حاورته: حياة الخياري (*)
(تونس)

أحمد الشّهاوي أحمد الشهاوي من الأقلام المتميّزة في الشعر العربي المعاصر وهو، وإن انتحى منحى "حداثيّا" يحتفي بكتابة الممكن ويبشّر بالمعنى الزائغ ، فإنّه قد اختطّ لنفسه طريقا بكرا يكتنفها عبق العبير الصّوفي دون أن يطمس شذى بخور مريم الأمّ .
وإذا كان تأويل الصوفية للآية الكريمة " ن. والقلم وما يسطرون." ،اعتبار "القلم علم التفصيل والنون (الدّواة) علم الإجمال" ،فإنّ أحمد الشهاوي قد سخّر قلمه لتفصيل صور نون مجملة متدفّق مدادها، يتراءى في كلّ قصيدة على هيئة استبصار وكشف ينهلان من معين الرّمز الذي لا ينضب.
فالمتتبع لكتابات الشاعر يتبيّن ما في لغته من عمق وشفافيّة أسهما إسهاما فاعلا في إثراء شعريّة نصوصه وضمنا اكتساءها لبوسا جديدا مع كلّ كتاب يصدره على امتداد مسيرة ناهزت العقدين من الزّمن.
تلك المسيرة واكبتها الكتابات التالية: ركعتان للعشق 1988، الأحاديث (السفر الأوّل) 1991، كتاب العشق 1992،الأحاديث (السفر الثاني) 1994، أحوال العاشق 1996، كتاب الموت 1997، قل هي 2000، مياه في الأصابع 2002، الوصايا في عشق النساء (الكتاب الأوّل)2003، لسان النّار 2005، الوصايا في عشق النساء (الكتاب الثاني) 2006، ويصدر له قريبا (2008)ديوان "باب واحد ومنازل" (1) .

وممّا لا شكّ فيه أنّ نصّ أحمد الشهاوي، من تلك النصوص التي عليك ألاّ تكتفي بمجرّد قراءتها، بل عليك أن تعيشها وتألف كونها الرّمزي حتّى تقي قلمك مزالق التعسّف في نقدها و تأويلها.
قد تتسلّح بما تلقّنت من نظريّات ومناهج عاقدا العزم على فتح ما استغلق من لغتها وبنائها وإيقاعها، لكنّ النصّ سرعان ما يصدّك منكرا جسارتك، ملتمسا منك أن "تدخل عليه من بابه، و تلابسه ثيابه".
في تلك اللّحظة بالذّات تمثل القصيدة أمامك تميمة، يتراءى حبرها طلسما طاسما، ويتناهى إيقاعها إلى سمعك ذكرا وتعويذة .

قصيدة قد تنفر حتى من مجرّد الهمس أو الإيماء،إذا ما راودتك نيّة أن تخاطبها من خلف حجاب.
أمّا إذا ما تماهيت َمع حروفها، فإنّها لا تعدك بالظّفر بـ"معنى"، بقدر ما تبشّرك باستيلاد "رؤيا".
إنّها "لوح محفوظ" يومئ إليك أن "اخلع نعليك" إن كنت تمنّي النفس بعبور معاريجي واستشراف "حروف عاليات لا تقال".

حينئذ تدرك أنّك مطالب بأن تستشعر المعنى لا أن تفهمه،وبأن تحدس اللّغة لا أن تؤوّلها، فيكافئك النص بأن يحفظك معه في لوحه حيث يخلقك وتخلقه في فعل تتقلّبان فيه معا بين منزل "المشاهدة" ومنزل "المكاشفة"،في فلك لا قرار لمداره.

وكثيرا ما ينتهي بك المطاف متفاجئا بكونك أمسيت طرفا في النصّ، وخيطا يشتبك مع نسيجه الشّعريّ ، بل وطلسما من طلاسمه ،تصبو – بدورك - إلى الفكّ،حالك حال سائر الرموز التي حسبت قلمك مستنفرا لفكّها، فتستحيل موضوعا للبحث بعد أن كنت قد اقتحمت التجربة الإبداعية باحثا.
إنّك إذ تلتفح بوهج الحرف، تلتحف بوهم المعني ،وفي الأثناء تنتشي – ولا شكّ - باحتلال موضع من كتاب أنت فيه المتن ولستَ الهامش...

لكنّ ما لاحظناه ،انطلاقا من تتبّعنا لكتابات أحمد الشهاوي، هو إنّ تلك القيمة الفنية العميقة التي ميّزت شعره ونثره، وبلغت قدرا من التكثيف والنضوج الفنيّ في دواوينه الشعريّة الأخيرة، كادت تنطمس ملامحها بفعل بعض القراءات الإيديولوجية والانفعاليّة التي أثارها كتاب "الوصايا في عشق النساء" بجزأيه الأول والثاني. وبلغت قمّتها مع قرار مجمع البحوث الإسلاميّة مصادرة الكتاب بناء على تقرير يكفّر الشاعر (2).

وإذا كانت القراءة حقا مشاعا للجميع فإنّ مصادرة حريّة الفكر والإبداع من الظواهر التي استفحلت في عصرنا ودلّت على كوننا نعيش أزمة حقيقيّة لا على المستوى الثقافي فحسب بل على المستوى الحضاري الإنساني مطلقا.
فأن تُصادر كتب الشعر والأدب ويختار وزير للإعلان أن يعتكِفَ ، بسبب رأي صرّح به في مسألة دينيّة، لهو من العلامات الكبرى على أننا في زمن عربيّ أرعن.
وليس المقام مناسبا للدخول في مطارحات فكريّة أعمق حول خصوصيّة العلاقة بين الأدب والدين لأنّنا نفرد هذه الظاهرة بدراسة نقديّة مخصوصة عنوانها "حوار الشعريّ والقرآني: أفق القراءة..أحمد الشهاوي نموذجا"

أمّا في هذه المقدمة ،فحسبنا أن نشير إلى أنّ كتابات الشاعر أحمد الشهاوي كثيرا ما كانت محكا يثبت أنّ الأدب العربي عموما والشّعر المعاصر على وجه الخصوص يواجه أزمة في التلقّي .
سواء وقفوا في صفّ الكاتب أو ضدّه ، فإنّ القرّاء قلّما ينصفون النصّ الأدبيّ بقراءة تحتكم إلى داخله الإنشائي الفنّي ، فهم إمّا أن يطمروا النصّ في قبو الأمّ "نوال عيسى" متّكلين على الإهداء الذي دأب الشاعر على أن يصدّر به كلّ كتبه، وإمّا أنهم يعلّقونه (النصّ) على هيكل جسد مهووس بالجنس.
بين هذا وذاك يختفي المكتوب وراء لافتات عُلّقت على الكاتب إلى أن عَلقَتْ به وكادت تحجب صفاء الجوهر ..
على الشاعر أن يقول ويَمْضي، لا أن يعني ويُمْضي، ثمّ يقف ملتمسا صكّ التوبة في طوابير الفتاوى التي طالت هذه الأيام.
ونتمنّى ألاّ تكون الضّجّة التي أثارها كتاب "الوصايا في عشق النساء"، قد استنزفت جهد الشاعر أحمد الشهاوي وشغلت فكره وأهدرت وقته بين سجالات الصحافيين، وفتاوى بعض الأزهريين وتجاذبات النقاد، فألهته عن الكتابة .
لذا نرى من المناسب أن نذكّره بكلام كان قد قاله منذ أواخر 1998، أي قبل مجرّد التفكير في "الوصايا في عشق النّساء"، فحواه أنّ "الكتابةَ أهمُّ مِنْ عشق النساء..." (3).
وفي محاولة لإضاءة زوايا بدت معتمة في خصوصيّة الكتابة وفي فضاء أحمد الشهاوي: شاعرا، وإنسانا ، أجريت معه الحوار التالي باعتباري قارئة وباحثة في أدبه، ولعلّي لم أفلح كثيرا في التخلّص من صفة "الأنثى" التي لامس الأديب أعماقها بكتابات استشرفت "رؤيا الأنثى" امرأةً، لغةً وقصيدةً ، لكن من منظور رمزيّ،صوفيّ،وجوديّ، منزّه عن الاعتبارات المعياريّة بأبعادها المختلفة.
بيد أنّ منطلقاتنا المعرفيّة "البريئة" لم تمنع من أن نتسلّح بقدر من المناورة والتجاهل و"التّغابي أحيانا " ،حتّى نقتنص من الشاعر مساحات توسّع من استبصارنا في مواجد "ذي النونين المصري." (4).

* * * * * * *

*أثارت "وصاياك" (الكتاب الأول 2003 والكتاب الثاني 2006) جدلاً واسعاً لم تثره كتاباتك الشعرية والنثرية الأخرى التي لا تقلّ قيمة .
فيم ترى السّبب: في النصِّ المشْكل، أم في القراءة الانفعالية الإيديولوجية؟

الكتب حظوظ. هُنَاك أعمال عظيمة لشُّعراء تمُّر دون أن ينتبه إليها الشُّعراء أو النقَّاد ، وهذا حدث كثيراً على مَرّ التاريخ.

وفى حياة كُلّ شاعر يتوقَّف النُّقَاد أو تاريخ الأدب أمام أعمالٍ بعينها، قد تُلَبِّي حَاجَةٌ ما فنية أو مضمونيةً أو أيديولوجيةً حين صدورها؛ ولذا تظلُّ عنواناً على الشّاعر ويُعرف من خلالها وبها، وتصاحبه طوال مسيرته، بل هناك أسماء تُخْتَصر في كتابٍ واحدٍ.

مثلي عُرِفَ بشكلٍ أوسع من خلال تجربتي في ديوان "الأحاديث" (السِّفر الأول 1991 - السِّفر الثاني 1994)، وهى تجربةٌ تستفيد من بنية الحديث النبويّ، وكذا الحديث القدسيّ مُزَاوِجَةً بين ما هو بشرى وبين ما هو إلهيّ، معتبرة أن للأحاديث بناء مختلفاً ولغةً مغايرة، وأنها شكلٌ ينبغي أن يستفيد منه المبدع العربي بدلاً عن الانسحاق - طوال الوقت- أمام كل ما هو وافد، دون الالتفات إلى التراث العربي أو النصوص المقدسة.

ولعلني أعوّل أكثر على "الأحاديث" - السِّفر الثاني، فقد جاءت أكثر نُضْجَاً على مستويات عديدة، ولذا استُقْبِلَتْ جمالياً بشكلٍ جعلني أواجه مشكلةً: ماذا سأكتب بعدها. وربما لولا موت شقيقتي سعاد (التي تكبرني بعام) سنة 1995 ميلادية، ومن ثم كتابتي ديوان "كتاب الموت" الذي صدر في يناير 1997، لظللتُ وقتاً طويلاً دوُنَ كتابةٍ، قلقاً حائراً، ما الذي يمكن أن أقدمه بعد "الأحاديث - السِّفر الثاني".

وأريد أن أشير في هذا السياق إلى أن الاحتفاء المكثَّف والمتواصل بعملٍ ما أحياناً يكونُ مُضِرَّاً لصاحبه، خصوصاً إذا كان في أول الطريق، ومازال يتشكَّل ، أو في طريقه إلى تكوين صوتٍ شعريٍّ خَاصٍّ، بعيداً عن أي تأثيرات أو تداخل أصوات في تجربته.

فمثلاً كتابي "أحوال العاشق" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1996 تجاوز الثلاثين ألف نسخة في ثلاث طبعات، وكان أكثر كتبي حميميّة ومقروئية، على الرغم من أنه لم يثر ما أثاره كتابي "الوصايا في عشق النساء " 2003 من مشكلات لم تنته ولا أظنها ستنتهي حتّى بعد موتى، مادامت هُناك فتوى من الأزهر بتكفيري.

ولكن القُرَّاء صاروا يعرفون أحمد الشهاوي بوصاياه، و"ينسون" بقية كتبي الشعرية أو النثرية، فمازلتُ أرى أن أعمالاً مثل الأحاديث (السِّفر الثاني ) ، و"أحوال العاشق" و"لسان النّار" من أهم ما كتبت. وأنا لا أقلّل من تجربتي في " الوصايا في عشق النساء"، لأنها تجربة تقدم شكلاً جمالياً جديداً قديماً، تطوِّره وتضيف إليه، وتلفت الانتباه إليه، بعد ما ظل مجهولاً ومهملاً ومركوناً ومسكوتاً عنه، على الرغم من أننا كُنَّا ندرسه في المدارس باعتباره جنساً أدبياً عند العرب، ولكنّه نُسي وَأهْمِلَ.

كما أَنَّ قراءته قراءة دينية حَجَبَ الرؤية الفنية والجمالية التي قدمتُها فيه، باستثناء بعض الأصوات النقدية المهمة التي قرأته من منظور جمالي خالص، وانشغلتُ وانشغل الآخرون بالدفاع عنه أو الهجوم عليه وعلى كاتبه من منطلق ديني.

فالقراءة الدينية الانفعالية -كما ذكرتِ- جعلت من بعض أعضاء الإخوان المسلمين "مفكرين وشعراء ونقاداً" يتحدثون في الشِّعر والنثر، ثم حَوَّلت بعض شيوخ الأزهر المنخرطين في مجمع البحوث الإسلامية أو خارجه إلى "مُنَظِّرين ومبدعين" يتحدثون في الكتابة والإبداع وهم بعيدون عنهما، وربما لم يقرؤوا كتاباً واحداً منذ تخرَّجوا في الجامعة، ومع ذلك يفتون في كل شيء، ولديهم الجرأة في إخراج مثلي من الملّة، أنا ابن أحد أبناء الأزهر، الذي تربَّى على القرآن والأحاديث والتصوّف منذ طفولتي.

