وروائحه وأصواته أكثر حضورا

حوار: حسين نشوان
(الأردن)

أمجد ناصريرى صاحب خبط الأجنحة ان الشاعر هو ابن تكوينه الأول، يظل يحمل سماته كما الوشم الذي يلتصق بالجسد الى الأبد، وان الذاكرة تلعب دورا في إبقاء ملامح من الماضي حية، وتجد طريقها الى التعبير الأدبي أو الفني.
ويقول الشاعر الأردني امجد ناصر المولود في الزرقاء العام 1955 ان من الظلم ان نقيس الشعر على نبض مكانه، فهو له نبض من نوع آخر، تتطلبه التجربة الشخصية تتصل بالحالات التي يمر بها الشاعر، والحاحات ذاكرته.
وأشار الشاعر الذي يعد واحدا من رواد الحداثة الشعرية و قصيدة النثر وصدر له الأعمال الشعرية عن المؤسسة العربية للنشر 2002 الى انه لا ينظر الى المكان في القصيدة بوصفه جغرافيا مطابقة لجغرافيا الخريطة، غير ان أهم صلة بالمكان هي تلك المتضمنة في تلافيف النص وطبقاته الداخلية.
ويرى صاحب حياة كسرد متقطع و 2005 ومرتقى الأنفاس وخبط الأجنحة.. سيرة المدن والمقاهي والرحيل وتحت أكثر من سماء ومديح لمقهى آخر ووصول الغرباء.ان أفضل النصوص هي تلك التي استبطنت الأمكنة، فالمكان ليس جغرافيا فقط انه حياة متواصلة.
ويقول الشاعر الأردني المقيم في لندن ويعمل مديرا لتحرير يومية القدس العربي إنني استطيع من خلال ذاكرتي ان أعيد تأسيس بيتنا مرة ثانية كما كان،. وهذا ما يفسر بقاء تلك الإحالات في كتاباتي الى الماضي، أو الى أمكنة الخطوة الاولى. وان اغترابي الطويل الذي تجاوز ثلاثين سنة جعل صور الماضي وروائحه وأصواته أكثر قوة عندي مما هي عند شعراء يقيمون في بلدانهم وبين ظهراني أهلهم وذويهم.
وحول تجربته الشعرية والقصيدة عموما وفوزه بجائزة المنتدى الثقافي اللبناني مؤخرا، تاليا الحوار:

* تشكل الجائزة اعترافا بالمنجز الإبداعي وتقديرا له، وهي من جهة تمثل مرحلة مهمة في مسيرة المبدع، ماذا تعني الجائزة للشاعر امجد ناصر، ما الذي تمثله جائزة المنتدى الثقافي في مسيرتك ؟

- أي جائزة هي من حيث المبدأ تقدير لعمل أو منجز في أي حقل كان، هناك جوائز على أعمال منفردة وهناك جوائز للانجاز العام، ولا فرق في نظري بين هذه الجوائز إذ ان المقصود هو توجيه تحية أو تتويج مسيرة ما بلفتة تقدير وعرفان، هذا ما افهمه من أي جائزة وهذا ما اعتقده بخصوص جائزة المنتدى الثقافي اللبناني في باريس التي استهلت دوراتها بتقديم جائزة الإبداع اللبناني لادونيس ثم كرت السبحة، فهي ليست أكثر من لفتة تقدير لعمل شعري منشبك في السياق الشعري العربي وجدالاته منذ نحو ثلاثين عاما هو عمر قصيدتي اليوم.

نبض القصيدة.. والحياة

* صحيح ان القصيدة ليست صورة فوتغرافية للواقع، الا ان نزعتها الحداثية وميلها لاستيعاء السرد يجعلها أكثر قربا من التفاصيل التي تعنى بتشابكات الحياة، فأين تذهب القصيدة في ظل الواقع العربي المتشظي؟

