(عندما يجلس مع نساء عائلته فكأنما هي الجنة على الأرض)

شاكر نوري
(العراق/دبي)

أدونيسصدر لأدونيس، أخيراً كتابان جديدان عن «دار الساقي»، احدهما يحمل عنوان «اهدأ هاملت/ تنشق جنون اوفيليا» والآخر عنوانه «وراق يبيع كتب النجوم». والكتابان لا يختلفان في روحهما المتمردة العنيدة، عن الكتاب الثالث الذي كان قد صدر العام الماضي باسم «تاريخ يتمزق في جسد امرأة». وإذا كان ادونيس قد قال الكثير في كتبه الأخيرة هذه، فإن موضوع المرأة العزيز على قلبه يبقى، مع ذلك موضع سؤال، ومكان حماسة الشاعر. الحوار مع ادونيس مثير على الدوام، لكنه اكثر اثارة حينما يدور حول المرأة. فهل حقا يكتب ويتحدث ادونيس عن المرأة الواقعية ام عن المرأة المطلقة في خياله ووجدانه، خاصة وانه محاط بعالم انثوي بامتياز في احضان والدته وبين زوجته وابنتيه و«عشيقاته» اللواتي يزرن مخيلته كلما ازداد حنينه إليهن. فمن تكون المرأة في مخيلة ادونيس يا ترى، هذا ما حاولنا ان نعرفه من طرح هذه الاسئلة:

* من هي المرأة في خيال ادونيس وشعره؟

ـ أنت تعرف ان قطبي العالم، هما الذكورة والأنوثة ولكن ابطال العالم هم على الدوام من الذكور. الانوثة هي القطب الاساسي في هذا الوجود باعتبار ان قطب الذكورة ليس موجودا إلا بهذه الوحدة بين الذكورة والانوثة. واول من نبه لأهمية الانوثة في تاريخنا المكتوب هم المتصوفون، وبشكل خاص محيي الدين بن عربي، إذ يقول: «لكي يصل الانسان الى المطلق، أي الى الله، لا بد له من ان يمر بالانوثة». وهذا يعني ان الانوثة هي طريق الانسان الى المطلق. نستطيع ان نقول تبعا لذلك، بالنسبة الي شخصيا، ان الانوثة هي طريقي الى نفسي. فلكي اجد نفسي، لا بد لي ان امر او اعيش في الانوثة. ولذلك فإن الوجود دائما حسب ابن عربي يتجسد في قوله «كل مكان لا يؤنث لا يُعول عليه». وبناء على ذلك، فالرجل نفسه او الذكورة لا بد ان تكون مُلقحة بالانوثة. والانوثة لا بد ان تكون ملقحة بشيء من الذكورة، لأن هناك وحدة أساسية بين هذين القطبين. للأسف، تم فصل هذه الوحدة ونظر الى المرأة بوصفها كائنا مستقلا، عن الرجل الذكر، وفي موقع دوني. كأن الروح حلت محل الرجل وكأن الجسد صار هو المرأة. وبهذا المعنى هُمشت المرأة، وبدل أن تظل قطبا أساسيا مثل الرجل، صارت موضوعا، بل وشيئا من الأشياء، تستخدم كما تستخدم الأشياء الأخرى.
علاقتي بالمرأة هي علاقة كيانية، اذا ما نظرنا الى الانسان باعتباره نوعا من التوق المتواصل الى معرفة نفسه من جهة والى معرفة العالم من جهة أخرى. فبعد الانوثة يجب ان يكون جوهريا في فكره وفي سلوكه أيضا. ولذلك فالمرأة بالنسبة اليّ أكثر من جسد وأكثر من كونها رفيقة حياة، هي تمثل العمق الذي أبحث عنه باستمرار في الكون، وفي الوجود، كما لو كانت غيبا متجسدا. وهذا الغيب المتجسد، يظل غيبا يحثك على بحث متواصل لكي تلمسه أو تصل اليه. وكلما وصلت أو خُيل اليك انك وصلت، تكتشف أنك ما تزال على مسافة بعيدة من الجوهر الاساس. وبهذا المعنى يقال شعبيا ان المرأة لا تفهم. فالمرأة لا تفهم بالمعنى العميق، لا لصفاتها التي تطلق عليها وانما لطبيعة وجودها وطبيعة ما تمثله في العالم. هي جزء من سر العالم الذي يظل سرا لحسن الحظ. تصور لو أننا وصلنا فعليا للمعرفة الكاملة والنهائية لهذا الجسد او هذه الانوثة، لكان العالم ينتهي. ولحسن الحظ، لا الانسان الذكر يعرف نفسه، ولا يعرف الانوثة ايضا. فهذه من المحرضات الاساسية من أجل أن يظل الوجود في حركة دائمة، ويظل الانسان تواقا الى اكتشاف العالم. واذا هبطنا من هذا المستوى النظري المبدئي، الى مستوى الحياة اليومية، فكل شيء يظهر عندنا خاطئا.

