركاً في منتهى الخطورة. ومع هذا، لاحظ أننا من أكثر مناطق العالم إنتاجا للندوات والمؤتمرات، لكنها دائماً تنطلق من «موضة» فكرية ما سرعان ما تُتبع من دون بحث أو تمحيص. في المقابل خذ مثلاً مسألة الديموقراطية، كل الناس تعلن حبها للديموقراطية وأنها تسعى إليها. وهناك كتب وندوات ودراسات حولها، لكنني إذا أردت أن أصل إلى الديموقراطية، عليّ أولاً أن أتخلص من الاستبداد، فماذا تعرف عنه؟ أين الكتب والدراسات والندوات عنه في المدن العربية؟ محاسن الديموقراطية كثيرة، ولكن أين الاستبداد ومساوئه في البحوث والندوات؟ ليس هذا سوى مثال على الانفصال المتزايد بين الفكر والناس.
لا للعصور الذهبية

* السؤال يبقى: ما العمل؟ نحن في حاجة إلى معرفة حقيقية ولكن كيف نصل إليها. كيف يمكن للناس أن ينتجوا المعرفة التي يحتاجونها؟ ومن أي طريق، من الإعلام أو الجامعات أو دور العبادة أو الفنون...؟

- سؤالك يبقى سؤالاً خاصاً. لأنه، بصرف النظر عما إذا طرحناه وأجبنا عنه أو لم نطرحه بالتالي لم نلق جواباً، هناك أمور تسير في طريقها، بنا أو من دوننا. فالناس يبدعون، ينتجون ما يشاؤون من ثقافة وفكر. نحن نتحدث دائماً عن أزمة وأزمات، لكن الحقيقة ان الإبداع والتحرك والفكر لا تتوقف، ولا تنتظر أجوبتنا كي تتحرك. أما الجواب عن سؤالك «ما العمل» فأعتقد بأنه جواب تاريخي وبسيط: كيف يمكننا أن نتساعد معاً، أنا وأنت وكل الناس، لتجاوز المرحلة الانتقالية التي نعيش. وأرى أننا نعيش مرحلة انتقالية، ودائماً ما يعيش الناس مراحل انتقالية... أما أنا فلن أقدم اقتراحات إلا إذا كان سؤالك محصوراً في مستوى البعد الثقافي فقط...

* أنت ماذا تفعل؟ وماذا يمكنك ان تفعل؟

- إنني إنسان محظوظ بمعنى أنني نجحت في أن اجمع الممارسة السياسية مع نشاط فكري وثقافي، وعمل تخطى حدود لبنان. فإذا استثنينا التعليم الذي هو في حد ذاته مهنة ووظيفة معاشية وتربوية، تراني أسعى منذ سنوات طويلة إلى أن أضع تجربتي بتصرف من يحب أن يطلع عليها، وأضعها في شكل مقالات وروايات عن الحرب ويوميات تتراوح بين النصوص السياسية والأدب والنقد، كأن انقد الفكر العربي السائد، أو الفكر اللبناني. وحين أتحدث عن التاريخ، أفضل أن أتناول الميدان الذي أنا اقرب إليه الآن، أي لبنان. بالتالي أعكف على إنتاج أعمال منها ما هو حول لبنان الحديث، هذا التاريخ الذي لم يُكتب حقاً منذ أربعين سنة.
أنا أغامر عند التخوم المشتركة بين الاختصاصات، في كتابات مقرونة بقسوة مقصودة على الذات. فإذا كنت أؤمن بأن على الجيل الجديد أن يعرف أن الآباء عاشوا أياماً كانت فيها أمور كثيرة ممكنة، عليه في المقابل ألا يتوهم بأنه كان ثمة عصر ذهبي يمكن استعادته. فالعصور الذهبية غير موجودة، والزمن لا يمكن أن يتقدم إلى وراء.

الحياة
19/02/2007