- لا يكتب الشعر في أي مكان في العالم، حسب ظني، انطلاقا من الواقع العام لهذا المكان، فالشعر عمل فردي أساسا حتى وان بدا انه موجه للكثرة، ومن الظلم ان نقيس الشعر على نبض مكانه، فهو له نبض من نوع آخر تتطلبه التجربة الشخصية، الحالات التي يمر بها الشاعر، الحاحات ذاكرته، ثم وجوده في مكان خاص دون آخر، لكن هذا لا يعني أبدا ان الخصوصية في زمان ومكان معينين سجنا للخيال والمشاعر والرغبات. مع ذلك أنا من الذين يولون الشأن العام اهتماما يوميا سواء من خلال عملي في الصحافة أو من خلال معتقداتي السياسية والفكرية ولكن هذا الاهتمام المتواصل بالشأن العام قليل الانعكاس على النحو الذي يطلبه البعض في القصيدة. يعني، كوني مهتما بقضية فلسطين لا يعني ان انخرط شعريا في خريطة الطريق أو في المبادرة العربية شعريا،ولا بتطورات الانتفاضة ذلك تعامل سياسي يومي ومتغير مع قضية تبدو ثابتة، اقصد قضية حق الانسان في ان يمتلك وطنا وبيتا وحياة حرة كريمة مستقرة. التعبير العام عن قضية عامة في الشعر لم يكن موفقا، أو دعني أقول، انه كان خارجيا ولم يترك وراءه أثرا يبقي، أو حتى لم يتغلغل في كيان متلقيه في اللحظة التي كتب فيها. ليس بمقدور الشعر، وهذا ينطبق على الفنون عامة، ان يعبر عن قضية عامة الا من زاوية شخصية، أي من خلال خبرة. ومع ذلك ان لا اخشي السياسة في الشعر أو في الفنون ان كانت صادرة من هذه الزاوية. قرأت على ما اذكر في أواخر سنين الحصار الطويلة على العراق قصيدة للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي عن الخبز. القصيدة حاضرة في ذهني الى درجة إنني لم استطع ان أنساها وقد نشرتها في حينها في( القدس العربي) ولاقت صدى قويا. في تلك القصيدة يبدو الشاعر كأنه يعرف البداهة التي اسمها الخبز. تصورته يقول لصبي و لصبية يعيشان في العراق، أو أي مكان آخر في العالم يعيش المحنة نفسها، ان هذا الشيء النادر هو خبز. ان الخبز خبز. لا شيء أقوى من ان يقول الشاعر ان الخبز هو خبز. انه هذا الضرورة اليومية المتعالية في بلد شله الحصار ومن دون استعارات كاذبة أو محلقة، الحقيقة البسيطة الغائبة هنا أقوى، لأنها ببساطة لم تعد موجودة. هكذا تتوالى أبيات القصيدة في شرح بديهة لم تعد بديهة. تصورت أيضا ان الشاعر يصف لقادمين الى عصر انقرضت فيه هذا الضرورة اليومية ان هذه العينة النادرة التي أمامهم تسمى خبزا. هذا خبز، هذا خبز. هكذا صنعت القصيدة التي لم تعد تعني للعراق اليوم الذي اجتاز محنة الخبز ليجد نفسه في محنة الدم والجثث المجهولة الهوية، شيئا كثيرا، أسطورتها من المباشرة التي كانت ممجوجة في الشعر...طفت في رأيي، خارج الجو العام لتتحول الى أسطورة.
هكذا افهم اقتراب الشعر من المناخ العام، ومن دون تجربة تحول الخبز الى رفاهية غير مقدور عليها لم يكن بإمكان الشاعر العراقي ان يكتب قصيدته غير القابلة للنسيان، ولا أظن ان شاعرا عراقيا يعيش خارج العراق كان قادرا على كتابة قصيدة كتلك القصيدة لانه ببساطة لم يعرف كيف يتحول الخبز من ضرورة الى رفاهية متعالية، الى ندرة.

المشروعية التاريخية والفنية

* في سياق تطور القصيدة العربية من التقليدية الى الشعر الحر، فالنثر ثمة إشكالات مفاهيمية ولعل أهمها القول ان قصيدة النثر استطاعت ان تحقق مشروعيتها التاريخية الا أنها لم تحقق مشروعيتها الفنية، ما قولك في ذلك؟

