هاني نديم
(سوريا)

منذر مصريهاني نديم من اللاذقية: "أشعر أنني تمساح!!، بربك ماذا نفعل؟ نكتب شعراً في وطنٍ يكتب فيه الماغوط وعلي الجندي ونزيه أبو عفش ومنذر مصري إنه جنون..!؟".. كان ذلك الحوار جزءا من سيناريو طويل بيني وبين صديقي الشاعر سامي محمد منذ عشرين عاماً، والذي قرر بعد هذا النهار هجر الشعر لصالح التجارة لينجح نجاحاً باهراً، وتركني وحدي أتلمظ سكّر الشعراء بفمٍ مرير.. ونجحت نجاحاً باهراً أيضاً!.

عبر الهاتف الخليوي رسم لي منذر مصري خريطةً مرعبة عبر طرق اللاذقية لأصل مرسمه، وكعادتي، وصلت بسهولة متناهية وبواسطة عشرين عابر سبيلٍ سألتهم!، أكثر من نصفهم عرف من مجرد السؤال عن الزقاق أنني أريد مرسم منذر، أوصلوني إليه باعتزاز وكأنه بطلٌ قومي أو لاعب كرة قدم مشهور، وسألت صديقتي التي تجاورني ما إن كان مظهري يبدو مجنوناً لهذه الدرجة وأنا أطرق بابه بتشفّي استحال ابتسامة بمجرد أن تلقفتنا ابتسامته الطفولية وترحابه الشعري.

نعم.. منذر مصري أحد أيقونات الشعر السوري والعربي المعاصر سيجيب عن أسئلتي اليوم، والتي هي في الحقيقة أسئلة جيل كتابي كامل تخيفه فكرة أن يكون وريثاً للشعر وأميناً على وصايا المعلمين وكتبهم، في زمنٍ لا يبدو فيه شيئاً أصيلاً ولا ثابتاً..

* منذر المصري، حينما أصدرت "بشر وتواريخ وأمكنة"، هل كنت تعلم أنك ستصل إلى هنا شعرياً اليوم بعد حوالي ثلاثين عاماً، هل هذا ما كنت تخطط أو تحلم به؟، ما الذي اختلف بين أول مجموعة وآخرها؟

ـ أولاً: اسمي منذر مصري.. مصري بدون (ال) التعريف هذه، ولكن لا فرق، أختي مرام تكتب كنيتها هكذا. ثانياً.. كيف لي أن أعلم، أخي هاني، وواحدة من أكثر العموميات التي كان شعري يتنكر لها، وما زال، هو تلك القدرة على التبصُّر التي يدّعيها بعض الشعراء، الشعراء الأنبياء. وكذلك بالنسبة للأحلام.. مفردة (حلم) إحدى المفردات، التي لا تدخل إلى قاموسي الشعري إلاّ بالواسطة، لكنها أعترف تدخل.. كما العنوان الذي أقترحه لهذه المقابلة. وبالتأكيد لم أخطط لشيء من هذا، بداياتي كانت لا أكثر من إبداء وجهة نظر في كتابة الشعر!؟ فبعد إطلاع مبتسر على الشعر الذي كان يكتب في أواخر الستينات وبداية السبعينات، طاب لي أن أكتب بعض القصائد على النحو الذي أعتبره شعراً، هكذا جاءت قصائد (الكره أعمى الحب يرى) في ديواني (كن رقيقي)!؟ وقصائد (من جيب المعطف الخاكي) في ديواني (آمال شاقة)، أمّا ما اختلف بين بدايتي والآن، فيكاد يطال كل شيء!؟ في (من الصعب أن أبتكر صيفاً) أنا لست منذر مصري (بشر وتواريخ وأمكنة)، ولا منذر مصري (الصدى الذي أخطأ) وهو ديوان لم ينشر بعد، أعتبره، مثله مثل (بشر... ) و(الشاي ليس بطيئاً) عملاً مفصلياً في تجربتي. في بداياتي كنت أريد أن أقول أشياء محددة، وبطريقة محددة، أما في (من الصعب أن أبتكر صيفاً) فقد بدوت، عكس ما كان ينبغي أن أبدو عليه بعد كل هذا الزمن، وكأني في أشد أحوالي تقلباً وشكاً، شكاً في ما أريد قوله، لأني بت لا أعرف ما أريد قوله، وشكاً في طريقة قولي له، لأني سئمت الطريقة التي كنت أقوله بها..