القراءة الانفعالية هي نقيض الكتابة، وضد الإبداع، ومن شأنها أن تُعمِّم الفوضى وتنشر الفساد، وتوصِّل إلى الاختناق والعزلة، وربما إلى هجران الكتابة، والهجرة من الوطن، تحت وطأةِ الظُّلم، وتثبيتِ صورةٍ بعينها للشّاعر.

إن السَّبّب يكمن في أن أهل الدين غير متفقهين بما فيه الكفاية في الدين، ربما يكونون يعرفون في بعض أموره، لكنهم بعيدون عن القراءةِ الحقّ، ومن ثم يصدمهم ما جاء في كتابي، حيث إن الإنسان عدو ما يجهل .

نسجت على منوال ابن عربي في استلهام الوصيّة جنساً أدبيّاً ،لكنّك لم تأخذ بوصيته بأن "تتبع سنة الأحباب في ستر الحال"، حتّى أنك هُدَّدت بأن تلقى المصير ذاته الذي لقيه الحلاّج.
هل تعتقد أنّ الاستعاضة عن التصريح والبوح بالإشارة والرمز كانت كفيلة بأن تقي نصوصك من قراءات انفعاليّة متعصّبة "لا يعوَّل عليها" (5) (حسب تصنيفك لشروط فعاليّة التلقّي)؟

صحيح أنَّ محيي الدين بن عربي هو أحد شيوخي مع الحلاَّج وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار، وذي النون المصري وسواهم من أهل التصوف، لكنَّني لم أنسج على منوال محيى الدين بن عربي ولا غيره، بل استفدتُ منهم لاشك في تجربتي الصوفية التي أعيشها منذ الطفولة والتي تلازمت مع التجربة الشعرية، فالتصوف لديّ طريق وسلوك، وليس فقط أحد مصادر ثقافتي وقراءاتي. وابن عربي ليس له كِتَابٌ اسمُهُ الوصايا. ولكنَّ بعض الناشرين في لبنان اقتطعوا أجزاء من "الفتوحات المكية " لابن عربي ووضعوها في كتابٍ أسموه "كتاب الوصايا" .

أنا أخذتُ فكرة "الوصايا في عشق النساء" - والتي وُلِدَتْ في المنستير -تونس - من فنّ الوصية العربية. ولم أخطّط لكتابة هذا الكتاب أبداً ، ولكنه جاء عفو الخاطر ، بمعنى أنني كنتُ أنهي كتاباً لي في مدينة المنستير حيث كنت مشاركاً في إحدى الندوات حول التصوف، فجاء فصل الختام لكتابي هو بداية "الوصايا"، ولما عدتُ إلى القاهرة أسميته "الوصايا في عشق النساء". والكتاب الذي كنتُ بصدد إنهائه لم أنهه إلى الآن ، ومازال قيد الكتابة. وأظنُّ أنه يُحْسَبُ لي أن نَبَّهتُ إلى أهمية الاستفادة من الأشكال الفنية التراثية، وضرورة النهل منها، وقد فعلتُ ذلك من قبل مع الأحاديث واعتبرتها شكلاً فنياً عربياً فريداً ، وكذا لي محاولة في الاستفادة من شكل الحكمة العربية في كتاب لم أصدره بعد يتضمَّن ألف حكمة لي عنوانه " كِتَّان الآلهة"، باعتبار أن الحكمة بيت العارفين والآلهة والرسل والأنبياء والمفكرين والفلاسفة وأهل العشق والتصوف، أما الكِتَّان فهو أقدم قماش عرفته البشرية مع القدماء المصريين، كما أنه لا يَبْلَى ، ويظلَّ على حاله مثل الحكمة تماماً تزيدُ ولا تنقص.

أنا أحبُّ الكَشْفَ في سَتْرٍ، لا أسعى إلى التصريح أو المباشرة، وليس هدفي أن أكون مباشراً أو زاعقاً، فأنا بطبعي شخصٌ كتومٌ وربما أكون باطنيًّا، أي أنني شخصٌ يحاور نفسه طوال النهار والليل ساعياً إلى معرفة ذاتي والوصول إلى نقطتها الأبدية الغامضة.

أَنَا بَوَّاحٌ ولكنْ مع نفسي، طَّراحُ أَسْئِلةٍ، أشيرُ وَأُلْمحُ وَأَرْمُزُ. وأستر حال روحي، أكتمُ ولا أبوح، ربَّما لا أُسِّر بالستّر حتَّى لنفسي. هكذا تكونتُ وَتَدَرَّبْتُ ولا يهمني ما المصير الذي ألقاه، أو ينتظرني.

ولكنْ كتاب "الوصايا في عشق النساء" على الرغم من أنه كتابٌ في العشق والشِّعر والحياة والجمال ، مكتوبٌ بشعريةٍ، فإنه يمكن اعتباره كتاباً "تعليمياً" على طريقة الأسلاف في الحضارات القديمة: العربية والإسلامية والهندية والصينية وغيرها من الحضارات الخالدة التي لها تراثٌ لافتٌ في العشق.

وما دام هُنَاك عِشْقٌ، فلابد للمرء أن يتوقَّع الرفض والمصادرة وسيطرة فقه التعصُّب والتشدُّد والتطرف، وممارسة الإقصاء والنفي وهذا حال الشعراء والطليعيين والمتصوفة على مدار التاريخ . وأنا أعوِّل على "الوصايا …" ككتاب سيبقى بسبب ما قدَّم ، وليس بسبب مَا حَدَث له من الإخوان المسلمين وشيوخ الأزهر والأمن.

لكنّ "الأيديولوجيا السياسية والدينية" ملمح واضح من ملامح واقعنا العربي.
أليس من الصّعب أن ننأى بعمليتي الإبداع والتلقّي عن طائلة الوقوع تحت وطأة " اللّحظة الرّاهنة "؟

إن لم يُعَمّق الشَّاعر "لحظته الراهنة"، فلن يحصل على كثير من الشعر، ولكنّه سيحصد كلاماً كثيراً، الزمن كفيلٌ بغربلته وطرحه بعيداً. وللمرء أن يتساءل عن "حجم" ما قيل من شعرٍ في حروبنا العربية، وقضايانا، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين، ما جدواه، ما شعريّته، ما مكانته، ما قيمته، ما الجمالياتُ فيه، أهو إضافةٌ ، أهو شعر جديد؟.

لستُ ضد أية كتابة، ولستُ - أيضاً - ضد أيّ نوع، لكن يحقُ لي أن أسأل عن الكيفية، كيف يُكتب مثل هذا "اللون" من الشّعر الذي يتخذ من "اللحظة الراهنة" منطلقاً، وطريقة، ومذهباً. وهناك أعمال شعرية عربية كاملة "سقطت" في الطّريق لأنها، كُتِبَتْ تحت وطأة " اللحظة الشعرية" - كما ذكرتِ - في سؤالك. بل أن هناك شعراء ألغوا أعمالاً من تجاربهم باعتبارها لم تعد تمثلهم، وهذا دليل اعَترافٍ منهم على أنها ليست شعراً، والأمثلة كثيرة، لأن مثل هذه الأعمال "تسقط" من الشّعر مع اختبار الزمن سواء كان قَصيراً أو طويلاً.

أما "الأيديولوجية الدينية" فلم تنتج شعراً ذا قيمة.

هل رأيت شاعراً أفرزته جماعة "الإخوان المسلمون" مثلاً ( سآخذ مصر نموذجاً) ؟
هل أنجب الأزهر شاعراً ؟ هل هناك ناقدٌ أو شاعرٌ من شيوخ الأزهر؟ الذين دوماً ما أقول عنهم إن آخر كتاب قرؤوه عندما كانوا يدرسون في المعاهد أو الكليات، أو يدرسون للحصول على درجاتهم العلمية والأكاديمية.

من المؤكد أن هُنَاك استثناءات قليلة، ولكنْ مثل هذه الاستثناءات "تم علاجها "، بمعنى أنها تأسَّست في الأزهر، وخرجت عليه (في النقد الحديث: صلاح فضل مثالاً).

ومن الضروريّ ألاّ يستجيب الشاعر لشروط اللحظة الراهنة، لأنَّها لحظةٌ إنسانية وليست شعرية، بل يمكن تحويلها إلى شعريةٍ بالمعنى العميق للشعريّة، كما أنه لا ينبغي الاستسلام للذائقة السائدة لأنها "مَفْسَدَةٌ مطلقة" للشعريّة، وطريق يسيره نحو الاستسهال ومخاطبة الغرائز والمشاعر والعواطف.

ألا يكفى أنّ كثيراً من شعرنا العربيّ هو شعر مناسبات. وللأسف قد عاد هذا الشعر بشكل مكثّف، مع كثيرٍ ممّن يصنفهم النقَّاد بأنَّهم حداثيون.

طبعاً لا يقين ولا شروط في الكتابة الشعريّة، ولا ينبغي لي أن أكون مُعلِّما أعطى حكما وتعاليم صارمة، ولكنّني "لا أطيق" مثل هذا النوع من الكتابة وأرى أنه ينبغي على الشاعر أن يعلو على "جرحه" أياً كان سياسياًّ أو دينياًّ أو عشقياًّ بكتابة تحفر الباطنَ، وَتُقَدِّمه.

*لو أقصينا عمليات التلقّي التي لا يعوّل عليها الشاعر أحمد الشهاوي، لوجدنا أنفسنا أمام نخبة قليلة من القرّاء.
ألا تخشى من أن يكرّس الاتجاه الرّمزيّ الصوفيّ الذي تنتهجه أزمة الشعر العربي المعاصر الذي يعانى - أصلاً - جفوة بين النصّ وقارئه؟

إن نَصِّي لا يعانى جفوةً من القارئ.
فيمكن أن أصف نفسي بأنّني شاعرٌ مقروءٌ. على الرّغم من أن قارئاً ما قد يجدني "شاعراً صَعْباً" أو "غامضاً" أو شاعراً يحتاج إلى تلقٍّ خاص، وقارئٍ خاص، أو إلى تركيزٍ شديد لحظة القراءة. إن نصِّي يكتشف فيه جماليات جديدة مع كل قراءة جديدة له. وقد اخْتُبِرَت نصوصي كثيراً على مستوى النشر، ومن ثم التلقّي، وكانت مقروئيّتها عالية وغير متوقّعة في مناخٍ معادٍ -ربما - للشعر، والكتابة بشكل عام.

أنا شاعرٌ تعنيه النخبة، ويعنيه "القارئ العادي" في الوقت نفسه، يعنيه المقيم في النصّ ، والعابر على النص.

وأنا لا أنتهج اتجاهاً ما، أو أسلوباً ما، أو لغةً ما. ولكنّني أسعى عبر أعمالي الشعرية والنثرية إلى أن أنوّع وأغيِّر، ولا أمشي في الطريق ذاته الذي سبق لي أن مهدته وأنجزتُ فيه. والرمز الصوفي ليس اتجاهاً واحداً، إنَّه اتجاهاتٌ عدّةٌ.

وأنا لا أرى أزمةً ما تواجه الشّعر العربي، وإذا كانت هناك أزمة - كما أشرتِ - فهي تخصَّ الشَّاعر ولا تخصُ الشِّعر، لأنَّ الشِّعر أكبر وأبقى وأعمق وأهم من الشَّاعر.

والشِّعر الجيِّد نادرٌ وقليل في زماننا، وفى كل العصور، ولا أستثنى لُغةً بعينها. فالله مثلما يوزّع الأرزاق، فهو يوزّع المواهب، وينوّعها بالقدر والحجم، وقد تعلَّمت ألا أصف شاعراً بالرداءة أو البلادة، لأن اللَّه لم يعطه سوى قدرٍ ما من الموهبة التي يشتغل شعرياً في مساحتها، ومن ثم لا ينبغي أن نسخر أو نستهين بما أوتى الشَّاعر من "حجم" موهبته.
كما أنّ الشّعر نخبويّ - على مر العصور. يبدأ من النخبة ثم ينتهي إلى الجمهور العريض، شريطة أن يصل إليه.

لآخذ قسطنطين كفافيس نموذجاً. فقد كان يطبع ما بين مئتي وثلاثمائة نسخة من كل ديوان ينشره في الإسكندرية ويوزعه بنفسه على أصدقائه ومعارفه وأقاربه. الآن كفافيس موجود في كلّ بيت في العالم مع أنه نخبويّ وخاص، لكنه شاعر عانى مأزقاً إنسانياً حتى موته ، وصاحب موهبة كبيرة وأسلوب خاص.

أنا لا أخشى شيئاً.
لا أخشى السُّلطة ولا الرقابة، ولا شيوخ الأزهر ولا الجماعات الدينية ، ولا الأمن ، ولا القارئ ، ما أخشاه حقَّاً ، هو ألا تكون لدي مساحة لافتة ومهمة وكبيرة من التأمُّل.

ما أحتاجه - حقَّاً - هو التأمُّل . فأنا شاعرٍ يعيش ويكتب تحت وطأة العزلة والوحدة والتأمل والسّفر لأن كُلّ هذا يجعلني عارياً من كلّ شيء سوى الشفافية والبساطة والتقشّف ، والذهاب إلى الذّات ، وفضّ ختم الأسرار.

لكنّ عمليّة "فضّ ختم الأسرار" تقتضي من "المريد" مكابدة ومجاهدة في سبيل أن يرتقي إلى مصافّ "العارفين" .
و"معضلة" المعرفة تحيلنا - في مستواها الأبسط – على طبيعة العلاقة بين "مريد المعرفة" و"موضوع المعرفة" ،أو بين المبدِع والملهِم .

