فاطمة عطفة

فاطمة الصايغابو ظبي ـ القدس العربي :
الدكتورة فاطمة حسن الصايغ باحثة إماراتية وأستاذة في قسم التاريخ والآثار بجامعة الإمارات (العين). حاضرت في عديد من الجامعات ومراكز البحوث العربية والأجنبية، وشاركت في العديد من المؤتمرات العلمية علي المستوي المحلي والعربي والعالمي، وهي تشرف حاليا علي موسوعة الإمارات العربية، نالت جائزة العويس لأفضل كتاب عن الإمارات وهو الإمارات العربية من القبيلة إلي الدولة .
كان لنا معها هذا اللقاء:

* الإمارات معروفة في جيلك بالثراء، أتمني أن تحدثيني عن نشأتك كبنت مدللة كل شيء متاح أمامها؟

أنا من مواليد دبي، بالتحديد المنطقة المطلة علي (خور دبي) وهناك ارتباط عميق بيني وبين البحر، وتلك المنطقة عبارة عن ثلاثة أحياء بسيطة جداً: كان حي العرب وهو علي الخور بجانب قلعة الفهيدي ويقوم المتحف في مكانها اليوم، وفريج البستلية، وفريج سمونة بحي الهنود أو (الباتان)، هنا ولدت وترعرعت ودخلت مدارس دبي القديمة.

* ما اسم أول مدرسة؟

أول مدرسة للبنات لا أتذكر اسمها، كان عمري أربع سنوات. فتحت المدرسة ودخلت مع بنات أكبر من سني. أنا أتذكر اسم ثاني مدرسة، ولكن سوف أحدثك عن الجو العائلي الذي ولدت فيه. فتحت عيوني كان أبي مدرسا، بل مؤسس مدرسة، وهي أول مدرسة للتعليم الحديث في دبي، اسمها المدرسة الأهلية، ومن ضمن طلاب الوالد كان عدد من تجار دبي اليوم، ومنهم المرستاني والشيخ حمدان بن راشد، ولدينا صورة له وهو جالس مع إخواني، كان طفلاً عمره عشر سنوات لكنه دخل المدرسة من أجل أن يتعلم الإنكليزية والرياضيات لدي الوالد، لأن الوالد تخرج من الهند وحصل علي شهادة عالية، وكان شابا في العشرين من عمره، وعنده مشروع فتح مدرسة لطلاب دبي. لذلك أنا تعودت في أيام الطفولة، حتي قبل أن أدخل المدرسة النظامية، أن أروح إلي مدرسة الوالد، وأجلس مع الطلاب أستمع لهم. كانوا كلهم أولادا، لكن أختي الأكبر مني دخلت المدرسة وبدأت بالدراسة، وهكذا فتحت عيوني علي جو علمي. الوالد مدرس، أمي كانت تقرأ وتكتب في وقت كانت توجد أمية بين النساء بنسبة 99%، أنا فتحت عيني ووعيي علي أهمية التعليم. في هذا الجو نشأت، أنا وأخوتي عشرة، منهم خمس بنات، ربما ما ترك لنا ثروة كبيرة، لكنه كان يقول دائما ثروتكم هي العلم، يجب أن يكون لديكم طموح لأن العلم ليس له سقف.
وحتي الآن أعتبر نفسي بحاجة لأن أتعلم أكثر، ودائماً أقول لطلابي وطالباتي في الجامعة إن العلم ليس له سقف، وهي نفس العبارة التي سمعتها من والدي، وهي النصيحة الأهم التي تركها لي ولإخوتي. لم يترك لنا نقودا بل ترك لنا فقط منزلاً قديماً، لكن نحن بعلمنا وعملنا استطعنا تحويل البيت القديم إلي ثلاثة أو أربعة بيوت، والعائلة الآن تضاعفت وأصبحت أكثر من أربعين فردا. درست في مدرسة خولة، هذه المدرسة أتذكرها لأنها أول مدرسة حديثة أدخلها، وبعدها دخلت مدرسة آمنة، وأيضاً مدرسة عائشة، تخرجت من الثانوية في دبي وسافرت بعدها إلي الكويت، وأخذت أدرس التاريخ وكنت من المتفوقين، حتي في الثانوية العامة كنت من المتفوقين، وأتذكر أن الشيخ زايد كرم العشرة الأوائل في أحد أعياد الاتحاد وكنت من ضمنهم ،هذا التكريم لن أنساه وهو أول تكريم في حياتي ومن الشيخ زايد رئيس الدولة أخذته في جامعة الكويت بمرتبة جيد جدا مع جائزة الشرف الثانية.
بعدها ذهبت إلي جامعة الإمارات، الحمد لله تم تعييني في الجامعة، ثم سافرت إلي الولايات المتحدة في بعثة دراسية، أكملت ماجستير هناك، ورجعت من الولايات المتحدة، وبعد سنة ذهبت إلي بريطانيا وأكملت الدكتوراه هناك ورجعت بعدها لأكمل مشواري العلمي والمهني في جامعة الإمارات كأستاذة في قسم التاريخ والآثار.