* لماذا ما يزال العرب ينظرون الى المرأة نظرة دونية؟

ـ أعتقد أن السبب الاساسي في ذلك يعود الى الثقافة التي نظرت الى المرأة، نظرة دونية واعتبرتها مجرد انتاج للتناسل فقط. من أجل ذلك أصبح كل ما يتعلق بالمرأة مشوها او مكانا للخطيئة كأن جسد المرأة واسطة للخطيئة ومكان لهذه الخطيئة. وأستغرب أنا شخصيا من استمرار مثل هذه النظرة وأتساءل: اذا كانت المرأة فعلا مكانا للخطيئة، كيف لها ان تلد انبياء وقديسين وعظماء. اذاً من خلال المرأة يجب ان يعاد النظر في ثقافتنا، ولا يعاد فقط على المستوى النظري، بل وعلى المستوى العملي ايضا.
وأعتقد اذا كانت هناك روح فهي تبدأ بالجسد بكل خلية من خلاياه، ولذلك فإن مفهوم الخطيئة يجب ان ينتهي. جسد المرأة ليس مكانا للخطيئة وانما هو مكان لاكتشاف الوجود. والاتصال الجسدي هو الاتصال الذي يتخطى مسائل الشهوة ويتخطى مسائل الجنس وان كانت الشهوة والجنس جزءا اساسيا منه. نظرتي في هذا الصدد، متناقضة تناقضا كليا، مع النظرة السائدة. وعلى هذا الاساس، عندما اكتب عن المرأة لا اكتب عن امرأة محددة ولكن أكتب عن معنى المرأة، لكن هذا المعنى في الوقت نفسه ينطلق من تجربة حية، متجسد مع امرأة محددة. لذا أعطي هذه المرأة المحددة هذا البعد الكوني. ولكي انشر، لا شعوريا، عدوى ما افكر به، فإن كل ما اكتبه قائم على هذه الفكرة، ومستمد من هذه الانوثة. المرأة حاضرة في كل شعري حتى عندما لا اذكرها. هي مثل هواء، مثل نفس كوني، مدسوس في كل شعري وكتاباتي.

* تبحث عن المرأة بهذا المفهوم، وقد تخطيت السبعين، يعني ذلك أن البحث عن المرأة لا علاقة له بالعمر الزمني.

ـ المرأة بهذا المعنى هي حب أيضا، ولا عمر للحب. فالعمر الزمني لا يؤثر ولا قيمة له، ثم هناك اشياء نفسية تساعد المرأة في هذا الحب: مثلا هناك نساء يحببن آباءهن، ونساء يبحثن عن اولادهن في عشاقهن..
فلا حد يقف حائلا، ولا حد في السن، يمكن ان يقال ان الارتباط بالجسد او العلاقة بالجسد تنتهي فيه، لأن العلاقة بالجسد ليست علاقة جنسية فقط. لأن فعل الحب يمكن ان يكون في العمق، كتتويج لعلاقة متنوعة ومعقدة بين شخصين، يجب النظر في جميع الحالات، الى الفعل الجنسي المحدد، لا بوصفه كل العلاقة ولا بوصفه اساس العلاقة، وانما بوصفه جزءا لا يتجزأ من علاقة كيانية بين اثنين.