* في هذا السياق "المعرفي – العرفاني" تقول إنّ "هناك تلقّ بالفطرة بمعنى تلقّ بالشعور وبالحدس"، ولا شكّ أنّ الشاعر الصوفيّ ،بدوره، كان شاعرا بالفطرة والحدس والإشراق، وقد كنتَ منخرطا في طريقة صوفيّة هي الشاذليّة. بين النصّ الصّوفي والتجربة الصّوفيّة، أيّ الرّافدين تراه أشدّ استثارة لإلهامك؟

- لا إشراق دون عشق، ولا فطرة دون خبرة، ولا حدس دون حسّ، وأنا دوما مع تثقيف الحواس، لأنها هي التي تعمل وتسيّر وتختبر وتحكم، والإنسان محكوم بقلبه، ولا محبة دون "قرار" من الشعور الجواني، والإشراق الباطني، الذي يتلاشى فيه الزمن، ويتخلّفه زمن آخر ميتافيزيقي لا يقاس بوحدة الزمن التي يعرفها العامة.
حيث لا يكون هناك محل لأسئلة من نوع: لماذا أحب؟ لماذا أحدس بالشيء الفلاني؟ لماذا أشعر أنّ قلبي متّوحد مع قلب فلان؟ هذه الأسئلة وغيرها لا إجابة لها، لأنها بنت الحدس والحسّ والإشراق و...، إذ تكون القلوب قد ائتلفت، والنفوس قد اتفقت وتوافقت، والأرواح اتّحدت وتكاملت.
وأنا مع أنّ هناك قلبا جاهلا وآخر مثقّفا، وأنّ هناك حواسّ مثقفة وأخرى غشيمة بالمعنى السلبي، لأنه في "الغشم" كثيرا ما نجد فطرة وعفوية وطبيعة بشرية تتسم بالنقاء.
وأنا ابن التجربة الصّوفية لا النص الصّوفي، بمعنى أنني أعيش التصوّف وأمارسه منذ الطفولة، وهذا لا يعني تجاهلي للنصوص الصوفية، خصوصا النتاج الذي تركه الإشراقيّون الكبار والمؤسّسون من الأقطاب، فكم من متصوفة هم أصحاب طرق ولا إنتاج لهم يوازي "مكانتهم" بين المريدين، والشاذلي من هؤلاء، لذلك كان عليّ أن أنتقل من أبي الحسن الشاذلي إلى غيره ممّن أثروا روحي بما أفاضوا وأشرقوا.
ولذا أنا "لم أقع" تحت سطوة أو سلطة النص الصوفيّ من خلال القراءة، بقدر ما كان للتجربة الصوفية المعيشة أثر بالغ في تكويني، وزاد ذلك الأثر بالقراءة بعد ذلك، خصوصا الاحتفال والاحتفاء بالنصوص والمتون الصوفية الكبرى، نعم أنا "أضعت" سنوات من عمري في قراءة الشروح والهوامش والتفاسير إلى جانب المتون ، لكنّني منذ سنوات لم أعد أهتم إلاّ بالمتن، فلم يعد هناك وقت أسيله على تراب الحياة، ولم تعد زهرتي تفكّر كيف ستتفتّح كل صباح، وإنّما هي ماضية في سبيل ما فطرت عليه من أداء يوميّ إلهيّ مقدّس.
فالتجربة الصوفية، تبعدني عن الاستعارة من الخارج، أي استعارة اللّغة والحال،. لأنّ اللّغة وحدها لا تصنع شاعرا، والشّعر لغة مخلوقة من القلب، ومن يتفقّه في الهوى والعشق ينعم الله عليه بلغة أخرى جديدة، ويمنحه خصوصية، إذ تظلّ ذاته في حالة تجلّ دائم.

*أنت، إذن، تعيش الحالة الصوفية، لكنّ حال الإشراق والتجلّي التي وصفتها تخترق حجاب قلبك وتفيض على لغتك ونصّك .
وبالوصول إلى النصّ تستقرّ "حال الإبداع"، لتبدأ "حال التلقّي" محفوفة بكلّ ما في عمليّة التأويل من مكابدة تعود إلى ما يكتنف منظومة الرّمز الصوفيّ من دقّة وعمق والتباس.
هل تثق بقدرة "التلقّي بالفطرة وبالحدس"، على الغوص في غياهب رموزك الشعريّة ؟

- أنا أثق أنّ القلب يقرأ ويفكّر، وأنّ الرّوح تعرف. وأنا ابن قرية، فلاّح، وأعرف – بل شفت وخبرت- أن هناك بشرا لم يتعلّموا في مدارس، أكثر "ثقافة" وخبرة من غيرهم الذين درسوا وتعلّموا، ويتواصلون مع الشعر والموسيقى والغناء والحب، يعبّرون عن أشواقهم بلغة راقية، يخلقها الحال التي يعيشونها أو الحزن الذي يعتريهم.

أنا هنا لا أتحدث نظريا، ولكن من خلال المشاهدة والمعاينة. فكثير من أغاني محمد عبد الوهاب وأم كلوم التي غنياها بالقصص ومنها من ينتمي إلى الشّعر العربي القديم تلقاها الجمهور بدرجات متفاوتة.
وربّما أشهر مثال - ونحن نتحدث عن "الرمزية الصوفية"- هو الشيخ "ياسين التهامي" الذي وهب حياته لإنشاد شعر عمر بن الفارض ، وله مريدون يقدّرون بما يزيد على خمسة عشر مليونا في مصر، يتلّقاه - أكثر ما يتلّقاه- عامة الشعب خصوصا من صعيد مصر، فهو من الجنوب أساسا وظاهرة ياسين التهامي أكبر دليل على التلّقي بالحدس والفطرة، وخبرة الحواسّ وعفويّتها في الوقت ذاته. أنا – حتّى الآن- ما أزال أتلقّى الفنّ التشكيليّ، والموسيقى، والشعر وغيره من الفنون بقلبي.
ولا أشكّك لحظة في درجات التواصل والوصول إلى قلب الأشياء وقراءتها. قد لا أكون قادرا على التعبير، لكن من المؤكّد أنّني ممتلئ بما أنا فيه من عشق، أو نشوة، أو اكتمال، أو لذّة، أوبهجة، أو ذوق، أو معرفة، أو تجلّ، أو وصول...
صحيح أنّ الغوص يحتاج إلى تعلّم، ولكن من يسبح من أهل القرى (في النيل على سبيل المثال) يمارسون السباحة دون تعلّم أو تدريب كما لدى أهل المدن، فالفطرة معلّمهم الأوّل، ووصولهم إلى الساحل أو الشاطئ يأتي عفوا، وهكذا أعوّل على القلب المحبّ، والرّوح العاشقة، والنفس المجبولة على الوصل والوصول، والذّات المعجونة بماء النقاء.. وهذا من شأنه أن يضمن لنصّي التلّقي على أكثر من وجه ومستوى.
والتلقيّ - كالطريق الصوفيّ- على عدد أنفاس البشر. كلّ يتلقّى تبعا لروحه وقلبه و"ثقافته" أوخبرته بالأشياء وانفعاله بها.
ما أجمل أن لا يقول الشّاعر إلاّ رمزا، ويكون من أصحاب الإشارات والتّلميحات، ولم يكن الشّعر يوما ذا وجه واحد مألوف، وإنّما هو حمّال أوجه، متعدّد وكثير حتى داخل النصّ الواحد.

*يكفي الشّاعر أن يقول لا أن يعني، فهل يكفي متلقّي شعرك الرمزيّ أن يحدس ويستشرف،لا أن يدرِك و يؤوِّلَ ؟

- لم تعتد روحي أن تكون مرآة "صادقة" للحياة التي أعيشها، مع أن أفلاطون يشير في "جمهوريته" إلى أن وظيفة الشعر هي أن يقدم الشاعر صورة – مرآة الحياة والطبيعة.
إنّ الحياة التي أعيشها ينبغي أن تمرّ عبر قلبي، وأن ألتقي بها في سمائي، كي تتكوّن وتتشكّل وتذوب داخلي ومن ثمّ تخرج شعرا أو لا تخرج، المهمّ ألاّ أحاكي أو أقلّد حدثا أو موقفا، أوأسجّل كل ما أمرّ به.
أنا أتقابل مع ما يدخلني وأومن به، ويستقرّ فيّ، ويجول في روحي، وينازعني هواجسي، وأحلم به، وأعاشره طوال الوقت، ومن ثمّ في لحظة الكتابة لا أجد عناء ما في أن أرمز. ربما لأنني طبيعتي رمزية بالأساس، أحبّ الاقتصاد والاختزال والإيجاز والتكثيف، أتكلّم وأكتب بالحذف، أمحو أكثر مما أبين، أشذّب وأخلّص الأشياء من حمولتها، لتحمل جديدا، ربما صورتي أوانعكاس روحي عليها.
لذلك أعوّل على الإشارة لا الشّرح، وهذا ما جعلني منذ سنوات لا أشتري إلاّ الكتب التي تتحدّث (في) لا (عن)، فلم أعد أريد لأحد أن يحكي لي عن (الشيء)، فأنا أريد الشيء، وأرغب في معرفته والذهاب إليه، وسبر غوره بنفسي. والإدراك هنا معناه، إدراك بالحواس لا بالعقل المجرّد، أعوّل على العقل الباطني، لا على المسائل المحسوبة، التي يمكن إدراكها بالوسائل المعروفة.
لأنّ كلّ معنى يحمل ألف معنى، ومن يعني شيئا بعينه في الشعر يحدّد الأشياء ويضيّقها، بينما الشعر واسع، وإذا لم يؤوّل يصير "كلاما عاديّا" لا يعوّل عليه.
والقصيدة – بشكل عام- يفسدها الشرح والتحليل، وهي تؤخذ هكذا بالتعبير القلبي، أو تعبير الرؤيا، إذ يقابلها متلقيها في سمائه، ومن ثم في "المعراج" يكون التلقي الحقّ، فمثلي يكتب عن أشياء مجهولة داخله، لا يعرفها ولا يدركها، يحسّ بها، ويهجس. وإذا عرفها سلفا لا تصبح شعرا. فأنا كشاعر كلّما ذقت عرفت، وازددت جهلا بي .
ومن ثمّ أنا في الدائرة منذ الطفولة أحاول أن أكتمل فيها، أو أكملها، وإذا ما اكتملت الأشياء تموت، أو تهيم جنونا. وأنا ما بين الموت والجنون أعيش، يأخذني خيالي بعيدا ويعيد تشكيل قلمي، ويخلق لي حبري الأسود الذي اكتب به.

خلْفَ "سواد حبرك" أراك تخفي " بياض كينونتك ".
لطالما اتّخذ الصّوفيّ من حجابيّة الرّمز سبيلا لستر العشق،وستر المعرفة. وعند أحمد الشهاوي الصّوفيّ،الشّاعر، والإنسان، ماذا يمثّل الرّمز؟

من يسأل سيرمز، ومن يبحث ويسبر سيرمز، ومن يجوس ويجول سيرمز، ومن يستبطن سيرمز. فَالهَتّكُ مهمٌ ولكنْ رمزاً، وكذا الكشف مهم ولكنْ رمزاً.

ربّما في حياتي كلّها لا أتكلم ولا أكتب ولا أحلم إلا رمزاً. فالرمز له ناسُه، له شعراؤه، ولا يستطيع أن يكون كُلٌ شاعرٍ رامزاً.
لا تعنيني التعريفات الأكاديمية للرمز والرمزية. ولكنّني أتحدَّث من نار الكتابة وألقها وأرقها. فالرمز يمنحني حيواتٍ، ووجوهاً عديدةٌ لوجهي، ولغاتٍ ، وحروفاً أخرى لم أستخدمها من قبل.

ففي السَتَّر غوايةٌ، وفى الخَفَاء غُمُوضّ مُحَبَّب، وفى السرّ جاذبية، وفى الغِطاء تجلً.
أظنُّ أنني خُلِقتُ رمزاً ورامزاً.

ومن لا يكتب رمزاً يفتقرُ إلى الخيال. والكتب الشعرية التي ينقصها الرمَّز تُقّرَأ لمرةْ واحدةٍ، ولعلَّ خَلْقَ الشاعر وابتكارَه لا يستويان على عرش الشّعر إلاَّ بالرمز.

وعَادَةً أتخلَّص من الكُتب التي لن أقرأها مرةً ثانيةً، وعندما أتأملها الآن وأسأل لماذا غيبتها عن مكتبتي، سيكون الجواب، لأنّ أصحابها يكتبون من المستوى (صفر)، الذي هو السَّطح ، لا عمق في شيء ، فنحن لا نستطيع أن نحصل على الماس أو الذهب أو الأحجار الكريمة، أو كل ما هو نفيس إلاَّ بالحفر عميقاً . وهكذا الشَّاعر ، دوماً في حَفْرٍ وبحثٍ ومساءلة وتشكيل وتجريب، وإقامة علاقات مدهشة وغريبة وغير مألوفة ، لأنَّه ما تزال هناك مناطق في الرُّوح لم يطرقها الأسبقون شعرياً.

فليس صحيحاً أنَّ الأوائل لم يتركوا لأسلافهم شيئاً أرى أنَّ الكتابة رمزاً خروج على أعراف الاستسهال ستبقى - أساساً - إلا وهى خارجة على التقاليد والسُّنن.

فالرمز يمنح الشاعر حرية في التشكيل، والخيال، والبناء المعماري للنصّ، وإقامة تزاوجات بين ما يعرف من فنونٍ ومعارف وعلومٍ.