هذا كلام تكرر كثيرا، وأصبح لفرط تكراره لا يعني شيئا. وهو كلام يصدر من خارج واقع الشعر العربي اليوم الذي أصبح معظم نتاجه في هذا الشكل الذي تقول انه لا شرعية فنية له. وباستثناء بضعة أصوات في الشعرية العربية اليوم تكتب قصيدة الوزن، التفعيلة، فإن البقية تكتب القصيدة التي تسمى قصيدة النثر، وهي ليست قصيدة واحدة، بل ان معظمها ليس قصيدة نثر بقدر ما هي قصيدة حرة. لقد سبق لي ان كتبت وتحدثت في شأن التفريق بين قصيدة النثر الفعلية والقصيدة الخالية من الوزن والقافية التي تنتمي الى الشعر الحر. ولا أجد ما يمكن ان أضيفه الى هذه النقاش الذي لم يعد يسمع كثيرا في معظم ساحات الشعر العربي. فقط في الأردن وبعض المناطق العربية الأخرى هناك من لا يزال يشكك في انتماء هذه القصيدة الى الشعر. ولعل السبب يكمن في كون الساحة الأردنية هي من آخر الساحات التحاقا بهذا الشكل الشعري الذي مضى عليه دهر. فماذا تسمي محمد الماغوط؟ ماذا نسمي شعره، وهل ما كتبه منذ أكثر من أربعين سنة ودخل بسببه تاريخ الشعر العربي المعاصر ليس شعرا؟ فلو لم يكن لهذه القصيدة شرعية فنية لما أصبحت الشكل شبه السائد في الشعرية العربية ولما أثرت بالعمق على نتاج شاعر كبير له تاريخه وإسهاماته الفذة في الوزن مثل محمود درويش. إنني لا استطيع ان أفسر تحولات محمود درويش الشعرية الا من خلال صلته بقصيدة النثر التي غيرت شكل ومعنى القصيدة العربية الى الأبد. وهذا الكلام يقوله شخص مثلي بدأ حياته الشعرية بالوزن وعندما تخلى عن الوزن المعطى لم يتخل عن الإيقاع، أو التموجات الموسيقية داخل نص شعري لا ينتمي الى موسيقى البحور الكلاسيكية.
ثم أخيرا انك تربط الشعرية بالوزن وهذا أمر لم يقل به العرب في أول ممارساتهم الشعرية. لم يكن الوزن يوما معيارا للشعرية لا في الشعر الجاهلي ولا في الشعر العباسي أو الأموي ولا حتى في عصور الانحطاط. ليس هناك ناقد عربي قديم ربط الشعرية بالوزن بل في المجاز والصورة وربما أيضا في رؤية العالم.

المكان حياة متواصلة

* غالبا ما ترصد المرحلة الإبداعية بالمكان، كيف تأثرت تجربتك بتحولات المكان اللبناني ، المكان اللندني، ومكان الذاكرة مسقط الرأس؟

- لا انظر الى المكان في القصيدة بوصفه جغرافيا مطابقة لجغرافيا الخريطة، ورغم ظهور ملامح من الجغرافيا وأسماء العلم في نصوصي التي كتبتها في الأردن أو بيروت أو قبرص أو لندن أو عدن، الا ان أهم صلة لي بالمكان هي تلك المتضمنة في تلافيف النص وطبقاته الداخلية. أجد انه أمر خارجي تماما ان تتحول الجغرافيا المعطاة الى مجرد ترداد أو تسمية في القصيدة، أفضل النصوص التي كتبت عن الأماكن هي تلك التي استبطنت الأمكنة. المكان ليس جغرافيا فقط انه حياة متواصلة، فعندما أفكر بعمان أفكر بلحظات من حياتي فيها شابا، وبروائح في وسط البلد وبسطوع الشمس وبالأصوات الغابرة المهجورة في المدرج الروماني وبحركة القادمين الى عمان من الأرياف والبلدات المجاورة وبرائحة الياسمين وطالبات المدارس في الصباح وبالإدراج الحجرية التي تتسلق تلالها والبيوت المعلقة على هذه التلال، وبروائح تلك البيوت، بالنعنع والميرمية والهيل ولون الشاي وطعم الخبز وبأصدقائي زكريا واليأس وناهض وخليل ومنذر وغريب وزهرة ومحمد وغسان وناتاشا وبنت اسمها وفاء واحمد وسيارته المرسيدس وصلاح القادم من الجنوب. عندما أقول عمان تحضر كل هذه اللحظات والروائح والوجوه والرغبات والأحلام والأفكار ومقاطع من قصائد دفعة واحدة الى ذهني. وهذا ينطبق بصورة أو أخرى على بيروت وعدن وقبرص ولندن والمدن العديدة التي أقمت فيها أو زرتها أو مررت بها مرورا عابرا. ثم هناك الأمكنة التي تصنعها الكتب والأحلام، ولطالما اعتقدت إنني اعرف سمرقند أو أصفهان أو طيبة أو ايثاكا رغم إنني لم أزرها ورغم ان بعضها اندثر تماما أو ليس موجودا أصلا.