* ما هو رأيك بالاشعار العربية الحالية التي تتناول المرأة بشكل غريزي سطحي؟

ـ هذا راجع الى جهل متبادل. لا الرجل يعرف جسد المرأة لأنه لا يعرفها، ولا المرأة تعرف جسد الرجل، لانها لا تعرفه، هناك نظرة ثقافية سائدة هي ان الجنس متمركز حول الفعل الجنسي. هذه نظرة مسيئة. انا لست ضد الفعل الجنسي، بالعكس، اطلاقا. لكن الجنس بدون صداقة او معرفة عميقة، لا قيمة له، أي يصبح كجنس حيواني، خارج عن العالم الانساني. ولهذا فالصداقة بين شريكين، هي الضمانة الاساسية لعلاقتهما الحبية ولعلاقتهما الجنسية ايضا. لكن مع الاسف، هذا غير قائم الآن، ولذلك قلما تجد اثنين يعيشان فعلا، الحب بعمق. دائما هناك مشاكل، ودائما يخضع أحد الشريكين للآخر. ليست هناك مساواة، ليست هناك عدالة بين الجسدين، والمظلوم في هذا الموضوع هو المرأة على الدوام لاعتبارات ثقافية. ولهذا أحب حركات تحرر المرأة ولكن لا يمكن أن تتحرر المرأة ما لم يتحرر الرجل. وأعتقد ان المستعبد الاساسي ليس المرأة خلافا لما يظن، لأن العبد الحقيقي هو الرجل في المجتمع العربي، والمضطهد الاكبر هو العبد. فالحر لا يضطهد، الحر يحرر. ولذلك فان وضع المرأة في المجتمع العربي تابع للعبودية العميقة التي يعيشها الرجل. عندما يتحرر الرجل من قيوده وسلاسله، تتحرر المرأة تلقائيا. ولذلك على المرأة في نضالها التحرري العظيم ان لا تفكر بأنها تستطيع ان تتحرر لوحدها، بل عليها ان تعمل على تحرير الرجل ايضا.

* أدونيس هل أحببت نساء كثيرات في حياتك؟

ـ نعم أحببت نساء عديدات، ولا أزال أحب. وجزء من تمردي العام على الثقافة التي ورثناها هو تمردي أيضا على النظر الى مستوى العلاقة بالمرأة. لكن ما ابيحه لنفسي كرجل أبيحه لشريكتي الأنثى أيضا.

* أنت محاط بعالم أنثوي وبحب غامر من الأم والزوجة والبنتين، فما شعورك حين تكون بينهن؟

ـ عالمي اجمالا عالم أنوثة وفيَّ خصائص من الأنوثة كثيرة. وأنا سعيد بذلك جدا. ووجودي معهن هو كوجودي في الجنة على الأرض، رغم ان لدي أخوة. لكن للجنة مشكلاتها، ولحسن الحظ ان للجنة مشكلاتها، والا لكانت مملة ورتيبة، لكن هذه المشكلات لمزيد من التعرف، ولمزيد من الكشف، يعني تتحول هذه المشكلات الى ايجابيات. لا راحة في الحب، فالحب نوع من النضال والجهد والاكتشاف، وكل هذا فيه شيء من التعب، الراحة البليدة هي مرض. وأنا لا أحب الراحة البليدة، أحب الراحة الملقحة بتساؤلات، والملقحة بشيء من المشكلات، والملقحة بالتأثيرات، لكي يظل الانسان يقظا ومتحركا. والدتي لا تقرأ ولا تكتب، والآن تجاوزت المائة من عمرها بثلاث أو بأربع سنوات، وعلاقتي بها مثل علاقتي بالطبيعة. لا أستطيع ان أتناقش معها، لأنها كما قلت لا تقرأ ولا تكتب. فهي فلاحة، لكن فلاحة فيها كل اشياء الطبيعة، يعني احسها في الوقت نفسه جبلا وبحرا وواديا وغابة وشجرة مفردة وسهلا بلا نهاية، حقلا بلا نهاية. فهي بالنسبة اليّ الطبيعة، التي اسافر فيها، واتقلب بحسب طقوسها وبحسب فصولها. هي تجسيد فعلا للطبيعة، أكثر مما هي من جهة العقل والنظر والتأمل.