وأظنُّ أنَّ الصورةّ دائماً تسبق الحقيقة والواقع والمعيش، فما هو خياليّ قد يتحقَّق بعد عشر أو مئات أو آلاف السنين. ولهذا تعيش النصوص الكبرى، وتظل حيَّة في وجدان متلقيها، لذا فإنَّ الشَّاعر لا يسير على هدى الجغرافيين الأوائل، مكتشفي الأمكنة والصحراء، وراسمي خرائطها، وإنّما يرسم خرائطه في بنية مغايرة وشكل ولون مختلفين.

وكُلُّ قصيدة هي خريطةٌ جديدةٌ أغفلها أو نسيها أو أهملها الجغرافيون .لأنَّ الشِّعر كَشْفٌ واكتشاف. وتحقُّق للروح التي تقول رمزاً حين تَّعْشَقُ أو تكتب ، أو تعبِّر - حتَّى - عن الموت.

لقد رأيتُ في قريتي نساء ورجالاً لا يقرءون ولا يكتبون، يعبّرون عن أشواقهم وأحلامهم رمزاً بطرائق لم أرها لدى شعراء نعرفهم منحتهم الشهرةُ سطوةَّ وسلطة.

لذا فإنّ أيَّ تعبيرٍ دون رَمْزٍ هو قاصِرٌ عن الوصل والوصول (مع وإلى) قارئِهِ.

تشفّ جبّة الصّوفيّ التي تلتحف بها قصائدك عن كتابة بالرّغبة، كثيرا ما تتوسّل برموز مختلفة لمداراتها، وتعدّ حروف الأبجدية أهمّ تلك الرموز التي تواترت في مجمل كتاباتك حتى إنك تستلهم من التراث الصوفيّ تجربة التماهي مع الحرف حين تقول قصيدة "خُموري تصلّي":
"أنا الحرفُ
الذي لم تَلدهُ اللّغاتُ
لم تكتشفْهُ يدُ."(6)

*بم تفسّر وفاءك للحرف خياراً فنيّا رمزيّا على مدى العقدين من الزمن تقريبا؟

أَنَا كفلاح إذا وجدتُ أرضي محروثة سأحرثها من جديد. أريد أن أرى صُورتي وروحي في الأرض التي أملكها.

في الصِّبا زرعتُ عشرات الأشجار على جسور أرْض أبي وكنتُ أراها تنمو أمامي وتكبر كُلّ يومٍ. وكنتُ أَسَميِّها وأشعر أنني أُحَقق شيئاً ، أو أضيف إلى الدنيا كائنات لم تكن لتوجد لولاي.

وأراها لغةُ جديدةَّ، وحروفاً تَتَخَلَّقُ أمامي، وُلدت من الماء والهواء والشمس والتراب، وقبل كل هذه العناصر وُلِدَتْ من هواي وروحي وتفكُري فيها.

وأنا أسيرُ إليها حيث كانت بعيدةٌ عن بيتنا أو هكذا كُنْتُ أتصور، أظَلٌ مشغولاً بفواتح السور، وَمَهْجُوساً بطاقاتها الحروفية، محاولاً فكّ طلاسمها وسََبْرَ أسرارها، والذي تجلَّى بعد ذلك في قراءاتي لتفاسير وتأويلات المتَّصوفة - وهى كثيرةٌ - لتلك الفواتح، كما أعيد التفكير فيما قاله أو تعلمته من (الشيخ محمد) الذي كان "يُعمِّر" بيتنا بالقرآن ظهراً وعصراً، (أما الليل والفجر فكان لأبي الذي كان يستهويه أن يُسَمّيني وأنا طفل: الشيخ أحمد) عن الأرقام والحروف التي يستخدمها في عمل " الأعمال" أو فكها، أو استحضار الجن. وكدتُ "أتخصّص" في هذا "العلم " وأصير أحد شيوخه، إذ يبدو أن روحي كانت ومازالت مؤهلة له.

واتفقنا (الشيخ محمد) وأنا أن أتعلَّم "أعمال المحبة" فقط وأن أبتعد عن أعمال الكراهية، واستدعاء الجان واستحضاره وقتما أشاء خشية ألاَّ أستطيع أن أصرفه مثلما حدث مع آخر قبلي حَيْثُ منحه الجان طريحة غير مسبوقة، من الضّرب.

في "أعمال المحبّة" التي بدأتُ في تعلُمها، كان هدفي استمالة زميلاتي في المدرسة، وأن أرى "سحر العمل" عليهن، وتأثيره على أرواحهن وقلوبهن. ربَّما تكون هذه "القصة" في تاريخي الشخصي البداية في "الهوس بالحروف والأرقام"، قبل أن أقرأ ذلك في الكتب، لأن نقل ما في الكتب لا يقدم إضافة ولا جديداً.

كنت أُدْهَش - وما زلت- لطاقة الحروف في استمالة القلوب، واجتذاب الأرواح وائتلافها واتحادها، وقدرتها على الطيران والهبوط في اللا مكان أو أي مكان يريده الشيخ لمريده، أو يريده العاشق لمن يهوى.

الحرف، هو أحد الخيارات الفنية الرمزية، وليس الخيار الوحيد أو الأساسي، لكنّه أحد الملامح اللافتة في شعري.

وإذا كُنّتُ قد خضعتُ لسطوة الحرف، وسلطته وأنا صبيٌ كي "أستميل" النساء (الفتيات) في المدرسة، من خلال "أعمال المحبَّة" التي تستعصي على الفَكّ من أي شيخ "منافس" لي . فأنا بعد ذلك ولدتُ الحروف إذْ صارت مغايرة ومهاجرة لمكانها ودلالاتها ومعانيها تُعبّر عن رغبتي الروحية والعشقيّة.

إذ إن الحرف الواحد لديّ يأخذ عديد الدلالات، وفى كل مرة أستخدمه، هو في شأن آخر، ومقصد مختلف. فلا معنى أن أنقل دلالة حرفٍ أو معناه مثلما استخدمه أحد شيوخي من المتصوفة.

الحرف الذي يرد في نصِّي له زمنٌ ومكانٌ وهيأةٌ وعمرٌ ومعنى ودلالة ودورة حياة ، وطقوس، وعوالم وَسِحْرٌ مختلف.

والحروف ليست ثمانية وعشرين حرفاً كما نظن، إنها على عدد أنفاس البشر، من حيث ولاداتها داخلي، وتكاثرها، وحمولتها بالمعاني والدلالات.

فما الجسدُ مثلاً، خصوصاً جسد الأنثى، إلاَّ حروفٌ مرغوبةٌ تتحقق بالكتابة والاختبار.

وإذا كان النَّهد حرفاً - مثلاً- فأنا أمنحه قّدَاسَة وأكون قربانه، لأنَّ الخالقَ قَدَّسَهُ في كتابه الحكيم.

الحروفُ ليست لُعْبَةٌ، في لعبة الشِّعر. وليست ألغازاً مع التسليم بسحريتها وغموضها. وليست معبراً للتميُّز والفرادة، لأنه ما أسهل أن أصير " حاوياً " أو لاعباً "للورقات الثلاث".

الحرفُ وَحْدَةُ أُمَّةٌ.

والحرفُ وَحْدَةُ حَيَاةٌ نَنَفُخُ فيها من روحنا، ونملأها مِياهاً، وَنَغْمُرهَا إيناساً.

لعلّ أهمّ ما يبدّد وحشة حرفك ويجعلنا نستأنس بالغوص في مياهه، انفتاحُ نصوصك على نصوص دينية وصوفية وأدبيّة تنهل من المعين الرّمزى ذاته .
لكنّ "التناصّ" ( L' Intertextualite) يضعك - باعتبارك مبدعاً - أمام تحدّ جوهره: كيف تضمن لنصّك هامش التميّز والجِدّة والطرافة،في ظلّ تهافت شعراء جيلك على روافد تنهل من المعين الرّمزيّ ذاته،إذ تستلهم الحرف الصّوفيّ والحرف القرآنيّ آليّة للإبداع؟

أَنَا مَشْغُولٌ بالشِّعر، ولستُ مشغولاً بالشُّعراء .

دائماً ما أضع النصوصَ الكبرى -عبر التاريخ - أمامي، أقرأها وأعودُ إليها، ولا أراها السَّقف النهائي للكتابة، إذْ لا سقف للنص، ولا سماء للإبداع، فهناك سماوات عديدة تنتظرنا.

وأنا لا أسير إلاَّ على هدي روحي. أنا شيخُ قلبي، لي أسراري وتعاليمي، عوالمي الباطنية. ولي حرفي، باحثٌ دوماً عن متون دينية وصوفية وفلسفية في كُلّ الحضارات.

ولدي مكتبةٌ فيها. أتوقف أمام تلك المتون، وأطمح حالماً أن أخْلُقَ متني، تاركاً ما يفيد الناس ويذكِّرهم بأن على هذه الأرض كان يوجد أحمد الشّهاوي.

التحدّي الوحيد هو الوصول إلى الجوهر ، وليس النظر إلى الآخر ماذا قدَّم، أو أنه صار شبيهي، أو يشتغل في المسار ذاته.

لابدّ للشَّاعر أن يستخدم طرائق كثيرةً لا طريقة واحدة في الكتابة، ويفتح آفاق لا أفقاً، وألا تُظله سماءٌ واحدةٌ بل سماوات، وألا يكون مأسوراً لناموسٍ بعينه، أو لسُّنة من السُّنن.

أَنَا لا أُقِّدّمُ بياناً (مانيفستو) بما ينبغي على الشَّاعر فعله، ولا أطرح تعاليم وإرشادات ونصائح، لأنَّ الشّعر خارقٌ للنظام، وفوق كُلّ وصايا. ولكنَّني أتحدَّث عن رحابته وسعته وطموح شّاعِرِهِ.

والشاعر يكتب سِرَّه، ويكشف ستره ولا يكشف في الوقت ذاته، لكنَّه يُقْدّم كشوفاً وفتوحات أقرب إلى الفتوحات الإلهية أو الربانية أو المقدسة تُمنح لأهل الوهب لا الكسب، وبين الوهب والكسب شسوع في المسافات.

وأَنَا ممّن يقلقون من الكِتابة تحْت تَّأثير القراءاتِ، إذْ تغيب الرُّوحُ ولا تفعلُ فِعْلّهِا في النَّصِّ. ونكون أمام كُتّلةٍ من سواد الحبر قد تُغرِي، لكنها من فرط التَّكَلُّف والصنعة لا يتوقّف القلب أمامها، بل يجافيها مبتعداً ونائياً.

أَنَا أضْمَنُ لنصي شيئاً واحداً فقط، هو أن يكون أحمد الشّهاوي في تمام حَرْفِهِ، واكتمال دائرتِه ، وسطوع شمْسِهِ ، وديمومةِ عِشْقِهِ ، وعلو روحه.

تطوّف بك الرمّوز في فلك الدّوائر: بطوناً ونهوداً وكواكب ، لكّنك تلوذ بالنقطة داخل كلّ مدار - ماذا تمثل النقطة لأحمد الشهاوى؟

لّسْتُ عارفاً تحديداً ماذا تمثِّل "النقطةُ" لي. صحيح أَنَّني قرأتُ الكثيرً عن الحرف والنقطة. وهُنّاك مرجعيات مختلفة في دلالاتيهما.

لكنّني أعتبر نفسي "نقطةً" بين روحي وجسدي، نقطةً بين يميني وشمالي، نقطةً بين عينيّ، نقطةً بَيْنَ فتحتي أنفى .

أعتبر النُّقطةَ لذتي القصوى، والتجلِّي الأعلى لروحي، هي إشراقي، وبدء دوائري، هي المسار إلى الخطّ الذي أتأمله كثيراً.

النقطةَ ليست " كائناً " صغيراً، إنَّها جُرْمٌ، وكوكبٌ ، وَنَجْمٌ، إنَّها عالم الفكرة في اتساعها، إنها تدور حولي، وأنا في فلكها مشحون ودائر.

النقطةُ حَيَاةٌ، مِنْهَا أَبدأُ وبها أواصل فَتْحي. فهي نون النهد التي نُقَدّسها، ونصلِّي لها ونحيا بها ، وهي نون السُّرّة ولولاها ما بقينا أحياء.
فلو ابتعدتُ عن النقطةِ سأموتَ، أَنَا أتماهىَ فيها لأتحقَّقَ .
النقطةُ بدء العالم، ونهايته .
ولذا أراني نقطةً بيني وبيني، تُشْرقُ وتتجلَّى وَتَفِيضُ.
فالنقطة أصل الأشياء. أَصْلُ الحرف؛ لأن كُلَّ حَرْفٍ يبدأُ من النُّقْطَةِ، ومنها تبدأُ الروحُ كِتَابةَ نَشيدَهَا.

وأِنَا في النُقطةِ أرى كُلَّ شيء يَتَجَسَّدُ أَمَامي.
وإنْ كُنت أستعيدُ من حينٍ إلى آخر ما قاله الحلاَّج حول النُّقْطةِ أَوْ فيها، فإنَّني أٌفَارِقُهُ، فهو يرى أَنَّ "النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة، فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنُّقطة عن الخط، وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بَصَرُ أَحَدٍ فهو نقطةٌ بَيْنَ نُقْطَتَيْن".

وأرى النُّقْطَةَ تستمد طاقتها من روحي، تُشَاغِلُني ، وتهجس لي، وأحلم بها ، وَتُفَكِّر بي، وَكُلُّ ما ينعكس عليها هُوَ مِنّى.
النُقْطةُ ذَرَّةُ مُوسيقىَ، تَنْشَطِرُ في رُوحي، فَأَلُمها لأَِكُونَ النُّقْطَةَ ذاتها.