الشعر والترجمة والهوية

* يقول نقاد ان قصيدة النثر تأثرت بالترجمة، كيف يمكن ان تترك اللغة الأجنبية ظلالها على النص؟

- ليست هناك شعرية في العالم لم تتأثر بالترجمة أو بالتثاقف، خصوصا الشعريات المعاصرة التي ولدت في عالم أصبح مفتوحا على بعضه البعض، فلا يمكن والحال فهم كيف تطورت الشعرية العربية الحديثة كلها وليس قصيدة النثر فقط وما هي العوامل المؤثرة فيها من دون اخذ الترجمة أو الاطلاع على الشعريات الأخرى في العالم في الاعتبار. منذ جبران والمهجريين وحتى اليوم والترجمة، أو التأثر بالشعريات الغربية، يطبع القصيدة العربية الحديثة مثلما طبعت الترجمة والتأثر شعريات أخرى في العالم. لي صديق شاعر صيني اسمه يانغ ليان وهو من الشعراء المعروفين في الصين وبين المهاجرين أو المنفيين الصينيين في الخارج اخبرني كيف تأثرت الشعرية الصينية الحديثة، في ظل الماركسية الماوية، بشعراء من الغرب. صحيح ان معظم هؤلاء الشعراء ينتمون الى الفكر اليساري أو من المحسوبين عليه غير أنهم شعراء من شعريات أوروبية. فقد اثر في جيله شعر نيرودا ولوركا واراغون وايلوار
بالضبط مثلما اثر هؤلاء الشعراء في حقبة شعرية عربية كاملة.
والصين بلد يعتز أكثر منا بتاريخه، وشعريته قد تكون الأقدم في العالم ولديهم شعور قومي يكاد ان يكون انغلاقيا لكن الأجيال الجديدة مع ذلك لم تجد ضيرا في استلهام تجارب شعرية خارج حدود العالم المترامي الأطراف الذي يسمى الصين، بعد ان كفت الشعرية الصينية التقليدية عن ان تكون مصدرا وحيدا للتغذية والاستلهام. هذا مع العلم ان الشعرية الصينية والفلسفة الصينية الكلاسيكية أثرا في الشعرية الغربية الحديثة وكانا من مصادر إلهامها، لنتذكر ما فعله، على سبيل المثال، أزرا باوند الذي ادخل أنفاسا ومجازات شرقية الى القصيدة الغربية.
ثم ان الشعراء العرب المحسوبين على الحركة القومية العربية كانوا في طليعة من تأثر أو استلهم تجارب شعرية غير عربية، ومجلة (الآداب) التي كانت الأكثر قربا الى الفكر القومي العربي ساهمت الى حد بعيد في هذه العملية الأدبية التي لم ينظر إليها بوصفها خيانة قومية، ولعل ترجمات دار الآداب للفكر والأدب الوجوديين دليل واضح على ما أقول. نحن العرب نعيش وهما كبيرا حول الشعر ونعتبر أنفسنا امة الشعر والحال ان معظم الأمم تعتبر نفسها أمم شعر. أقدم النصوص الأدبية الانكليزية هو نص شعري وكذلك الأمر عند أمم لا نعتبرها أمما شعرية مثل الأمم الاسكندينافية.
لسنا وحدنا امة تكتب الشعر وتعتبر الشعر جزءا من هويتها ولا أظن ان الشعر العربي هو أفضل من غيره. هذا وهم كببر وإلا لكنا نلنا نوبل على الشعر مثلا. الهنود نالوا جائزة نوبل في العقد الثاني من القرن العشرين بفضل شعر طاغور، نحن لم نحصل على الجائزة في الشعر بل في الرواية رغم ان رواية نجيب محفوظ في الغرب تشبه رواية القرن التاسع عشر. أتحدث عن نوبل كمثال وليس كمقياس، المقياس هو الترجمة والتأثير في الآخر. هل هناك شعر عربي حقيقي مترجم الى اللغات الأخرى، الغربية تحديدا؟ ليس هناك الكثير ومعظم ما ترجم من شعر عربي الى اللغات الغربية كان له، لسوء الحظ، دوافع أخرى غير الشعر بحد ذاته. أخشى ان أقول إننا لا نستطيع ان نقدم للعالم شعرا مدهشا وغير مسبوق لديه ويجعله يقبل، من اجل الشعر، على ترجمة شعرنا. حتى في الشعر نحن ما نزال نتعلم وعلينا ان نتعلم كثيرا والى وقت طويل.

قصيدة الرحلة

* مع ان قصيدتك تضج بالملامح الحداثية شكلا الا أنها ما تزال مسكونة بروح البدوي ومفرداته ، بما يمكن وصف التجربة بقصيدة الرحلة أو الرحالة؟