* طلق كلمة (ديوان) على ما أتفق على تسميته مجموعة شعرية، وخاصة مجموعة شعرية نثرية، أتظن أن هذا الاسم ما زال مناسباً أكثر؟

ـ نعم، ببساطة، الديوان، هو كتاب شعري، كالرواية مثلاً! لماذا لا؟ وتسألني إذا كنت أظن أنه ما زال اسماً مناسباً، أوليس ما زلنا نظنّ ما نكتبه شعراً؟!.

* ما الرابط الذي تراه بين الرسم والشعر، وكيف يتداخلان في ما بينهما، هل أثرى أحدهما الآخر أم ظلمه؟

ـ كنت سابقاً، مرة أقول إنه لا يوجد رابط، الشعر شيء والرسم شيء، لغتان مختلفتان، بأدوات تعبير مختلفة، ومرة أقول إنه يوجد رابط، فالشعر والرسم، كلاهما محاولة، تثبيت، تخليد، ما هو عابر وفان، كلاهما محاولة الكشف عمّا هو جوهري، ومرة قلت إنه يوجد رابط، ولكني لا أعيه تماماً، ولا أستطيع تحديده جيداً. هذه المرة، اسمح لي الآن، من باب التنويع لا أكثر، أن أقول إنه يوجد رابط بالتأكيد، وهو رابط قوي وواضح، وأستطع الإدعاء إني أعيه جيداً، وأستطيع تحديد تماماً، بالإشارة المباشرة عليه!؟ إنه أنا. أنا وكل تلك الفوضى، وحالة عدم التأكد من شيء، التي أنا عليها اليوم. حسناً إذن، ما يربط شعري ورسمي هو من يكتب هذا الشعر ويرسم هذه الرسوم، الذي هو، في حالتي، أنا. أظن أن تجربتي المحدودة كنتاج في الرسم، ذلك أني أرسم على نحو مزاجي ومتقطع، منذ أن وجدت نفسي منجرفاً للكتابة بشكل أساسي، قد أغنت شعري.. كثيراً! جاء الشعر، كما أردد كل مرة وأنا أستعرض رسومي الأولى، وأفسد علي كل شيء.

* يشغلني تكنيكك الكتابي، كما يشغل جيلنا وكل من جاء بعد تجربتك؟

ـ كنت سابقاً، أعتقد أني أكتب بلا تكنيك، بلا أسلوب!؟ كنت أقول أن الأسلوب دائماً يربط الشعر بسياق ما، بفترة ما. كنت أنظر للأسلوب نظرتي للثياب.. تتبدل وتتغير حسب الموضات. نعمان كنفاني، زميلي في دراستي الجامعية بحلب، أخو غسان كنفاني، أذكره يقول لي: "بعد الشارلستون (السراويل ذات الفتحات الواسعة) لا يمكن لأحد أن يتصور نفسه مرتدياً بنطلوناً بفتحة ضيقة". ولكن بطلت ثم عادت ودرجت ثم بطلت موضة الشارلستون أكثر من مرة خلال الثلاثين سنة الماضية، ولم ولن تستقر فتحات السراوييل على قياس!؟ تفكير كهذا كان يدفعني لأخرج الشعر من الزمن، من طيات الزمن، من قدرة الزمن على رمي أي شيء في جبِّ النسيان!؟ ولكني مع الأيام اكتشفت أن (لا أسلوبي) هذا كان بدوره أسلوباً، وأن لكل شيء شكلاً.. لا محالة!؟ ما ليس له شكل ليس له وجود. كما اكتشفت وأنا أعد مجموعاتي الأولى للنشر، بأنه ليس صحيحاً أني كنت أكتب عارياً من الأسلوب!؟ هناك قوالب وتراكيب كانت تتكرر في قصائدي، وبدورها كانت تتبدل وتختلف. ما أريد قوله بعد هذا هو أني يوماً لم أكتب القصيدة، هكذا كيف جاءت، مع أن الكثيرين كانوا يحسبوني أفعل، وكانوا يسبغون المديح علي بسببه!. شغلي واعتنائي الزائد بالقصيدة، الذي كان بو علي ياسين يؤنبني عليه: (ما كنت أظن أن هناك شاعراً يعذبه شعره ويعذب شعره بقدرك). ولكني كنت أفعل ذلك لأجعل من شعري يبدو وكأنه كتب عفو الخاطر، هكذا على السجية، دون أي عذاب. لكن (مزهرية على هيئة قبضة يد) 1997 وبعده (الشاي ليس بطيئاً) 2004 فضحاني!. كشفاني على حقيقتي، إني، كتب عباس بيضون، شاعر حاوٍ. الآن لا استطيع، سوى في حالات كثيرة الندرة، أن أتقبل شعراً يخلو من التقنيات، أعتبر هذا يبين محاولة الشاعر أن يكتب قصيدة ذات صوت خاص، محاولته أن يكتب قصيدته الخاصة!. وراحت أدوات الشاعر والطرق التي يستخدمها بها وغايات هذه الطرق، تدل على مستوى الكتابة. الأمر الذي بات الأهم بالنسبة لي، بغض النظر عن النتائج. لأنه غالباً في حالة طموحة كهذه تأتي مخيبة، ربما رولان بارت من يقول: كل عمل أدبي جديد مخيب للظن!. ولكني متابعة لسؤالك، أعتقد بأني بدوت وكأني أقوم بتجارب شعرية، وأحاول تقديم اقتراحات، حتى أني صرت أتعامل مع شعري، أكتب شعري، باعتباره، لا أقل ولا أكثر، فناً!.