* هل اختيارك لدراسة التاريخ والآثار يعود إلي قراءات سابقة في هذا المجال أم بتأثير الأهل أو الأساتذة، من أين جاء اهتمامك بالتاريخ؟

يمكن أن حبي للتاريخ جاء من الوالد، أنا أتذكر أن الأطفال كانوا يأخذون الهدايا في الأعياد، تكون الهدية عروسا، لعبة، بينما كان الوالد يكافئنا بهدية كتب. الوالد توفي من 25 سنة، وأول كتاب أهداني إياه كان كتاب شعر لـ(أبو القاسم الشابي)، وهذا الكتاب ما زلت أحتفظ به في المكتبة وأعتبره أغلي هدية. الناس عادة يعطون أولادهم في عيد ميلادهم لعبة أو ذهباً، وحينها قلت لنفسي لماذا أعطاني والدي هذا الكتاب؟
ولكني بعد حين علمت مما قرأت من هذا الكتاب، أشياء هامة. كنت أقول من هو أبو القاسم الشابي؟ ما كنت أعرفه ولكن بعد ذلك عرفت أنه شاعر تونسي رقيق العبارة كتب عن الثورة أشعارا جميلة جداً، ومن هذه الأشعار عرفت أن والدي كان قوميا... وخاصة لما كنت أجلس وأستمع إلي الراديو وأسمع تعليقات والدي. ولما حدثت هزيمة حزيران (يونيو) كان يجتمع حولنا الناس ويتحدث معهم، كان مثقفا وبمقياس ذلك الزمان يعتبر عالما. كنت أسمعه يذكر الروس وما كنت أعرف أن الروس هم الاتحاد السوفييتي.
كنت أحب القراءة والتعرف علي أشياء كثيرة، وكان والدي يعمل لنا أسئلة واختبارات، مثلاَ: باكستان ما هي عاصمتها؟ ليعرف مدي اطلاعنا. هذه الأشياء كلها وسعت مداركنا حتي عندما كنا نجلس أنا وأخوتي كانت مناقشاتنا تخرج عن المناقشات العادية التي تحصل في البيوت، حتي الوالدة اليوم عندما أسمع تعليقاتها وهي بنت الخمس وسبعين سنة نقاشها يدل علي أنها امرأة مختلفة ومثقفة.

* في تلك الظروف التي لم يكن التعليم فيها متاحا للجميع بعكس اليوم حيث التعليم إلزامي ومتاح للجميع وهناك اهتمام خاص في الجامعات، من موقعك في الجامعة، هل يوجد طموح عند الشباب للتعليم العالي أم أن التوجه نحو الاقتصاد والمشاريع التجارية؟