- الشاعر، مثلما هو الكاتب أو الفنان، هو ابن تكوينه الأول، فهو يظل يحمل هذا التكوين أو سمات منه مثل الوشم الى الأبد، وهنا تلعب الذاكرة دورا في إبقاء ملامح من الماضي حية، وهذه تجد طريقها الى التعبير الأدبي أو الفني، مع ان كل شيء آيل الى زوال فإن لا شيء، في المقابل، يندثر تماما، بل يتحول، لن أرى كثيرا من الوجوه التي رأيتها ذات يوم في الزرقاء أو عمان أو المفرق ولكن بعضها لسبب لا أدريه حافظ على بقائه في ذاكرتي وهو يعاودني بين حين وآخر، ومع إنني اجلس على برندة بيتنا في المفرق كلما عدت صيفا الى الأردن ويلتف حولي على الفرشات الممدودة على الأرض أهلي وبعض أقاربي ونشرب شايا بالنعنع فإن ذلك الشاي لا يشبه الشاي الذي كنت اشربه وأنا ما أزال في البيت، حتى أفراد العائلة ليسوا هم أنفسهم، هناك من توفي ومن تزوج ومن غادر البيت ومن دخل إليه ولم يكن أصلا منه، لكن مع ذلك فإن الغائبين والراحلين موجودون في ذاكرتي، استطيع من خلال ذاكرتي ان أعيد تأسيس بيتنا مرة ثانية كما كان، كأن شيئا لم يطرأ عليه. وهذا ليس صحيحا في الواقع انه صحيح وممكن فقط من خلال الذاكرة. هذا يفسر لك بقاء تلك الإحالات في كتاباتي الى الماضي، أو الى أمكنة الخطوة الاولى. ثم ان اغترابي الطويل الذي تجاوز ثلاثين سنة جعل صور الماضي وروائحه وأصواته أكثر قوة عندي مما هي عند شعراء يقيمون في بلدانهم وبين ظهراني أهلهم وذويهم. هذا تفسير معقول، على ما أظن.

النص الكتابي والنص البصري

* ثمة تجربة مشتركة بين النص الكتابي والنص البصري مع التشكيلي فوزي الدليمي وأخرى ما تزال مؤجلة مع التشكيلي محمد العامري، وحكيم جماعين ما الذي يمكن ان يضيفه تراسل الأجناس للنص الشعري ؟

- النص الشعري يستفيد من كل شيء، من اللوحة، من الفيلم، من القصة، من الجريدة، من مراقبة حركة الشارع، من سماع أغنية عابرة. ليس هناك شيء لا يؤثر على الشعر، فليست القصيدة نتاج مختبر معقم مما لا يعتبر، في العادة، غير شعري، بل ليس هناك شيء اسمه غير شعري لا على صعيد المعجم أو الموضوعات. القصيدة مفتوحة على تأثرات شتى يصعب حصرها. وصدف شخصيا ان كنت على علاقة مع فنانين تشيكليين ودخلت أدواتنا في حوارات من مواقعها المختلفة، فالقصيدة نص لغوي أدبي بينما اللوحة نص بصري.
قد تبدو هناك قواسم مشتركة بين القصيدة واللوحة ولكن أفضل الأعمال التشكيلية هي التي تبتعد قدر الإمكان عن الطرح الأدبي أو المقاربة الأدبية. تقتضي الحقيقة ان أقول هنا إنني لم اكتب انطلاقا من تلك الحوارات مباشرة، فالتجربة مع فوزي الدليمي كانت حوارا بين قصيدة منجزة وبين لوحة تنشئ. وكذلك الأمر بالنسبة للتجربة مع محمد العامري وحكيم جماعين، فهما اختارا قصائد محددة من مجموع أعمالي واشتغلا عليها، لكن الحوارات بيني وبين العامري وجماعين كانت أطول وأكثر كثافة والنتاج كان اكبر. ويفترض ان يكون الكتاب المشترك الذي يضم القصائد وبعض اللوحات قد صدر من منشورات البنك الأهلي التي يشرف عليها الصديق الكاتب ناهض حتر، الأهم سيكون المعرض المشترك لأعمال العامري وجماعين وهو معرض شديد الأهمية، فالأعمال التي أنجزاها وهي تتجاوز الستين عملا جاءت مختلفة عن أعمالهما السابقة. أنها أعمال مدهشة بحق وهي مع صدور الكتاب بالمواصفات التي حدداها ستؤسس لحوار وشراكة فعلية بين شعراء وفنانيين تشكيليين في الأردن وخارج الأردن. لا أكتمك ان هناك مشكلة تتعلق بالكتاب الذي رأيت طبعة أولى منه ولم يكن في الشكل والنوعية المطلوبين، ليس ذلك ما كنا نطمح إليه ولا أظن ان ذلك ما يريده البنك الأهلي ولا ناهض حتر تحديدا، المقصود ليس إضافة كتاب أو كتالوج جديد الى ما هو موجود بل تأسيس شكل جديد وطرح تصور مختلف للعلاقة بين الشعر واللوحة.

الرأي
الجمعة 12 كانون ثاني 2007م