* تقنيتك في جعل المحور والحدث الأهم خلفيةً لتفصيل صغير ذاتي وخاص، هل هو نرجسية أم وجودية؟

ـ أولاً كأنه يجب علي القبول بأن ما تقوله حقيقة، وأنه شيء أتقصده. أي جعل محور القصيدة وحدثها الأهم خلفية للتفاصيل الصغيرة، لكني غالباً ما أكتب هذه التفاصيل الصغيرة لذاتها، فتقوم هي بعملها في الإيحاء بأنها تخفي خلف ظهرها شيئاً ما، أو أنها تتضافر لتشكل محوراً وحدثاً مهماً ما. ولكن لماذا الإنكار، حتى ولو كان صادقاً ما ذكرت للتو، فأنا بالتأكيد آتي بهذه التفاصيل وأعلم أنها ستقوم بذلك بطريقة أو بأخرى. أمّا هل هو نرجسية أم وجودية!؟ فلا أدري، لأنه لا ينفع هنا أن أقول، لا ليس نرجسية، فهو إن كان نرجسية حقة وتستحق الصفة، فلا بد أن يكون مبطناً ومتنكراً! ولكن إن كان وجودية، بالمعنى الفلسفي فهذا أمر آخر لا يمكنني إنكاره، ولكن لا أظنني في مجال مناقشته، ربما لأنني الآن، في هذه اللحظة، لست في المزاج المناسب.

* لماذا أشعر أن تعاملك مع اللغة تعامل ثأري لدرجة أنك تسخر منها أحياناً، بمعنى..تدخل أوعر وأصعب المسالك الفكرية في النص وأشدها عتمة وتصرّ على أن تكون خالياً من الأدوات اللفظية التي يتفاخر بها الشعراء والنصوص أيضاً، هل توافقني؟