النُقْطَةُ أسرارٌ ، تحتاج إلى شاعرٍ ليكشفها ويلتذَّ بها، ويعرف أَنَّ لا عشقَ بلا نُقْطةٍ ، وأّنْ لا شعرَ دونها ولا سماء.

من النقاط التي اكتسبت قيمة "المرجعيّة الذاتيّة " (Auto –Referentielle) في مجمل كتاباتك، نقطة النّون، ولعلّ عصارة تجربتك مع النون تحدّث عنها قصيدة "قبر حرف يطير" المضمّنة في "لسان النار" . وفيها تهمس بنوع من الضّيق بالنون:
               "الزَّمنُ يمرُّ
               وأنا مختبِئٌ في نونٍ." (7)

* هل نفهم من ذلك أنك بدأت تستشعر ثقل الانحسار داخل نون رحم نوال عيسى الأم وتتطلع نحو نصف دائرة النون الغائب مثلما يفعل الصوفيّ مع نون الوجود؟

نوال عيسى رَمْزٌ ، ولا شِعْرَ دون رَمْزٍ ، وهي بالنسبة لي امرأةٌ مجهولةٌ على الرغم من أنها أمي التي ولدتني، لكنَّها ماتت وأنا دون الخامسة، وهي دون السادسة والعشرين. ربَّما أكون قابلتها قبل ولادتي، ربما هي موجودةٌ داخلي أسطورياً، لم تفارقني. و"قراري" بوجودها داخل نصوصي منذ بدأتُ كتابة الشِّعر، ربَّما هو نوعٌ من الكشف لها. هي بالنسبة لي سِرٌ كلَّما حاولتُ كشفه أراه يكبر وَيَغْمُض أكثر، فأحاول من جديد وأعيد الكرّة مرَّات أُخْرى.

ولأنَّها شِعْرٌ فهي استعارتي الجديدة التى لا تتكرّر. ولذا لم أضق برمز النون أبداً. فقط أوضّح أن أي حَرْفٍ وَرَدَ في شعري لا يأخذ دلالةً واحدةً، بمعنى أن النُّون ليست فقط نوال عيسى، وإلاَّ ضاق قارئي قبل أن أضيق أنا.

نوال عِيسى، هي مجمع النساء، ومختصرهنّ، وهي امرأةٌ تكاد تكون منسية حتَّى في قريتنا، لكنني أحاول "تخليدها"، صحيح أنَّها امرأة جميلة بل وفاتنة ومن عائلة كبيرة لها مكانتها الاجتماعية والأدبية. ولكنَّ الموت المبكِّر غيّبها، وغيَّب معها أشياء كثيرة، لاشك أنني فرِحٌ باستعادتها عبر شعري، وأسعد عندما يسألني أحدٌ عنها، وأستفيض في الإجابة. وأذكر هنا أن جدتي "عطر شان" أي "وردة الشمس" بالعربية. كانت أكثر سعادة مني كون أن ابنتها محفورٌ اسمها في كتب ابنها، و"الناس" تتحدَّث عنها، بمعنى أنها لم تغب رغم الموت، وما تزال حَيَّة على ألسنة الكُتَّاب والنقَّاد والصحفيين والشعُّراء وموجودة في الدراسات النقدية والأدبية التي تناولت تجربتي الشعرية.

عموماً نوال عيسى ، أكثر من أنثى داخل النصّ الذي أكتبه، ربما أتخفّى وراءها، ربَّما هي قِناعٌ، مع أنني أكره الأقنعة في الحياة، وفي الكتابة معاً.

إنَّها نساءٌ توزَّعن في شعري، عرفتهنّ وعشتهنّ، هي مختبر التجارب، وبوتقة المحبّة، حاضرةٌ وغائبةٌ، ومن خلالها أبحث - لا شك - عن غائب قد يأتي، أنتظرُهُ سَوَاء أكانَ معي أم فيّ، أم مكتملاً في نأيه، وغيابه .

في مقابل هذه المعاني الملتبسة بالموت والفقد والغياب ،تتّدفّق رموزك حياة بمجرّد أن تلامس المياه، إذ تقول في قصيدة "حاء ميم" من كتاب "قل هي ...":

               "أنا لستُ نوحاً
               كيْ أسمِّي البحرَ عمراً ضائّعًاً
               ولديّ وقتٌ
               أقصرُ قامةً من قُبْلةٍ." (8)
قد تستبعد نون فُلْك سيّدنا نوح ،لكنّنا نلمحك في نون سيّدنا يونس الملقب بـ"ذي النون" محتميا ببطن الحوت، وفي نون سيّدنا عيسى محاطا بعناية إلهيّة في رحم مريم.
وفي "النونات" جميعها تقاطع بين مياه الرّحم ،ومياه البحر ،ومياه الحياة ،في حين تتراءى مياهُك "مياها في الأصابع".
هذه الصورة المائية المنفلتة القائمة على مطلق الرمّز، إلي أيّ حد تتشرّب رؤيا للعالم؟

المياه ، هي جنون الكائن داخلي .

والشَّعر كالمياه مقدَّسٌ . وكلاهما يخرج في حالة تكون متطابقة ، وهي "الحالة التي يكون فيها الإله داخل الإنسان ".

وَأَنَا في الحالين أُشْرِقُ من قبسٍ إلهيِّ. وَأَصِلُ إلى الأعلى، إلى الشجرة المقَدّسة ، إلى منتهى الحال ، وسدرة الذروة ، إذْ لا سَمَاءَ بعد ذلك.

أنا مَعَكِ أنّ "المياه" تتعدَّد في شعري. وهي ملمح لافت أشار إليه عددٌ من النُّقَّاد، لكنْ عندما اخترتُ اسم "مياه في الأصابع" ، وهو مقتطع من جملةٍ شعريةٍ لديّ، لمختاراتي الشعرية من خمسة أعمال (1987 - 2000 ميلادية)، -بدءاً من "ركعتان للعشق"، وحتى " ُلْ هي". كنتُ أظنُّ وّقْتَ وَضْع هذا العنوان، أنا ما قدمته هو مياه في الأصابع، كنوع من العدمية، أو عدم الوثوق، أو التشكُك في ما قدمتُ، أو القلق المقيم لدى الشاعر، كأنني كُنْتُ أختم مرحلةً شعرية، لأبدأ أخرى، كأنني أتخلَّصُ من إرثي الشخصي، أرميه ورائي، لأبدأ من "الصِّفر"، ذلك الصِّفر العربي القديم المفكَّر فيه سَلَفًا، والمتصل بتراث وتاريخ وأفكار ورؤى وأرواح .

أَنَا ابن المياه ، وإليها أَسعى وأتوقُ ، ومنها أحيا، وَأُحْيي روحي، ولا أريد أن أشرح أو أُفَسِّر دلالاتها لديّ، لأن المياه ودلالاتها مهيمنة وذات حُضور كثيف فيما كتبت.

*لا شكّ أنّ الرّموز بدورها لم تخلق إلاّ لتظلّ مياها تنفلت من بين أصابع التأويل،وأفقا للاستبصار، يستعصي على المحاصرة .
لكنّ متعة معايشة المعنى المنفلت، قد تغري الشاعر والمتلقّي معا بإطالة المكث في ضيافة العنصر الدلاليّ فتصرفهما عن الاحتفاء بالعناصر الفنّية الأخرى التي تكمّل الفضاء الشّعري. فكيف نتوقّى من مزالق الهوس باللّهث وراء "الدلالة" و"المعنى"؟

- أنا ضدّ عماء المعنى، وأيضا ضد مباشرته وتقريريّته، لست مع التفسير، ولكنّي مع الاجتهاد في التأويل، أكره الشروح، واستمتع بالمتن، وأحاول أن أراه بعيني روحي، فالباطن يعرف نفسه، وكلّ يقرأ حاله، لكنّه ربّما لا يعرف كيف يعبّر عن هذه الحال.
والباطن ليس معنى واحدا، إنه معان عدّة، والرّوح في ذاتها طبقات فوق طبقات، متقلبة وصغيرة ومتحوّلة، وفي شعري أحاول كتابة أشواقها وتجلياتها وتحولاتها الدائمة ربما آلاف المراح في اليوم الواحد.
أنا مثلا ليس لي مزاج واحد، أنا أمزجة.
ولا أريد لأحد أن يحاصر نصّي بقراءة ذي وجه واحد، أو بمعنى واحد لا يحتمل التأويل، أويحصر نصّي في نطاق ضيّق. أريد من قارئي ألاّ يلقي كتابي من يديه بعد الفروغ من قراءته، أريده أن يعود إليه مرة ثانية أو مرات أخر، كي يمسك بما لم يستطع الإمساك به في القراءة الأولى.
لست من الذين يغريهم الجمهور، وأعرف اللّعبة تماما ربما وجودي في الصحافة منذ وقت مبكر، عصمني من تلك اللّعبة. وجعلني أفرّق مبكّرا وأقرّر ما للشّعر للشّعر، وما للصحافة للصحافة. لا أخلط بينهما. صحيح أنّني أفدت من مهنة الصحافة في الإيجاز والاقتصاد والتكثيف والتقشّف والحذف، كما أفدت من ممارسة التصوّف في أن أكتب حالي ولا أستعير حالا ليست لي، خصوصا مع انتشار استعارة لغة المتصوفة منذ السبعينات في القرن الماضي. ودوما أقول: من السهل أن تستعير لغة لكنه من المستحيل أن تستعير حالا. ولذا رأيت كيف "سقطت" أغلب النصوص الشعريّة التي اتخذت التصوّف حلية أو واجهة لغوية دون تعمّق أو استبطان روح تفيض بما فيها.
كما أنّ الوقوف أمام الدلالة وحدها، أو الاحتفاء بالمعنى فقط، من شأنه أن يغيّب جماليات النص الأخرى. والشعر العربي في أعلى صوره لم يمنح المعنى سلطة أعلى، وقد رأينا من يطالب بسقوط دولة المعنى، على اعتبار أن تلك الدولة حدّت من استمرار تجارب شعرية مهمة.
هناك معان شريفة وسامية ونبيلة يمكن الاحتفاء بها في مقالة، وليست موضع عملي الشعري. ولن أنسى كيف طالبني أستاذ أكاديمي أزهري بأنه عليّ أن أكتب "الوصايا في عشق العمل" وليس "الوصايا في عشق النساء" هذا بعد أن طالب باستتابتي أو إقامة حدّ الردّة عليّ.
كما أنّ واحدا من قيادات الإخوان المسلمين، طالبني بعد أن مدح موهبتي ومكانتي الشعريّة، بأن أوجّه طاقتي الشعرية لخدمة الإسلام والمسلمين، وهو يقصد خدمتهم (الإخوان المسلمون) وخدمة توجّهاتهم.
هنا نحن أمام حالتين تطالبان بأن يعمل الشاعر "خدّاما" في بيت "المعنى" ينفّذ رغباته، ويلبّي له طلباته، ويكون تحت أمره وقتما يشاء.
ولذا نجد أنّ مئات الآلاف من "القصائد" قد ديست، أو نسيت، أو أهملت لأنّها حملت معاني ولم تحمل شعرا.
لنسأل مثلا عن الشعر الذي قيل في مدح الرسول، وحبّ الوطن، وثورة الجزائر، وحرب أكتوبر، والقضية الفلسطينية، وحرب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.. وكذا من المناسبات التي لا أقلّل منها أبدا، بل أجلّها وأحترمها، ولكن للأسف أنّ "نظم الشعر" في وطننا العربي، أو ثقافتنا العربية أعلى بكثير من "كتابة الشعر"، هل يصدّق أحد أن في موريتانيا مليون شاعر. إنّها مقولة مجازية، ضاع الشعراء الحقيقيّون بها في بلدهم ،لأنّ النّظامين فيها لا يستطيع أحد حصرهم.
إنّ النّظامين هم من يحمون دولة المعنى. ولهم أعوانهم من "النقاد" وأساتذة الأدب والنقد والبلاغة في الجامعات العربية. ويحتفون بهم في أطروحات جامعية.
إنّهم مهووسون بالبحث عن "الدلالة" و "المعنى" كما ذكرت في سؤالك.
والناقد المشغول بالشعر، يستطيع أن يخرّج آلاف "المعاني" من شعري، إذا أراد، شريطة أن يقرأني قراءة شعرية جمالية محضة، لأنني في النهاية ابن ثقافة معنى، ولست مغيّبا عنها، ولكنّ روحي جبلت على أن تتكلّم أو تكتب رمزا، وهذا أشفّ وأبقى لي ولنصّي.