نظرة الأجيال الشابة للتعليم مختلفة، إنهم يعتبرون التعليم شهادة وهي وسيلة لتأمين العمل، أما بالنسبة لجيلنا فالعكس صحيح، كان الهدف أن نتزود بالعلم والمعرفة وتوسيع المدارك والآفاق الثقافية، ثم تأتي الشهادة مكافأة للجهد والاطلاع، هناك بعض الطالبات تهدف فقط للعمل وسد حاجات سوق العمل. الإمارات تسعي إلي أن تكون مراكز للعلم وعاصمة عالمية للثقافة، كما كانت باريس عاصمة النور والجمال، وليست مراكز للنشاط الاقتصادي فقط. وكذلك الأمر في البلاد العربية كان هناك مراكز للنشاط الثقافي في القاهرة وبغداد وبيروت لكن هذا المركز انتقل إلي ما يسمي العالم العربي الجديد، وهو الخليج ودوله. لم يعد ينظر إلي هذه الدول كمراكز اقتصادية فقط لكن بوصفها عواصم للثقافة العربية الجديدة.
والسؤال الذي يواجهنا: إذا كنا نريد أن نبني عواصم ثقافية فعلا فأين الجمهور المتذوق؟ لقد باشرنا بافتتاح متاحف وفروع لجامعات ومهرجانات ومعارض عالمية، لكن أين الجمهور؟ هل يجب أن نعتمد علي الجمهور الذي أتي من الخارج فقط؟ لا بد أن نبني بنية ثقافية تحتاج إلي جمهور يتابع ويتفاعل، لكن جمهورنا لا يقرأ!..
مثلاً: كثيرون لا يعرفون من هو بيكاسو، ومن هو فان غوخ. جميل أن نعرف ما هي الروائع المعروضة في متحف اللوفر، ونحن علي موعد باستقبال قسم من هذه الروائع في بلادنا. وعلينا، إذاً، أن نقرأ ونعرف عنها شيئا. أنا بحكم عملي أناقش العديد من الأمور الثقافية مع الطلاب، وأسألهم أحيانا عن رموز ثقافية معروفة، لكنهم ـ للأسف ـ لا يعرفون حتي الأعلام في بلادنا. مثلاً: من هو محمد المر؟ لا يعرفون! ابن ماجد؟ يقولون لي: مات من زمان.. وابن ظاهر كذلك. أخاف أن يأتي يوم وكثير منهم لا يعرفون تاريخ بلدهم ولا بناة دولتهم.

* ما هو الحل؟

الحل أن نأتي إلي هذه الأجيال الجديدة برؤية مدروسة وواضحة، فأنا أخاف علي هذه الأجيال أن تكون معزولة عن تاريخها، وإذا كانت معزولة عن أمتها وتاريخها فماذا يبقي منها؟ أخاف علي هذه الأجيال أن تكون نسخة (Copy) من أجيال أوروبا وأمريكا والتي لا يربطها رابط. نحن لا نريد ذلك، نريد أن نخلق أجيالا جديدة متطلعة إلي المستقبل، واعية تعرف ماذا يدور في العالم، ولكنها في نفس الوقت ليست مقطوعة عن جذورها وهويتها. الحل أيضاً أن يكون هناك تواصل ما بين الأجيال مثلما كان التواصل ما بين والدي وجدي، الخبرات من جدي نقلتها جدتي إلي لأننا نعيش في منزل واحد. واليوم، هذا التواصل غير موجود لأن الأسرة تغيرت ولا تري جدها أو جدتها إلا مرة في السنة. نحن عشنا معها، التواصل بين الأجيال مهم وضروري جداًً تلك هي أهمية التاريخ.
أنت في البداية سألتني لماذا أحببت التاريخ؟ أحببته لأني رأيته أمامي في غرفة جدتي وعندما أري مثلاً قطعة الأدوات القديمة مثل السماور أسألها: هذا لأيش؟ تقول لي: هذا كنا نعمل الشاي عليه، هذا يجعل الطفل يسأل ويتعلم، هذا التواصل لا يترك حاجزاً بين الحاضر والماضي. الآن أولاد أخي يأتون إلي عند جدتهم يسألونها أشياء لا تعرف ما هي.

هناك قصة سوف أحكيها لكِ: عندنا الخبز (الجباب) نحن نعمله، مرة بنت صغيرة سألت أمها: أمي، هذا الخبز ما هو؟ الأم قالت لها: هذا (كنتاكي)!
ماذا نقول عن تنوع الأسرة (من خلال الأم) في الخليج؟ هل له أثر كبير علي التراجع الثقافي ومعرفة الأصول؟ هل تقع المسؤولية هنا علي الأب أو الأم في التواصل حتي نضمن أجيالنا؟

اليوم يقولون إنها مسؤولية المدرسة. هذا غير صحيح، المدرسة لا تربي الطفل، المدرسة تكمل ما بنته الأسرة، الأسرة أهم حاجة للطفل. في المدرسة لا يبقي إلا 6 ساعات، لكن أين الوقت المتبقي له؟ وكيف يمضيه؟