ـ هذا سؤال يغير مزاجي! لقد فكرت طويلاً بعلاقتي باللغة. تعلم، دخلت الشعر بعدّة ناقصة، منها اللغة، أقصد اللغة بالمعنى القواعدي، الصرفي، الإعرابي!. فبات من المعروف عني قصوري اللغوي، وبأن قصيدتي لا تبالي باللغة، فقط تستخدمها استخداماً، تمتطيها وتحمِّل على ظهرها!. حتى عندما أعترف بأن اللغة وسيلة الشعر، وبأنه من الأهمية الاعتناء بها، كأهمية الاعتناء بالوسائل بالنسبة لكل حرفة، كنت أضع اللغة بمرتبة الخادم!؟ وكنت اشعر بمقدار استخدامي القاسي لها، إلى أن شعرت في نهاية الثمانينات أن شعري يقدم صوراً حية أو ميتة ربما، لانتهاكاتي للغة. كنت لا أقيم وزناً للألفاظ على أي مستوى، سوى بوقعها في السياق من حيث الطول أو القصر، أقصد النبرة التي أقرأ بها القصيدة، لنفسي أولاً ثم لجمهور متخيل أو حقيقي. كنت، وربما ما أزال، أجد أن الشعر شيء واللغة شيء آخر. وأنهما في القصيدة قد يتوافقان أو يختلفان، وربما يتعاديان، كل منهما يريد القصيدة لنفسه، أما أنا فقد كنت في هذه الحرب، في صف ذاتي دائماً، كنت دائماً أنتصر لها على اللغة، كما أنت تقول تماماً، وبذلك تابعت علاقتي الاستخدامية، الاستغلالية للغة، تابعت قسوتي عليها، تابعت ظلمي لها، حتى في قصائد يخال للبعض أنه يوجد فيها اعتناء ما بلغة ما، مثل (كلما رأيت غراباً طائراً تذكريني) أو (جميلة لدرجة تدفع النساء إلى الارتماء على أول رجل يقابلنه)، قلت حتّى، وكان يجب أن أقول وخاصة في قصائد... ولكن لا أدري إن كنت وأنا أغز السير مبتعداً أكثر فأكثر قد عدت إلى النقطة التي غادرتها.. أقصد أليس في (الشاي ليس بطيئاً) أو (من الصعب أن أبتكر صيفاً) احتفالاً ما بالألفاظ، كما في قصيدة (قمر نهاري يذوب في ضوء قوي) أو القصيدة ذات الخمس مقاطع (معاناة لاهية)، أهناك اعتناء باللفظ في مقطع يقول:" أما زلت وحيداً، وتنضمّ إلى الوحيدين، إذا تنادوا" أم أنه فقط تركيب ما؟

* كيف تصف علاقتك بالرقابة، هل منعها وتأخيرها لمجاميعك الشعرية غير من مسار نص منذر المصري، أم ربّ ضارةٍ نافعة؟

ـ الرقابة .. عنكبوت كبير ينسج شبكته حول الكاتب وحول نصه. كل شيء يصير وكأننا يكتب من داخل شرنقة الخوف والكذب! تتنوع أجناس الرقابة في واقعنا العربي، هناك سلطات رسمية رقابية وإجرائية وعقابية، كما هناك سلطات غير رسمية، اجتماعية، شعبية، ربما أشد قسوة إذا أتيح لها العمل. لم تمنع لي الرقابة الرسمية سوى مجموعة (داكن) وذلك بسبب ذات القصيدة التي مُزِّقت من مجلة الناقد (ساقا الشهوة) عند نشرها. ثم سمح بعد ذلك بتداول (مزهرية على هيئة قبضة يد) رغم أنها تتضمنها!. أما بعض الإشارات التي وضعت على هذه القصيدة أو تلك في المخطوطات، فقد تم التغاضي عنها عند طبع وصدور المجموعات. ولكن بالتأكيد مصادرة (داكن) كان لها أثر سلبي على برنامج نشري لشعري. الأثر الذي يبدو أني استمرأته وصرت أختبئ وراءه، مخفياً كسلي وإهمالي وبخلي، أقصد أني كنت أستطيع أن أطبع مجموعاتي بالتتابع على حسابي.. لم أفعل لأسباب عديدة!، وربما منع (داكن) ومحاولتي الانتقام لـ(ساقا الشهوة) بكتابة مقدمة طنانة ورنانة لها، ثم نشرها في مجلة الناقد، هو ما أدى بيوسف بزي، ويحيى جابر، وبعدهما رياض الريس إلى التصديق بأني شاعر مشعور مختل الشعور، كما كان يردد أبي، ورغبوا بطبع مجموعة شعرية لي (مزهرية على هيئة قبضة يد) التي يمكن اعتبارها قصائد منتخبة من تجارب عدة.