صحيح أنّك ابن معنى ، وابن رمز، مثلما ذكرت، لكن كثيرا ما نلمس ضيقك بعقم الدّلالة، وقلقك من هروب المعنى، وقد بلغ بك الأمر حدّ التبرّم من لغة القواميس والمعاجم حتّى في اصطلاحاتها الصوفيّة والرّمزيّة.
ومن الواضح أنّ قصائد "لسان النار"، كانت عصارة قلق الشاعر ،وقلق اللّغة في آن معا. ففي قصيدة (كتاب من الماء) تتساءل:
               "بأيّ اللّغاتِ سأنقشُ سرّكِ
               يا شبيهي وضدّي
               وهتْكِ الكلامِ الذي أحملُ ......
               لستِ اسما شريدا ينام
               في شارع من لسان العربْ." (9)
وفي قصيدة (ريح عاطلة ) تتنكّر لمنظومة سيميائيّة في اللّغة حسبناك حرفا قُدَّ منها وذاب فيها ، إذ بك تنفي قائلا:
               " لستُ أنافِسُ
               من وضع النقطةَ فوق النّونِ
               لستُ المأخوذَ بقاموسِ الرّمْلِ." (10)
لعلّك مأخوذ بمعايشة "حالة صوفيّة" مشبعة بـ"المسّ"و"الانجذاب" و"الشطح"،لكنّك –في المقابل- تطمح إلى "ذوتنة" لغتك،بأن تخلق معجمك الشعريّ الخاص،بمنأى عن "نحو الفطنة" الذي ذبّ اللغويّون عن حياضه، وبمنأى عن "نحو القلوب والفطرة " الذي هام به مشايخك من الصوفيّة.
كيف تعرّف لنا تلك المساحة المتبقيّة التي تتيحها اللّغة أمامك ؟
وما هو السبيل الذي تنتهجه حتّى تقي نصوصك من شائبة الخروج من "المستوى اللاّنحويّ" (Agrammatical) – بمعاييره الجماليّة القائمة على "الانزياح"-، إلى " المستوى المرفوض" الذي يعيق تواصلك مع القارئ، لا سيّما وأنّ بعض شعراء جيلك يرفعون لواء التجديد ويرمون القارئ بالعجز عن تنسّم شفيف المعاني متّكئين على تعلّة عدم تبيّنه "ذلك الخيط الرّفيع الذي يمتدّ بين الغموض والإبهام وصلا وفصلا " ؟
بطبعى أنا متمرّد على مستويات عديدةٍ، وقد طَالَ ذلك شعري لُّغةً وبناءً. وَهَذَا التمرُّد ليس نقيضاً لإيماني الصوفي الوجودي، الذي يراه المرءُ فيَّ عبر سلوكي وَصَمْتي وطرائق تعبيري شفاهةً وكتابةً، لكنْ يَبْقَى النصُّ الشعريُّ هو الدَّال عليَّ في الأخير، "وثبة الإيمان" هذه بتعبير كيركجارد، جعلتني أعيشُ أكثر من حياةٍ، وأكثر من تجربةٍ، ولم يجعلني قلقي الداخلي، وعراك هواجسي، أَنْ أتنازلَ أو أعيشَ حياتين، أو أكون إنساناً مُتَنَاقِضاً، ما أعرفه أن نصِّي الشعري يتطور وينمو ويختلف لغويا منذ تجربتي الأولى حتَّى الآن، قد أكونُ معروفاً أو شهيراً في الوسط الشعري، لكنْ ما يؤسفني - هكذا أتصوَّر وقد أكون مُخْطئاً - أنني غير مَقْروءٍ بالقدر الكافي، ولا أقرأ أو تُعاد قراءتي، حتَّى من قِبَل أصدقائي إلاَّ بعد كُلِّ جَدَلٍ يُثَارُ حول كتابتي، أو "أزمة" تواجه نصوصي، من قِبَل الذين يقرءون كوني الشعري بشكلٍ خاطئٍ وقاصر وغير جمالي.
إننى أتركُ لغريزتي حريتها أَنْ تَعْمَلَ، هذه الغريزة التى "تَرَبَّت" على البساطةِ والتلقائيةِ دونَ تقصُّدٍ أو تعمُّدٍ، لا أعمل ضد هذه الحرية، إذ أترك ذاتي تَخْلُقُ لُغَتَهَا، دون عصيان القانون الداخلي لطبيعِةِ روحي التى نَشَأَتْ في القريةِ (الريف) حيث الشسوع والرحابة والتأمُّل والمساءلة.
لُغَتي تشبه، أو تحاول أن تشبهَ حياتي الداخلية كإنسانٍ شاف وعاش الكثيرَ من الموت والإخفاقات والمآزق والأزمات، وأظن أن حياة الإنسان الداخلية غير تقريرية وغير مباشرة، إذا تكلمت فهي تشيرُ وترمز وَلاَتُلْغِزُ، لأَنَّ العماء الداخلي، أو ظلمة النور الباطني، يحتاجُ إلى لُغَةٍ يُسيّرها القَلْب، أو تنشئها الرُّوح. وَأَنَا أعِّول كثيراً على هذه اللُّغة التى أحذف منها ما يُثْقِلُ النصَّ أو يُسْقِمُهُ.
فاللُّعبة الشعرية هي كيف تكون مُنْشِئاً جديداً بلغةٍ غير متداولة أو مطروقة، أو مهروسة من فرط استخدامها وتناولها.
فالمتناول دائماً غير مُحَبَّب، ولا يجذب، ولا يشجِّع متلقِّيه على المُضِي في التواصل الحميم.
وإذا كان "الصَّانع" أو "المُعَلِّم" هو الاسم القديم للشَّاعر، فأنا لا أنفي ما هو فطري وانفعالي وتلقائي، لأن العفوية والمصادفة تلعبان دوراً في إنتاج وَخَلْق نصٍّ شعريٍّ يخصُّ كَاتِبُهُ. ومسألة "الحرفية" مطلوبة وقد شدَّد عليها العرب قديما، وما "الحوليات" إلاَّ أقرب وأبهى مثال على ذلك، ولكنْ لا حرفية دون شعرية، ولا شعرية دونَ فطرة، والمُعَلِّمُ الحقيقي، أو الصَّانع الماهر، لا يكون مبدعاً أو خلاقاً دُونَ أدواتٍ فطرية للخلق والصناعة، ولذلك تفشل اللُّغة المصنوعة في الإيصال والتواصل، بينما اللُّغة المَنَزَّلة من لدن ذات الشَّاعر هي المشيرة إليه، والدالة عليه، لأنها ابنة الخصوصية.
ودائماً ما أعوِّل على الإبداع التلقائي الحر، الذي يعتمد هيمنةَ الروح، وسيطرةَ الذات في درجاتها المتحولة، ومقاماتها المتنوعة، لأنَّ الخيال فطريٌّ بالأساس، وكُلُّ خَيَالٍ يخلُقُ لُغَتَهُ، وللمجازات دورٌ أساسٌّي فيما أكتب، وربما لأن لديَّ (هكذا أزعم) وعيا وفهما لتجربة (تجاربي) الخاصة، فأحاول - طوال الوقت - في الكتابة أن أُقَارِبَ أَسْرَاري وأسئلتي، وَتَدَاخُل ما في باطني، فالذهاب باللُّغة إلى سديم الروح، ومناطقها الأولى أو البكر، صّعْبٌ وَشَاقٌّ، ولذا يفقد الشَّاعِرُ "وَزْنَه" في ساعات الكتابة، لأنه يكونُ ابناً لعوالم وحيوات أخرى، فلا هو من فصيلة البشر ولا من فصيلة الملائكة والأنبياء، إنَّه بينهما بحدسه ولغته ورؤاه وإنشائه وخياله.
ومع ذلك نادراً ما يصل الشَّاعر إلى الصورة المثلى لنصِّهِ، فالنصّ أو القصيدة أو الكتاب الشعري هو كَوْنٌ مثالي، مدينة فَاضِلَةٌ لا يُطْرَد من "رَحْمَتِهَا الشعرية" كاتبوها وقارئوها، ونحن هُنا لَسْنَا أمام أفلاطونٍ جديد. لأنَّ المدينةَ الجديدة -في رأيي- يَصْنَعُهَا الشُّعَراء بِخَلْقِهم، وَلَنْ أكونَ شَاطِطاً إذا قُلْتُ إن كُلِّ فدانٍ يَفْلَحُهُ فيلسوفٌ يُسَاوي سَهَماً مِمَّا يَفْلَحُهُ الشَّاعِرُ، وإلاَّ ما رأينا أبرز فلاسفة القرن العشرين يحاولون تتويج تجاربهم الفلسفية بـ"محاولات شعرية" كثيراً مَا تَخْفَق، وهذا ما رأيناه -حتَّى- عند العرب خذي ابن عربي مثالاً. كُلّ ذلك لأن لُغَة الشَّاعر خاصةٌ وفرادنيةٌ.
أحاول أن أكونَ فردانيا في لغتي، لأن اللُّغة عِشْقٌ والعشق ممارسة فردية مَعَ معشوق كالشِّعر تماماً.
ودائماً أقول لا شِعْرَ بعد العِشْقِ، لأنَّ العِشْقَ مَاءَ الرُّوح، ولغات القَلْبِ.
مُنْذُ طفولتي وأنا أكره المشيَ على المسْطَرَة، أو في الطَّابور، أكره الوقوفَ تحت المظلَّة (لم أستخدمها في حياتي) في انتظار موت الشمس، أَنَا أَخُوضُ (التجربة) حتَّى لو أُصِبْتُ بِضَرْبَةِ شَمْسٍ، فالإصابةُ شَرَفٌ على الانسحاب، علينا أن نبتدع ونخترع ونبتكر و"كل الأفعال" التي تؤدّي لأن يكونَ الشَّاعر ابناً لروحه في لغتِهِ دون الاعتماد على الآخر، أو السَّلف، وأنا هُنَا لا أَنْسَى أنني ابنٌ لشيوخى، لكنَّنى لَسْتُ عبداً لتصوراتهم وَمُنْجَزِهِم، فحرية الشَّاعر الفردية في تحديد لُغَتِهِ فوق كُلِّ اعتبار.
يمكن أيضاً أن أَضَعَ تَصَوراً آخر، وهو أنَّ لديَّ لُغَةً نَفْسيَّةً، بمعنى أن نفسي المهزومة أو المنتصرة أو القلقة، هي شَمْسٌ تموتُ وتحيا يومياً آلاف المرَّات، ومن هذا الموت والحياة تُولَدُ تِلْك اللُّغة التي تحمل اسمي وملامح نفسي.

للرّمز الرّقمي أيضا حضور في قصائدك وفي توظيف المسبحة بحبّاتها اختيار فنيّ طريف يثري جماليّة بناء قصائدك لكنّ "مسبحة العاشق وشواهدها" تظلّ في توق إلى الحبّة المائة، الرقم الذي امتدّت ظلاله إلى ديوانك الأخير "باب واحد ومنازل " ومنه نستحضر قصيدة "إذْ قالَ" :
" تركْتُ نفسي لي
فلمْ أجدْني في قوائم الأحياءْ
تركْتُني
فأجابني أحمدُ :
هل تُقارِِنُ مئةً بموْتْ؟" (11)
بالتوازي مع طلسميّة الرّقم، تظلّ أبجديّتك مسكونة باستنطاق حرف " عجز عن أن يخبر عن نفسه ".
متقلّبا في لعبة الخفاء والتجلّي ، متردّدا بين السّتر والبوح، قد يتلهّى قارئك عمّا قلتَ من رموز، ويخترقها للسباحة ، مع النفّري ، في "موقف ما لا ينقال".
أيّ القراءتين أشدّ نفاذا إلى عمق النصّ برأيك ، قراءة المصرّح به أم قراءة المسكوت عنه؟