* هل تعتقد أن الثقافة الغربية وصلت الى حلول في النظر الى المرأة؟

ـ لا إطلاقا. لا تنسى، ان الثقافة المسيحية نظرت بدونية أيضا الى الجسد الذي هو رمز الخطيئة. المرأة في الغرب، خارج نطاق الزوجية، شعرت أو أخذت تشعر انها حرة وتستطيع ان تعشق من تشاء. لكن ما زالت هناك مشكلات كبرى في البنية الاساسية للمجتمعات الغربية. أي لا تزال النظرة الدونية للجسد قائمة وموجودة وعندها مشكلات، إنما غطى على هذه المشكلات تطور القانون في الغرب. أعطيت المرأة حقوقها القانونية الكاملة، لكن هناك ما وراء القانون، هناك الحياة الاجتماعية اليومية، وهو موضوع آخر. وكل ما يشاع عن المرأة الفرنسية، انها متفلتة وحرة، اعتقد انها صورة خاطئة. لأن المرأة الفرنسية لا تزال في اعماقها محافظة حتى الآن.

* ما هو رأيك عندما يقال بأن نزار قباني شاعر المرأة؟

ـ نزار قباني صديقي وحبيبي. عشنا معا لفترة، وأنا احترم تجربته، واعتقد انه شاعر كبير، لكن نظرته للمرأة لا أقرها لأنه ساعد المرأة على التحرر الشكلي من القيود والمعوقات، وجعلها تعتني بجسدها كما تشتهي، لكنه لم يلامس الجذور العميقة لمسألة التحرر. التحرر يجب ان يبدأ من تحرر الذات، الداخل، انه تحرر الأفكار والمفاهيم. نزار لم يذهب بعيدا في هذه الخطوات التي بدأها، وهي مهمة جدا.

* إلام يعود ذلك القصور، الى الوعي أو الى الثقافة العربية السائدة؟

ـ لا أعرف. هناك شروط اجتماعية، لأن الفرد أيضا مشروط بمجتمعه مهما تمرد. هناك مجتمع بنيته متخلفة أو غير متقدمة أو متزمتة، يدفع الشاعر الثمن باعتباره متمردا أو كامرأة متمردة، لأن المجتمع لم يتحرر بعد. حتى يتحقق التحرر الفردي، يجب ان يتحرر المجتمع ايضا، بحيث يصبح المتحرر كأنه يرتكب خطيئة بالنسبة للمجتمع ويدفع ثمن ارتكاب هذه الخطيئة. ولذلك نتمنى ان ننقل افكارنا في التحرر الى مختلف الفئات الاجتماعية. المجتمع كله يتحرر لا بأفكاره وحدها وإنما بمؤسساته أيضا، ينشئ مؤسسات قانونية واجتماعية تحمي هذه الحرية الفردية وتحتضنها.

* مَن من الشعراء القدامى أعطى صورة ناصعة للمرأة، حسب رأيك؟

ـ تعرف ان الشعراء القدامى كانوا ينظرون الى المرأة نظرة غزلية. كان الشاعر العربي، يغزو المرأة ويزهو بانتصاراته في هذا الغزو، ويكتب عنها بهذه العقلية الغازية المنتصرة. هناك شعر جميل بهذا المعنى. وهناك شعراء كتبوا عن المرأة بوصفها قلعة يحاول الشاعر ان يفتتحها ويهدم أسوارها لكي يصل اليها. فالشعر العربي بهذين الاتجاهين، اما انه غزا ونجح في غزوه، ويصف هذا النجاح، واما انه يخطو الى افتتاح هذه القلعة، ويتألم ويشكو، وربما لا يصل أو يصل قليلا. ليست هناك صورة للمرأة ككيان حر في الشعر العربي، انما هذه الصورة تعطيها المرأة بالعكس، المرأة هي التي تعطي عن نفسها صورة حرة، مثلا، تقول ولادة بنت المستكفي:

أُمكنُّ عاشقي من صحن خدي
وأعطي قبلتي من يشتهيها

المرأة هي التي تعبر. النساء العربيات قبل الاسلام كن يتزوجن بأنفسهن ويخترن الرجل، وكن هن اللاتي يطلقن الرجل أيضا. فهناك امرأة مشهورة تزوجت اربعين مرة، ولم يقل عنها أحد انها امرأة زانية، ولم ينتقدها أحد على الاطلاق. وكانوا يقولون هذا من حقها. إذاً نجد الصورة الحقيقية للمرأة الحرة، عند المرأة العربية، أكثر مما نجدها عند الرجل العربي.

الشرق الأوسط-21 نوفمبر 2007