* بحثت جاهداً عن لقاء لك مع الإعلام، بالكاد وجدت ما يعينني عليك!. أنت لست بشاعر مهرجانات وقلما تشارك فيها؛ كما أنك أرّق من أن تكون شاعر منبري، ولا تعيش في العاصمة ومراكز الحراك الفكري والثقافي، هل تكره الأضواء وهل تريد أن تكون علاقتك بالآخر علاقة صورية مجردة من خلال الكتابة؟

ـ قمت بعدد لا بأس به من لقاءات!؟ أعترف لك، بعد صيام لمدة ثلاثين سنة تقريباً، صرت أقبل الدعوات للأمسيات والمهرجانات، بعض الأمسيات والمهرجانات، لأنني الشاعر السوري الوحيد الذي رفض دعوة المشاركة في مهرجان المحبة السوري، لكني قبلت دعوة اليونانيين لسمبوزيم الشعر في كافالا، وكذلك شاركت في دورة التاسعة لمهرجان لوديف الشعري في باريس، وكذلك كنت ممثل الشعر السوري في معرض الكتاب في لندن، ورغم ذلك ما زلت أدعي أني لست شاعر أمسيات ولا مهرجانات، هذه حقيقة، لأن شعري لا يصلح ليكون مهرجانياً، على نحو مثالي، ولكني شاركت بعدد من المهرجانات والأمسيات، غير أني لم أشارك في مهرجان المحبة رغم أني دعيت، ولا في مهرجان مربد رغم أني لم أدع!.. لا لست مترفعاً عن السفر لهذا المكان أو ذاك، ففي (كافالا) و(لوديف) أمضيت أياماً جميلة بحق. كما أني من بين الأشياء التي لا أحبها هو تسليط الأضواء على وجهي بقرب: (مشكلة الضوء أنه يعترف بكل شيء).

* من أين تستمد حضورك الباذخ هذا؟

ـ من لا شيء .. أظن!، أو ربما من الأفضل أن أجيب، لا أعرف!؟ لا أعرف معنى البذخ أصلاً، ولكني حقاً أستغرب وصفك هذا! يوماً لم يصف أحد ما حضوري بهذا اللفظ الباذخ بحد ذاته. بل بالعكس كثيراً ما وصف حضوري الشعري بالفقر، وبالتقشف!؟ ألم تقل لتوك، إني أعادي اللغة، وبأني أقبع بعيداً عن المركز، فلا أنا في بيروت ولا في دمشق!؟ ولكن بالتأكيد أن كتابيّ (الشاي ليس بطيئاً) و(من الصعب أن أبتكر صيفاً) كتابان باذخان شكلاً و... مضموناً، وها أنذا الآن أنساق لك، مصدقاً إطراءك! كنت أظن عند صدور (الشاي ليس بطيئاً) أن على على كل شاعر أن يبتاعه، لا ليقرأه بالدرجة الأولى، بل ليسنده في فجوة بالحائط، أو في فتحة بالخزانة، ويشعل على جانبيه شمعتين ليل نهار، ثم ينحني له كلما مرّ من أمامه!؟ كنت أظن أن الشعراء جميعاً سيعترفون ب(الشاي ليس بطيئاً) أيقونة شعرية جديدة، بعد (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) أو (الفرح ليس مهنتي) أو (أغاني مهيار الدمشقي).

* هل علاقتك مع الدولة إشكالية؟

إشكالية! ليس بالنسبة للدولة أبداً، في سوريا لا يوجد مواطن مقيم داخل البلد، ينام في بيته، ويذهب ويعود إلى عمله، له علاقة إشكالية مع الدولة!. مرة أشيع أن هناك موجة اعتقالات، أظن هذا كان في 2004 أو ربما 2005 لا أذكر، وأن هناك قائمة تحتوي /200/ اسماً لناشطين ومثقفين سوريين سيتم اعتقالهم.. وقتها قال لي صديقي محمد سيئ رصاص: "لاتخف منذر.. لست على هذه الدرجة من الخطورة". ففي السنين الأخيرة كما في السنين الماضية، استدعيت ودعيت وسوئلت واستجوبت، مرات، تم ذلك باحترام زائد، وأستطيع القول بمودة! وكأنهم يعرفون عني كل شيء، حتى تثميني العالي للطف. ورغم أني كتبت ما كتبت، بكل تلك الشجاعة والأمل، والذين تبين أنه كان من الأفضل وصفهما، بالطيش والتهور، فقد غضوا النظر عني، ولم يزيدوا عن تذكيري، بمناسبة أو بأخرى، بمصلحتي وحدودي، أما بالنسبة لي فأنا أعمل كموظف رسمي، بشهادتي الجامعية (تخطيط اقتصادي) لدى هيئة تخطيط الدولة، مديرية تخطيط اللاذقية، يومياً من الساعة الثامنة وعشر دقائق صباحاً وحتى الثالثة والربع ظهراً، يومياً منذ 32 سنة!؟

- لماذا ترسم؟
- لماذا تكتب؟
- لماذا تكثر من كتابة الشعر عن النساء؟

ـ ثلاثة أسئلة سأجاوب عليها بجواب واحد.. بسيط، واضح، ومبتذل: لأنّي أحبّ.