عِشْتُ حَيَاةً غريبةً ومدهشةً في قريتي "كفر المياسرة". فعلى الرغم من أنني وُلِدْتُ في المدينة (دمياط)، فإنني لا أذكر من هذه السنوات الطفولية شيئاً. فقط أعتبر مكاني الأول هو القرية، أحلامي وهواجسي وكوابيسي "مثبَّتة" على القرية.
وربَّما فقدي المبكر لأمي (أربع سنوات) وأبي (أربع عشرة سنة)، جعلني أعيش متمرداً وحرًّا دون قيدٍ من أحد، فأنا الابن الثالث بعد محمد وسعاد (التي ماتت عام 1995 عن خمسة وثلاثين عاماً وديواني "كتاب الموت" كَتَبْتُهُ إثر فُقْدَانها).
ففي القرية كُنْتُ صَائِدَ ثعابين ، وَصَائِدَ أَسْمَاكٍ، وَصَائِدَ عصافير، وحاصداً لثمرات التوتِ، وعارفاً بأمور الفلاحة والزراعة ، وغارساً لعشرات الأشجار على حدود أرضنا، ومربياً عظيماً لعشرات القطط، والحمام والأرانب ودود القّز طبعاً.
كما أنني خَضْتُ تجربةَ تحضير الجان، وعمل الأعمال، خصوصاً أعمال المحَبّة. وربما يكون لحضور الرمز الرقمي علاقة بما للأرقام من سطوةٍ، وسلطةٍ على الاسم والرسم، فحروف اسمي تساوي (كذا)، وحروف من أحب تساوي (كذا) ومجموع حروف اسمينا يساوي (كذا) وهذا يعني أن سيرة روحي وروح من أحب ستكون على النهج "كذا".
كما أنَّ قراءتي المبكرة لكتب السِّحْر ، جعلتني أحتفي بالرقم ودلالاته ، وكذا بالحرف ودلالاته الرقمية، وبين الدلالتين أحاول أن أخلق دلالةً جديدةً لا تتطابق أو تتماثل مع المعروف والمألوف والمتداول والمحفوظ من دلالات الحروف والأعداد أو الأرقام، يعني لا أعوِّل على المراجع والمصادر والموسوعات والقواميس إلا في القراءة والثقافة العامة والمعرفة، أما الكتابة الشعرية فهي فِعْلٌ آخر، لا يسير على نَهْجٍ وَضَعَهُ الأسبقون، وعلى كُلِّ شاعرٍ أن يَخْلُق نَهْجَهُ أو طريقتَهُ.
وأنا شَخْصٌ يحاول طوال الوقت الانتباه إلى المنسي أو المتروك أو المهمل أو المغضوض البصر (أو البصيرة) عَنْهُ، ولعل استخدامي لـ "الأحاديث" النبوية والقدسية، في كتابيَّ "الأحاديث" و"الوصايا" في كتابيّ (حتَّى الآن) "الوصايا في عشق النساء" وغيرها، يشير إلى اهتمامي بالمسكوت عنه، وكذا إلى التواصل الحقيقي مع مفردات إرثي وتاريخي، دون الأخذ من مُنْجَزٍ إنساني (غربي بالأساس) ولكنه ليس لي، ولستُ ابناً أو حفيداً له، ويظل في النهاية غريباً عليَّ.
أنا نشأتُ في بَيْتٍ أزهريٍّ، ملِيء بالمسابح القيّمة (لا أدري أين اختفت بعد موت أبي في عام 1975)، لكنها كانت تنير ظلمة البيت، وكنتُ أستشعرُ أنها تنير ظلمة داخلي، ومنذها وأنا أجمع الفريد والغريب والنادر من المسابح.
ورأيتني أمام شكل مدهش وبناء غريب للمسبحة، ومن فرط اتصالي واتحادي بها، وعلاقتي معها، جعلني أفكر في كيف أكتب هذه العلاقة، ولأنني أساسا أعتمد في شعائري المسبحة ذات الثلاث والثلاثين حبَّة وشواهدها، ولا أستخدم ذات التسعة والتسعين، فتوقعت أن أبدأ بالصغرى ، ولكن الغريب أنني بدأت بالكبرى وذلك موجود في "كتاب الموت" (1997) الذي انبنى في شكله على هذه المسبحة.
ثم جاءت المسبحة الصُّغْرى في "لسان النَّار" (2005 ميلادية).
وهذا الشكل أراحني جماليا، مثلما تريحني المسبحة روحيا ونفسيا إذْ تُقَلِّل قلقي، وتجعلني دائم التفكُّر والتأمُّل والصَّمت . علينا دائماً أن نذهب إلى الأشياء التي نعرفها ونرتبط بها، ونحاول سَبْرَها وقراءتها بعمق، والتوقف أمامها، لأنني إنْ لم أستفد من إرثي فَلن أبلغَ شأواً إذا اعتمدت على الآخر الذي قد يكون نقيضاً أو على أقل تقدير غريباً عنَّي.
ودوماً أنا تَائِقٌ إلى المجهول، إلى ما بعد الثلاثة والثلاثين، وإلى ما بعد التسعة والتسعين، وإلى ما بعد الشواهد، وإلى ما بعد نُور المسبحة، وإلى ما بعد روائحها، وإلى ما بعد رموزها الغنية والمتنوّعة.
وقد يكون الـ "ما وراء"، والسَّعْي إلى "أين"، ترجمة النقصان التَّام الذي أحياه، لأنَّ من تمَّ ذَهَبَ، وَمَنْ اكتَمَلَ ثَمُلَ، ومن امتلأ سَقَطَ، وَمَنْ أَنْهَىَ مَاتَ، ولذا يَظِلُّ الشَّاعر يكتب نَصَّهُ الذي يَطْمَحُ وَيَأْمُلُ.
دوماً أراني في احتياجٍ.
أَحْتِاجُ رَقَماً، عَدَداً، حَرْفاً، امرأةً، مَكَاناً، نَهْراً، بَحْراً، طَائِراً، كِتَاباً، جِبْراً ، وَرَقاً..
وَهَذَا كُلُّهُ وغيره قد يَتَجَسَّد في الحرفِ الغَائِبِ الذي لم أره، ولم أكتبه، ولم يأتني، ولم ينكشف لي، ولم "يخبر عن نفسه" بحسب النفّري.
وربما هَذَا السَّعْيُ المحموم منِّي لأن أَكْتَشِفَ جَعَلَ البَعْضَ يراني غَامِضاً في حياتي وشعري. لكن حقيقتي هي أنني كَتُوم، أعطي للكتمان مكانةً مقدسَّةً في حياتي، وَصَمُوت، وهادئ بشفافية الذي يَغْلِي، أَسْتُرُ وَأُخْفِي، ربَّما لأنَّ الشِّعْرَ أَسَاساً سَتْرٌ وَخَفَاءٌ، وَرَمْزٌ وَإِشَارَةٌ، وإيحاءٌ أَكْثَرَ مِنْهُ بوحٌ مُبَاشِرٌ، لذلك أُعَوّل على التجلِّي والإشراق اللَّذين يصدران من الشاعر، ومنهما يمكن قراءة النص ، لأن النُّقطةَ الأولى، والحرفَ المَخْفيَّ ، والاسمَ الأَعْظَم، والمرأةَ البعيدةَ في أسطوريتها و…
تعيش جميعاً في سديم الخفاء ، أو خفاء السديم.
وما أسكتُ عَنْهُ داخل نصِّي وحتى شفهيا أكثر بكثير مما أُصَرِّح، أو أبين. وما أكتبه هو بَعْضٌ من تُرجَمان أَشْواقي، وعوالمي، وأسراري الكثيرة. ودوماً هُنَاك قراءةٌ أخرى جديدةٌ ليست نهائيةً لِعَيْن ثانية تفاجئنى ، وهذا حدث معي من قُرَّاء لكوني الشعري نقَّاداً أَوْ مُتِلقّين.
والنصُّ المثقل بثماره الشعرية، لا يُقْطَفُ مَرَّةً أو دفعةً واحدةً.

المرأة بدورها – شأنها شأن القصيدة – تبقى عند الشاعر ولعا بإمكان.
وقد علّق أحمد الشهاوي على أعناق قصائده وكُتُبِه تميمتين: تميمة "نوال عيسى" التي تشرّبتْ معاني الأنوثة والقداسة، وتميمة نساء عاشقات للجسد بالجسد بخلتَ عليهنّ في وصاياك بما وهبته لنوال عيسى من قيم روحيّة في العشق .
التميمة الأولى ترفد روح العاشق والتميمة الثانية ترفد جسد المعشوق. وفي الأثناء يتلاشى نموذج الأنثى المكتملة ،جسدا وفكرا وروحا،منتظرا عملا إبداعيّا جديدا يرمّمه.

هذا في الكتب.

وفي الحياة هل حجبتْ عنك إحدى التميمتين رؤيةَ الأخرى ،وبالتالي حرمتك من معايشة المرأة كيانا مكتملا متجانسا دونما اجتزاء؟

واحدٌ أنا، لا أحبُّ التعدُّد، كثيرٌ في داخلي، لكنني في النهاية فرد، يعوِّل على ما هو جواني، وباطني، وخاص. أوزّع نفسي فيمن أحبُّ، وإذا كُنْتُ أبحث عن التعدُّد والغِنَى والتنوّع والاختلاف والمغايرة في القصيدة، فَأَنَا لا أفعل ذلكَ في الحبِّ، الذي أراه اتحاداً بين اثنين سيصيران واحدًا بعد ذلك.
الحبُّ الذي هو تجلٍّ باذخٌ وبازغ، ونورٌ سماويٌّ يَهِلُّ في أَقلِّ من ثانيةٍ. إنه الضوء الذي لا نحسبه بحساب الزمن، لا وقت له أو تاريخ، أو عُمر.
والقصيدةُ امرأةٌ، والمرأةُ قصيدةٌ، ولكن هذا التشابه، أو التماثل أو التطابق بينهما، لا يعني وَلَعًا بالتبديل والتغيير خصوصًا فيما يتعلَّق بعشق الشَّاعر للمرأة، هُنَا سأستثني "العلاقات"، و"المغامرات" وما هو عَابِرٌ وهذا كثيرٌ في تاريخ الشعراء، وأنا لا أعوِّل عليه بتاتاً، لأنه سلوك مؤقتٌ لا ينتمي إلى العشق، ولكنْ - للأسف - بات ينسحب على "الشُّعراء" بإطلاقهم.
التنوُّع أو التعُّدد أراه فقط في "النَّظر" إلى "زوايا" المرأة، بحيث ينبغي أن تكون ألف امرأةٍ في امرأة، مثلما سينظُر إليها الشَّاعر - العاشق.
فهي وَاحِدةٌ وكثيرةٌ بتعدُّدها. أنا أنفي التعدُّد لأنه ضِِدُّ الحُب، وذلك التعدد له مسميات أخرى عديدة تشاركت فيها كل الحضارات الإنسانية. وَلَعَلَّ احتفائي بالمرأة، واعتباري إياها مُقَدَّسة، صَاحِبة المتن وليست هامشية جعلني أُخَصّص كتاب "الوصايا في عشق النساء" بجزئيه -حتى الآن- على المستوى الشعري والإنساني - وأنا لا أفصل بينهما - أَسْعَى إلى الديمومة والخلود في العشق الذي هو ليسَ تجربةً وليس علاقةً، لأننا لو اعتبرناه كذلك ، لاختزلنا أبرز القيم الإنسانية في مُسَمّى محدود يتسم بتوقيتٍ محدَّد هكذا أرى المرأة، وهكذا أرى العِشْق. وكُلُّ شاعرٍ له رؤيته الخاصة في الحبّ، التي تختلف تبعاً لتربيتِهِ وبيئته وثقافتِهِ ونظرتِهِ إلى المرأةِ، وهذا ينعكس في الكتابةِ، وتجد أصداءه بارزةً في النصوص.
ويمكن اعتبارُ العِشْقِ "موضوعاً" أساسياً في ما أكتب. وأعتذر عن كلمة "موضوعاً". لأن العشق أكبر وأعمق وأخلد وأبقى من أن يكون موضوعاً، فقط أردت أن أستعير في هذه اللحظة كلام النقاد والدارسين لشعري، ربما لأنَّني وُهِبْتُ العشقَ طفلاً، واستمر معي، وتأبَّدَ خالداً. إذ كُنْتُ - ومازلتُ- أعوِّل على ما هو رُوحي وقدسي وإنساني وَحَدْسِي قبل الحِسِّي والأيروتيكي (الشبقي) والجسداني، الشهواني، فليس لي في ذلك من اسمي (الشهاوي) نصيبٌ فأنا أعوِّل على شهوة روح الجسد، وشهوة جسد الرُّوح أنا شّاعِرٌ يحلم بالحبّ، حَتَّى لو لم أمارسه، أعيش به، حتَّى وإن لم يكن موجوداً، عِشْتُ الذهابَ إلى العشق، مثلما عِشْتُ تحولات العشق، تربيتُ تربيةً عَاطِفِيَّةً، هَلْ ربيْتُ نفسي؟ أتساءلُ؟
فنوال عيسى أُمِّي عندما ماتت عام 1965 كان عمري وقتذاك دون الخامسة، وكان عمرها - أيضاً - دون السادسة والعشرين.
أظن أنه على الرغم من أنَّني عِشْتُ في قريةٍ لها تقاليدها وعاداتها وأعرافها، فقد عِشّتُ في الحُبِّ ، وجاء ذلك متواشجاً ومتزامناً مع العشق الصوفي، حيثُ انخرطتُ مبكراً في الطريقة الشاذلية، وَعِشْتُ زمن التصوف والشِّعر وَالعِشْق في الوقت نفسه.
ومن هُنا مَنَحْتُ (أَوْ مُنِحَتْ) نوال عِيسَى والمرأةُ لديّ قداسةً وعلوا شفيفا إلهيا.
وَكُلُّ النساء رَفَدْنَنِي روحاً وجسداً، خِبْرةً وسلوكاً، ثقافةً وَمَعْنَىً، أَنَا ابنهن بمعنى أو آخر، هُنَّ فيَّ يسعين، يحيين، ولا يمتن أبداً، قد يتوارين، لكنهن تحت جلدي ، وفي قاع روحي موجودات.
وَالعِشْق الرُّوحي لا يعني أَنَّهُ خالٍ مِنَ الحِسّية أو الايروسية، لأنَّ الشهوانيةَ ليست مرادفاً للحيوانية، إنها "حَاجَةٌ" إنسانيةٌ، لكنني لا أحب لها أن تكونَ عابرةً، مؤقتةً، لا اسم لها، والدخول في جسد من نُحِبّ إِتْمَامٌ لِلْعِشقِ، ووصولٌ للرُّوح، إنَّه "الأورجازم" ، الذروة، النقطة الأعلى، اللقطة السماوية، النار الأولى أو الأخيرة، التي لم يستطع عَاشِقٌ أو شاعِرٌ أن يكتبها، أو ينجح في التعبير عنها، نحن - فقط - نقارب حالاتنا، ونحاول كتابتها، ونفشل ، ثم نعيدُ الكتابةَ عَلَّنا نصل إلى المبتغى . عموماً، أنا لم "يخب أملي" في العِشْقِ أبداً، بمعنى أنني لم أفقد الثِّقَةَ، وخيبة الأمل لا أقصد بها هُنا الفقدان، فقدان من نحب، لأن لكل مَحَبّةٍ ظروفًا إنسانية واجتماعية وشخصية تحيط بها قد تعوق نمو العشق وتطوره واستمراره. ومن ثم أنا لا "أعرفُ الرَّاحة" في العشق ، لأنه أبقى وأعز وأجمل وأبهى ما في الحياة، والعشق الذي أقصده هُنَا ليس مرادفًا للجنس. لأنني لم أعرف الجِنْسَ أبداً دُونَ حُبٍّ، ولا أراه على خريطتي الإنسانية، ومسيرتي الشعرية.
فالحبُّ إنساني، أما الجنس فهو سلوك احتياجي بشري. فكم رأيتُ بشرًا يمارسون الجنس مع نساء لم يعرفوا - حتَّى - أَسْمَاءهُنَّ (!).
ورَّبما لنشأتي الدينية، ووجودي في بيتٍ أزهريٍّ ، ودخولي في التصوف مبكرًا، وانشغالي بالموالد والحضرات جعل نَصِّي الشعري في العِشْقِ مُشْبعًا بالقداسة للمرأة، واستخدام مفردات علوية وإلهية ونبوية وقدسية تناسب "إيماني" بالمرأة ونظرتي إليها، حيث إن المرأة ليست مُزيِّنًا للنصِّ، بل هي عَصَبُةُ، وَأَسَاسُهُ، وَلَسْتُ أَحْتَاج إلى كتابةِ عملٍ جديدٍ كي أرمِّم أعمالاً سابقة بسبب "النظر إلى المرأة"، فقط أحتاج أعمالاً أُخْرَى لأتمم النَّاقص، وأكمل الَّلوحة، وأصل إلى النصِّ المبتغى، المرجو، المأمول، النص المستحيل، المنشود، الذي أطلب وأرغب وأحلم.
هل أذيع سًّرا إِذا قلت إنني تخفيتُ وراء "نوال عيسى" كثيراً. وقد بَلعَ كثيرٌ من نُقَّاد شعري الطُعم. لم تكن قناعاً ، بل ستاراً جماليا. فأنا بطبعي لا أحب الأقنعة، ولا أحب المباشرة، أو التقريرية في الكتابة. وأوتيت من "الشجاعة" والحرية، و"الجرأة" أن أكتب أو "أقول" ما أراه مفيداً لنصِّي فنيًّا.
أحاول أن يكون كُلّ نَصٍّ لي "أورجازم" روحي وجسدي، لأن "الأورجازم" تتويجٌ ، ووصولٌ، وكمال، وتمام الجحيم، ونسيانٌ للذات، وائتلاف المختلف،
و"الأورجازم"، عموما، لا يتحقّق لعابرٍ، أو مُتَسلٍّ، أو لاهٍ، أو عابر أَسِرَّةٍ، لأنه لا يتحقق إلاَّ في الاتحاد، والانتشاء، والعلو، وشجرة الذروة، وبلوغ المنتهى.
وهذا لا يتحقق - أيضاً - إلاَّ مع امرأةٍ أصل، وليست ظِلاًّ ، فالمرأة عاشت وما تزال تعيش في مجتمعاتنا وحتَّى في "المجتمعات المتقدمة" في الظلِّ، وَأَنَا نَقَلْتُ المرأة إلى المتن، وَصَاَرت فَاعِلاً في "الوصايا في عِشْق النساء" على غَيْر ما فعلت العرب، وما وضع أئمة فقه العِشْقِ من كُتب.
وهذا انتهاك للسائد، ومخالفة للمألوف، وذلك عن قَنَاعَةٍ مِنِّى وإيمان بطاقات المرأة، أنا لا أنظر قط إلى المرأة باعتبارها طاقةً جنسية حِسيّة، وإلاَّ أين تذهب الطاقات الإنسانية والفكرية والإبداعية والثقافية والروحية، للأسف صفوة النخبة يتعاملون معها كجسد فقط، وهذه الازدواجية هي أحد أبرز أسرار تأخرنا اجتماعياً ونفسياً.
ولأنني أرى المرأة كيانًا خاصاً ومختلفا، فأجد الحُبَّ عاطفةً نادرةً، لا نجدها كُلّ ليلة، ولا تقدم لنا مع وجبات الإفطار كُل صباح، إن السَّماء تقودها إلينا، فمنا من يعلو بها عاشقاً، ومنا من يُضَيِّعُها بسبب فهمه الخاطئ للمرأة والحب مَعًا .
ولأن الحبَّ "نشاط" فردي كالشّعر تماما، عرفت منذ البداية، كيف أحتفي به وأنميه وأطوِّره وأسعى إليه، بحيث نلتقي في نقطةٍ نادرة -أيضاً- ننطلق منها ، ونذهب إلى الأقاصي ، وإلى البعيد من بلاد الرُّوح، وأقاليم الجسد.
وأتصّور أن أَهَمَّ بَيَانٍ لي في العشق هو ما جاء في كتابي "الوصايا في عشق النساء" فدون تعمُّد أو تقصُّد كتبت بياني، أو أتممتُ رسالتي في العشق، هذه الرسالة ستظل ناقصةً بالتأكيد، ما دمت حيًّا، إذْ إنني - َتْمًا - سأضيف إليها ما يُعَمقُهَا . فَجَسَدُ المرأة بالنسبة لي ليس وسيلة إمتاع وإشباع وتلذذ فقط، إنه يتحول معي إلى "عقل" ناضج يقولُ ويكتب ويفكر ويحاور ويناقش ويسأل ويدخل في جدلٍ دائم حول الأشياء والعالم والموجودات. وكذا روح المرأة أستطيع لَمْسَهَا ، إذْ تصيرُ هي الأخرى جَسَدًا. هذا المزج أو الاتحاد "العجيب" المدهش بَيْن الرُّوح والجسد، إذْ يتبادل كُلٌّ منهما "عمله" أو "وظيفته" بعد أن يؤدى كُلُّ منهما "دوره" منفردًا، ثم متحدًا، متبادلاً. هذا هو العشق الذي أبتغيه، وأحاول تحقيقَه في النصِّ الشعري. لأِنَ الحُبَّ مَا هُوَ إلاَّ اكتمالٌ نَسْعَى إلى تحقيقه، وإدراكه، وهو سِّر مُغْلَقٌ ومفضوضٌ في الوقت ذاتِهِ، وما بين الكَمَال والاكتمال والكشف والكتمان والأسرار تَكُونُ المرأةُ. وأكون أَنَا الذي أسعى إلى الديمومة في العشق. حيث لا ديمومة دُونَ بذلٍ، وَمَنْحٍ، ووفاء، وَعَطَاءٍ، وَسَخَاءٍ.