بناء الهوية يبدأ من الأسرة، المدرسة تقوي الشيء الذي بدأته الأسرة، إذا كانت هناك أسرة مفككة لا تتكلم اللغة العربية، مؤكد أن يكون الخلل منها. في هذه الحالة، ماذا تستطيع المدرسة أن تفعل؟ إن كانت الأسرة لا تستخدم اللغة العربية فالمدرسة لا تستطيع أن تفعل أي شيء .إذا كنا نريد مجتمعا سليما يجب أن نبدأ من الأسرة. ليس هناك مجتمع سليم والأسرة مفككة لا تعرف ولا تتكلم اللغة العربية.

* اللغة العربية في تراجع كبير، حتي علي المستوي الرسمي نلاحظ في المؤتمرات أن اللغة العربية مستبعدة وحتي الترجمة قليلا ما تكون، بعكس المتعارف عليه في العالم. حضور الإنكليزية طغي علي اللغة الأم، كيف نقوي لغتنا ونجعلها محببة إلي الطلاب كما هي حال لغة الأجداد في كل بلدان العالم؟

نحن بحكم عملنا في الجامعة ووزارة التربية والتعليم ومراجعة المناهج عندي فكرة واضحة عن هذه الأشياء، أعتقد أن الخطأ عندنا نحن، أو عند صناع القرار، هذا بالتأكيد يحصل من القائمين علي التنظيم. والسؤال الذي يحق لنا طرحه: ماذا نريد من اللغة؟ هل نريد من الناس أن يتكلموا الإنكليزية أو يكونوا قادرين علي اتخاذ العلم؟ لماذا لا نركز علي اللغة الصينية كذلك وهي في المستقبل من القوي العظمي؟ لماذا لا نركز علي اللغات الأوروبية الأخري؟ أنا مع اللغة الأجنبية وتعلمها، ولكن ليس علي حساب لغتنا. أنا درست بالخارج ولكن حافظت علي الزي الوطني وعلي لغتي السليمة، علينا أن نحترم قيمنا.

* قرأت لك بحثا عن العلاقات الثقافية بين الهند والإمارات وتأثير الثقافة الهندية في الخليج ضمن الانفتاح علي الجميع، كيف ترين مستقبل الإمارت خلال هذه التركيبة من الجنسيات المتعددة، وأي من هذه الثقافات يمكن أن يكون تأثيرها الأقوي؟

ما أقوله إن الإمارات غير متأثرة بقارة معينة، التنوع الإثني في الإمارات ليس جديدا. أنا كمؤرخة عندما أنظر لمجتمع الإمارات من 200 سنة أجد الهنود موجودين، والإنكليز موجودين كذلك بسبب الهيمنة الاستعمارية، والأفارقة كانوا يأتون بهم للتجارة وصيد اللؤلؤ والغوص، لذلك أري أن التنوع ليس جديدا علي مجتمع الإمارات، وهناك تركيبة سكانية مختلفة ولكن الجالية الهندية هي الأكبر، فيجب أن لا ننسي أننا نعيش في جوار شبه القارة الهندية، لذلك الهنود والباكستانيون والبنغاليون وغيرهم.. هؤلاء جميعا يشكلون 70% من الوافدين وهم من شبه القارة الهندية، وتأثيرهم واضح. أنا أنظر للمسألة من الناحية التاريخية، وتأثير هذا التواصل متبادل بفعل التجارة. فالوجود العربي الخليجي في الهند لم يظهر بشكل بارز إلا مع رواج تجارة اللؤلؤ في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. كما أن ازدهار اقتصاديات الخليج بسبب البترول بعد اللؤلؤ ضاعف من أعداد الجاليات القادمة إلي هذه البلاد. ولا ننسي هنا أن التواصل مع مصر ازداد بعد فتح قناة السويس، وكذلك مع العراق وبلاد الشام بعد افتتاح الطرق البرية. ومن ناحية ثانية، أعتقد أن مثقفي الإمارات استقوا نسبة كبيرة من ثقافتهم وجلبوها من المدينة الحديثة في الهند وتفتح وعيهم عليها أكثر من الثقافات الأخري.

القدس العربي
07/06/2008