* هل أنت متصالح مع موقعك الشعري في العالم العربي اليوم، وهل تفيده وتؤثر به العلاقات العامة والشطارة، إن جاز التعبير؟

ـ متصالح، أنا متصالح مع كل شيء، حتى مع النظام السوري الذي أعارضه! حتى مع الواقع العربي الذي أرفضه.. لأني منذ زمن عرفت وفهمت: "أنه يقبع في قلب رفضي، قبول عميق لكل شيء" رفضي نفسه جاء من قبولي للرفض. أما موقعي الشعري في العالم العربي اليوم، فأظنه قد بدأ الاعتراف بي، على نحو ما.. مرة قال لي عباس شيئاً كهذا، فأجبته: أخفتني.. لا تعلم مقدار ما يسيء لشاعر له مثل تجربتي، له مسيرتي الملتوية، جاء من خارج

* هل الشعر اليوم في مأزق، ولماذا؟

ـ طالت الأسئلة .. هاني.., أشعر بأن طاقتي الآن في أدنى مستوياتها.. وها أنا أختصر أجوبتي ما أمكنني، أنا المسهب، والمستطرد!. ولكن بما أنني مضطر على الإجابة عن سؤالك.. أقول إني لا أجد مأزقاً في ما هو عليه الشعر اليوم.. الشعراء في سوريا، وفي البلاد العربية كلها، ينبتون كالحشائش في شقوق البلاط.. الشغف بالشعر ما زال حياً.. ولا أعطي بالاً لما يتحدث به البعض عن نقص جماهيرية الشعر.. جمهور الشعر.. ينتظر صيحة.

* إلى أي سلالة ينتمي منذر المصري، من هم آباؤه الشعريون؟

ـ انتمي للسلالة التي لا يعرف لها أصل ولا تعرف لنفسها انتماء .. أنا أبن شعراء ملعونين وغير معترف بهم ومخونين، توفيق الصائغ صاحب (ثلاثون قصيدة) وجبرا ابراهيم جبرا (المدار المغلق) وشوقي أبي شقرا (سنجاب يقع من البرج) وأنسي الحاج (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) ... ورغم كثرة آبائي، لكن عمي الذي كان يزورنا كثيرا ويختلي في المطبخ مع أمي ... هو الشقي محمد ماغوط..

* من هؤلاء لدى منذر المصري:

ـ محمد الماغوط.. كان بودي قتله، ولكن هيهات.
ـ بدر شاكر السياب.. أخي ماهر هو من أحضر: (المعبد الغريق) و(منزل الأقنان) .. أحببته مذاك.
ـ أنسي الحاج .. مرة أخذت عنده دروساً .. عاهرة فقيرة أحضرت لي من بيروت (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) ولم تأخذ ثمنه، هذا علمني كل ما يلزم لأكون شاعراً.
ـ شوقي أبو شقرا .. خنته منذ زمن، لكنه يبقى في روحي.
ـ قاسم حداد.. صديقي، أضعت في لوديف حقيبتي، فأحضر لي قميصه.
ـ سيف الرحبي.. أنا وإياه وبقية العناصر الأربعة.
ـ نزيه أبوعفش.. هو المسيح وأنا الخشبة التي صلبت عليه.
ـ مرام المصري.. أغنيتي.
ـ هالا محمد.. هالتي.
ـ عادل محمود.. أنا وإياه مبحران أبداً على ذلك المركب الشراعي الصغير الذي يوقّع لي به على كتبه ..

ـ أسامحك لأنك لم تسألني عن نوري الجراح وأمجد ناصر.. وأسامحك لأنك لم تسألني عن.. (ضع مائة اسم هنا) ... ولكن لماذا لم تسألني عن أقرب الشعراء لي في كل شيء، في كل شيء، حتى في الشعر، لا بد لي أن أعترف، عباس بيضون..؟؟

ايلاف
الخميس 5 يونيو 2008


إقرأ أيضاً:-