* * * * * * *

.... يُتبع الحوار بجزء ثان يُجيب فيه الشاعر أحمد الشهاوي عن الأسئلة التالية :
- أنت في الأربعينات من العمر وقد حمل هذا العمر معه تغييرات جذريّة في حيوات الأدباء والفلاسفة وحتّى الأنبياء.
أحمد الشهاوي: تجربة عميقة في كلّ من الشعر والعشق ، بين أولى القصائد وآخرها ، تعمّقت رؤية الشاعر الفنيّة للوجود عموما وللأنثى خصوصا ولنا في المقارنة بين المقطعين التاليين خير دليل:

1- قصيدة "حديث الجسد" من "كتاب الأحاديث- السِّفْر الأوّل" الصادر 1991 :

" جسدٌ
على مرآتي الأولى
أقرأه سطرا فسطرا
ألمسه حرفا فحرفا
أباركه وأغمض العينين منتصرا
اللّه ما أجمل الجسدا
اللّه ما أبدع الجسدا." (12)

2- قصيدة " ما الجحيمُ؟ " فاتحة قصائد "باب واحد ومنازل" الذي يصدر2008 :

" ما الجَحيمُ ؟
سَألْتُ

أنْ تُحِبَّ
      ولا صدَى
أنْ تَسْألَ
      ولا جوابَ
أنْ تَكتُبَ
      ولا قارئَ
أنْ تنامَ
      ولا أحدَ في الحُلُمِ
أنْ تبتهِلَ
      ولا إلَهَ
أنْ تحمِلَ مفتاحًا
      ولا بيْتَ
أنْ تَفْتَحَ كفّكَ
      فلا تَجِدَ امرأةً تَقرَأُ." (13)

هذا النّضوج الفنّي يسِرُّ لنا بوجود تغيّر في النّفَس الشعريّ قد يخفي تغيّرا في روح الشاعر ورؤيته للحياة.
إيقاع غنائي يحتفي بالحبيبة ويبارك بدايات العشق في "حديث الجسد" " ، يقابله إيقاع تراجيدي يتقلّب على لظى جحيمٍ ذي طعوم مختلفة لكنّ المرأة المنفلتة من كفّك تظلّ الطعم الأشدّ مرارة والأكثر حَرَافَةً (**) على "لسان نارك".
إنّها المرأة القادرة على أن تمحوَ مِن لوح قَدَركَ آيات المتعة والانتشاء، لتخطّ عليه حروف ألم وعناوين معاناة.
قد تعتبر اختياري للمقطعين ، عمليّة انتقائيّة لا تخلو من "مناورة" ،لذلك من المناسب أن "أطمئنك" ، بأنّ سؤالي التالي بعيد، بعض الشيء ،عن "البراءة".
إذن، لندعْ للقارئ والناقد أمر متابعة ملامح التطوّر في شعريّة أدب أحمد الشهاوي بين أول النصوص وآخرها، أمّا ملامح "التطوّر" في "أحوال العشق" بين أولى النّساء وآخر النساء فلا أعتقد بأنّه أمر متاح لغير أحمد العاشق ، هو وحده الكفيل بتحسّس تلك المتغيّرات في دواخله كلّما وضعته المرحلة أمام حاجة أن يكتشف مدى نضوج رجل الأربعينات.
أنت : الشاعرُ، صاحبُ الذاكرة المزحومة بكثافة الأنثى ،والرّجلُ سالكُ المسيرة العشقيّة التي لم تعرف الوقوف ولا تعترف بالتوقّف ، بعد "هذا العمر" ، هل لك أن "تكشف المحجوب" (***) وتفضي ببعض مكنونات "أحوالك"، فتفصح لنا عمّا ثبت وما تحوّل في عمق "كيانك العشقيّ"؟

حدّثتنا حتّى الآن برومانسيّة وشاعريّة عن أحمد الشهاوي مؤسّس "المدينة الفاضلة" في العشق ،وعن "شهرزاديات" "شهريار" في الحبّ والجنس ...
فماذا عن الزواج؟
يقال إنّ "الزواج مقبرة الحبّ"، ويقال أيضا "إنّ الزواج مؤسسة فاشلة لشخص ناجح"، لاسيّما إذا كان ذاتا مسكونة بالحريّة ، وروحا ممسوسة بجنون الفنّ والأدب.
وبين ثنايا "وصاياك في عشق النساء" نستشفّ ترجيحا لكفّة "الملكيّة بالعقيدة" على كفّة "الملكيّة بالعَقْد" إذ توجّه العاشقة بقولك:
" املكيه بالرغبة لا بالرّهبة، بالعقيدة لا بالعَقْد ، لا تتّبعي في العشق الأسباب، فليس في الدنيا أسمج من محبّ لسبب أو عوض. إنّ التبرير يقتل الدّافع." (14)
بين "جنونه السّماويّ " اللاّمحدود ،وصرامة المؤسّسة الاجتماعيّة ورتابتها ،هل بإمكان الشاعر -والمبدع عموما- أن يجمع بين "السلام الداخلي" (المحكوم باللاّسلام أصلا)، و"السلام الاجتماعيّ" المرتهن بضوابط " العَقد" و"الأسباب" و"الدوافع" ، كيف يوفّق بين الذّاتي والاجتماعي دون أن يضحّي بأحد "السّلامين"، أو دون أن يعيش ازدواج الشخصيّة ، ذاك الداء المستشري في أغلب مؤسّساتنا الثقافيّة والاجتماعيّة؟
بحكم عملك في الصحافة قد تتسرّب إلى لاوعيك رغبة في إرضاء الآخر ، في حين تقوم لحظة مكاشفة القصيدة على محض انفعال، لا يبغي سوى إرضاء الذات ، وأنت من الشعراء الذين يكتبون تحت ضغط رقابة "الضمير الجمعي" بثقله الديني والاجتماعي وحتّى السياسي.
كيف تنقّّي قصيدتك من "حسابات الصحفي" التي يمكن أن تسلب القصيدة "حرارتها وعنفوانها" النابعين أصلا من ذاك الانثيال العفويّ الصّادق لمواجد الشّاعر؟
وإلى أيّ حدّ يضطرّ المبدع العربي في عصرنا لإلغاء "بنود المصالحة" بين ما يهجس به قلبه وفكره وقلمه ، وما يمارسه فعليّا في معترك الحياة العمليّة والاجتماعيّة حتّى "يعيش" في زمن دهست فيه المادّةُ تلك القيمَ الروحيّة الشفيفة التي مَنَّ بها اللّه على المبدع فنّانا وأديبا دون غيره من البشر؟

تُهَمُ التكفير والتلويح "بتفخيخ" الفكر و"اغتيال" حريّة التعبير تماشيا مع "موضة" تفخيخ السيارات واغتيال الأبرياء والعلماء والمثقّفين، كلّها ضروب من "الجهاد" و"الاستشهاد" تبشّر سالكيها بجنّة رسمها بعض شيوخنا الأفاضل على مقاسات خاصّة جدّا تكرّس حال الانحطاط والتردي التي آل إليها الوضع العربي الرّاهن .
ومن حسن حظّ المبدع الغربي أنّه في حلّ من جنان الخلد التي تحتكر ثلّة من المتفقّهين في الدين مفاتيح أبوابها الموصدة ضرورة في وجه الكتابة الحرّة.
لعلّك تشاطرني الرّأي في أنّ البيئة الثقافيّة التي تحتضن المبدع لها تأثير مباشر في نتاجه الأدبي كمّا وكيفا ، سلبا و إيجابا، وأنت أنسب من يقارن بين الوضعين بحكم أسفارك الكثيرة بين العالمين العربي والغربي.
فكيف تقيّم مكانة الشّعر العربي الحديث من الشعر العالمي ؟

- يُكرَّمُ الشاعر أحمد الشهاوي في عديد المهرجانات العربيّة والدوليّة ويقطف جوائز عالميّة في الشعر والأدب ، لكنّه لا يلقى الحظوة ذاتها في بلده الأمّ: مصر، بل إنّه يعيش فيها تحت طائلة القذف والتجريح وتهديدات القتل.
بِمَ تفسّر هذه المفارقة؟
وأين تجد المتنفّس حين يستنزفك "جور البلاد العزيزة" و" ضنّ الأهل الكرام" ؟

* * * * * * *

(Khyari_hayet@hotmail.com)